النهايات الكبرى والبدايات الكبرى(3): كفاح جيل: البداية الكبرى باكتوبر الثورة والنهاية الاكبر بالثورة المضادة

 


 

 

 

فتحت اكتوبر الثورة 1964 الباب واسعا لجيل جديد من السودانيين في الدخول الى المجال العام بعد ان رفعت سقف الحريات عاليا و الفضاء الفعلي والنظري لها واسعا مرحبا بالجميع وذلك بإلغاء كل القوانين المقيدة للحريات باشكالها وأنواعها المختلفة والتي اضاف اليها نظام عبود العديد من اجل تحجيم العمل السياسي والصحفي والنقابي والحزبي وذلك بإدخال السودانين عامة في بيت طاعة دولة الرعية لا دولة المواطنين. الان يمكن لنا ان نتحدث باستفاضة من فيض اكتوبر الثورة في إطار التجربة السودانية ما يمكننا ان نتحدث باختصار الان على سبيل المثال لا الحصر عن ذلك الصراع الطويل بين الاتجاه الهادف للمضي قدما بقضية التحرير نحو دولة المواطنين التي هي أساس القضية القومية والثورة المضادة القائمة على الحفاظ على نهج الدولة الباطشة الذي لا يرى في المواطنيين السودانيين الا رعايا لا اكثر وفِي بعض الأحوال اقل. لذلك تأتي أهمية البدايات والنهايات لجيل اكتوبر وصراعاته في إطار القضية الوطنية وذلك للإرتباط المباشر كل منهما بروح وآفاق المشروع الثوري وحركة التغيير في السودان من جهة وفي ذات الوقت ما تبع ذلك من تطور وتنوع في حركة وحراك الثورة المضادة. اذ علينا ان نأخذ امر كل من الثورة والثورة المضادة كعنصرين ظلا يعملان في إطار التأثير المباشر وغير المباشر في إطار حركة التغيير الاجتماعي في السودان.

والثورة هنا لا تعني التغيير عن طريق العنف وانما تأتي عن طريق تقديم مشروع الحداثة في اتساق وتناغم كامل وجوهه الخاص لا في التحرر من الاستعمار فقط وأنما يمتد للتحرر من النظام القديم باكمله متمثلا في دولته القائمة على اعتبار السودانيين رعايا كما أراد لها ونجت والدولة الاستعمارية واداة للقمع يقوم بنائها على نهج الأفكار والممارسات الشمولية كما نراه قائما. من هذا يأتي مشروع الثورة من اجل ابتكار نظام سوداني جديد يقوم على واجبات ومقتضيات بناء دولة تقوم عمدها على حقوق المواطن في المشاركة الكاملة في الشأن السوداني على جميع المستويات وحقه الكامل في الحرية والكرامة وإنسانية الانسان. ءاضافة الي حقه في العمل المشترك الجامع من اجل سعادة المواطن وأمن الوطن والمواطن. ومن هذا وبهذا فان مشروع الحداثة مشروع مفتوح ومتجدد وليس أمرا جامدا او مكتملا في ذات الوقت. والحداثة هنا تعني ان يتأمل الانسان الحياة دون شروط مسبقة او جبر او قهر وان يعيش نتاج تأمله ذلك دون قمع. وهو ما يعني حرية التفكير والاختيار والاختبار وديمقراطية الاختيار والفعل. والثورة المضادة هي المشروع المضاد لذلك جملة وتفصيلا. من هنا يمكن النظر مليا في بداية جيل اكتوبر الثورة كاتجاه في طريق التحرير ونهاية نهج الثورة المضادة كترياق لحركة التحرر والنهاية الكبرى لنهاية ذلك. نجمل ذلك اختصارا اذ ان الامر في شموله يقتضي ان يأخذ مكانه كأمر هام في إطار القضية الوطنية.

