إنّ أعلى درجات العمل، والعمل قول وفعل، هو الإخلاص. والإخلاص يعني التجرّد التام من الذاتية وهي حبّ النفس وإرجاع الفضل لها. والإنسان لن يدرك حقيقة أنّه أخلص في عمله إلى أن يُعرض على الله سبحانه وتعالي، وعليه يجب على الإنسان العاقل أن يتّهم نفسه بعدم الإخلاص من أن يركن إلى يقين زائف. ونري اليوم من يصف نفسه بالوطنية ويضنّ بها على غيره لأنّه لا يشاركه أيديولوجيته أو حزبه أو طريقة تفكيره فيبخّس عطاء الآخرين وهذا هو الإقصاء الذي يستنكره الناس ويمارسونه. وللإقصاء درجات بعضها واضح مثل الدعوة لإقصاء حزب المؤتمر الوطني من السياسة، أو بعضها غائم، مثل الموقف من حزبي الأمّة والاتحادي الديموقراطي، وبعضها خفي مثل من لم يساهم في المظاهرات مثلاً أو هو محسوب على تيار آخر.
هذا الإقصاء هو نتيجة لتخوين الناس وهو يعني الشك في وطنيَّتهم؛ أي الشك في إخلاصهم في حب الوطن. وهذا العمل فيه أقصي درجات الذاتية التي تبرّئ نفسها وتتّهم الآخرين فتقول: "أنا خير منه".
والحمد لله الذي خلق الناس مختلفين لأنّ الأفكار تتلاقح، فما تراه قد يغيب عن الآخرين، وما يرونه قد يغيب عنك فالحقيقة لا يحيط بها إلا الله سبحانه وتعالي.
هذا الوطن ليس ملكاً لأحد، وهذه الشعوب ليست ملكاً لأحد، وحتى الخائن له حق المحاكمة فيه، والعقاب فيه، وله حقّ في متر من أرضه يدفن فيه.
لماذا يخفي عن الناس الديكتاتورية الفكرية لنخب السودان شيباً وشباباً، عسكريين ومدنيين، فنري سيادة ثقافة الاستفراد بالحكم؟ وسياسة الإقصاء؛ وهي سياسة من ليس منّا فهو ضدنا؟ وأيضاً عدم المقدرة على سماع الرأي المخالف، ناهيك عن قبوله؟
إلى متي سيظلّ بعض الساسة بتفكيرهم الصلب، والانفعالي الانشقاقي يسودون الساحة وينقلوننا من خراب إلى هلاك؟ وكيف تدير شئون وطن من غير حكمة؟ والحكمة هي تكاتف الجميع لبناء وطن حديث بثقافات متلاقحة، ومساواة وعدالة اجتماعية حيث تستدام التنمية وتنمو للأجيال اللاحقة، فسوء التدبير، وغياب التفكير وراء فشلنا في التخطيط وتحقيق أهداف الشعوب، التي تتشارك وطناً واحداً، لتحقيق تنمية مستدامة نامية ومرنة وهي ما تشتاق إليه هذه الشعوب.
إنّ الثورة الحقيقة ليست في تغيير الحكومات الفاسدة ولكن في تغيير طريقة التفكير وفي المفاهيم، وفي تحقيق أسس العدالة الاجتماعية على أرض الواقع، وحكم القانون والشفافية، وبناء دولة المؤسسات وهذا يحتاج إلى تضافر الجهود لا الاستئثار بالسلطة، ويحتاج إلى مراحل منها قصيرة المدي، ومنها متوسطة المدي، ومنها طويلة المدي. وهذا يحتاج إلى هدوء التفكير لا الانفعال، فنحن نغلي اللبن لقتل الجراثيم ولكن لا نشربه مباشرة بعد غليانه، ولو استمرّ في حالة الغليان فلن نستطيع أن نستفيد منه.
أي تحتاج إلى رؤية تُترجم إلى برامج عمل وخطط، فكيف ستبني بيتاً إذا لم ترسم خارطة له وتحدّد ما يحتاجه من مواد، وهما نتيجة تفكير مسنود بعلم؟
وتحتاج لمواطنين يفكرون في أداء واجبهم قبل المطالبة بحقوقهم، وهذا أساس المواطن الصالح الذي يؤثر ولا يستأثر.