المنّا إسماعيل: فكي وأمير في كردفان (1) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
المنّا إسماعيل: فكي وأمير في كردفان (1)
El Menna Ismail; Fiki and Emir in Kordofan
أ. ر. بولتون A. R. C. Bolton
ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
تقديم: تقديم: هذا هو الجزء الأول من عرض مختصر لما ورد في مقال عن أمير المهدية الشيخ المنّا إسماعيل بقلم البريطاني الكساندررولو كولن بولتون (1900 – 1993م) والذي عمل في مجال الإدارة بشرق كردفان والنيل الأبيض والنيل الأزرق والخرطوم منذ أن كان في الثالثة والعشرين من عمره حتى بلوغه الرابعة والخمسين حين بدأت عمليات سودنة الوظائف. للمؤلف أيضا مخطوطات ووثائق وصور محفوظة في جامعة درام البريطانية تشمل مقالات عن القبائل في شرق كردفان مثل الهبانية والمسيرية، إضافة لمقالات في مواضيع متباينة مثل الطب البيطري والزراعة والإدارة والتعليم والطب والقانون وغير ذلك من الموضوعات.
الشكر موصول لدكتور عبد الله جلاب ودكتور خالد فرح لعونهما في رسم اسماء بعض المناطق والقبائل.
نشر المقال في مجلة "السودان في مذكرات ومدونات" العدد 17 الصادر في عام 1937م
المترجم
*** ************** ******
ترقد مدافن الفكي الشيخ المنّا إسماعيل وثلة من أقربائه في قرية "التيارة " في شرق كردفان على بعد نحو 38 ميلا من الأبيض. دفعني الاحترام الذي كنت أحس به عند الأهالي عند ذكرهم لخبر ذلك الفكي لتتبع لسيرة عائلة الرجل التي يقال إنها من الجمع (بكسر الجيم) في النيل الأبيض، والتي ساقتها الأقدار لتدفن في تلال كردفان الرملية حيث أرض الجوامعة. يرتبط تاريخ ذلك الفكي بسنوات المهدية الدرامية الباكرة على أرض كردفان.
ينتمي المنّا إسماعيل للمسعاداب (وهم فرع من فروع الجمع)، ويزعم ماكمايكل في سفره المعنون "تاريخ العرب في السودان" أنهم بقارة من "دار محارب" في النيل الأبيض، وهم فرع مختلف عن الجمع، بيد أنهم جميعا من مجموعة الجعليين الكبرى، وجدهم الأكبر هو إبراهيم جعل. يعد "المساعداب" أقرب للجعليين "الأصليين proper " الذين يقنطون على ضفاف النيل وشمال الخرطوم حتى أتبرا، منهم للبقارة في النيل الأبيض. يحتفظ إبن الشيخ المنّا إسماعيل (الشيخ خالد المنّا) بشجرة عائلتهم والتي تفيد بأن جد العائلة الأكبر هو "سعد أبو دبوس" الذي منه جاء كل السعداب الجعليين. وقد زعم أن رجلا سعدابيا يدعى "حسن الأحمر ود محمد جبريل" تشاجر مع عائلته وخاصمهم وتخلى عن قبيلته بقوله: "أنا مو سعدابي" ومن هنا أطلقت تسمية "مساعداب" على كل ذرية الرجل.
في بداية القرن الثامن عشر هاجر الفكي المتبحر في علوم الشريعة حسن الأحمر لحفرة النحاس بدارفور حيث أستقر مع عائلته هناك مع الفور، بيد أن سلطان الفور – وبعد إقامة ثلاثين عاما- قام بطرد المساعداب من مملكته فإنتقل حسن الأحمر وقبيلته لكردفان، وصادف ذلك هجرة الجمع وقبائل بقارة أخرى لها على إمتداد سنوات عديدة. كان ذلك في حوالي منتصف القرن الثامن عشر، حين اشتداد الصراع بين المسبعات والفونج لفرض السيادة على البلاد.
توزع المساعداب الذين انتقلوا مع البقارة إلى كردفان إلى ثلاثة أقسام، فالقسم الأول كانوا من الرعاة الذين انتسبوا لـ "دار محارب" في شرق النيل الأبيض. رحل القسم الثاني من المساعداب مع الجمع للأراضي التي كانوا قد انتزعوها من سكان المسلمية وتوجد الآن (في عام 1934م) عشرة مشيخات للمساعداب شمال تندلتي تحت إمرة العمدة مالك يس، وهو أحد المنحدرين من صلب حسن الأحمر. أما القسم الثالث فهم أولاد الفكي يس أحد أبناء حسن الأحمر، وهؤلاء كانوا قد استقروا شمال "أم روابة". سمي المكان الذي استقر فيه الفكي يس ودفن فيه باسمه. عرف الفكي يس بالعلم والورع وبذرية بلغ تعدداها 99 ولدا (أشهرهم إسماعيل). يعتقد بأن الفكي يس توفي قبل وصول "الكنجرا" قبل عام 1784م.