أولا: لقد دخل جيل بل رعيل جديد من السودانيين المجال العام من مناطق البلاد المختلفة وخاصة جنوب البلاد الذين كانوا حتى قبل ذلك مطاردين من قبل نظام عبود باعتبار انهم متمردين. جلس ممثلون لكل من هؤلاء وأولئك لأول مرة متساوين مع اخرين من السودانيين في مؤتمر المائدة المستديرة 1965في حوار جاد وصريح من اجل الوصول الى حلول سلمية لواحدة من القضايا الكبرى التي تتعلق بوجود السودانيين كأمة وبناء السودان كدولة وكيفية نظام الحكم لمابعد ذهاب دولة الاستعمار. صحيح ان الامر قد تقاصر عن يتطرق لقضية "الهامش" وتعقيدها في إطار القضية الوطنية ليشمل الجنوب والغرب والشرق رغما عن ذلك فقد كان خطوة متقدمة في ذلك المجال. هذا ومن جهة اخرى فقد تبوأت وجوه كانت أحزابها محظورة ومطاردة بل قام نظام عبود بنفي قيادات تلك الأحزاب في داخل بلادهم اي في جنوب السودان. اضافة الى ذلك فقد فتحت اكتوبر الفضاء الرسمي واسعا بان يتبوأ منصب الوزارة ممثلين لنقابات وأحزاب اقليات من أمثال الشفيع احمد الشيخ من اتحاد العمال كاول عامل نقابي يتقلد منصب وزاري رفيع ومحمد صالح عمر من جبهة الميثاق الاسلامي كاول اسلاموي يتقلد منصبا مشابها. كما دخل التاريخ شيخ الأمين محمد الأمين رئيس اتحاد المزارعين كاول مزارع يتقلد منصبا وزاريا. وهذا وقد دخل كلمنت امبورو تلك الوزارة كاول جنوبي يتبوأ منصب وزارة رئيسية كبري اي وزارة الداخلية. ولعل من اهم ما اتت به رمزية اختيار رئيس وزراء الحكومة الانتقالية في شخص سرالختم الخليفة تتعلق بعلاقته المتميزة بجنوب السودان كمعلم. لقد تم كل ذلك في حكومة اكتوبر الانتقالية دون ان يحول انتماء او عدم انتماء اي من أولئك النقابيين او السياسيين او ما يمثل اي او حزبه او تنظيمه النقابي او المهني في الوجود الفاعل في المجال العام او الرسمي. كذلك فقد تجلت روح اكتوبر في ان نال د.حسن الترابي والسيدة فاطمة احمد ابراهيم اكبر الأصوات للأول وثاني اكبر الأصوات للثانية في دائرة الخريجين وذلك في اول انتخابات عامة تمت بعد ثورة اكتوبر.

ثانيا: هذا و من جهة اخرى فقد مهدت اكتوبر للحوار الصعب في داخل الأحزاب السياسية فظهرت اتجاهات اصلاحية او وتجديدية وصراعات بين قوى وجماعات وافكار في كل الأحزاب السياسية. لقد كلل بعضها بالنجاح وعن طريق ذلك صعد حسن الترابي الى قمة هرم الحركة الاسلاموية منقلبا على اسلاموية الاخوان المسلمين وتقليديتها وولائها للحركة الام في مصر. كما قام الصادق المهدي بحركة تجديدية في حزب الامة قادته الى قمة قيادة حزب الأمة بعد صراع حامي ومرير قاد الى انشقاق الحزب وتوحده من جديد على حساب قيادات تاريخية وربما على حساب النظام الديمقراطي ذاته. ومن جهة اخرى فقد استطاع عبدالخالق محجوب الحفاظ على موقعه في القيادة بعد صراعات داخلية ظلت مكتومة كان لها ضحاياها من المتنافسين على القيادة وكان لها اثارها الكارثية فيما بعد على مدي عمر الحزب الشيوعي. وتمكن اسماعيل الأزهري من ضم حزبي الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي في حزب واحد سمي بالحزب الاتحادي الديمقراطي رغما عن تمكنه من طرد العديد من الشباب القادم للحزب من المجال الأكاديمي بصورة بشعة. لقد قطعت الثورة المضادة الطريق لذلك التطور العميق الأبعاد عن طريق الانقلاب العسكرى (مايو 69) ودولته الشمولية القائمة بالعنف.

