النخبة السودانية والولع باستدعاء الدور الأجنبي .. من الفيفا إلى إيقاد، وطن تحت رحمة التدخلات

 


 

 


جاءت الملابسات المؤسفة التي صاحبت انتخابات الاتحاد العام لكرة القدم السوداني التي جرت وقائعها في الأيام الفائتة لتجدد الكشف عن الوجه القبيح في مكونات الشخصية العامة السودانية، ولنقل تجاوزاً النخبة المشتغلة بالشأن العام في المجالات شتى، ولئن عرف الناس وذاقوا الأمرين جرّاء عبث الساسة وشح نفوسهم فقد جاء الدور ليتعرفوا عن كثب عن عبث النخبة في مجال الرياضة المفترض أنها مجال للتنافس الشريف ولتوكيد علو النفس والأخلاق السوية، ولكن ها هي قلعة أخرى من قلاع الحياة السودانية تسقط، ومرة أخرى فتش عن النخبة، ليست تلك المدمنة للفشل فحسب، بل تلك العاجزة عن الإرتقاء لمصاف مقتضى المروءة الوطنية.
يُعرف عامة السودانيين وسوادهم بكثير من رفيع المكارم وسمح السجايا وطيب النفوس والاستقامة الأخلاقية ، ولطالما سارت بذكر فضائلهم الركبان، ولكن للعجب ما أن يأتي الأمر إلى مجال التنافس على القيادة في غالب مناحي الحياة حتى ترتد كل تلك الخصال الحميدة عند نخبة المتصارعين على أعقابها، وتكشف عن ترد لا سقف أخلاقي له في العمل بكل حيلة ووسيلة للوصول إلى المبتغى، وهو في نهاية الأمر لا يعدو أن يكون مع كل الشعارات المرفوعة تزعم صالحاً عاماً، ما هي في حقيقة أمرها إلا انتصاراً لحظوظ النفوس الصغيرة.
فقد كشف هذا الصراع العبثي المحموم على قيادة إتحاد الكرة عن هذا الوجه القبيح في الشخصية العامة السودانية، إلا من رحم ربي وما أندرهم، وولعها باللجوء إلى كل وسيلة بلا وازع بغرض الوصول إلى المقاعد الجالبة للسلطة والثروة لتذبح على أعتابها كل قيم المجتمع، لقد أكد هذا العرض المفضوح من جديد أن الصراع على المناصب العامة المفتقر إلى قواعد أخلاقية متينة لا يقتصر على جانب دون أخر، خبرها الناس في عالم السياسة حتى ملوها وقد أقعدت بالبلاد عقوداً وعقوداً إن لم نقل قروناً، وامتدت إلى ساحات أخرى فلم تعد الانقسامات والتشرذم حكراً على فئة بعينها، ولئن وصلت أخيراً إلى مجال الرياضة فقد سبقتها ساحات أخرى ولم تسلم منها حتى الجماعات الدينية وسجادات الصوفية وغيرها.
ولكن ما يلفت النظر حقاً في هذه المسألة جانبان لا يتعلقان بظاهر ما نشهده من صراعات عبثية وما تؤدي إليه من انقسامات وتشرذم، بل ما يتصل منها بصميم بواعث وجذور أزمتنا الوطنية المتطاولة وما يبدو من استحالة الفكاك من حالة استدامتها، فالجانب الأول يتعلق بالتساؤل حول مدى توفر بنية نخبوية مسنوداً بأرضية اجتماعية قادرة على الوفاء باستحقاقات تأسيس نظام ديمقراطي ينشده الجميع بظاهر القول، لا يكاد يتخلف أحد عن الدعوة له، كل على شاكلته.
والأمر الآخر اللافت في الخصوص هذا الولع الشديد المركوز عند الصفوة النزاعة بعجلة إلى استدعاء الخارج أو الأجنبي للاستقواء به في وجه مصارعة الخصوم دون خشية من تبعة أو خوف من عاقبة عار يلحق بها في مضمار سمعتها الوطنية، ودون نظر في عواقب ارتهان سيادة البلاد للأجندة الأجنبية التي لا تتدخل بالطبع إلا لخدمة مصالحها على حساب المصالح الوطنية.
والمسالة الأولى المتصلة باستعداد النخبة، على امتداد طيفها وتعدد مجالاتها، لتحمل دفع استحقاقات الممارسة الديمقراطية تكشف فقراً مريعاً، ليس في فهم آليات العمل الديمقراطي فحسب، بل كذلك في الإلتزام بروحها التي تقوم على فكرة التداول، أي الأجل المحدود للقيام بالوظيفة العامة في دورة معلومة من السنين يغادر بعدها ليخلفه آخر تحقيقاً لمقتضى التجديد والتعاقب، ولكن الشاهد أن جميع المشتغلين بشأن الوظائف العامة، ولو كانت أحزاب سياسية أو جماعات مدنية، لا تؤمن أصلاً بهذا المبدأ الأصولي، أو بالأحرى لا تتذكره إلا إذا كانت تطلب المنصب، فما أن تصل إليه حتى تتجاهله، وتنقلب إلى كائن آخر يطلب خلودا مستحيلاً في مُلك لا يبلى، ولذلك تعمل بكل جهد لتدمير كل أسس التداول السلمي، وتجنح إلى كل الحيل لتجاوز كل التقاليد والأعراف بغرض الاحتفاظ بالمنصب، ما يُعرف في الثقافة العامة ب "الكنكشة".
