المعارضة وقد وصلنا معها الخيار المر (2/2)

 


 

 

 

{{{ إكتمل إعداد هذه الدراسة في 20 ديسمبر 2018 لكتاب جماعي كان يفترض صدوره في يونيو 2019 متوافقا مع الذكري الثلاثين لانقلاب 89 وتم تأجيله بعد الانتفاضه. رأي صاحب الدراسة إن من واجبه نشرها الان دون أي تعديلات خدمة لقضية التطور الديموقراطي حتي ولو بثبوت خطأ توقعاتها وضعف متنها التحليلي : تأسيس الديموقراطية المستدامة بعد إسقاط الانظمه معوقه الرئيسي كان ولايزال عدم وجود قوي دفع ديموقراطي. المميزات التي تتوفر عليها الانتفاضة الحالية بالمقارنة لسابقتيها، لاتنفي صحة هذا الاستخلاص والنتائج التي يمكن ان تترتب عليه. يتمني صاحب الدراسة ان تكون النتائج في مستوي التضحيات وجهود المعارضة المنظمة وغير المنظمه ولكنه لايتوقع ذلك إذا لم تؤخذ إكراهات الواقع الموضوعي في الاعتبار.}}}

المعارضة : الاستراتيجية البديلة
هذه هي الأبعاد الكاملة لأزمة المعارضة وفق استقصاءات هذه الورقه، مما لايترك للتعبير المستخدم احيانا بأن المخرج هو العودة لمنصة التأسيس سوي معني واحد لأي معارضة مسؤولة، وهو التركيز الحصري علي أصل ظاهرة الانقلابات وليس فرعها، علي الفيل وليس ظله ( الانقاذي ) مهما تعملق، وذلك بأعادة صياغة الاستراتيجية علي محور خلق الظروف المؤدية لاحياء قوي التغيير الديموقراطي الذي يعني الاستبعاد النهائي لإسقاط النظام كهدف. عملية 85 التي أسقطت نظام مايو، والاضعف من عملية اكتوبر 64 فأطلقنا عليها إسم انتفاضة وليس ثورة، كانت إيذانا بأن إسقاط نظام يونيو 89 غير ممكن عمليا. بعد مايقارب الشهرين فقط من الانتفاضة كانت " الجبهة القومية الاسلامية" قد اخترقت مؤسساتها التنفيذية والتشريعية الانتقالية، المشتركة بين مجلس الوزراء والمجلس العسكري، ( بالتعاون مع سوار الدهب وتاج الدين عبد اله فضل ) والامنيه ( نائب مدير الامن القومي والمخابرات العسكريه) ومدير مكتب القائد العام للقوات المسلحة ثم ، الدليل النهائي علي الميل الحاد للميزان السياسي باتجاه قوي الانتفاضة المضادة، الانتصار الانتخابي الذي بوأها المركز الثالث بعد حزبي الامه والاتحادي. ثلاثون عاما من المجابهات سلما وحربا بعد تصاعد نفوذ الجبهة القومية الاسلامية الي درجة الاستيلاء علي السلطة كاملة، شاهد إضافي، يومي وحي، علي عدم إمكان إسقاط النظام .

بيد إنه حتي لو أمكن إسقاط نظام انقلاب 89، فأن مايعقبه لن يكون سوي إعادة لتاريخ مابعد الثورة والانتفاضة ولكن في شكل مأساة مروعة، هذه المره، تطيح بهيكل البلاد وتفتح ابواب الجحيم الارضي لملايين السودانيين : الاثنيات، وحتي الحزازات الشخصية والعائلية، المتربصة ببعضها البعض نتيجة اهتراء النسيج الوطني وطوفان السلاح المنتشر في كل صقع، مع استعداد بقايا النظام ومليشياته المسلحة للاستماتة في الدفاع عنه، معززا بسبب إضافي من انتاجنا كمعارضه : الخوف علي المصير الشخصي الذي تتسع دائرته لتشمل الكثيرين حتي من الذين انقطعت صلتهم بالنظام، جراء سيل التهديدات بالانتقام التي يفيض بها الخطاب المعارض، مدعومة صوتا وصورة بشعة لمن يقع في الايدي، بعد هيمنة النمط التهييجي التعبوي المجرد عليه. مخّلفات (الربيع العربي ) ، هذا المصطلح الاعلامي الغربي – المصدر الذي دغدغ النرجسيات القوميه، شاهدة علي ذلك : إما دكتاتورية مصرية جديدة تجعل سالفتها أملا يرتجي، كما لمسنا بعد ( ربيعينا العربيين ) ضد عبود ونميري، او تداعي الهياكل الوطنية ليبياً وسورياً ويمنياً بما يجعل الدكتاتورية أملا إنقاذيا، كما سنلمس جميعا بعد فوات الاوان ويلمسه اهل دارفور وغيرها الان.

