المهدي “مهاجرا”ً من مظلة “التراث” إلى هجير “المعاصرة” “حبواً” (2 – 4)!!

 


 

 




(في الرد على ورقة الصادق المهدي المقدمة لمركز الدراسات السودانية - الندوة الفكرية بمناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين لاستشهاد المفكر السوداني الأستاذ محمود محمد طه تحت عنوان: المسلمون وقضايا العصر: السلام والديمقراطية والاشتراكية (نحو فكر إسلامي مستنير) خلال الفترة 18-20 يناير 2020- الخرطوم - ورقة الإمام الصادق المهدي – قدمها واعتذر عن الحضور بلا ذكر سبب لعدم حضوره)

المهدي وماهية الوجود:
يواصل الصادق: "لقد قمت ببحوث فلسفية مطولة حول ماهية الوجود، وعرضت أن بعض الأديان يؤمن أن الوجود كله راجع إلى أصل واحد يعبر عنه اعتقاد البراهمنية الهندية بأن البراهمان هو الأتمان (أي أن اللاهوت والناسوت أمر واحد)، مثلما بعض عقائد المتصوفة، فعقيدة وحدة الوجود في غالبها تعود لأثر الفلسفة الهندية على كثير من الفلسفات والرؤى الدينية. وقد قال بوحدة الوجود فلاسفة منهم أفلوطين، وابن طفيل، وسبينوزا، وهيجل. وقد نفيت أية معقولية للأحدية كتفسير للوجود، كما وصفت كيف أن الأديان الإلهية كاليهودية، والمسيحية، والإسلام تؤمن بكثرية الوجود إذ تقول بوجود أصلين على الأقل: الله والعالم"!!..

أصلان أم أصل وفرع:
قال الصادق: "كما وصفت كيف أن الأديان الإلهية كاليهودية، والمسيحية، والإسلام تؤمن بكثرية الوجود إذ تقول بوجود أصلين على الأقل: الله والعالم"، ونسأل الصادق: هل قالت الأديان الثلاثة اليهودية والمسيحية والاسلام بوجود أصلين في الوجود أم قالت بوجود أصل صانع وفرع مصنوع؟1..
المتصوفة؟!:
وصف المهدي بعض عقائد المتصوفة بأنها تقول بوحدة اللاهوت والناسوت، فاذا كان ذلك كذلك، لماذا إذن فرقوا في التسمية بين اللاهوت وهو الله القديم، والناسوت وهو الوجود الحادث وعلى قمته الانسان؟!، وقد عبر عوض الكريم موسى الشاعر العرفاني في احدى قصائده عن ذلك حين قال: "كنز اللاهوت/ إرث الناسوت/ وله الرهبوت/ وهو السبحان"!!..

المهدي والمأزق والبحث عن الحل:
يقول الصادق في مقدمة ورقته: لقد أصاب أمتنا داء من ثلاثة أوبئة هي: الركود الفقهي والجمود الفكري والركون للطغيان
هذا الثالوث المقيت أودى بحيوية الأمة وجعلها صيداً سهلاً للإمبريالية الحديثة فهي في رأيه لم تكن مجرد غزو سلطاني بل صحبه غزو فكري وثقافي، ويواصل: وأمتنا اتخذت ثلاثة مواقف من الفكر والثقافة الوافدة: الرفض التام والقبول التام ومحاولة التوفيق، ولكن هنالك "فكرويات" حديثة تنطلق من منظومات إيمانية مثل الدعوة لاعتماد تاريخية نصوص الوحي، والدعوة لقطيعة معرفية بيننا وبين التراث، وغيرهما، فاذا كان المهدي قد رفض تطوير التشريع الاسلامي عند الأستاذ محمود وهو ناقد للموقف من الراهن المعاش:

أزمة الفكر الاسلامي الحديث
يقول الصادق المهدي: "إن الصراع على السلطة الذي بلغ ما بلغ عرض من الأعراض ولكن جوهر الموضوع متعلق بالأزمة التي يعاني منها الفكر الاسلامي الحديث تأزم زادته التجارب الاسلامية المعاصرة عمقاً كما شهدنا في ايران وأفغانستان والسودان لذلك أقول والله المستعان: الامام المهدي أطلق دعوة أورثت الفكر الاسلامي المعاصر ثلاثة أمور هي: إن اجتهاد السلف ليس ملزماً للخلف فهم رجال ونحن رجال وعلينا أن نجتهد كما اجتهدوا، إن القيد المذهبي ....فلكل وقت ومقام مقال ولكل زمان وأوان رجال، إن الطاقة الروحية في نفس الانسان وفي حركة المجتمع كالطاقة النووية في الفيزياء غلابة، لقد تصدى الفكر الاخواني وحركاته للعمل السياسي بصورة أساسية محاولاً تقديم بديل كامل شامل، ولكن هذا الفكر لم يستطع حسم أربعة قضايا هامة ظهر التقصير فيها كاملاً عندما تولى الفكر الاخواني سلطة سياسية. أولاً: قضية نظام الحكم فالمرجعيات الموجودة تتعلق بالخلافة للأمة الواحدة والحقائق الماثلة في الواقع تتعلق بأوطان قطرية ودول حديثة. ثانياً: قضية الاقتصاد فالمرجعيات الموجودة تتعلق باقتصاد قبل الحداثة والواقع الماثل يتعلق باقتصاد حديث صاغته الرأسمالية وتعديلاتها عبر اصلاحات الاشتراكية الحديثة. ثالثاً: العلاقات الدولية المرجعيات المتاحة تتعلق بعالم مقسم بين دار سلام ودار حرب،والواقع الدولي المعاصر متعلق بنظام تعاهد دولي شامل. رابعاً: استخدام العنف في العمل العام. المرجعيات الموجودة تتعلق بالجهاد وفقه الجهاد المقترن بظروف ماضية والواقع المعاصر يقوم على عهد المواطنة الذي يساوي بين المواطنين على اختلاف الدين، وميثاق الأمم المتحدة الذي يقيم السلام بين كافة الدول. غالبية الحركات الاسلامية التي مارست السلطة وقعت في مشاكل كبيرة بين متطلبات المرجعيات وبين حقائق الواقع. هذا هو جوهر أزمة النظم الاسلامية الحديثة، وما لم نتجاوز المرجعيات المستمدة من أجتهاد الأقدمين ونقيم فقهاً جديداً للتعامل مع الحياة الجديدة فان الأزمة سوف تستمر. بالنسبة لرواد التجربة في السودان، فان المطلوب بالحاح هو الاعتراف (بعدون – الكلمة لاهتراء الصحيفة في موضعها لم استطع تبينها ولعله يقصد "بعدوانية") التجربة والخروج من أقبية الأزمة بنهج يركز على العقيدة وعلى التربية وعلى العمل الاجتماعي. أما في المجال السياسي فادراك أن المواطنة حلت محل عهد الذمة، وأن نظام الحكم الديمقراطي حل محل الخلافة، وأن الجهاد هو جهاد النفس لتحقيق الفضيلة، والجهاد بالمال والكلمة لاعلاء كلمة الله، وأنه لا يصير قتال إلا انتصار لحرية الدعوة "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا" الآية – وأن الرق لم يكن شعيرة اسلامية بل كان أسراً قديماً اعترف به الاسلام وشرع وسائل لالغائه تدريجياً، وليس من مقاصد الشريعة اليوم احياؤه. المطلوب أن يكون المسلم المعاصر أصولياً في العقائد، والعبادات، والأخلاق..أما المعاملات، وهي مرتبطة بالمصالح والحركة فالمطلوب التخلي تماماً في أمرها من الأصولية والثبات والاجتهاد في أمرها لاستنباط فقه جديد. ثم خاطب الصادق المهدي الانقاذيين آنذاك قائلاً: "إن أمام أهل النظام أن يتعظوا بأنفسهم وبغيرهم للخروج من جوهر الأزمة التي يعاني منها الفكر السياسي الاسلامي الحديث"..
(أرسلها الصادق من موضع اقامته بالقاهرة وتلاها عبدالمحمود أبو الأمين العام لهيئة شؤون الأنصار خلال خطبة عيد الفطر)، (المصدر: أخبار اليوم – الأحد 30 شوال 1420 هـ الموافق 9 يناير 2000 العدد (1864) – صفحة 4 – المنبر الحر)

