ombill.ajang@googlemail.com إنَّنا لا نعرفكم أيها القوم ولا ندين بكم، ولا نعترف لكم بسلطان على أجسامنا أو أرواحنا، ولا نريد أن نرى وجوهكم أو نسمع أصواتكم، فتواروا عنا وأذهبوا وحدكم إلى معابدكم أو مغاوركم، فإنَّا لا نستطيع أن نتبعكم إليها، ولا أن نعيش معكم فيها. مصطفى لطفي المنفلوطي العبرات مقدِّمة حين فرغ مصطفى لطفي المنفلوطي من كتابه "العبرات" كتب في الإهداء: "الأشقياء في الدنيا كثير، وليس في استطاعة بائس مثلي أن يمحو شيئاً من بؤسهم وشقائهم، فلا أقلَّ من أن أسكب بين أيديهم العبرات، علَّهم يجدون في بكائي عليهم تعزية وسلوى." ونحن نقول لا مَثُوبَة يقدِّمها المرء بين يدي ربه يوم جزائه أفضل من مواساة البائس وتفريج كربة المكروب، أو كما أنشد الشاعر محمد الفيتوري – صناجة السُّودان لأنَّه يُتغنَّى بشعره - في قصيدته "حدث في أرضي": أنأ لا أملك شيئاً غير إيماني بشعبي.. وبتأريخ بلادي وبلادي أرض إفريقيا البعيدة هذه الأرض التي أحملها ملء دمائي والتي أنشقها ملء الهواءِ والتي أعبدها في كبرياءِ هذه الأرض التي يعتنق العطر عليه والخمول والخرافات وأعشاب الحقول هذه الأسطورة الكبرى.. بلادي عليه ارتأينا في تدوين هذه المآسي، التي صدرت ممن في صدورهم ضغائن تلك العداوة النَّابعة من ظلمات العصور الأولى، حتى لا يظن هؤلاء القوم الظالمون أنَّ هذه المآسي قد ذهبت بذهاب أمس دابر، وأصبحت صحيفة بالية في كتاب الدَّهر الغابر. ونحن مع ذلك لم نقل إلا الحق، ومهما يكن من شيء، فهذا ما حدث في أرضنا. وليس أحب إلى أنفسنا ولا أحسن موقفاً في قلوبنا أن نقدِّم هذا الكتاب إلى أهلنا وعشيرتنا في جبال النُّوبة بعد ذهاب هذه المحنة، ولا نرى في سردنا لأحداث تلك الحقب العجاف قسوة أو شيئاً يشبه القسوة، لأنَّها آفة من "الآفات السياسيَّة" الكثيرة التي تعرَّض لها النُّوبة فأثَّرت في حياتهم الدنيا تأثيراً قويَّاً. والذين سيقرأون هذه السُّطور من أهل النُّوبة على وجه خاص وأهل السُّودان بشكل عام سيرون فيها كيف ازدرى بهم أهل الحكم في الخرطوم ازدراءاً، وسخر منهم رجال النِّظام "الإنقاذي" سخريَّة، وذلك ازوراراً عن الحق وإمعاناً في الباطل. لذلك كان لا بد لنا من الإتيان بهذا العمل من أجل أن نعيد قراءة التأريخ السُّوداني المعاصر في تشابكاته الاجتماعيَّة، وصراعاته السياسيَّة، وتحدِّياته الفكريَّة، متوقِّفين عند بعض المفاصل المحوريَّة من هذا التأريخ السياسي لعلنا نصل إلى الحقيقة التي تعرِّي حالنا التي نحن عليها صرنا. لذلك كذلك، لم تنقصنا الشجاعة في المعالجة التي تناوش المردة، والجسارة في إنطاق المسكوت عنه اجتماعيَّاً وسياسيَّاً، والجرأة في نقض التراتب القمعي الذي يستبدل الظلم بالعدل، والتعصُّب بالتَّسامح، والنقل بالعقل، والتقليد بالاجتهاد، واللصوص بالشرفاء، منحازين دائماً إلى المعذَّبين في الأرض، وإلى ما يقود المجتمع إلى آفاق التقدُّم الذي لا نهاية له أو حد. هكذا عقدنا العزم على أن تكدح هذه الكلمات لتثير من الرياح العفيَّة ما يزيل الستار عن مفاسد كثيرة في المجالات التي يكف عن الكتابة فيها كتَّاب كثر، ومن ثَمَّ نكشف الأقنعة الزَّائفة للمشعوذين باسم السياسة أو باسم الدِّين أو باسم الاثنين معاً، وحتى نصبح أقدر الناس على رؤية الفساد السياسي الذي ينخر عظام المجتمع السُّوداني، واكتشاف الزيف الذي يلوِّن واجهته. أفلم يكن الماضي هو صناعة للحاضر، وتشكيل لأبعاد المستقبل، والاعتراف بأخطائه سيبقى المرتكز الأساس لحل المشكلات العالقة على الساحة السياسيَّة السُّودانيَّة من غير تلوين أو تمويه أو تدليس. ففي المستوى السياسي-الاجتماعي عرف التشكُّل السُّوداني مع العصر الحديث تنامياً للنزعات القوميَّة في معظم أنحاء هذا القطر الشاسع والمتشاجرون أهله. فقد تمثَّلت أبرز سمات هذه التوجهات في إيلاء الأنظمة في الخرطوم حماية الأرض القوميَّة، وقدسيَّة حدودها الجغرافيَّة أهمية قصوى إلى جانب حرصها على تماثل عناصر المجتمع في الدولة، وذلك بالتضييق على هذه القوميات والتشديد على ما يمكن أن يشجع الاختلاف الممقوت والتعدد السلبي. وفي هذا السياق تمَّ التعامل مع النُّوبة – نخباً وشعباً – على أنَّهم محور إضافي للمجتمع، ولم يقيموا لهم وزناً على اعتبار أنَّهم لم يكونوا – في أفضل الحالات – إلا بوادر هامشيَّة لا أثر لهم في الحراك الرئيس العام، الذي يروا أنفسهم ممثِّلين لهم وفاعلين فيهم ولو بواسطة أناس