الخيار ،المر في أوله، لتفادي هذا المصير الاكثر مرارة منه بكثير أولا وآخرا ،هو الذهاب الى تسوية- صفقة مع النظام ستكون بالضرورة لمصلحته كثيرا في البدايه انعكاسا للدرجة العالية لميل كفته في ميزان القوي. علي أن الصفقة ستنتهي، في المدي الزمني الملائم، الى تخفيف هذا الميل ثم تعديله في الاتجاه المعاكس نتيجة استعادة حيوية قوي المعارضة وذلك من نقطة شروعها في كسب ثقة النخب الواعية ثم الجمهور العام بعدم إطلاق وعود غير قابلة للتحقيق، ثم توطيدها تدريجيا بتركيز طاقتها علي الممكن تحقيقه من الاهداف مرحليا مرتفعة الى اقصاها نحو الهدف النهائي. وبما أن مساحة الحريات ستتسع اكثر مما هي عليه الان اختيارا او اضطرارا من قبل النظام ( كما سيوضح التخطيط العام للسيناريو أدناه )،فأن هذه المكاسب ستزداد نافخة الروح في تيارالتغييرالديموقراطي علي حساب رصيد الدكتاتورية الثالثة مما يمنع، في الوقت نفسه، استجابة المزاج العام للمخرج الانقلابي المزيف، أو ( الانتفاضي ) القصير الاجل، كما يجعل عدم الافلات من العقاب ممكنا آجلا او عاجلا.

الترتيبات التي يقوم عليها التخطيط المعمم لاستراتيجية التسوية- الصفقة بالتنازلات المدروسة التي تفرضها علينا، تقوم علي تمييز مرحلة تمهيدية تسبق مرحلة الانتقال الديموقراطي، دون انفصال كلي بينهما، وتستهدف بصورة رئيسية إيقاف إطلاق النار في مناطق النزاعات المسلحة من الجانبين بصورة شبه دائمة. ولكي يتسني التقدم من هذه المرحلة التي ستشارك فيها المعارضة من خلال خارطة الطريق وغيرها، نحو المرحلة الانتقالية بسماتها المعروفة ( كتابة الدستور وقانون الانتخابات، العدالة الانتقالية الخ .. الخ..) حيث يحل السلام بصورة نهائية عند اكتمالها، تطرح المعارضة منذ الان سيناريواً يتمشي مع التنازلات المفروضة عليها وذلك حسب تقديرها لدرجة الخلل في ميزان القوي لمصلحة النظام، تتضمن احتفاظه بقدر من السلطه بما يشمل حتماً رئيسه لان النظام هو في الواقع رئيسه خاصة مع تهديد المحكمة الجنائية، وذلك لفترة تتحدد زمنيا بنتائج انتخابات يتوفر فيها اكبر قدر ممكن من النزاهه، وتوسيع لمجال الحريات العامة.

