الولايات السودانية الفيدرالية: دولة واحدة بنُظُم متعددة -2-

 


 

 


الولايات السودانية الفيدرالية: دولة واحدة بنُظُم متعددة
(من أجل؛ وحدة كافة قوى الهامش وفيدرالية التشريع)
mahdica2001@yahoo.com

الجبهة الوطنية العريضة -2-
توصلنا في المقال السابق إلى ثلاثة مُرتكزات محورية، وهي:
-    أن جذور النزاعات في السودان تعود إلى التخلف عموما،ً الناتج عن تخلف وجمود وسائل الإنتاج وعدم عدالة علاقات الإنتاج ، مما أدى إلى تدهور الإنتاج كماً ونوعاً في عالم سريع التطور التقني وشديد التنافس الإقتصادي، ونوهنا إلى خطأ الأكاديميين والسياسيين المُتمثل في التركيز على العوامل الثقافية والعرقية والدينية واللغوية، وإغفالهم للعوامل الإقتصادية والبيئية "تغير المناخ وِشُح الموارد الطبيعية" التي أججت التنافس والصراع على الموارد الناضبة والمُتناقصة بإستمرار (يُرجى الرجوع إلى مقالنا المنشور بهذه الصحيفة بعنوان "حزام الخير والموارد الذي تحول إلى قوس أزمات".
-    يُمثل الحزام المُمتد من الحدود الشرقية (كسلا) وحتى الحدود الغربية (الجنينة)، الذي يُطلق عليه مناطق التماس (أي حزام الزراعة الآلية المطرية) صُرة وحدة السودان (مُسمار النص)، إن أُحسنت إدارته صلُح حال السودان، وإذا أُسيئت إدارته تحول إلى مسرح (أو مسارح) للحروب، وذلك لثرائه الطبيعي المقرون بتباينه العرقي والثقافي ووجود كثافة سًكانية قد تتمازج وتنصهر لتشكل السودانوية، أو تتصارع فتُنتج الدمار والتشظي ) يُرجى الرجوع إلى مقالنا بهذه الصحيفة بعنوان "مسرح الحرب القادمة: الجنوب الجديد لسودان حمدي القديم"، وها هي الاحداث تُثبت صحة هذا الزعم.
-    سقوط "المشروع الحضاري" وتخلي الحركة الشعبية عن نقيضه "مشروع السودان الجديد"، مما أفرز فراغاً فكرياً أدى إلى الحيرة والسلبية والتشاؤم والإحباط في الشارع السوداني، وفي هذا الصدد ذكرنا بأنه لا بُد من تطوير مشروع السودان الجديد، وآليته "إتفاقية السلام الشامل" وإزالة ما لحق بها من قصور وإفراغ لمحتواها، ولن يتأتى ذلك إلا بإعمال النظر والفكر في المحاور (المداميك) الأساسية التي قامت عليها إتفاقية السلام الشامل (التي من الأفضل تسميتها بإتفاقية نيفاشا، لعدم شمولها وعدم تحقيقها لما هدفت إليه من تحول ديمقراطي ووحدة طوعية وسلام)، ولقد صدق الرئيس/ البشير (لأول مرة) عندما قال إن الإتفاقية تقود إلى الإنفصال بدلاً عن الوحدة، وتهدد بالحرب بدلاً عن جلب السلام، وصمت سيادته عن الكارثة الثالثة ولم يقل "وأدت إلى تمكين وإستمرار الشمولية الفردية بعد تزوير إرادة الشعب، بدلاً عن التحول الديمقراطي السلس".
كذلك خلُصنا في المقال السابق إلى أن حصاد حقل نيفاشا لا يشابه حساب بندرها، وفي هذه الحلقة سوف نستعرض المحاور الرئيسة لإتفاقية السلام الشامل (نيفاشا)، وإقتراح الحلول اللازمة لتصحيح مسارها، والنهوض مُجدداً بمشروع السودان الجديد (الفيدرالي الديمقراطي المُتحد) عبر الجبهة الوطنية العريضة:
1)    علاج ثُنائية الإتفاقية عبر النظام التعددي وفيدرالية التشريع:
 ارتكزت إتفاقية نيفاشا على فكرة دولة واحدة بنظامين (بمُبادرة من معهد بروكينز، ومساهمة. د. فرانسيس دينج، وآخرين)، والسؤال الذي يقفز إلى الذهن مُباشرة، لماذا دولة واحدة بنظامين فقط، وليس دولة واحدة بعدة أنظمة، أي دولة تُتيح المُحافظة على الوحدة في إطار التنوع؟؟ إذ أن حصر العلاج في نظامين فقط يدمغ الإتفاقية بالثُنائية ويؤكد أنها ليست شاملة، لا جُغرافياً ولا سياسياً (كما يشي إسمها زوراً وبهتاناً)، فقد أ[رمت بين طرفين سياسيين (لا يُمثلان كُل فئات الشعب السوداني شمالاً وجنوباً) لعلاج مُشكلة إقليمين جغرافيين (الجنوب والشمال)، ولأن المنهج (أو التطبيق، لا فرق) خاطئ من أساسه فإن النتيجة هي تفاقم الأزمات وإنسداد أُفق السلام، فإنفصال الجنوب لا يحُل مشكلة التخلف والتنمية ، علاوةً على أنه يتناقض تناقضاً صارخاً مع ما ورد في أول فقرة من مانيفستو الحركة الشعبية- 31 يوليو 1983:
(The so-called “Problem of Southern Sudan” is really a general problem in the Sudan. It is generally a “problem of backward areas” in the whole country).
ولهذا فمن الأنسب والأصوب علاج المُشكلة بطريقة تشمل كُل أقاليم السودان عبر قيام دولة سودانية بعدة أنظمة (بعدد مُديريات السودان التسعة) بالإضافة إلى المناطق الثلاثة التي أفردت لها إتفاقية نيفاشا بروتوكولات خاصة لخصوصية وضعها (جنوب كُردفان "شعوب جبال النوبة" وجنوب النيل الأزرق "شعوب جبال الأنقسنا" ومنطقة أبيي "دينكا نقوك/المسيرية") ولعلنا نلاحظ أن الوضع في السودان في هذه اللحظة المفصلية من تاريخه يشبه تماماً وضع الولايات المتحدة الأمريكية عشية الحرب الأهلية، والتي لم تجد مخرجاً لها إلا في النظام الفيدرالي الحقيقي الذي كفل لولاياتها جميعاً (50 ولاية) الحق في إختيار نُظُم الحُكم والقوانين التي تروق لها. فلماذا إذن لا يُطبق هذا النموذج الناجح الذي حول الولايات المتحدة من دولة عنصرية متطاحنة إلى أقوى دولة في العالم ورائدة في الديمقراطية وحقوق الإنسان.
كما أن مثل هذا النظام التعددي الحقيقي يُحافظ على وحدة الدولة ويُتيح لكافة الأقوام والشعوب السودانية حُكم نفسها بنفسها، ويمنحها الحق في الحفاظ على تُراثها وعاداتها وتقاليدها ومعتقداتها الدينية بما في ذلك جماعة مثلث حمدي، إذ يكفل لهم حقهم في الحفاظ على هويتهم العربية الإسلامية وتطبيق قوانين الشريعة الإسلامية بالنمط الذي يروق لهم، ولا أظن أن هنالك سودانياً عاقلاً يُنازع أهل شمال ووسط السودان في هويتهم العربوإسلامية أو يقلل من شأنها أو شأنهم، فالفيدرالية لاتعني ولا تهدف إلى عداء العروبة والإسلام وإنما هي نظام ووسيلة ديمقراطية لإزالة التهميش ورفض إقصاء الهويات الأخرى غير العربية/الإسلامية، وآلية لمقاومة عمليات العربنة والأسلمة القسرية بحد السيف و(جهادنا الشعبي ياهو دي). لا شك أن النظام الفيدرالي الحقيقي (نظام الولايات السودانية الفيدرالية أو المتحدة) المُرتكز على فيدرالية التشريع، يُخرجنا من لُجة الجدل البيزنطي (الذي هد حيلنا واستهلك جهودنا) حول الدولة الدينية والدولة العلمانية والدولة المدنية، حيث تُغني كُل جماعة على ليلاها.
2)    المُشاركة في السُلطة:
 كما أن النظام الفيدرالي المُستند على التنمية والإنتاج في إطار ديمقراطي، يُصحح المفهوم الشائه السائد في أذهان النُخب والعامة على السواء، بأن قسمة السُلطة تعني الإستوزار وتولي المناصب السيادية فقط (كم وزيرٍ منا وكم مُستشارٍ منكم!!) ولعل الصراع العقيم الدائر حول منصب نائب رئيس الجمهورية في مفاوضات دارفور خير دليل على ما نقول، ونعتقد أنه ينبغي فهم المُشاركة في السُلطة بمعنى المُشاركة في عملية صُنع القرار  (The process of decision making)، وهذا لا يتأتى إلا بإعادة السُلطة والحاكمية للشعب عبر نظام فيدرالي/ديمقراطي حقيقي، تُتخذ فيه القرارات من أسفل إلى أعلا، وليس العكس، ويسمح بمراقبة القواعد الجماهيرية