ثالثا: لقد برز نجم قيادات جنوبية جديدة وأحزاب جديدة من تجليات مناخ اكتوبر الثورة وما أعطى للسودانيين عموما. على راس هؤلاء سطع نجم كل من وليم دينق وجوزيف ادوهو وتوبي مدوت وأبيل الير وبونا ملوال وهلري لوقالي وبيتر جات كوث وحزبيهم: سانو وجبهة الجنوب. كما برزت وجوه جديدة من هامش السودان الجغرافي من داخل الأحزاب القائمة مثل بكري عديل من حزب الأمة وجوزيف قرنق من داخل الحزب الشيوعي ومحمد جبارة العوض من داخل الاتحادي الديمقراطي. وظهر الأب فيليب عباس غبوش كمؤسس وزعيم لكيان جديد يسمى اتحاد عام جبال النوبة. كما برز هاشم بامكار كزعيم لمؤتمر البجا. وتحول كل من محمد ابراهيم دريج وعلي الحاج من جبهة نهضة دارفور الى حزب الأمة والجبهة الاسلامية. كل ذلك عن طريق المثال لا الحصر.

رابعا: وظهر الحزب الجمهوري بثوب جديد باسم الاخوان الجمهوريين كحركة اسلاموية يتقدمها ويرسم أسسها الفكرية والسياسية محمود محمد طه لا كقائد سياسي فقط وإنما كقيادة كلية كأستاذ ومعلم- اي قائد ذا رؤية تجديدية معينة وفق منهج واسلوب في العمل السياسيزوالفكري متميز عن غيره. وكذلك ظهر نجم بعض الأكاديميين في إدارة الحوار القومي والأكاديمي من أمثال النذير دفع الله ومحمد عمر بشير ويوسف فضل وكل من محمد ابراهيم آبوسليم ونجم الدين محمد شريف الاول كمدير لدار الوثائق المركزية والثاني كمدير للمتحف القومي.

خامسا: وعلى الصعيد الثفافي فقد ظهر العديد من افراد جيل جديد من الشعراء والاعلاميين والمغنيين والكتاب على رأسهم كل من محمد الملكي ابراهيم وفضل الله محمد وهاشم صديق وعبدالله على ابراهيم ومحمد عبدالحي والنور عثمان ابكر ومحمد الأمين وعبدالكريم الكابلي ومحمد وردي والفاتح التجاني ويحيى العوض و محمد علي محمد صالح كما استعاد المجال الثقافي شخصيات عديدة أمثال محمد المهدي مجذوب وعبدالله حامد الأمين وخديجة صفوت وإبراهيم الصلحي وصلاح احمد ابراهيم وعلي المك وتأكدت قيادة كل من مجموعه دار الأيام متمثلة في بشير محمد سعيد ومحجوب محمد صالح ومحجوب عثمان كمدرسة صحفية متقدمة تكنولوجيا على مدرسة الرأي العام لاسماعيلزعتباني والصحافة لعبدالرحمن مختار. وبرز نجم بونا ملوال كناشر ومحرر لصحيفة فيجلنت الانجليزية كاول صحيفة جنوبية في الخرطوم. ومن كل ذلك انتظمت المجال العام العديد من أشكال جديدة اسميها بالحوارات الحميمة intimate conversations تمثلت في، ولم تقف على، تنظيم بعينه الا ان تنظيم ابادماك وما نتج منه او تمدد بإلهام من تجليات ذللك المناخ تنظيمات مماثلة اخرى في مدن ومدارس السودان الثانوية الكبرى يمثل جزءا من ذلك الحوار.