هل هي مجرد مصادفة أن هذا الداء العضال المستشري في جسد مؤسسات النفع العام السياسية والاجتماعية، لا يكاد ينجو منه أحد، تنظر إلى الساحة السياسية فتجد أن غالب القوى السياسية لا تعرف إلا زعيما واحداً لا يغادر موقعه إلا إذا حكم عليه القدر بالإرتحال إلى الدار الآخرة، حتى صارت أداة التجديد الوحيدة المتاحة للقيادة هي تدخل عزرائيل عليه السلام، أليس غريباً أن يستوي في ذلك أحزاب اليمين، وقوى اليسار، وما بينهما.
والمفارقة أنهم يختلفون حول كل شئ، ولكن لا يجدون شيئاً يتفقون عليه سوى صرعة التشبث بالكرسى حتى آخر نفس، ليست مهمة المسوغات التي تساق هنا أو هناك لتبرير هذا الواقع المزري، ولكن النتيجة واحدة هي أن انسداد الأفق أمام عملية تجديد طبيعية هو أكبر معوّق بلا جدال أمام عملية تجذير الممارسة الديمقراطية التي أصبحت مجرد دعاوى لا يقوم عليها دليل، ولا أحد من دعاته مستعد للتضحية لتقديم النموذج المطلوب، ودائماً ما يختلقون الأعذار لسوق تبريرات واهية، ولذلك تستفحل الأزمة الوطنية، وتتعدد مظاهرها ما وراء الساحة السياسية نحو ما برز في المجال الرياضي، ويبقى العنوان استدامة المأزق الوطني بفعل هذا العجز النخبوي، فالسماء لا تمطر تغييراً، والديمقراطية لا تتحقق بالتمنيات.
والمسألة الأخرى اللافتة التي تكشف عورة فئة النخبة السودانية المتعطشة للسلطة والثروة، ما تجنح إليه عند اشتداد كل صراع بين أطراف محلية، تلك المسارعة إلى استدعاء الدور الأجنبي للاستقواء به في وجه الخصم المحلي، وما التصرف الذي لجأت إليه قيادة اتحاد الكرة السابقة باللجوء إلى توظيف حيلة دور الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) للانتصار لنفسها إلا صورة أخرى من تاريخ طويل طالما ولغت فيها أغلب القوى السياسية والاجتماعية السودانية، وهو بهذا المعنى ليس جديداً بل هو مجرد استمرار لهذه الظاهرة المستنكرة التي تحولت إلى فعل حاضر دائماً حتى باتت في مقام المعتاد، أو ما لا يستدعي الاستغراب على كثرة وقائعه.
ويشهد تاريخ السودان القريب، راهناً وعلى مدى القرون الأخيرة، دوراً متعاظماً للخارج في تشكيل الواقع السوداني، ليس مفروضاً بفعل قوة الأجنبي، بل بحكم استعداد الفرقاء في الساحة الداخلية على مد أسباب العون للقوى الأجنبية وتمكينها بفعل صراعاتها التي لا تنتهي طلبا للانتصار للذات على حساب الوطن، والقائمة تطول، والمقام لا يسمح بتفصيل ما هو معلوم للكافة، وهو على أية حال ملف ملئ بالمخازي، كما أنه تعاقب على التورط فيه كثير من القوى السياسية والاجتماعية المختلفة في أوقات ومراحل تاريخية مختلفة، ولذلك يصح القول أن الدولة السودانية بكل تعقيدات تركيبتها ما هي في واقع الأمر إلا صنيعة إرادات خارجية، أسهمت في تثبيت أركانها فرقاء محليون.
وما حدث في انتخابات إتحاد الكرة إلا مثالاً حاضراً لهذه اللعبة الملهاة، طرف محلي يستقوي بالسلطة فيلجأ خصومه إلى الاستعانة بالأجنبي، ودعك من محاولة كل طرف التذاكي، ودعك من التفاصيل التي لا تغني من الحق شيئاً، ومثله يجري في ساحة السياسة السودانية التي أصبحت خاضعة لدور خارجي وتأثير أجنبي على نحو غير مسبوق، احتكار للسلطة يقصي الخصوم فيستدعى السند الخارجي، والطريف هذه المرة أن السلطة نفسها لا تستطيع أن تعيب خصومها في فعلتهم لأنها نفسه ولغت في ذلك أكثر من خصومها، فقد درجت تفادياً لدفع استحقاقات التسوية الوطنية الشاملة أن تستقوي أيضاً بالخارج لتسهيل ممارستها لعبة التسويات الثنائية بغرض استدامة سلطتها مقابل غض الطرف أو حتى خدمة أجندة القوى الأجنبية.
والحال هذه فإن الأزمة الوطنية التي تتجلى مظاهرها كل يوم لن تحل بمثل هذه المواقف الوقتية، ولا المساومات العابرة، بل يجب النفاذ إلى معالجة أصل أزمة الشخصية النخبوية التي تسترخص في سبيل المصالح الذاتية كل اعتبارات المصلحة الوطنية، وهو ما يستدعي حواراً حراً وشفافاً يضع الملح على الجرح، ولا يرمه على فساد.
عن صحيفة إيلاف

tigani60@hotmail.com

 

آراء