انتخابات «نيفاشا» … ليست نهاية السياسة … بقلم: خالد التيجاني النور
22 April, 2010
tigani60@hotmail.com
هل يواجه السودان خطر إضاعة آخر فرصة تاريخية سنحت، ليس فقط لإخراجه من حالة التيه السياسي المتطاولة العهد، بل وضعه على الطريق الصحيح لتحقيق موجبات الاستقرار والإنطلاق، مع حالة الالتباس وإعادة إنتاج الاستقطاب السياسي الحاد على خلفية الجدل بشأن العملية الانتخابية، مجرياتها ومخرجاتها وتبعات ذلك وعواقبه؟.
يمثل المشهد السياسي الراهن نموذجاً مثالياً للالتباس والانقسام وهي(الحالة التي ظلت تواجه الدولة في اللحظات المفتاحية في التاريخ القومي السوداني) كما لاحظ الخبير في الشؤون السودانية أليكس دي وال الذي يصفها بأنها (كلها كانت أمور ملتبسة)، مستشهداً في ذلك بمواقف الأطراف السودانية المختلفة من لحظات تاريخية حاسمة مثل (المهدية، الاستقلال، اتفاقية السلام الشامل، حيث يحتفي بها بعض السودانيين، وينتقص من قدرها آخرون).
وما نشهده اليوم لا يختلف كثيراً إن لم يكن مؤكداً لهذا التشخيص الدقيق للحالة السودانية، فالعملية الانتخابية التي كان يراهن عليها لتكون فرصة لإعادة الوعي السياسي، أفضت إلى الحالة نفسها من الالتباس والانقسام، بين من يعتبرها في الطرف الذي هيمن على نتائجها آية في النزاهة والحرية وتأكيد التحول الديمقراطي وحققت له تفويضاً شعبياً حاسماً، وبين المعارضين في الطرف الآخر الذين يعتبرونها عملية مختطفة لا تعبر عن حقيقة الواقع الاجتماعي والأوزان السياسية الفعلية. وبغض النظر عن صحة إدعاءات كلا الطرفين، أو مدى النزاهة والكفاءة الفنية التي أديرت بها العملية الانتخابية، فإن الحقيقة الماثلة هي أن البلاد أصبحت غداة الانتخابات أمام واقع سياسي شديد الاستقطاب أعاد إنتاج الأزمة السودانية المستمرة فصولها طوال العشرين عاماً الماضية.
ومن المؤكد أن الكثيرين ممن تحمسوا ودافعوا بقوة من أجل إجراء الانتخابات في موعدها، على الرغم من كل التحفظات الموضوعية وأيضاً تلك المطالب التي ساقها المطالبون بالتأجيل، قد رأوا فيها فرصة ذهبية لتحريك الجمود السياسي ومعبراً لإنتاج معادلة سياسية أكثر تمثيلاً وتوازناً تهيئ البلاد لمواجهة استحقاقات المرحلة المقبلة المصيرية، إلا أنهم فوجئوا بنتائجها التي أفرزت معادلة أكثر اختلالاً لجهة تكريسها لإحادية أشد، ولا فرق إن كان ذلك تعبيراً حقيقياً عن مزاج الناخبين أو نتيجة لغياب التنافس الحقيقي، فالنتيجة واحدة هي توفير الوقود اللازم لرفع حدة الاستقطاب.
والعبرة من العملية الانتخابية بطبيعة الحال هي جدواها السياسية، فهل قربت السودان أكثر من الاستقرار والتراضي على قواعد اللعبة السياسية، أم أسهمت أكثر باتجاه المزيد من الاضطراب والانقسام؟، خاصة بين يدي استحقاقات وطنية غاية في الخطورة من شأنها تحديد مصير السودان كله وليس الجنوب وحده الذي ينتظر أن يذهب مواطنوه إلى صناديق الاستفتاء في غضون أشهر قلائل لا لتقرير مصيره وحده بل مصير الشمال كذلك، فضلاً عن أزمة دارفور التي لا تزال تنتظر حلاً نهائياً.