آخرين لم يكن للنُّوبة حق اختيارهم أو مشورتهم فيما يمكن أن يقدِّموه لهم. وهذه المنطقة التي بدت أكثر لوحات عصرها بؤسويَّة، لم تعد جبال النُّوبة من المناطق التي تعهدها القوى السياسيَّة السُّودانيَّة والحكومات المتعاقبة على سدة الحكم في الخرطوم اهتماماً يُذكر حتى عهدٍ قريب. فقد ظلَّت هذه المنطقة مهمَّشة وعائشة على هامش الخارطة التنمويَّة السُّودانيَّة منذ استقلال السًّودان في الفاتح من كانون الثاني (يناير) 1956م. ولم تهتم الأنظمة المتعاقبة على السلطة بجبال النُّوبة حتى عندما انخرط بعض من أبناء المنطقة في "حركة تحرير جنوب السُّودان (أنيانيا)" (1955-1972م) – برغم من محدوديَّة عددهم - وانضمام الأب فيليب عباس غبوش إلى المعارضة في الخارج ضد نظام نميري. هكذا هُمِّشت القوى السياسيَّة، التي تمثِّل أبناء جبال النُّوبة، وأُهمِلت منطقتهم، وبقيت على تخلُّفها حتى اندلعت الحرب الأهليَّة الثانية العام 1983م. ثمَّ أصبحت جبال النُّوبة فجاءة من أهم مناطق الصراع السُّوداني بعد أن قاد يوسف كوة مكي – رحمه الله رحمة واسعة - كتيبة البركان إلى هذه المنطقة العام 1987م. كانت هذه هي ردة فعل طبيعيَّة لشعور أبناء جبال النُّوبة بالتَّهميش الثقافي والاجتماعي والسياسي في بلد وجَّه كل طاقاته لحل مشكلات الجنوب مع الشمال باستثناء جبال النُّوبة، وبرغم من كل التنازلات – أو قل الحقوق – التي قدَّمتها حكومة الخرطوم لأهل الجنوب دون سواهم حتى عهد قريب. والقائد يوسف مكي – كما كتب الدكتور صلاح آل بندر يرثيه: "منذ البداية كان يعلم وعورة الطريق الذي اختاره، وعبَّر (...) بأنَّ حمل السلاح كان مفروضاً عليه (...) وأنَّ قراره – برغم من أنَّه (كان) يدرك مشاقه قولاً وعملاً – كان وما زال هو المنارة الوحيدة في حياته وحياة قوميَّته؛ وعن طريق هذا الدرب الوعر على يقين بأنَّهم سيحصلون على الأوتاد التي تثبت وجودهم على الأرض، وتنهض قوميته وتستعيد هويَّتها واكتشاف تراثها وقيمتها." وعندما سُئل عن تجاهل مواصلة العمل السياسي ردَّ القائد كوة: "إنَّ حمل السلاح كان الخيار الوحيد بعد أن استنفدنا كل خيار. فتجربتنا كانت مريرة مع مؤسسة حاكمة غاشمة لا تؤمن إلا بسودان لا يتَّسع إلا لها وحدها، أقامت من حوله المتاريس وسلَّمته ل"هلافيت" الناس، مؤسسة باغية تحرس بالحديد والنار مصالحها، غليظة الطبع، بليدة الحس، مجافية لأبسط مطالب الإنسانيَّة، ومستهترة بكرامة الإنسان السُّوداني."(1) كان يوسف بطلاً شجاعاً كبير النَّفس، رقيق القلب، رحب الصدر كان ثم عفيفاً، وهو كان سيِّد قومه وقائد حربهم ومراد أمرهم، انتصاراً لهم وانتصافاً لحقِّهم؛ وفوق ذلك كله كان رجلاً على الأهوال جلداً، وشيمته السماحة والوفاء. وكانت الثورة تضطرم وتعتلج في نفسه منذ دخوله المدرسة الأوليَّة! ذلكم هو يوسف الذي أعلن أكثر من مرة جهاراً أنَّ النُّوبة ليسوا على استعداد للمشاركة السياسيَّة في السُّودان بشكله القديم، إلا إذا أُقيم فيه نظام سياسي يجمع شمل كل أفراد الشَّعب، ويعترف بالتنوع الثقافي، والتطلعات الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة لجميع السُّودانيين على اختلاف مشاربهم. فكم لمسنا ما لأنظمة الخرطوم من إستراتيجيَّة عدائيَّة ضد النُّوبة، تمثَّلت في التهكم على عاداتهم وتقاليدهم، والسخرية والاستهزاء بسلوكهم. وإنَّ الاعتراف بعادات وأعراف وتقاليد النُّوبة السائدة – التي تنعكس على علاقاتهم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، وتتمثَّل في جميع طقوسهم الحياتيَّة، وتطرح تطلُّعاتهم السياسيَّة – هو الاعتراف بالسُّودان المتعدِّد الأعراق والديانات والثقافات. مثلما هي الحال في أي شعب كان لا بدّ من القول إنَّ للتأريخ والجغرافيا لدوراً فعيلاً في تشكل البشريَّة وصيرورتها إلى مآل محدَّدة، ولم يكن شعب النُّوبة بمختلف عن هذا الإطار الزماني والمكاني الذي يمكن أن يخلقه هذان العاملان في حيواتهم. فالتأريخ يمثِّل سلسلة من الحقب والسنوات التي فيها يتصارع الإنسان مع نفسه ومع الآخرين من أجل الحياة والبقاء، فتنمو المجتمعات وتزدهر الحضارات وتضمحل وتتلاشى. أما الجغرافيا والعوامل البيئيَّة فلهما من الأثر الشديد على اصطناع أمزجة الناس والتحكم في أنشطتهم وقوة تحملهم. وحين تمتزج هذه العناصر مجتمعة تختلق إنساناً فريداً في طبعه وثقافته وبسالته وفي الشهامة والمروءة. ومن هنا نستطيع أن نفهم صمود أبناء النُّوبة