للسُلطة التنفيذية مٌراقبة لصيقة على مستوى الولاية أولاً ثُم المركز ثانياً، وهذا هو جوهر ولُب الديمقراطية بمعناها الحقيقي، ولقد أسهبنا في الفقرة (1) أعلاه في تبيان ذلك وتوضيح أهمية الفيدرالية، ولمزيد من الشرح والتوضيح نُشير إلى تجربة دولة الإمارات العربية المتحدة، وتباين نُظُم الحُكم بين إماراتها السبعة (الإختلاف الواضح في التشريعات بين إمارة الشارقة "الإسلامية" إمارة عجمان، على سبيل المثال)، هذا بالرغم من أن دولة الإمارات أكثر تجانساً عرقياً ودينياً ولغوياً وإقتصادياً من السودان (لحم الرأس) ولكنها ومع هذا التجانس لم تتمكن من إنجاز الوحدة العربية الوحيدة الناجحة إلا عبر تبني النظام الفيدرالي (الإتحادي)، ومن ثم التفرغ للبناء المادي للدولة (مشاريع بنية أساسية، طُرق سريعة، خدمات صحة وتعليم، تنمية بشرية، إستصلاح وزراعة الصحراء، إعانات وضمان إجتماعي،،،،، إلخ).
3)    إعادة تفسير وتصحيح مفهوم المُشاركة في الثروة:
لقد لحق بمفهوم ومصطلح المُشاركة في السلطة تشويهاً كبيراً (مثل رديفه المُشاركة في السُلطة السالف ذكره)، إذ رسخ في الأذهان أنه يعني قسمة الموارد الطبيعية (وعلى رأسها البترول)، وقد اتضح أن هذه القسمة (مهما كانت النسب) لن تُعالج المُشكلة بل قد تصُب الزيت على نار النزاعات (كما نُشاهد ونُعايش الصراع في منطقة أبيي) والأجدى من هذه المُحاصصة الإهتمام بتطوير وسائل الإنتاج لإيجاد الثروة إبتداء ثُم العدل في توزيعها عبر علاقات إنتاج مُنصفة ومُحفزة على الإستثمار وإعادة الإستثمار والحفاظ على الثروة البشرية في الريف وتنشيط دورة الإنتاج (بما في ذلك إعادة النظر في نظام حيازة الأراضي والحواكير والمشاريع الزراعية الآلية)، ولن تستطيع الزراعة التقليدية الإعاشية (Subsistence Agriculture) المنافسة في زمن العولمة والقرية الكونية الصغيرة، بالإعتماد على الوسائل والعلاقات المتخلفة السائدة منذ فجر التاريخ، وكما أسلفنا ليس من المتوقع أن يتمكن المُزارع أو الراعي التقليدي (الحافي العاري، الذي تهد حيله الملاريا وسوء التغذية " الذي يتناول وجبة واحدة في اليوم من مُلاح أُم تكشو والكجيك"، وتُثقل كاهله الجبايات من عشور وقبانة وزكاة ودقنية، ومكوس بأسماء ما أنزل الله بها من سُلطان) من منافسة الرُعاة والمزارعين في حقول جورجيا وسهول كندا وبراري أستراليا. ولهذا السبب تحديداً إنخفض إنتاج السودان من الحاصلات الزراعية عن ماكان عليه في ستينيات القرن الماضي، وإرتفعت تكلفة الإنتاج إلى ثلاثة أضعاف تكلفة إنتاج ذات السلع في بقية أرجاء العالم. كما يجب أن يتم تطوير وتحديث وسائل الإنتاج، بالتزامن مع تعديل وتطوير علاقات الإنتاج لضمان العدالة والمساواة والتشارك بإعتبار أن الأرض كالعرض ذات قيمة مادية ومعنوية.

نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، وفي المقال القادم نستعرض بقية محاور نيفاشا، وهي المشورة الشعبية (كعب أخيل الإتفاقية)، وغياب البُعد الشعبي عنها، وإمكانية علاج أزمة أبيي المُستعصية عبر النظام الفيدرالي، وإخراج حركات وتنظيمات الهامش من شرنقة الجهوية والعُنصرية عبر الإنضواء تحت لواء الجبهة الوطنية العريضة نظام الولايات السودانية المتحدة-الفيدرالية.
وفي الحلقة الرابعة والأخيرة سوف نستعرض (بإذن الله) التحديات التي تواجه الجبهة الوطنية العريضة للتغيير، وعلاقتها بالقوى السياسية الأُخرى في الساحة السودانية.
وحتى نلتقي لكم أجمل المُنى وكُل أكتوبر وأنتم بخير

 

 

آراء