عندما طعن الفكي إسماعيل يس في السن، تولى أخوه المنّا إسماعيل شؤؤن خلوة يس، فقام بتدريس العشرات من "الحيران"، وبلغ عدد هؤلاء في عام 1880م ما يزيد عن 112 حوارا فطبقت شهرته العلمية والدينية الآفاق.
من القصص التي تناقلها الناس أن إدريس الدابي (وهو أخ للفحل بن المك نصر مك تقلي) كان قد أتهم الفكي المنّا إسماعيل بخيانة الأمانة، إذ أنه أدعى أن أخاه الفحل كان قد ترك عنده سروجا وذهبا بيد أن الفكي أنكر كل ذلك. أستدعت السلطات الفكي المنّا إسماعيل للأبيض حيث قيدت أرجله بالسلاسل الحديدية وألقي به في السجن. ظهرت "كرامات" الفكي عندما كانت تساقطت السلاسل ثلاث مرات من رجليه، بل وكان حراس السجن يجدونه كل صباج جالسا خارج زنزانته منتظرا الحارس ليفتح له بابها المغلق بإحكام! أطلق سراحه بعد حين لعدم ثبوت التهمة المنسوبة إليه فقفل عائدا لقريته يس.
في عام 1881م لم يكن هنالك فكي بغرب النيل الأبيض يماثل في الشهرة وذيوع الاسم الفكي المنّا إسماعيل، بل فاقت شهرته الفكي محمد الخليفة ود دوليب من الدواليب القاطنيين في "خرسي" شرق بارا. كانت قرية "خرسي" هي مركزالناظر عبد الهادي صابر في سنوات الحكم التركي، وكان الدرديري محمد خليفة عمدة القبائل الرحل حول بارا حتى مقدم المهدية وإلى الآن (عام 1934م).
ينتمي الفكي المنّا إسماعيل إلى الطريقة السمانية التي كان على رأسها محمد شريف نور الدائم. كان أحد طلاب محمد شريف نور الدائم هو محمد أحمد (المهدي) فكي "الجزيرة أبا" الذي ذاعت شهرته في أرجاء كردفان. كان من المحتم أن يلتقي الفكي المنّا إسماعيل بمحمد أحمد (المهدي) ، فقد جمعتهما الطريقة السمانية والشهرة العلمية وصحبة شيخهما المشترك محمد شريف نور الدائم. قيل أن صداقة عميقة قد جمعت بينهما، وعند هجرة محمد أحمد (المهدي) من الجزيرة أبا للأبيض في عام 1880م مر في طريقه ب "يس" قرية صديقه المنّا.
عندما أعلن محمد أحمد (المهدي) عن معارضته وتحديه للحكومة، لم يلق عونا من الفكي المنّا إسماعيل في باديء الأمر، إذ أن العلاقة بين محمد أحمد وشيخه محمد شريف نور الدائم كانت قد بلغت حدا من الجفوة للحد الذي دفع محمد أحمد ليتخذ له شيخا آخر هو القرشي شيخ المسلمية، والذي كان بدوره على خصام مع محمد شريف نور الدائم. يبدو أن ارتباط الفكي المنّا إسماعيل بشيخه نور الدائم جعله لا يظهر مساندة لمحمد أحمد في دعوته. بيد أن محمد أحمد (المهدي) ، وبعد انتصاره على قوات الحكومة التركية بقيادة يوسف بيه الشلالي في معركة "قدير" في يونيو من عام 1882م أرسل كتابا لصديقه القديم الفكي المنّا إسماعيل طالبا منه قبول منصب الممثل الشرعي له في منطقته ودعوة الناس من حوله للجهاد بإسمه. قبل الفكي المنّا إسماعيل بذلك العرض، فتدافع رجال الجمع والبزعة والجموعية نحو قرية "يس" للإنضمام لمحمد أحمد (المهدي).