طيلة سنوات الحرب الأهليَّة، وتحديهم لكل أنواع الصعاب والأهوال التي واجهتم. فكانت حرباً قتاليَّة وإعلاميَّة ونفسيَّة، وبالتجويع كانت الحرب واستخدام وسائل أخرى. وبرغم من شراسة الحرب، وتزايد الحملات التي كانت تشنها جيوش الحكومة وكتائب قوات الدفاع الشَّعبي، فإنَّ أبناء جبال النُّوبة قد قاتلوا بضراوة وساعدتهم في ذلك القتال طبيعة جبالهم القاسية، وكان ذلك كله من أجل نزع حقوقهم المسلوبة. إذ يعيش النُّوبة اليوم في جنوب كردفان، وبعد انقضاء أكثر من نصف قرن منذ استقلال السُّودان، نظاماً سياسيَّاً من صنع أيديهم مهما يكن من شيء، لكنهم – برغم من ذلك كله – يتمتَّعون بالحريَّة الذاتيَّة، والاعتداد بالنَّفس، وهمة عالية. فقد جدَّدوا أمجاد أسلافهم العظماء، وبرهنوا بذلك للعالم أجمع – بعد أن ورثوا السؤدد عن آبائهم - أنَّ الدم "النُّوباوي" الشريف وروح الحريَّة وحب الاستقلال، ما تزال تجري في عروقهم، فما ظنَّكم باللَّيث يحمي عرينه! ولكن كيف وصل النُّوبة إلى هذا المقام – أو قل إن شئت – إلى هذا النظام السياسي، مهما يكن من الأمر، الذي باتوا يكدحون كدحاً لتقويته أو لصونه من الضياع الذي يهدِّده؟
قبس من التأريخ القديم
لا ريب في أنَّ إقليم جبال النُّوبة يحظى بإستراتيجيَّة جغرافيَّة وموارد طبيعيَّة وبشريَّة، بحيث أمسى ملفتاً لأطماع القوى الخارجيَّة، ومثيراً للعاب القوى السياسيَّة الداخليَّة في الصراع السياسي حول الحكم، وذلك بشكل أو بآخر، ومنذ عهد سحيق. ففي فترة الاستعمار التركي-المصري في السُّودان (1821-1885م) شهدت منطقة جبال النُّوبة اضطراباً أمنيَّاً خطيراً من جراء ما اختلقته حملات النخاسة، ونهب الموارد الحيوانيَّة والنباتيَّة التي كانت تذخر بها المنطقة، حتى بات المشهد الاجتماعي سديماً من فوضى كما سماه الإغريق "العماء" – على عهدة الأسلاف الذين ترجموا كلمة (Chaos)، أي كتلة وخلائط الأشياء والعناصر المتنافرة – التي تربأ بأي نظام للأشياء معقول. ومن ثمَّ اخترع الإغريق اللوغوس (العقل) (Logos) للفرز والترتيب ليس إلا. أيَّاً كان من أمر الأغاريق وفلسفتهم واختراعاتهم للعلوم الحديثة لمناهج القياس والمقارنة، فلم نجد معياراً واحداً يمكننا أن نقيس به الواقع الاجتماعي في جبال النُّوبة في العهد التركي-المصري الأسبق. غير أنَّ أكثر ما يثير الأسى الأسيف والحزن الحزين هو ما أقدم عليه النخاسة من امتهان الاتجار بالبشر، وذلك لانتهاك هذا الفعل لحقوق الإنسان الأساسيَّة من ناحية، وما خلفه هذا الفعل في عقول ثلة من السُّودانيين، وانعكاس ذلك في علاقاتهم الاجتماعيَّة والسياسيَّة مع يعضهم بعضاً من ناحية أخرى. ومع ذلك لم تفعل الثورة المهديَّة (1881-1898م) شيئاً مذكوراً في أمر هذه التجارة، وبخاصة في شأن تداول الرقيق داخل السُّودان. ولئن كانت المهديَّة قد منعت "تصدير الرقيق" إلى خارج الوطن، إلا أنَّها لم تملك من الوسائل الماديَّة والموارد البشريَّة لتعزيز هذا الأمر، لذلك وجد تجار الرق عدداً من المنافذ والمعابر، وكثراً من المتواطئين لتهريب العبيد خارج السُّودان دون رقيب أو عتيد. وما أن رزحت البلاد تحت قوى خارجيَّة أخري، حتى شكَّل هذا الأمر مشكلاً سياسيَّا واجتماعيَّاً واقتصاديَّاً للحكام الجدد في السُّودان. هكذا، شرعت سلطات الاستعمار البريطاني-المصري (1898-1956م) في محاولات القضاء على هذه التجارة داخليَّاً وخارجيَّاً في إطار سياساتها الأولى في السُّودان. بالطبع لم تكن سياسة الحكومة الثنائيَّة في مكافحة الرق تتم بيسر. فقد كانت هناك تقاليد وعادات بعض الشعب السُّوداني تارة والمصلحة الاقتصاديَّة للسُّودان تارة أخرى هي تلك التي أدَّت إلى الاعتراف ب"الرق المنزلي". فمثلما لاقت سياسة حكومة غردون باشا من قبل رفضاً من تجار الرق، لم تلق سياسة الحكومة الثنائيَّة ترحيباً من هؤلاء التجار وغيرهم من أصحاب المصلحة الذاتية في استمرار هذه التجارة النحسة. ولكن كان أخطر الثورات التي قامت ضد سياسة الحكومة حيال الرق هي التي نشبت في تلودي العام 1906م في جبال النُّوبة، وعُرِفت ب"ضربة أبو رفاس". والجدير بالذكر أنَّه كان يسكن تلودي في ذلك الرَّدح من الزَّمان النُّوبة على قمم الجبال وآخرون سود ممن يتحدَّثون العربيَّة من أبناء العبيد الهاربين من عرب المسيريَّة الحمر، وكان يعيش هؤلاء حول تلك التلال. وكان لهؤلاء العبيد الهاربين شهرة سيئة للغاية كلصوص ونخاسون يتاجرون بأهل