كل هذه الأسماء تمثل بعض النماذج وليست باي حال قوائم كلية. اذ ان اكتوبر الحدث التاريخي وما لحق ذلك من مكونات "الدين الاجتماعي" Civil Religion والرؤي الفكرية والسياسية التي قامت وترعرعت من فيض ما أنتجت من عميق وتجليات اللحظة الثورية وافاق الخيال المبدع والفتوحات المدنية التي اتت من فيض روح اكتوبر والتي لا يزال اثرها حيا وشخصوها وافقها ماثلة للعيان. لكل من هذه الأمور والتطورات والظواهر أهميته الخاصة المتعلقة بأكتوبر الحدث وأكتوبر الثورة وقيمة كل منها الحياتية والتاريخية والسياسية والاجتماعية..

في ذات الوقت فتح مجال الصراع الجديد الذي جاء من واقع كوّن اكتوبر قد جاءت كأهم حدث في تاريخ السودان الحديث وذلك لارتباطها المباشر بروح وآفاق المشروع الثوري وحركة التغيير في السودان من جهة. ومن جهة اخرى فقد جاء ما تبع ذلك من تطور وتنوع لحركة وحراك للثورة المضادة. اذ علينا ان نأخذ امر كل من الثورة والثورة المضادة كعنصرين ظلا يعملان في إطار التأثير المباشر وغير المباشر في إطار حركة التغيير الاجتماعي في السودان.

أولا: ومن واقع ما تولد بعد ما أحدثت الثورة ذلك التكوين الجنيني لشكل جديد لمجتمع جديد يتخلق وقيادات لمجتمع مدني جديد في طور النمو ممثلا في ما سمي بجبهة الهيئات والتي كان من المفترض ان يمثل او يستلهم المعاني الكبرى للثورة في بناء سودان جديد. لقد كان من الممكن ان ان يتسع ذلك الوعاء الجديد ليكون البرلمان الاول لما بعد إسقاط النظام ومن واقع مشروعيته الثورية كوسيلة للتوافق على عقد اجتماعي جديد تقوم عليه قوائم السودان الجديد. غير ان هنالك من رأي ان يكون النظام الجديد غير ذلك. فقد خرجت بعض الدعاوى القائلة بالعزل السياسي لقوى سياسية بعينها من داخل جبهة الهئيات التي اتهمها الإسلامويون ومن تحالف معهم بانها كانت واجهة للحزب الشيوعي. اذ جاءت من دعاوي ذلك الفصيل اليساري المكون او صاحب الصوت الأعلى في جبهة الهئات ذاك بان لا زعامة للقدامى وان الأحزاب قد ظلت في فترة بيات شتوى طوال فترة حكم عبود العسكري وان ما يسمى بالقوى الحديثة الممثلة في جبهة الهيئات هي التى قادت النضال ضد ذلك النظام حتى حين إسقاطه في اكتوبر. وفي إطار الصراعات السياسية التى نتجت بعد تكوين حكومات اكتوبر الانتقالية بدا الحديث عن سرقة الأحزاب لثورة اكتوبر باعتبار ان هناك فصيل ثوري في الجيش يمكن ان ينقلب على النظام ويتحالف مع المدنيين الثوريين من اجل نظام حكم جديد. ومن ثم أخذت بعض الأفكار الداعية لتغيير النظام السياسي وفق تحالف بين بعض قوى اليسار وفصيل بعينه في القوات المسلحة. وهو برنامج تحدث عنه صراحة احمد سليمان القيادي في الحزب الشيوعي وقتها ودار سجال بينه وبين عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي على صفحات الصحف السودانية. وقد جاء الانقلاب العسكري تحقيقا لما ذهب اليه احمد سليمان ومن ولاه من الانقلابين. وذلك امر بقدر ما هو كان المعبر والممثل لبدايات نهج شمولي اكثر عنفا من نظام عبود هو ايضا انقلاب عنيف ضد المبدأ الأساسي الذي قامت من اجله اكتوبر ونجحت في تحرير الوطن والمواطن من نظام مستبد يسخر الدولة وإمكانياتها للبطش والتضييق على الحريات. وقد قامت اكتوبر من اجل بسط الحريات وإعطاء الشرعية وحقوق الممارسة العلنية والكاملة للمواطنين في تكوين تنظيماتهم السياسية والاجتماعية والدينية دون قمع او خوف. لذلك فان الانقلاب في ذاته هو عمل مضاد لحركة التغيير الاجتماعي في الاصل وهو رأس غول الثورة المضادة.