وما يزيد تعقيد الأمور المعقدة أصلاً أن الوضع المأزقي الحالي لم يكن حتمياً الوقوع فيه لولا حالة عدم النضوج التي لا تزال تهيمن على الطبقة السياسية السودانية على اختلاف ألوان طيفها، كما يتضح ذلك من تعاملها مع هذه التطورات، حيث أضاعت الفرصة لتدافع كان من الممكن أن يسهم في إعادة التوازن للساحة السياسية، كما أنبأت عن عقلية متشابهة تقوم على الإلغاء والإقصاء المتبادل، فالقوى السياسية المعارضة تريد إلغاء ما ترتب من نتائج الانتخابات وما حصل عليه المؤتمر الوطني من تفويض شعبي تراه مزوراً، والمؤتمر الوطني من جهته يريد إقصاء المعارضة متذرعاً بأنه لن يأبه لمن لم يحظ بوزن برلماني، وهو ما يعني فعلياً توجهه لشطبها من الواقع السياسي لأن نتائج الانتخابات أفرزت برلماناً بلا معارضة من أي وزن وهو ما يجعلها نزاهتها محل اتهام لافتقارها للمنطق وحقائق الواقع، وعقلية الإلغاء والإقصاء المتبادل ستزيد بالتأكيد من حدة الانقسام في الساحة السياسية، وهو ما يعود بالخسران على الجميع، ويهدد مستقبل البلاد بين يدي استحقاقات لا يبدو أن أياً من الطرفين يتعاطي معها بما تستحقه من مراعاة للمصالح الوطنية العليا.
ولا أحد يستطيع أن يزعم أن أياً من القوى السياسية في السودان بعيدة عن الإحساس بالحالة المأزقية الراهنة بما في ذلك المؤتمر الوطني الذي يبدو وقد شقي أكثر«بالفوز الكاسح الذي فاجأه» على أحد توصيف أحد قادته، حتى أنه لا يستطيع الاحتفال بهذا «النصر المبين» حق الاحتفال الذي يستحقه خشية أن يكون مدعاة للاستفزاز، وفي ذلك اعتراف مبطن بأن الأمور ليست طبيعية كما يجب، وإلا فما الذي يمنع منتصراً بحق من الزهو بنصره؟.
كما أنه لا يبدو مستعداً للتعاطي مع هذه التطورات كما يتوقع من صاحب تفويض عريض، فالمواقف السياسية التي خرجت من تلقاء قادة المؤتمر الوطني تجاه القوى السياسية الأخرى حملت الكثير من التناقض والتذبذب بين ساعٍ لتخفيف غلواء التوتر الذي خلفته الانتخابات ومادٍ لجسور التواصل وباسط لدعوة مشاركة الهم الوطني والمسؤولية في ما هو مقبل من تحديات تقرير المصير وإنهاء أزمة دارفور بتسوية مرضية ناجزة، وبين متمترس خلف نتائج الانتخاب بحسبانها تفويضاً كاسحاً يحمل رسالة واحدة على طريقة الدجاجة الصغيرة الحمراء في كتاب المطالعة الابتدائية (الفول فولي، زرعته وحدي، وحصدته وحدي، وسآكله وحدي).
وبالنظر إلى التراجع السريع لدعاة تخفيف حدة الاستقطاب في الساحة السياسية، وتوسيع ماعون المشاركة في المسؤولية السياسية بما يسع الجميع لاجتياز هذه المرحلة المفصلية بصف وطني موحد، وتنصلهم عن مواقفهم المعلنة أمام زحف المتشددين الداعين لاحتكار ثمار النصر، فإنه من الصعب القول بأننا أمام تيارين داخل المؤتمر الوطني أفرزهما التعاطي مع الانتخابات وعواقب نتائجها، ولعله يصح القول أنه مع الغلبة الظاهرة لدعاة التعامل مع «حقائق نتيجة الانتخابات كما جاءت»، فإن ثمة آراء أخرى تدعو للتعاطي بسعة أكبر مع هذا الحدث، ولكنها لا تملك الجرأة ولا عناصر القوة والنفوذ لتمضي أكثر في هذا المسعى.
أما في دوائر المعارضة فالوضع ليس أقل مأزقية مما هو داخل الحزب الحاكم، يستوي في ذلك الذين شاركوا في الانتخابات عشماً في اغتنام الفرصة للحصول على وزن برلماني معقول، والذين قاطعوا يأساً لغياب معطيات موضوعية تمنحهم الأمل أصلاً، فالبدائل أمام المعارضة محدودة للغاية بعد التفتت الذي أصاب تحالفها بسبب فشلها في التوافق على جبهة متوحدة في مواجهة المؤتمر الوطني انتخابياً ثم بسبب الضربة الموجعة التي تلقتها من قبل الحركة الشعبية التي أعلنت موقفاً منفرداً بدا متماهياً مع مصالح المؤتمر الوطني شريكها في السلطة، قبل أن يتفرق أيدي سبأ باتخاذ مواقف فردية من العملية الانتخابية. والنبأ الجيد لهذه القوى المعارضة أن غلبة التيار المتشدد داخل المؤتمر الوطني المعارض لأي تقارب معها يمنحها أسباباً جديدة لإعادة إحياء تحالفها، إلا أن النبأ السيئ هو كيفية استعادة الثقة المفقودة بين أطرافه، فضلاً عن أن الحركة الشعبية عماد ذلك التحالف ليس لها الكثير من الوقت لإضاعته في مناورات أخرى وقد حصلت على ما تريد، كما أنه قد أزف موعد الاستفتاء على تقرير المصير بعد أشهر معدودة مما يجعلها تكرس كل جهودها لضمان أن تمضي الأمور سلسة بدون أية عقبات حتى يناير الموعود بإطلاق صافرة الانفصال، وليس هناك ما يدعو الحركة للتفريط في أهم استثماراتها السياسية بتحقيق استقلال الجنوب من أجل أجندة غيرها من القوى السياسية.