النُّوبة قاطني الجبال، مما حدا بالسلطات الاستعمارية إلى إقامة مركز حكومي وحامية في تلودي لإيقاف تلك التجارة. فقد نظر هؤلاء العبيد الهاربون إلى هذا الوجود الحكومي بالعداوة، بينما – من ناحية أخرى – أحس النُّوبة بمدى ما يقدَّمه لهم هذا المركز من معونة ضد أعدائهم الأقوياء. أيَّاً كانت رؤية كل فريق، فقد تم القبض على ثلاثة من كبار زعماء المنطقة الذين ضبطوا متلبِّسين بهذه التجارة وحُكِم عليهم بالسجن. وفي أيار (مايو) 1906م، ونتيجة لشكوى النُّوبة من استمرار عمليات استرقاقهم، فحص كل من الرائد لفسون والنقيب ويلسون – المفتش الثاني لمديرية كردفان – تلك الشكاوي، ونتج عن ذلك إعادة 120 من نساء وأطفال النُّوبة إلى مواطنهم. ولا ريب في أنَّ هذا العمل – بالإضافة إلى محاكمة الرؤساء الثلاثة – كانت من أسباب الثورة التي شرع في التدبير لها هؤلاء الرؤساء بمجرد الإفراج عنهم. وفي 25 أيار (مايو) 1906م، وهو موسم الأمطار مما يصعب تحرك النجدات، أقام مشايخ تلودي حفلة راقصة (الدلوكة) ودعوا إليها رجال الحامية. وبينما كان هؤلاء يشاهدون الرقصات هاجمهم المتآمرون بغتة وقتلوا كل رجل خارج الثكنة. ثم هاجموا المركز بعد ذلك، ولكن بقيَّة الحامية، بمعاونة النُّوبة من الجبال، استطاعوا صدهم، ولثلاثة أيام ظلَّت الحامية محاصرة تقاتل بضراوة. فقد جاء الإنقاذ من معاون المأمور – الملازم أول السيد فريد – من جبل قدير ومعه المك بوش ضو البيت ورجاله، وكذلك جمع مك جبل كادقلي ومك جبل ميري ألف رجل من رجالهم وسلحوهم بالحراب والبنادق، وهاجموا المتمرِّدين وهزموهم وطردوهم من القرية. وتحرك محافظ المديريَّة من الأبيض في يوم 3 حزيران (يونيو) 1906م بقوات متعدَّدة من الفرقة 12 السُّودانيَّة ووصلت تلودي في يوم 12 حزيران (يونيو)، إلا أنَّ المتمرِّدين كانوا قد هربوا في ذلك الوقت إلى قرية "طيرة" في الركن الشمالي-الغربي من جبل الليري، أي على بعد 21 ميلاً من تلودي. ووصلت قوات الحكومة إلى هذه القرية في صباح 14 حزيران (يونيو)، حيث اشتبكت مع المتمرِّدين ظهر نفس اليوم، وانهزم الأخير تماماً وبلغت خسائرهم حوالي 400 من القتلى والجرحي و70 أسيراً. وخلال أب (أغسطس) استسلم بقية عرب تلودي البالغ عددهم 210 رجل و305 امرأة وطفل، كما أمكن القبض على كبير زعمائهم المدعو "أحمد المدير"، واندحرت الثورة التي كانت تعتبر من أكبر الأحداث السياسيَّة التي نتجت عن سياسة تحريم الاتجار بالرقيق.(2) ومن الواضح إزاء ما أوردناه أعلاه أنَّ لهذا الوجود العربي والخلاسيين من أهل شوابنة في المنطقة والمناطق المجاورة في الحمرة وغيرها قد شكلوا قوات الدفاع الشَّعبي (الميليشيات الحكومة المسلَّحة) لمساندة الأخيرة في حربها ضد الحركة الشَّعبيَّة والجَّيش الشَّعبي لتحرير السُّودان بعد أن خدعتهم الحكومة أنَّ الحركة تستهدف – فيما تستهدف – وجودهم في المنطقة. وقد أثبتت الأحداث أنَّهم كانوا براهين المدافعين عن مصالح الأنظمة في الخرطوم – طمعاً في مغنم – ضد المنافحين عن مصالح الشعوب في جبال النُّوبة. وبالطبع، للمال تأثير يفوق تأثير الدين نفسه في معظم الحالات؛ وللإرهاب كذلك سطوة تربو وعيد الآخرة؛ فإذا اجتمع التضليل الديني، والإغراء المالي، والسيف المسلَّط، فإنَّ الخطة المرسومة يواكبها النجاح لا شك في ذلك. ومع الزمن يتناسى الناس الأصول ويصبح التضليل حقيقة معربدة ومعشعشة في عقولهم. ومن ثَمَّ نجد أنَّ هذه الوراثات والخصائص البيولوجيَّة (الأحيائيَّة) والسيكولوجيَّة (النفسيَّة)، وهذه المشاعر والانفعالات المركَّبة المعقَّدة، التي انحدرت إلينا مع عذابات التأريخ هي التي تنضح بالفجائع السياسيَّة التي شهدتها المنطقة، وإنَّ بصمات عهد العبوديَّة لم تترك آثارها على الأجساد فحسب، بل أيضاً – وهذا هو الأهم – على الأرواح. مهما يكن من شيء، فقد أخذ وشرع هؤلاء المواطنون حديثي العهد بالمنطقة في تجاوز الحد والتعدِّي على مَنْ حموهم وجعلوهم بمنزلة الجار الذي تلاصق داره ديارهم، وذلك بدلاً من تعظيم حقهم والانتصار لهم. وقد علمنا أنَّ من بين هؤلاء العربان كان فيهم من هو هارب من العدالة في السُّودان النيلي، وكان منهم من سار وراء أنعامه بحثاً عن موارد الماء والمراعي الخضراء حتى وجدهما بين وديان جبال النُّوبة، أو من سعى سعياً حثيثاً في الجبال يبتغي فضل الله ومرضات النُّوبة، وكان منهم من زعم أنَّه أتى لنشر الإسلام ولئن خالط نشاطه هذا بتجارة الرق. وكان