هذا ومن جهة اخرى انتهج الإسلامويون عن طريق الثورة المضادة طريقا قائما على العنف وذلك بداية بان حولوا المجال والشارع السياسي الى ميادين للعنف المتمثل في قيادة كل وجوه الحركة ضد الحزب الشيوعي في البرلمان والشارع والجامعات ومن وعلى طريق ذلك العنف الممنهج الذي عم قطاعات السودانيين في طول البلاد وعرضها منذ ذلك الوقت وحتى انقلاب 1989. كل ذلك يعني في معناه العميق أمرين اثنين: الامر الاول هو ان النظام الحالي والذي يمثل الحلقة الاخيرة من تطور حركة الثورة المضادة قد وصل بنهج العنف الذي تولت قيادته الحركة الاسلاموية منذ ستينيات القرن الماضي قد وصلت بما أبتدعت وطورت لأشكال وأساليب العنف ضد المواطنين الى مرحلته النهائية. لذلك فالنظام القائم إذن يظل منهكا بالعنف الذي اخترع ومارسه على السودانيين كافة بما فيهم اهل البيت الاسلاموي ووصل به الى ما ليس بعده غير الانهيار.

لقد جاء الحمل الاسلاموي بالرأسمالية حملا منتبذا خارج رحم الحركة الاقتصادية في السودان. وقد شب وترعرع عن طريق الاقتصاد الوحشي لكل ما يقع في أيديهم حتى ضاق الناس بهم ذرعا فخرجوا في الشوارع يهتفون بان تجار الدين خزنوا التموين. وكشرت الرأسمالية الاسلاموية انيابها بالانقلاب من يومها الاول وقد ذهبت بالعنف مذاهب شتي من اجل القضاء عنوة على الرأسمالية المدنية والريفية وتحويل الدولة والنظام القائم بأمرها عن طريق العنف ما لم يتعارف عليه اهل السودان من قبل وشبهتهم السخرية الشعبية بوصفهم بالهبروا ملو. وعن طريق جماع ذلك: لهم أصبحت الدولة الموزع الأكبر للمغانم. ولغيرهم القائم بالعنف بالمظالم. وما يجرى على لسان المواطنين وغيرهم بتسميته 'باسم الدلع، بالفساد هو في حقيقة أمره هو النهج الرسمي لتلك الدولة والتي وصفت السخرية مديرها التنفيذي CEO عمر البشير ونظامه الأساسي ومجلس ادارته بان كل منهم "ببلع ما بلوك".