إمكانية التزام النظام من جانبه بهذا السيناريو ومايترتب عليها بالنسبة له من تغيير في السياسات، مردها إن مجرد طرحه وإبداء الالتزام الجدي به، لاول مرة في تاريخ المعارضة للدكتاتوريات عندنا، يطلق ديناميكية في الاتجاه المطلوب إشارتها الاولي إضعاف دوافعه للتحايل بحكم ان السيناريو يضمن له حق التنافس السلمي الحر مع الاخرين طريقا الي السلطة حتي بعد المرحلة الانتقالية، وفي انتخابات يعلم هو والجميع بأنه سيفوز بالاغلبية في جولتها الاولي علي الاقل، مهما كانت درجة نزاهتها، بسبب هيمنته الطويلة المدي علي اجهزة الدولة وخبراته المشروعة وغير المشروعة في إدارة الانتخابات. علي ان السيناريو يوفر مصادر لالتزام غير اختياري من قبل النظام بنصيبه من الصفقه لان التنازلات التي يقوم عليها تفتح بوابة ضغوط داخلية علي متشددي قيادته بما يجعل قبوله مفروضا عليه الى درجة او اخري. مجموعات قاعدية وحتي قيادية بمستويات مختلفة، أهمها رجال الاعمال الذين تعاني مصالحهم ومشاريعهم من الحصار الغربي وقسم من منتسبي الاجهزة العسكرية والمدنية النظامية الذين يستفزهم نفوذ المليشيات المتصاعد، أكثر استعدادا من غيرها للقبول بهذا المخرج التدرجي لكونه اكثر ملاءمة لها من المخرج الانقطاعي المطروح حاليا من قبل المعارضة، مع فرق في الدرجة بين " نداء السودان " وبقية التشكيلات. علي ان الاهم من بين نتائج الديناميكية الايلة لتعزيز قوة المعارضة التي سيطلقها السيناريو، هي الامكانية التي يتيحها لمد الجسور مع المجموعة المتزايدة العدد من الاسلاميين القياديين ثقافيا وفكريا وأكاديميا الذين ابتعدوا عن النظام . بالاضافة الى ان نقدهم المباشر لسياسات النظام أكثر فعالية في خلخلة تمسك مؤيديه به بسبب وزنهم الاستثنائي ،هؤلاء يشكلون منفذا نحو خلخلة البنية التحتية التي يرتكز عليها وهي ثقافة الاستبداد وطاعة ولي الامر كما يروج لها الفكر السلفي والموروث الفقهي لكون مراجعاتهم النقدية تتجاوز السياسي الي الفكري بدرجات متفاوتة لدي كل منهم.

بيد إن أقوي مصادر الضغط علي قيادة النظام في اتجاه التزامها بمطلوبات السيناريو ، بما في ذلك تخفيف القبضة الامنية ،يترتب علي توظيف المعارضة لهذا التحول في استراتيجيتها لفتح ابواب التعامل الذكي والمدروس مع داعميه الاقتصاديين الرئيسيين ( الخليج والصين ). دوافع هذا الدعم ليست ايديولوجية او جيوستراتيجية وإنما بالاساس اقتصادية مما يجعل هذين الطرفين قابلين للاستماع الى، والتجاوب مع، رسالة للمعارضة توضح المصلحة المشتركة بينهما في حمل النظام علي التعاون معها تأمينا لاستقرار نهائي لاوضاع السودان عموما، وتوقف الحرب الاهلية بشكل خاص،حماية دائمة لاستثماراتهما. كما إن الغرب الاوروبي، ومعه امريكا، سيدعم مثل هذه الخطة التي تشكل ضمانة أفضل لحماية مصالحه الانية في " عملية الخرطوم Khartoum process" الخاصة بالحد من الهجرة وتجارة البشر والارهاب، من الاعتماد علي النظام فقط. يتصل بهذا إن سعي المعارضة منذ البدايه لإيجاد دعم إقليمي لحصيلة التفاوض مع النظام من الاتحاد الافريقي والجامعة العربية وآخر أممي ودولي، ستكون له اهميته الاضافية في إنجاح التفاوض ايضا فيما يتعلق بأعادة الاعمار وحلحلة موضوع المحكمة الجنائية، مما يشجع النظام علي الاستجابة للنصائح الخليجية- الصينية.