موقفهم المخزي حديثاً في جبال النُّوبة يتمثَّل في هذا البيت الشعري الذي لم يُعثَر على قائله: أراك علقت تظلم من أجرنا وظلم الجار إذلال المجير ومن هذا الإرث الماضوي الفروسيوي تعتبر منطقة جبال النُّوبة مصدر الأبطال الذين جادوا بأرواحهم من أجل هذا البلد، وأبلوا فيه بلاءاً شديداً. على أيَّة حال، فحين نقارن بين الثورة المهديَّة (1882-1898م) وحركة اللواء الأبيض العام 1924م نجد أنَّ حركة اللواء الأبيض تحت قيادة البطل علي عبد اللطيف لم تكن تعتمد على المفهوم القبلي أو المعتقد الديني لمجابهة المستعمرين. أفلم نتعلَّم صغاراً أنَّ علي عبد اللطيف رفض أن ينساق وراء سؤال الضابط الإنكليزي حينما سأله عن قبيلته، فما كان من علي عبد اللطيف إلا أن ردَّ أنَّه سوداني ولا يهمه كثيراً أو قليلاً أن ينتمي إلى هذه القبيلة أو تلك، ولكن هدفه هو العمل على تحرير البلاد من سيطرتهم. ولهذا نرى أنَّ حركة اللواء الأبيض هي أول ثورة في تأريخ السُّودان الحديث اعتمدت على ما يسمى في الوقت الراهن ب"القوى الحديثة" – أي الموظفين أو الضباط الإداريين (الأفنديَّة) والسكان في المدن. فقد كانت ثورة لم تعتمد على المبادئ الدينيَّة، وإنَّما ارتكزت – وبشكل جوهري – على مطالب اجتماعيَّة ملموسة، وكان لها – في الوقت نفسه – مفهومها الوطني، وهي عناصر أو علاقات تعتبر نسبيَّاً حديثة في السُّودان. لذلك كانت هذه الثورة تمثل قيادة لحركة اجتماعيَّة مهمة جداً؛ وبالإضافة إلى ذلك فقد وجدنا أنها كانت أكثر تقدميَّة في نظرتها وفي طرحها من بعض الحركات أو المواقف السياسيَّة التي ظهرت لاحقاً في الثلاثينيَّات والأربعينيَّات من القرن الميلادي الماضي.(3) وكان عماد هذه الثورة أناس من ذوي الأصول من جنوب السُّودان وجبال النُّوبة، وقد بدأوا ينبِّهون السلطات الاستعماريَّة لمطالبهم القوميَّة، ومنهم زين العابدين عبد التام الذي كان زميلاً لعلي عبد اللطيف (النوباوي-الدينكاوي) وكان لعبد التام أصولاً دينكاويَّة، وهو كان عضواً بارزاً في حركة اللواء الأبيض، وهو كان يعتبر نفسه سودانيَّاً فقط – مثلما هي الحال مع علي عبد اللطيف. فهناك مجموعات كبيرة من الناس، مثل أولئك الذين يسكنون حي الموردة والعباسيَّة في أم درمان مَنْ هم من جبال النُّوبة أو جنوب السُّودان، ولكنهم فقدوا صلاتهم مع مناطقهم منذ فترات طويلة تعود إلى أيام المهديَّة والحكم الثنائي، وتشكَّلت منهم طبقة كادحة في المدن. بل لعلَّنا لا نعدو الحقيقة إن قلنا إنَّه كان للنُّوبة دوراً مؤثِّراً إبَّان الفترة من (1898-1947م)، وهي الفترة التي شهدت منطقة جبال النُّوبة عدة مقاومات ضد الاستعمار الأجنبي، وكانت الدوافع العميقة لهذه الحركات المناوئة للنظام الاستعماري هي رفض فرض المؤسسات والنظم الغربيَّة الغريبة في منطقة جبال النُّوبة. وجاء رفض الأهالي هذا ليس لتحصينهم ضد الاستغزاء فحسب، بل لأنَّ لهم من النظم السياسيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة التي حاولوا الاحتفاظ بها، وعبروا عن هذا الاستنكار بالصراع التأريخي الذي حدث بينهم وبين الاستعمار البريطاني-المصري (1898-1956م). هذه هي نفس الفكرة القديمة التي تتمثَّل في "رفض الوصايا" أو فرض الأشياء من علٍ، وعلى اعتبار أنَّ مثل هذه المسائل يجب أن تأتي من القاعدة. فإذا كان هذا هو ديدنهم ومعدنهم في صد المؤثِّرات الخارجيَّة، فإنَّه ينطبق هذا – بالطبيعة والتطبع - على المؤثِّرات الداخليَّة أو ما نسميه ب"الاستعمار الدَّاخلي". هذه هي الظروف السياسيَّة التي فيها برز "اتحاد عام جبال النُّوبة" العام 1957م كتنظيم اجتماعي يجمع بين أبناء المنطقة في العاصمة المثلَّثة، وكان ممن أنشأوا الاتحاد مجموعة من المتعلمين الذين تخرَّجوا من المدارس والجامعات من طلبة ومعلمين من الرعيل الأول، ومن بينهم مصطفى حماد كليدة ويوسف عبد الفتاح عبد الله وغيرهما، حيث جاء على رأس هذا التنظيم في بادئ الأمر شخصيات مثل العم بابكر علي والسنوسي عبد الله وعطرون عطيَّة. وقد ظل هذا التنظيم يمارس نشاطه في المجال الاجتماعي والثقافي حتى قيام انقلاب الفريق إبراهيم عبود وحُلَّ الاتحاد مع كافة التنظيمات السياسيَّة والاجتماعيَّة الأخرى، بما فيها "مؤتمر البجة" و"جبهة نهضة دارفور". وفي أعقاب ثورة تشرين الأول (أكتوبر) 1964م أُعيد تكوين الاتحاد، حيث جاءت اللجنة التنفيذيَّة برئاسة عطرون عطيَّة وسكرتاريَّة عبد الله حامد كوة. وكان