المهدي ومعضلة توقف الاجتهاد:
دعا المهدي لاستنباط فقه جديد، في ما يجابه الفكر الاسلامي المعاصر من مشكلات في نظام الحكم من نظام الخلافة للأمة الواحدة إلى أوطان قطرية ودول حديثة، وفي قضية الاقتصاد من اقتصاد ما قبل الحداثة إلى اقتصاد حديث صاغته الرأسمالية وتعديلاتها عبر اصلاحات اشتراكية حديثة، وفي العلاقات الدولية من عالم منقسم بين دار اسلام ودار حرب إلى نظام تعاهد دولي شامل، وفي استخدام العنف في العمل العام من جهاد وفقه مقترن بظروف ماضية، إلى عهد المواطنة الذي يساوي بين المواطنين على اختلاف أديانهم، وميثاق الأمم المتحدة الذي يقيم السلام بين كافة الدول، ونتساءل هل يستيقظ المهدي على حقيقة انغلاق باب الاجتهاد منذ زمن تطاول بين عالم كانت وسيلة انتقاله الدواب إلى عالم نزل على سطح القمر وغازل خياله أسطح الكواكب البعيدة ومن عالم المستقيمات الاقليدسية إلى عالم منحنيات أنشتاين، فالكوم انحنى إلى جبوت الخالق، وانداحت المادة في الطاقة والطاقة في المادة، وعزا الدكتور عبد الحليم عويس توقف الاجتهاد إلى خضوع الفكر الإسلامي لما خضعت له سائر العلوم من جمود وتحجر نتيجة الكسل العقلي الذي أصاب الأمة الإسلامية في صميم نشاطها العقلي والوجداني (يرى الدكتور عمارة أن اغلاق الاجتهاد ناتج عن احساس الفقهاء بقصورهم عن الاجتهاد يقول: ورأينا الذين أرخوا لمسيرة الامة على هذا الدرب بعد أن اعلنوا بالقصور والعجز واغلاق باب الاجتهاد يتوقفون عن ذكر الأسماء الجديدة في تلك السلسلة من ائمة التجديد- محمد عمارة – دكتور - تجديد الفكر - مرجع سابق- ص9). وبالتالي تخلف الفقه وتوقف الاجتهاد. ويضاف إلى هذا السبب الأساس أسباب أخرى حصرها العلماء في الأسباب الآتية:
1/ تدوين المذاهب: فقد تم تدوين الفقه وسجل علماء كل مذهب اجتهادات الأئمة في الحوادث التي افتوا فيها، واعتقد العلماء أن ما دون كافٍ لسد حاجة المسلمين، فوقفوا أنفسهم على ما بأيديهم من كتب الائمة المجتهدين.
2/ التعصب المذهبي: فقد التزم كل عالم من العلماء مذهباً خاصاً، عني بدراسة وحفظ أصوله، وترتيب فروعه ودعوة الناس إلى المذهب الذي اختاره، واعتقاد الحق فيما جاء به مذهبه وحده.
3/ زاد من تعطيل عجلة الاجتهاد أن كتب علماء المذاهب مليئة بالتهجم على أئمة المذاهب الأخرى، انظر مثالاً ما قاله الغزالي في كتابه "المنخول" وما قاله الجصاص الحنفي في كتابه "أحكام القرآن" وما قاله الإمام ابن حزم الأندلسي في كتابه "المحلى" وغيرهم.
4/ كان من أسباب الصراع بين المذاهب أن القضاة في بعض العصور كانوا يعينون للقضاء على مذهب معين يلتزمونه في أحكامهم، ولا يجوز لهم الخروج على منصوصات علمائه، وكان التعصب للمذهب والاستشهاد بذلك من عوامل تقديم الفقيه وتزكيته.
5/ شيوع الحسد بين العلماء مما جعل الكثير منهم يحجم عن الاجتهاد خوفاً من أن يكيد له اعداؤه ويرمونه بالابتداع فوقفوا عند أقوال الأئمة المتقدمين (عبد الحليم عويس- دكتور- الفقه الاسلامي بين التطور والثبات- مصدر سابق- ص 137).
ويعزو الشيخ ابو الحسن الندوي قفل باب الاجتهاد وتوقف النشاط العقلي إلى الغزو التتاري المغولي الذي تعرضت له الأمة الإسلامية بعد سقوط بغداد، والذي جفف منابع الذكاء والثقة بالنفس وتخوف العلماء من توقع انحراف الاجتهاد لمؤازاة الحكام أو امكان تسببه في تحريف الدين يقول الندوي: (ولقد اعترى هذه المؤسسة - مؤسسة الاجتهاد بمعناها العصري- شئ من الذبول والضعف بعد الهجوم التتاري الذي جفف منابع الذكاء والثقة بالنفس والصمود امام الزحف المسلح وغير المسلح في نفس الشعوب التي وقعت تحت نفوذ الحكم التتاري المغولي فرأي علماء المسلمين- خصوصاً في القسم الشرقي من العالم الإسلامي- الحد من نشاط الاجتهاد، وفي هذه الحقبة من الزمن (يعتقد بعض المفكرين انه لو قيض للاجتهاد أن يستمر على فاعليته في مجابهة تطورات الحياة المستجدة ولم يتوقف البتة لكان الحال غير الحال، ولكانت الدعوة إلى التحقق بحضور اجتهادي فعال في قرننا هذا امرا ممكنا وميسورا، ويطرح هؤلاء المفكرون معضلة الانقطاع الاجتهادي لفترات زمنية متطاولة كحاجز يقف امام استعادة الحركة الاجتهادية قدرتها على الفعل والتعصير والاستمرار، ويجعلون همهم ووكدهم كيفية تجاوز هذا الفراغ بين الماضي والحاضر، ويتساءلون هل من المحتوم ملء هذا الفراغ لكي تكون انطلاقتنا الجديدة متحققة بشروط التواصل المطلوب؟ وألا يمكن أن يعتبر المجتهد المعاصر "حرا" في أن يبدأ من جديد لمجابهة التحديات الجديدة كما بدأ سلفه؟ كأن المعضلة في نظرهم هى هذه الفترة من انقطاع حركة الاجتهاد.. انظر في ذاك عبد الحليم عويس- دكتور- مصدر سابق- ص174). مخافة أن يكون في صالح الحكام، خاضعاً لمصالح سياسية وفردية فيضر أكثر مما ينفع، وقد يكون سببا لتحريف في الدين أو انحراف جماعي في سير هذه الأمة، وقد كان مؤقتاً ومؤسساً على مبدأ تقديم الضرر على جلب المنفعة. (عبد الحليم عويس- دكتور- المصدر السابق- ص 168).
ay1947@gmail.com

 

آراء