علي أن للتنازلات المؤلمه ،ولكنها بالتأكيد اقل إيلاما من مشاركتنا في الانزلاق مفتوحي الاعين الى جحيم ارضي وقوده شعبنا وبلادنا، مسوغا آخر وهو انها متكررة في كافة تجارب الانتقال الديموقراطي تقريبا بما يكاد يجعل منها قانونا من قوانين الانتقال الى الديموقراطية : في اسبانيا تضمنت عملية الانتقال احتفاظ دكتاتورية الجنرال فرانكو البشعة بمكاسب رئيسية منها إعادة الملكية واحتفاظ حزبه الفاشستي صراحة بحق العمل، وفي شيلي بقي الجنرال بينوشيه قائد انقلاب ال C I A وحملة القتل الجماعي بعد ذلك، وزيرا للدفاع لعشرة اعوام قبل تعرضه للمحاكمه، وفي جنوب افريقيا قبِل مانديلا بتسليم وزارة الداخلية لزعيم " إنكاتا " ،الحليف الافريقي الرئيسي لنظام الفصل العنصري ،وبصيغة " العدالة والانصاف " التي سمحت بأفلات كثيرين من العقاب. في ايرلندا الشمالية تحكمت في سياسات " الجيش الجمهوري الايرلندي " الذي قاد حربا مسلحة دامت ربع قرن ضد الحكومة البريطانية، مقولة زعيمها جيري ادامز : " نغفر ولكننا لاننسي ". وأخيرا وليس آخراً، أليس هذا مافعله جون قرنق أيضا عندما تقاسم السلطة والثروة بتوقيع اتفاقية السلام عام 2005 مع نظام الانقاذ بذاته وصفاته المعروفة مدفوعا بتقدير عقلاني للظروف؟ . وتبقي القائمة مفتوحة : انتقالات اوروبا الشرقية الى الديموقراطية حيث بقي الشيوعيون جزء من صورة السلطة او المعارضة حتي الان. وعلي السبيل غير الحصري: أفريقيا (بالاضافة لجنوب افريقيا، سيراليون، ساحل العاج، ليبيريا )،امريكيا اللاتينية (شيلي، الارجنتين،البرازيل ) اسيا (اندونيسيا ، كوريا الجنوبيه، فيتنام ) واخيرا تونس، الاستثناء الوحيد لفشل الربيع العربي، يعزي نجاحه الي تقاسم السلطة مع جناح من النظام القديم( حزب نداء تونس ) .القبول بدور ما للنظام القديم ، يقل او يكبر حسب توازن القوي ، بما في ذلك الافلات من العقاب كثيرا او قليلا، هو السمة المشتركة بين كافة هذه النماذج، ولكن المشترك بينها أيضا النجاح في تأسيس أنظمة ديموقراطية قابلة للحياه. هذه إذ تُعلي إرادة الشعوب، تمكنها أيضا من إزهاق روح الدكتاتوريات كنظام للحكم بسد طريق العودة أمامها، ومن تصفية الحساب مع سدنتها بإبقاء سيف العقاب معلقا علي رؤوسهم طوال حياتهم إذا نجوا من العقاب العاجل.