على رأس أعمال الاتحاد ما يلي: وضع الدستور وميثاق الاتحاد. دراسة أسباب تخلف المنطقة، وإيجاد سبل لمعالجتها. إقامة مؤتمر بعد عام لانتخاب لجنة تنفيذيَّة. وقد أُقيم المؤتمر العام بعد عام، وقامت اللجنة التنفيذيَّة بوضع برنامج عمل، حيث تبنَّت اللجنة الدراسات التي قدَّمها شباب المنطقة، والتي أشارت – فيما أشارت – إلى أنَّ تخلُّف المنطقة لناجم من "الاضطهاد السياسي والاجتماعي والاقتصادي." وعليه، تقرَّر دخول الاتحاد الجمعيَّة التأسيسيَّة (البرلمان) كتنظيم سياسي إقليمي. هذا وقد كان، حيث خاض هذا التنظيم الوليد الانتخابات شبه العامة العام 1965م، واستطاع الفوز ب8 مقاعد في البرلمان، وقد كان من الفائزين "بقاري" (من البقارة العرب) هو كباشي عثمان يحيي. بيد أنَّ الاتحاد واجه حملة شعواء داخل البرلمان، وتعرَّض لمؤامرات شديدة أدَّت إلى انسحاب كباشي والانضمام إلى حزب الأمة.(4) وفي الحق، لقد كان الاتحاد وعاءاً جامعاً – بحق وحقيقة – لكل المواطنين بالمنطقة من بقارة وفلاتة والتجار "الجلابة"، بل كان تعبيراً صادقاً دل على روح الوعي السياسي الذي ساد المنطقة في وقت كانت فيه الكثير من مناطق كردفان غارقة في دياجير الجهل والظلم والمرض. وكان منبع تكوينه يعزى إلى عدم الرضا والتذمر تجاه سياسة الأحزاب السياسيَّة التقليديَّة. وقد دعا الطلبة إلى تكوينه في أول الأمر ثم مارس أعماله أعضاء برلمانيين تمَّ انتخابهم على أساس حزبي. فقد قام الاتحاد باختيار عضويته من الأهالي المسلمين وغير المسلمين، ومن العرب وغير العرب، الذين كانوا يقيمون في المنطقة، ولم يدع الاتحاد إلى الانفصال في يوم ما كما أُشيع عنه، ولم يكن عنصريَّاً في لحظة ما كما قيل عنه. وكان أول نشاط سياسي قام به "اتحاد عام جبال النُّوبة" العام 1965م هو التقدُّم بالتماس للحكومة يطلب فيه إلغاء ضريبة الرأس في المنطقة، وتعزيز خطى التنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة فيها. وفي العام 1966م أبعد محمود حسيب عن رئاسة الاتحاد بعد أن اكتُشِفت توجهاته "العروبيَّة"، وجاء بعده الأب فيليب عباس غبوش في رئاسة الاتحاد عن طريق الانتخاب في المؤتمر العام للاتحاد. وخاض الاتحاد بقيادته الجديدة انتخابات العام 1968م، ولكن حدث تراجع ولم يحرز الاتحاد إلا 5 مقاعد مقابل الثمانية التي حصل عليها في الانتخابات السابقة. ومن هنا حدث الافتراق السياسي بين عقيد سلاح الإشارة محمود حسيب ذي التوجه "القومي العربي" والأب فيليب غبُّوش الذي كان يتبنَّى الخط "القومي السُّوداني". فالأول اشترك في محاولة انقلابيَّة فاشلة العام 1958/1959م، مما أدَّت إلى اعتقاله ونقله إلى سجن كتم بدارفور، حيث أُفرِج عنه العام 1964م. أما الأب غبُّوش فكان يعمل داخل "الجبهة القوميَّة السُّودانيَّة المتحدة"، كما سيأتي الحديث عنه في موضع آخر من هذا البحث. إنَّ النظريَّة القوميَّة العربيَّة لعنصريَّة، وهي ماضويَّة في سبيل قيادة المنطقة العربيَّة من الخلف، والدليل على ما نحن فيه قائلون ما يحدث الآن في بعض الدول الناطقة بالعربيَّة وتتخذ من مفاهيم القوميَّة العربيَّة شعاراً سياسيَّاً للدولة. أما نظريَّة الإسلامويين فهي نظريَّة سطحيَّة تقوم على الاستغلال النفسي للدين لأغراض السياسة، لذلك كانت لها الريادة للعقليَّة المتخلفة والضيِّقة، وقامت لطمس هُويَّة كثر من المهمَّشين في السُّودان. أفلم نرى أصحاب النفع والمصالح الذاتيَّة هم الذين يرفعون الشعارات الإسلامويَّة، ويتخفون بالعنصريَّة والفساد والظلم؟! أياً كان أمر أولئك وهؤلاء، فالجدير بالذكر أنَّ محمود حسيب قد استبدل معاشة العسكري بمبلغ نقدي اشترى به ماكينة طباعة لتنظيم الضباط الأحرار الذي جاء بانقلاب أيار (مايو) 1969م بقيادة العقيد جعفر محمد نميري، حيث عيَّنه الأخير وزيراً للمواصلات، ومحافظاً لمديريَّة كردفان، ثمَّ حاكماً لمحافظة جنوب كردفان. ولما كان للرجل مآثر جمة وفضائل شتى، لم يكن لأهل مدينتي الأبيض وكادقلي من بد سوى أن أطلقوا اسمه على حيين سكنيين في المدينتين وفاءاً وتقديراً وتخليداً لذكرى ذلكم الرجل الذي كان عفيف اليد واللسان، وكان قلبه مفتوحاً، وبيته غير مصدود، وصوته مسموعاً، وبخاصة حين يخاطب الناس ب"أهلي وعشيرتي"، حاملاً صدق الإحساس وإخلاص المشاعر، كما وصفه واصف من أهل المنطقة. وحسبه أنَّه قد قُتِل ولم يكن يملك من حطام الدنيا سوى سور قطعته الأرضيَّة عند مدخل مدينة كادقلي