كانت هنالك دوما هجمات متصلة على قرى كردفان المنعزلة وعلى مراكز القوات التركية تشنها مجموعات صغيرة من رجال القبائل، فعلي سبيل المثال قام هؤلاء في مايو من عام 1882م بمهاجمة قرية "أسحف" قرب بارا وقتلوا أهلها. فر في تلك الأيام النور بيه عنقرة، والذي كان صديقا لغردون وحاكما لغرب دارفور، ولجأ إلى بارا، وصار فيما بعد أميرا في المهدية في عهد الخليفة عبد الله، وبقي في أمدرمان حتى توفي فيها (في حوالي عام 1928 أو نحو ذلك).
هوجمت بارا في يوم 23 يونيو، فقامت حامية مكونة من 2000 من الجند بقيادة علي بيه شريف بطرد المهاجمين من رجال القبائل العربية من المدينة بعد أن أوقع بهم خسائر جسيمة. ولكن بعد يوليو من ذات العام طوق رجال القبائل مدينة بارا، وفي التيارة، والتي كانت مركزا عسكريا، قام الباشبزوق تحت قيادة اليوزباشي محمد أفندي شافعي بالتحصن في القرية وبناء خنادق بين تلين رمليين لصد الغزاة من رجال القبائل، ولا تزال بقايا هذه التحصينات (القيقر) باقية إلى اليوم (1934م). وبينما كان محمد أحمد المهدي يمضي بجيشه نحو الأبيض في أغسطس، كان الفكي المنّا إسماعيل يقود جيشه المتكون حديثا لللهجوم على الطيارة "التيارة". كتب إلى قائد الجيش التركي محمد الشافعي من قرية "أم قرينات" يدعوه للاستسلام. رفض ذلك القائد (المعروف بالشجاعة والاقدام) عرض الاستسلام وآثر الثبات وقتال قوات الفكي المنّا إسماعيل المتقدمة نحو جيشه، والمحاصرة لقواته من كل جانب. بعد محاولة فاشلة صدتها قوات محمد الشافعي أفلح جنود الفكي المنّا إسماعيل في دخول التيارة والقضاء على أفراد الجيش الحكومي فيها، وكان من بين القتلى إدريس ولد عبد الهادي صبر ناظر "خرسي" والتيارة وشرق العقبة.
وصلت قوات محمد أحمد المهدي للأبيض في الفاتح من سبتمبر من عام 1882م وحاصرتها وحاولت، وعلى مدى يومين، دخول المدينة بثلاث موجات من الهجوم على تحصيناتها، محدثة الكثير من الخسائر في صفوف جندها بقيادة محمد باشا سعيد، بيد أنها لم تتمكن من دخول المدينة. على إثر ذلك أرسل المهدي للفكي المنّا إسماعيل في التيارة ليحلق به مع جنده في الأبيض. تزعم عائلة المنّا إسماعيل أن الفكي وجيشه قد وصلوا للأبيض مع بداية حصار المهدي لها، بيد أن الوقائع تثبت أن التيارة قد سقطت في أيدي رجال الفكي المنّا إسماعيل في نهاية سبتمبر، مما يعني أن الفكي وجنده قد وصلوا للأبيض بعد الهجوم الأول الذي شنته قوات المهدي على المدينة وليس قبل ذلك.
هنالك قصة تروى عن ذلك الهجوم علي الأبيض مفادها أن رجلا جعليا يقال له عبد الله إبراهيم (وهو يمت بصلة القرابة لأحمد بيه دفع الله الضابط بالقوات التركية) كان قد كلف بقتل محمد أحمد المهدي. نجح الرجل في الوصول المهدي إلى وكان حينها يؤدي الصلاة وصوب مسدسه نحوه. يقول البعض أن الطلقات الست التي أطلقها عبد الله إبراهيم أخطأت كلها الهدف المقصود، بينما يزعم آخرون أن الطلقات أصابت هدفها بيد أنها لم تترك أي أثر على المهدي. تقدم الخليفة عبد الله شاهرا سيفه ليقتل الرجل، بيد أن المهدي أشار له أن لا يفعل وقال له " لا تقتله. سيكون الرجل مفيدا لنا في المستقبل، فهو رجل شجاع". رد الرجل بالقول "لقد حاولت قتلك فلم أفلح، لذا فسأنضم لقواتك" قيل أن الرجل إنضم للقوات المهدية وغدا أميرا في جيش حمدان أبو عنجة، وقتل في أحد المعارك ضد الأحباش.