الشق الثاني من الاستراتيجيه يقوم علي إعلاء الصراع السياسي غير المباشر الى أقصاه دون حدود تفرضها التنازلات علي الصراع المباشر . والمقصود بذلك النشاطات غير السياسية بالمعني المتداول للكلمه ولكنها ذات أثر سياسي ايجابي فيما يتعلق بزيادة وزن المعارضة نخبويا وشعبيا وتقليص مساحة السيطرة الامنية، متمثلة في تنشيط المجتمع المدني كهدف في حد ذاته وكوسيلة لانتزاع مكاسب من النظام . اهم هذ المكاسب من منظور تحليل هذه الورقة لمصدر ( قوة ) النظام، في مجالي إصلاح " قانون تنظيم العمل التطوعي والانساني لسنة 2006" والنظام التعليمي. غرس وترسيخ ثقافة الديموقراطية والاستناره بالانفتاح العقلي والنفسي، الترياق المضاد لثقافة تعطيل العقل بتديين السياسه، ومن ثم تعاظم نفوذ تيارات التغيير الديموقراطي ، مجالهما الرئيسي، المتاح حاليا أكثر من غيره، هو المجتمع المدني وسيلة لتوليد ضغط شعبي لإصلاح النظام التعليمي بالذات باعتباره الاداة الاكثر مضاء لتنشيط ملكات الفرد العقليه في واقعنا غير الاوروبي. علي إنه من الضروري التشديد هنا علي ان تعلية سقف الصراع السياسي غير المباشر مع النظام للحد الاقصي لابد ان يلتزم التزاما صارما بالمحدد الرئيسي لطبيعة المجتمع المدني اللاسياسية مايجعل الالتزام بلوائح ونظم الهيئة المعينة هو الشرط الوحيد للعضوية وليس الموقف او حتي العلاقة مع النظام. والشاهد إن توسيع مساحة اجتذاب كافة انواع الخارجين علي النظام والجمهور العام الذي فقد الاهتمام بالعمل السياسي، عبر نشاطات المجتمع المدني ينطبق علي موضوع التعليم بصورة خاصة إذ يتوفر حول حاجته للاصلاح إجماع سوداني منقطع النظير عابر لكافة الولاءات السياسية. هامش الحريات الاكبر المتوفر أصلا للمجتمع المدني بالمقارنة للنشاط السياسي المباشر ، سيتسع اكثر نتيجة تطبيق هذا الشق من السيناريو بينما يساعد التركيز عليه، في المجالات المشار اليها خاصة وكافة المجالات عموما، في دعم النشاط السياسي المباشر.

ملاحظات ختاميه
من الناحية العملية هذا السيناريو المقترح كأساس لاستراتيجية مختلفة واكثر فعالية للمعارضة، يؤول الى تخفيض مستوي الصراع السياسي المباشر مع النظام ولكنه لايلغيه بل يقويه نوعيا بما يتجاوز في أثره الايجابي أثر التخفيض الكمي ويستعيده مضاعفا علي المدي الابعد لاستناده حينها الى كيان معارض اكثر عافية وحيوية. نهج تعرية اخفاقات النظام سيستمر ،حقا مكفولا لحزب النظام ايضا، دون اشتراط إسقاطه للتعامل معه. يترافق ذلك مع أساليب الضغط العملية من المذكرات الي الوقفات الاحتجاجية الى المظاهرات ومايتجاوزها، إذا رأ ي التقدير الموضوعي المدروس وفق الخطة ضرورة ذلك. وفي هذا مايضمن احتفاء كبيرا وعمليا يليق بالتضحيات الغالية، كما يتفادي الحاجة لتكرارها مستقبلا، لانها تغدو جزء من استراتيجية لتصحيح الاختلال الكبير في ميزان القوي . ومن باب اولي فأن ممارسات الضغط تتضمن منازلة مرشحي النظام في العمل النقابي والانتخابات علي كافة المستويات والتي يتوقع ان يحرز مرشحو المعارضة فيها تقدما متصاعدا مع دخول الاستراتيجية الجديدة حيز التنفيد وزيادة الالتفاف الشعبي حولها، علما بأن النظام الغي الانتخابات لعضوية اللجان الشعبية عندما شاركت فيها المعارضة، مما يؤكد سلامة هذا التكتيك. والاهم من ذلك إن استجابة قسم هام من المواطنين المؤيدين للمعارضة لنداء المشاركة في الانتخابات العامة والنقابية بعد استردادهم للثقة فيها، يساهم في تطويرها من حيث النوع،لان ذلك يعني استدراكهم لما فاتهم من فرص التدريب العملي والنظري علي جوانبها المختلفة خلال مايتجاوز 3 عقود من الزمان، بما في ذلك حمايتها من التزوير .