من الشمال. ويوم أن أقاله الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري من منصبه بعد تحرشات ومؤامرات المتآمرين ودسائس المندسين، لم يجد ما يأويه وذويه سوى ذلك المنزل المتواضع في الدرجة الثالثة، والذي آلت ملكيته إلى ابنه محجوب. ويوم كان حسيب محافظاً أنشأ وظائف محليَّة من بند "الوفورات" لاستيعاب المعدمين والأرامل، وتمَّ لاحقاً إدراجها وتثبيتها في الميزانيات المتعاقبة. مهما يكن من أمر حسيب، فقد أيَّد اتحاد عام جبال النُّوبة خلق تسعة أقاليم في السُّودان هي: مديريَّة كسلا ومديريَّة البحر الأحمر. القضارف ومنطقة جنوب الفونج. المديريات الجنوبيَّة الثلاث. جنوب كردفان، ويشمل ذلك جبال النُّوبة. مديريَّة جنوب وغرب دارفور. مديريَّة شرق وشمال دارفور. مديريَّة غرب وشمال كردفان. الجزء الشمالي للنيل الأزرق ومديريَّة الخرطوم. المديريَّة الشماليَّة. وهنا نستطيع أن نؤكِّد أنَّ جميع التنظيمات الثلاث – "اتحاد عام جبال النُّوبة"، "مؤتمر البجة"، و"جبهة نهضة دارفور" - لم تدع إلى قيام دول، أو وحدات سياسيَّة منفصلة، وإنَّما أكَّدت برامجها بدرجات متفاوتة على مبدأ الحكم الإقليمي بنظام وقالب لتسيير الإدارة والمشاركة في وضع القرارات على المستويين الإقليمي والقومي. حتى "الحزب القومي السُّوداني"، الذي تأسس في 13 أيار (مايو) 1985م، لم ينج من نعت "العنصريَّة والانفصاليَّة" من خصومه. وقد كان الاقتراح في بادئ الأمر أن يكون اسم الحزب هو "حزب العمل"، حيث كانت هناك مجموعات أو جماعات ضغط من مختلف أنحاء السُّودان، وقد استجابت هذه الاتحادات أو الجماعات لفكرة "الحزب القومي السُّوداني"، وأتوا وانضموا إلى هذا اللواء الجديد، وكان عددهم حوالي 16 اتحاداً من ضمنها "اتحاد عام جبال النُّوبة"، "اتحاد العرب الرحل" الذين مثَّلهم آدم التوم حسن، "اتحاد الحسوناب" والذي كان يمثِّله غريب الله مكي حسن وحسن الماحي من شمال كردفان، "اتحاد المسيريَّة الزرق" وممثِّلهم هو كان درية شرق، وأيضاً "اتحاد البطاحين" بممثِّله إبراهيم الطيب حسن، وهناك هارون آدم من دارفور وغيرهم.(5) وظل الأب فيليب غبوش يحمل شعلة نضال النُّوبة عبر أكثر من نصف قرن، مهما قيل عنه من أقاويل، ومهما لحقت به من أوصاف وتصاوير نابعة من أضغان الأعداء. هذا وقد اعترف أحد أبناء النُّوبة الذي لا يشارك الأب غبوش في اتجاهه السياسي والديني أنَّه – أي الأب فيليب غبوش - "لا شك (في أنَّه) سياسي من الطراز الأول، ولقد حاول جاهداً النُّهوض بقضيَّة النُّوبة وعلى طريقته الخاصة، ولم يشك أحد في إخلاصه وحبه لأهله النُّوبة."(6) ويقول ابن خلدون كنو كالو عنه: "ويكفي أبناء النُّوبة فخراً بأنَّ الأب فيليب (غبوش) هو باعث نهضة الجبال بكل ما تعني الكلمة من معنى؛ فهو الذي أضاء لنا الطريق للبحث عن حقوقنا، التي لم نصل إليها بعد." ويضيف كلو: "فالأب فيليب (غبوش) لم يكن عنصريَّاً، بل كان صاحب رسالة واضحة ودون لف أو دوران، ولأنَّنا لم نعتد على مثل هذا النوع من الوضوح فلا بد من نعته بالصفة، ومشكلة الأب فيليب أنَّه وقف صامداً متحدِّياً."(7) وقد قال عنه تيه كوكو ليزو: إنَّ "الناس لينظرون إلى الأب فيليب غبوش من الناحية السياسيَّة، وكقيادي بارز في السياسة السُّودانيَّة، وكرجل له تأريخ و(قد) أثار قضايا جوهريَّة مهمة في حياة المجتمع السُّوداني (...) وله شعبيَّة عظيمة، ولقد قدَّم الكثير من الأفكار والأطروحات السياسيَّة القيِّمة، التي يتبنَّاها اليوم سياسيُّون وقادة ما كان لها وجود في الساحة السياسيَّة، مثل الفيديراليَّة وحقوق المواطنة، ورفع الظلم عمن يُعرَفون ب"الأقليات"، ويُسمَّون هذه الأيام بأبناء المناطق المهمَّشة، والكثير منها نادى بها الأب فيليب غبوش (...)."(8) فما هو سر وسحر هذا الرجل الذي ملك قلوب النُّوبة وامتلك ناصية نضالهم في خلال نصف قرن من الزَّمان؟ إنَّ بعض الرِّجال ليصنعون تأريخ النضال في بلدانهم، وأحياناً تمتد بصماتهم إلى خارج الحدود، وبعضهم يصنعهم التأريخ النضالي لبلادهم. فالذين يصنعون التأريخ يشاركون في أحداثه.. بعضهم في دور البطل، والبعض الآخر في دور "الكمبارس"، والذين يصنعهم التأريخ يلتقي بهم بالصدفة، ويأخذهم إلى مجرى الأحداث، والأب فيليب عباس غبوش من النمط الأول.. وفي دور البطل. فقد ولد الأب فيليب عباس غبوش آدم العام 1922م بحي بانت في أم درمان، وتلقى تعليمه في مدرسة سلارا الأوليَّة (ريفي الدلنج) وكاتشا الوسطى (ريفي كادقلي)، وكلية اللاهوت في جوبا، حيث تعرف على بعض أبناء الإقليم الجنوبي الذين أصبحوا قادة نضال أهليهم فيما بعد، ومنهم بوث ديو وبولين ألير وأبيل ألير. فقد وُلد زعيمنا عباساً، أما فيليب فهو الاسم المسيحي بعد التعميد واعتناقه المسيحيَّة ديناً له. وكان يعمل والده – غبوش آدم - في الجيش في العهد البريطاني-المصري (1898-1956م)، وقد شارك والده في حركة اللواء الأبيض بقيادة البطل الملازم علي عبد اللطيف العام 1924م. وقد بدأت ملامح التمرُّد تتكشف عند الطالب فيليب عباس باكراً، وذلك حين رفض الانصياع إلى أوامر المفتش البريطاني مستر ويلسن في جوبا، والذي طلب منه ومن زميله أبيل ألير أن يقوما بدفع عربته التي استقرَّت في الوحل، ولم يستطع إخراجه بمفرده. إذ اتَّصف أسلوب تعامله مع الطالبين بشيء من الكبرياء والصلف شديد، وحين علم مستر ويلسن أنَّ هذا الشاب المشاكس من منطقة جبال النُّوبة همهم في نفسه وانفجر فيهما صائحاً: إنَّنا قلنا لهم لا تجلبوا أبناء النُّوبة إلى هنا، لأنَّهم سيؤثِّرون في أبناء الجنوب سياسيَّاً. وحينما سأل المفتش التلميذ فيليب عباس: لماذا أتيت إلى هنا ولديكم من المدارس في جبال النُّوبة؟" إلا أنَّه كانت لفيليب إجابة جاهزة، إذا رد بالقول: "إنَّنا لا نملك مثل هذا النوع من المدارس هناك." وكان البريطانيُّون يسيئون معاملة أهل الجنوب، وحين جاءت الإرساليات التبشيريَّة تحسَّنت الأوضاع قليلاً. ففي بواكير عمله السياسي في الستينيَّات من القرن المنقضي كتب الأب غبوش عدة مقالات في صحيفة "كردفان"، وقام ببعض الندوات السياسيَّة في مدينة الأبيض، حيث كانت الأبيض هي المحطة الثانية له بعد الانتهاء من الدراسة في جنوب السُّودان. وفي الأبيض سكن الأب فيليب غبوش في البان جديد وملبس، التي كان بها مك تركي يُدعى عبد الحميد، وذلك قبل الحرب العالميَّة الثانية (1939-1945م)، وقام الأب غبوش بزراعة حدائق جميلة تغنَّت لها بنات السُّودان في ذلك الحين من الزمان. ثم سكن الأب غبوش بالقرب من سوق ود عكيفة، هو والجدة خادم الله، حيث أقاما سويَّاً وهي كانت تحكي عن أيام السلطان علي دينار في دارفور. كذلك سكن الأب غبوش في حي القبة بالأبيض – أي قبة إسماعيل الولي، حيث كان يأتي الناس لزيارة القبة ويأخذون منه التراب للتبرُّك به، وكذلك سكن بالقرب من السوق وفي عدة محلات، حيث كانت تنتشر أحياء سكنيَّة للبسطاء من الناس في مدينة الأبيض. فهو إذن قامة وطنية سامقة في سماوات السياسة السودانية والدينية، وقد نشأ في منطقة جبال النُّوبة الغنية بأهلها ومواطنيها، وثرواتها ومورثاتها، وتراثها الحضاري والتأريخي، وثقافاتها المتعددة، وطبيعتها الجميلة الخلابة، وحدائقها الغناء، وجبالها الشامخات. وقد كان عضواً في الجمعيَّة التأسيسيَّة العام 1966 عن دائرة الدلنج الغربيَّة (اتحاد عام جبال النُّوبة)، وممثلاً لنفس الدائرة ولنفس الحزب في الجمعيَّة التأسيسيَّة العام 1968م، ثم تمَّ تعيينه عضواً بمجلس الشعب القومي العام 1978م، وانتخب عضواً في الجمعيَّة التأسيسيَّة العام 1986م عن دائرة الحاج يوسف بالخرطوم بحري عن الحزب القومي السُّوداني، وأخيراً تمَّ تعيينه عضواً في البرلمان ضمن مجموعة التجمع الوطني الديمقراطي ممثلاً للحزب القومي السُّوداني المتحد. ذلكم هو الأب فيليب غبوش آدم وقول الحق الذي فيه يمترون. ولما شاخت القيادات التأريخيَّة، ورحل البعض الآخر عن دنيانا مع الحزن العظيم والأسف الشديد، استلمت مقود سفينة النضال السياسي والعسكري في جبال النُّوبة قيادات شبابيَّة للإبحار بقضايا جبال النُّوبة عبر مغارم السياسيَّة السُّودانيَّة إلى بر الحقوق المدنيَّة. وقد استدعت مرحلة الثمانينيَّات إعادة النظر في عدد من وسائل النضال منها: النضال السياسي السلمي لم يحقق شيئاً حقوقيَّاً لصالح سكان منطقة جبال النوبة طيلة سنوات الحكم الوطني منذ الاستقلال العام 1956م. الانقلابات العسكريَّة التي بات يشترك فيها أبناء النُّوبة تُوصف دوماً بأنَّها "حركات عنصريَّة"، وتُواجه ردعاً عسكريَّاً وسياسيَّاً وإعلاميَّاً، لإخمادها وتشويها بإلباس الباطل عليها، والتنكر عليها. لجوء أبناء النُّوبة إلى جبالهم في ديارهم، والتحصين فيها وخوض حرب عصابات طويلة لإسماع صوتهم وتلبية حقوقهم في المشاركة في السلطة والتوزيع العادل للثروة القوميَّة والخدمات التنمويَّة والصحيَّة والتعليميَّة وهلمجراً، وهذا ما كان.