في بهاء الاحتفاء بنيل حيدر ابراهيم على جائزة العويس للدراسات الإنسانية برزت تلقائياً إحدى البقع السوداء المتداولة في قماشة الشخصية السودانية بما في ذلك نُخبها .بل لعلهم الأعلى في الهرم السوادني الاجتماعي شكايا من حسد بعضهم بعضا. الجهر بالجأر من غلواء الحسد يرسم صورةً غير واقعية لكأنما الحسد يتمكن من السودانيين دون سواهم تمكن مجرى النيل من أرضهم ! كذلك يمنح انطباعا زائفاً بأن كل الإنتلجنسيا السودانية موبوءة بشر الحسد حد التناحر.
الحسد بمعنى تمني زوال نعمة الآخر عاطفةٌ إنسانية تتجذر في كل المجتمعات.
بل أن الجاحظ يراها أول معصيةٍ على الأرض. ربما في قوله تعالى" فتُقبل من أحدهما ولم يُتقبل من الآخر، قال لأقتلنَك". كما يراه برتراند راسل "أقوى مسببات التعاسة" فيما يعتبرها هيغل "أغبى الرذائل لدى الإنسان".
الدكتور حيدر إبراهيم لم ينج من شرور الحساد. في خاطري عندما هبطت الخرطوم ذات إجازة بحث مشروع مع الدكتور. لم ادرك وقتئذٍ فراره بمركزه من الحاكمين باسم الدين. فوجئت وأنا أسال عن حيدر صديقاً مشتركاً مهموماً بأمر الفكر وشأن الكتابة ينفجر غاضبا؛ انتم معشر الصحافيين تطلقون أوصافاً وألقبا دون معايير على من لا يستحقون. خطيئتي حالئذ كانت اسباغ وصف "المفكر" على حيدر إبراهيم . حتى أمتص رد الفعل الغاضب قلت مازحا لدينا يا صديقي جيش عرمرم من الشعراء ورهط من الحكائين فما يضيرنا لو أضفنا الى كل هؤلاء وأولئك و"مفكرين" وهم بضع ثلة؟ فانقشع الغضب وليقل البعض الحسد.
حيدر عزا كثير من خلافاته ومعاركه في المشهد الفكري والسياسي إلى الحسد. ذلك توصيف ورد على لسانه مرات عديدة. جانب من الاشتباكات لم تكن على مستوى التنافس الشخصي البحتة بل انطوت على أبعاد مؤسساتية . لعل أحد أبرز نموذجين لهذا الضرب من الاشتباكات ما حدث بينه ممثلا في مركز الدراسات وبين تجمع المعارضة السودانية في القاهرة. أما الآخر فما وقع بينه وبين اتحاد الكتاب مجسدا في الدكتور عبد الله علي إبراهيم وكمال الجزولي. صحيح أن الاشتباكين جريا على خلفية سياسية وفكرية لكن قد لا يكون حيدر إبراهيم مجافيًا الحق إذا رأى فيهما حسدأ أوشك على الدفع به إلى حافة اليأس المميت!
حيدر ليس استثناءً في إحساسه بوطأة الحسد وسط النخبة السودانية. فمن الذين راودهم ذلك الشعور الظالم البروفيسور الراحل محمد عمر بشير إذ وصف النزاعات والخصومات بين أبكار المتعلمين ضرباً من الحسد بينهم نتيجة لضعف التعليم ومن ثم الملكات النقدية لديهم. محمد عمر بشير رأى في الحسد "الدرك الأسفل " من إنحطاط الإتجاهات الفكرية. الدكتور الرائد مكي شبيكة الموسوم بشيخ المؤرخين لم يرصد فقط حسد الحساد بل تعرض هو نفسه إلى شرورهم في مجاله الأكاديمي عندما حرموه من حق مستحق في منصب مدير الجامعة فأمسى شيخ المحسودين.