في نفس اتجاه تحسين نوعية المعارضة نتيجة التقدم في تطبيق الاستراتيجية، تصب حقيقة انها ستصفي زخيرتها النقدية لسياسات النظام من العيوب الخطيرة التي تعاني منها صيغتها الإثارية السائدة الان شكلا وموضوعا. هذه الصيغة التقليدية للمعارضات السابقه قائمةً علي هدف إسقاط النظام تعوض هزال نتائجها باستخدام لغة حدية لحمتها وسداها المبالغة الانتصارية : النظام علي وشك السقوط (منذ اكثر من 29 عاما)، فضائحه وجرائمه تزحم الافاق بما (لايقتضي صحة جميع الوقائع اللازمة لاثباتها) وكل من يؤيده كائن شيطاني ( لايكفي ان تستعيذ منه فقط ). . هذا النوع من التفكير في تناقضه مع أبسط الحقائق لايقل غيبية عن الغيبيات الدينية التي يروج لها النظام.
غير تحريك دواعي الخوف علي المصير الشخصي الذي تثيره بنبرتها الانتقامة الصارخة مما يؤدي الى تدعيم التفاف من بقي مؤيدا للنظام حوله، هذا النمط التهييجي يضعف المعارضة نوعيا من حيث مصداقيتها ولكن علي الجبهة الفكرية ايضا ،وهي الاكثر اهمية، وذلك بالترويج لرؤية تنميطية للانتماء السياسي- الفكري الاسلامي تحشر أصحابه جميعا في قالب واحد ، وصمة جينية يستحيل تغييرها. ومع الاقرار بـأن الانتماء ذو الجذر الديني اصعب في التخلي عنه من العلماني، إلا ان هذا التعميم غير علمي بداهة يقع في فخه كثير من ناشطي المعارضة الثقافيين والفكريين من غير المنتمين الى النمط الشعبوي ولكنهم متمسكون بالهدف الاسقاطي .

صيغة المعارضة البديلة المقترحة بمنبعها العقلاني، يتوازن في خطابها الاعلامي والفكري نقد سياسات النظام ، مهما علت نبرته التعبوية ، مع احترام عقل المتلقي من حيث صحة الوقائع وحجم الوعود القابلة للتحقيق في اللحظة المعينة بحيث تنمي وعيه وتؤهله ليكون قادرا علي التجاوب مع خطة العمل البناءة ديموقراطيا وحارسا يقظا لنظامها السياسي بعد ذلك، بما يؤمن استدامتها لاول مرة في تاريخ بلادنا .

إذا صح التصور الحاكم لهذه الورقة حول جوهر أزمة الديموقراطية سودانيا، يبدو لصاحبها إن الملامح العامة لاستراتيجية تفكيكها تحتمل نفس الدرجة من الصواب ويبقي الاختلاف في بعض جوانب السيناريو . وهي في النهاية ليست سوي محاولة لأغناء النقاش حول هذا الموضوع المصيري... محاولة لعدم الركون الى المألوف من انماط التفكير تهيبا من المجهول أو من اتهامات الاستسلام للنظام أو لمؤامرة الهبوط الناعم الامريكية... وفي الادني من الادني هذه الورقة دعوة للتأمل في القول الانجليزي المأثور : " إذا فرض عليك قبول مالا تستيغه وصولا الي هدف معين، سد أنفك وأقدم عليه ". ( 1 )
20 ديسمبر 2018

++++
( 1 ) في دراسة بعنوان " إيقاف دوران حلقة الازمة الشيطانية .. كيف؟ المخرج الثلاثي الابعاد " وُزعت علي مجموعة من المثقفين السودانيين بواسطة البريد الالكتروني في اغسطس 2018، شرح الكاتب الخلفية الفكرية التي اشتق منها العنوان وتجربة ثلاث دول من غرب افريقيا ( سيراليون، ليبيريا وساحل العاج ) خرجت من حالة استعصاء ديموقراطي بمعادلة ثلاثية الابعاد تضافر فيها الطرف الوطني المحلي مع الاقليمي – الاممي وتعاونٍ من دولة الاستعمار السابق

alsawi99@hotmail.com

 

آراء