كان الفكي المنّا إسماعيل قد غادر التيارةمع ثلة من أهله وأفراد عائلته الممتدة من الرجال والنساء متجها للأبيض للحاق بالمهدي الذي كان يحاصرها. كان من بين هؤلاء غلام مراهق هو "حسن محمد تميم الدار" أوكلت إليه مهمة رعاية خيول المقاتلين. الآن (عام 1934م) حسن تميم الدار هو عمدة قرية يس، ومنه علمت الكثير عن قصة صعود نجم الفكي المنّا إسماعيل ثم سقوطه من بعد ذلك.
كانت قوات المهدي مقسمة بين الأبيض وبين بارا التي استعصت على الفاتحين وقاومت ببسالة. كان المهدي قد أرسل لبارا عددا من كبار قواده منهم المحارب الشرس حمدان أبو عنجة (وأصله من البازنقر المسترقين) والجعلي عبد الله نور، والجعلي الآخر عبد الرحمن النجومي. لم يوفق هؤلاء القادة العظام في فتح بارا، إلى أن أتت قوات الفكي المنّا إسماعيل والتي كانت تماثل في العدد كل جنود المهدي الأخرى. ذكر وينجت باشا في كتابه الممتع والمعنون "المهدية والسودان المصري" والصادر في عام 1891م أن حامية بارا قد ضعفت جدا بسبب حريق هائل سببه "أحمد ود ملك" قضى على كامل مخزون المدينة من الحبوب. وجاء في ذات الكتاب أن النور بيه عنقرة كان قد كتب للمهدي عارضا الاستسلام لأي شخص سوى الفكي المنّا إسماعيل، إذ أنه كان يخشى قسوة انتقامه. أمر المهدي عبد الرحمن النجومي بالتوجه لبارا حيث نجح في "تهريب" النور عنقره والعودة به للأبيض وذلك بعد نجاحه في يناير من عام 1883م في الاستيلاء على بارا المحاصرة بعد استسلامها.
من قصص عائلة الفكي المنّا إسماعيل أن أحد شيوخ الشنخاب (واسمه شيخ عبد الرحمن سليمان) سأل الفكي وهو يتأهب لأداء صلاة الظهر خارج بارا عن سبب تأخره في فتح بارا بعد أن أمره المهدي بفتحها. أجاب الفكي المنّا إسماعيل بهدوء "أنا بصلي ركعتين وبعدين بصلي الضهر". قبل أن يكمل الفكي صلاته اندلعت النيران في معسكر الجيش التركي، وأنهارت تحصينات ذلك الجيش ومعنوياته فدخلت قوات الفكي المنّا إسماعيل للمدينة دون إراقة نقطة دم واحدة. عد الناس ذلك تدبيرا ربانيا وكرامة عظيمة للفكي. أجد أنه من الغريب أن تسقط حامية كحامية بارا بفعل كارثة الحريق تلك، وأن كرامة الفكي المنّا إسماعيل كانت سببا في الحريق إبتداءا.
بعد سقوط بارا توجه الفكي المنّا إسماعيل بجيشه نحو الأبيض حيث دخلها من جهة الشرق، بينما دخلها المهدي بقواته من الجهة المقابلة بعد استسلام المدينة في 16/1/ 1883م وتم القبض على الضابطين أحمد بيه دفع الله ومحمد باشا سعيد كأسرى حرب. التقى أحمد البقاري (وقريب الفكي المنّا إسماعيل) مع أحمد بيه دفع الله وعرض عليه الدفاع عنه إن أعلن ايمانه بمهدية محمد أحمد. قال له أحمد بيه دفع الله متحديا: "أنا لست جبانا مثل عبد الله إبراهيم، والذي ما أن فشل في قتل محمد أحمد حتى قبل بالإنضمام إليه". حكم محمد أحمد المهدي على أحمد بيه دفع الله ومعه محمد يس ناظر بارا بالقتل ضربا بالعصي. أوكل لناظر الرزيقات مادبو تنفيذ العملية حيث أخذ الرجلين إلى غابة مجاورة ونفذ فيهما ما أمر به المهدي. دارت الأيام وتم تنفيذ حكم قاس مشابه على مادبو بيد حمدان أبو عنجة. وبحسب رواية وينجت فقد أمر المهدي الفكي المنّا إسماعيل بقتل قائد الجيش التركي محمد باشا سعيد، وتم تنفيذ الحكم عليه في "علوبة"، بينما ينفي أقرباء الفكي المنّا إسماعيل أن للرجل أي علاقة بمقتل ذلك القائد التركي.
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]