ذلك هو المنصب حيث أفاق العالم العلامة عبد الله الطيب على حسد انداده وأترابه من الأكاديميين. فمن المتداول عن الأديب المرموق قوله أنه لم يدرك حسد الأكاديميين إلا بعد تعيينه مديرا للجامعة. من المفارقات انني كنت بين ضيوف متعددي الجنسيات على مأدبة أقامها على شرفه شخصية إماراتية مرموقة .
معروف عن المضيف أنه قارئ قارض يملك مكتبة ضخمة تحيط بالمجلس .من منطلق حسن الضيافة قدّم المُضيف مؤلف عُون الشريف قاسم المعنون " العامية في السودان". لدهشتي قلل العالم العلامة من قيمة الكتاب ولا أقول أنه بلغ به درجة الإستخفاف. مصدر دهشتي أني لم استطع إستبانة ما إذا كان سلوك العالم الضيف من منطلق الأمانة العلمية أم فيه مسحة من العاطفة المدمرة. قيل ان حيدر إبراهيم ظل يسخر من قول العالم حتى أدركه حسد الحساد عقب نجاح مركز الدراسات. كما ينقل على لسان عبد اله الطيب قواه أن الحسد من طبيعة السودانيين.
لعل الدكتور منصور خالد – وهو في عداد ثلة "المفكرين" المصنفة – يقوم مقام إمام المحسودين إذ لم يقصُر شرور الحساد على معاناته ومعاركه مع الخصوم المنافسين والمصابين بالغيرة غير السوية فقط ، بل توغل في شأن الحسد والحساد منذ عهد أبكار الخريجين ومن أعقبهم من النخب .فخاض أكثر من غيره في كشف " الذين لا يعملون ولا يسرهم أن يعمل الآخرون" حتى كاد يهدينا مرجعا عن " النخب السودانية وإدمان الحسد"
على أن ظاهرة الحسد الإجتماعية ليست في الواقع سمة قاصرة على نخبنا.
السياسي الإداري "السادن نافذ البصيرة إبراهيم منعم منصور ينقل عن أبيه ناظر عموم دار حمر عن مفتش مركز النهود بيترهوغ وفترة الحكم الذاتي تشارف نهاياتها حكماً صادما عن المأزق القبلي الناجم عن الحسد. الوزير حكى في سيرته الذاتية المبهرة الممتعة حدودة رواها المفتش الإنجليزي عن تأصُل الأنانية في أبناء القبيلة بشهادات النكايات المدّونة في أضابير مكتب المفتشمن أبناء القبيلة ضد بعضهم البعض.
لكن تلك العاطفة المدمرة لا تتمكن من الحمر وحدهم. كثيرا ما توترت أقوال على لسان عبد الله الطيب أن القبائل المشهورة بالحسد في جزيرة العرب هاجرت -غالبيتها ---تتفاوت الأعداد-إلى السودان .تلك معلومة تجعل جميع دعاة الإنحدار من أصول عربية حَسَدةً من ظهور حُساد من بطون حاسدات.
مما يجعل الحسد آلية فرز للأصول العرقية على نمط الـ"دي إن أيه "حاسمة بغية تحديد أصولنا زنوجا،عربا ونوبا
على أن رواية عبد الله الطيب لاتحدد مصير القبيلة الوحيدة أو القبائل القليلة الأخرى. نحن السودانيين المتواجدين في شبه الجزيرة العربية يمكننا إستكشاف وجهة تلك القبائل . فنحن الحسدة كثيرا ما نجد أنفسنا محسودين من آخرين يرموننا بما ليس فينا قناعة منا حسدا وغيرة .
بالإضافة إلى تجذر الحسد كعاطفة مدمرة في كل المجتمعات فإن الها يعرًفنا بوجود الحاسدين " يحسدون الناس على ما اتاهم الله من فضله" وفي قوله "بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا" و" من شر حاسد إذا حسد"
هل ندعو المفكر حيدر إبراهيم للانكباب على دراسة شاملة للشخصية السودانية على طراز عمل الراحل جمال حمدان في شأن الشخصية المصرية!
aloomar@gmail.com