وسواء جاءت تيارات الثورة المضادة من جهة اليمين او اليسار فان مثل هذا الامر يقع في مجمله موقعا رجعيا يقزم من القيمة الاساسية لاكتوبر وما أتت به في إطار القضية القومية في مجملها وفِي تفاصيلها. ومن هنا نجد ان الثورة المضادة سواء لبست ثوب اليمين او تدثرت بدسار اليسار هي في نهاية الامر لا ترى حرجا في الحفاظ على السودان القديم ودولته التي لا ترى في السودانيين مواطنيين كاملي الأهلية وإنما رعايا وهي القائمة والامرة والناهية بالعنف ضدهم والمسيطرة على توزيع المظالم وأنواع البطش بهم دون تمييز متى ما جاروا بالشكوى أو طالبوا بحقوق. وعلى راس تلك الحقوق المطالبة بالتغيير الاجتماعي من اجل سودان جديد. يتجلى ذلك الاتجاه الرجعي بصورة أساسية وبالغة الأثر في الانقلاب العسكرى وما يتبعه من نظام. إذ ليس هناك انقلاب عسكري افضل من الآخر وإنما تتبارى جميعا فيما بينها في تعطيل التقدم الاجتماعي والحط من الفكر والخطاب السياسى وإغلاق أبواب الحوار بكل أشكاله. غير ان الثورة المضادة قد تقدمت خطوات اكبر من تيار مصادم منذ 1965 الى نظام حاكم على يد الاسلاموية والإسلامويين بداية باليوم الاول من اخر يوليو 1989. اذ بدأت بامر توطيد نظام الثورة المضادة بان انقلبت الاسلاموية على الجيش النظامي القومي اولا بان جعلت من نفسها وحدة عسكرية ـــ امنية اساسها "ملكية نافع" نفذت الانقلاب العسكري في يونيو 1989ومن ثم انقلبت على نفسها بان حلت تنظيمها لتتحلل من "رصيد التنظيم" السياسي والفكري القائم على نظرية "الاسلام هو الحل" لتستحوذ بالسيطرة الكاملة على ممارسة "العنف هو الحل" ويتحول قول "ولترق منا الدماء" الى "ولترق كل الدماء". لذلك سالت دماء عزيزة وغزيرة منذ اليوم الاول وحتى الان. وشمل برنامج الثورة المضادة في دولة الإسلامويين القائمة بالعنف والعاملة عليه ان جعلت من التمكين والكسب نظاما في الحكم بان طردت المهنيين والمهنية من كل موسسات الدولة المدنية والنظامية ليحل محلها ومحلهم العاملون على برنامج الثورة المضادة. كما اخرجت المواطنيين من ديارهم وممتلكاتهم لتصبح المهاجر والملاجئ واقعا سودانيا جديدا لا يماثله مشابه من قبل. وبمثل ما اخرجت دولة الثورة المضادة المواطنيين من ديارهم اخرجت هي الاخرى الجنوبيين من دولتها ونظام حكمها الإنقاذي وان ظلوا محافظين على وجودهم في السودان بالمعنى الكبير لإسم وعنوان ومعنى "دولة جنوب السودان".

الان يمكن ان نقول بان النهايات الكبرى تتمثل في نهاية هذا النهج القائم على الصراع القائم على الاستحواذ على الدولة من قبل جيل اكتوبر بخيره القليل وشره الاكثر الذي أزهق ارواح السودانيين دون تمييز. وقد ذهب من ذهب وقد يكون كل منه بغصة ولم يسر بعضهم احيانا. اذ بمثل ما قدمت تلك المرحلة شخصيات فذه حاولت ان تقدم للسودان من فكرها وجهدها ما يمكن ان يحرر المواطنيين من الدولة القائمة بالعنف التي أسس أركانها ونجت وأضاف الى مؤسساتها ونهجها العنيف من اضاف والتي لا تري في المواطنيين السودانيين الا رعايا فانتقمت منهم تلك الدولة شر انتقام حبسا وقتلا وافقارا. لذلك نحن لم نتحرر بعد ولم نوفق بعد في بناء دولة المواطنة والمواطن. غير انه يمكن لكل من ينظر مليا ان يرى بوضوح ان النهاية الكبرى لما قام على نهج ونظام الثورة المضادة من جهة ودولة ونجت/عمر البشير وهو في النزع الأخير يرى هول الموت وشدته والآن تلتف الساق بالساق والى ربك يومئذ المساق.

حرية،سلام وعدالة والثورة خيار الشعب.
حرية سلام وعدالة والثورة طريق الشعب.

abdullahi.gallab@asu.edu

*جامعة ولاية اريزونا

 

آراء