والسؤال الذي بات يشغل بال الجميع إلى أين يسير السودان؟، وما هو المخرج من هذه الأوضاع البالغة التعقيد؟، وكيف تحولت العملية الانتخابية من أداة كان يعوِّل عليها في فك الاشتباكات السياسية وتعبيد طريق الحلول النهائية لأزمات السودان، إلى عوامل تضيف للأزمة ولا تخصم منها، وتزيد من إرباك الوضع السياسي وليس حلحلة تعقيداته؟.
ومن المهم لفت الانتباه هنا إلى طبيعة النظام السياسي السوداني التي أشرنا إليها آنفاً، فالمواقف الملتبسة والمنقسمة إزاء كل المحطات المهمة في التاريخ القومي السوداني تجعل أي ترتيب أو موقف سياسي هو في نهاية الأمر ترتيب أو موقف مؤقت، بمعنى أن السياسة السودانية لا تعرف ترتيبات أو مواقف نهائية، فهي تقوم على ثقافة المقايضة والمساومة وإعادة التفاوض، كما لاحظ ذلك أيضاً أليكس دي وال، ومن المهم التأكيد هنا على أن من يصنع مرجعية النظام السياسي في السودان حقيقة ليس الإرادة الشعبية، بل تصنعها المساومات التي تتم بين نخب الطبقة السياسية والصفقات التي تنتج عنها والتي تفرضها موازين القوة بين الأطراف المختلفة في اللحظة المعينة.
ولذلك فإنه على الرغم من حالة الاحتقان الحادة التي خلفتها العملية الانتخابية فإن ذلك لا يعني على الإطلاق نهاية السياسة لأنها ببساطة لم تكتب السطر الأخير في مستقبل النظام السياسي السوداني، وهناك دائماً ثمة مخرج بالاستناد إلى سيادة ثقافة المساومات والصفقات النخبوية، فالجدل الراهن حول حقيقة التفويض الشعبي والمشروعية التي أنتجتها الانتخابات الحالية لن تغير من هذا الواقع، فالمؤتمر الوطني الذي جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري، ظل يحكم السودان على مدى واحد عشرين عاماً دون أن يكون مستنداً إلى تفويض الشعبي، ويبدو أنه لم يكن يرى أن هناك حاجة تضطره لاستعجال الحصول عليه، كما أن عدم الشرعية الشعبية لم تمنع المعارضة من التعاطي معه وإن كان بحكم الأمر الواقع والدخول معه في اتفاقيات، بل القبول بمشاركته سلطته، وبالتالي فإن الجدل الدائر حالياً بشأن الشرعية والتفويض الشعبي، بين تأكيد الحصول عليها وعدم الاعتراف بها، لا يعدو أن يكون من باب المماحكات السياسية والمزايدات بين الفريقين، فاعتبار المؤتمر الوطني أن التفويض الشعبي هو معيار وحيد للشرعية حصل عليه ولن يتنازل عنه، يثير في وجهه تساؤلاً ولماذا انتظر أكثر من عقدين ليحصل عليه، ومن جهة أخرى فإن المعارضة التي ترفض الاعتراف بسلطة المؤتمر الوطني المستندة إلى نتائج الانتخابات يثور في وجهها السؤال ذاته، ولماذا تعاملت معه من قبل وهو مفتقر للشرعية الشعبية؟، ولذلك فمن الأوفق ألا تعتبر نتيجة الانتخابات، بغض النظر عن الجدل المثار حولها، سبباً يدعو لعدم الحوار والبحث عن مخرج من المأزق. فهي على الأقل لم تغير من الأمر الواقع شيئاً.
والأمر الآخر الذي يجب أن يكون دافعاً موضوعياً لفتح حوار الوطني، هو ضرورة وضع هذه العملية الانتخابية في إطارها الموضوعي، إذ لا يمكن التعاطي مع هذه المسألة بغير النظر في السياق الذي جعلها استحقاقاً دستورياً لا بد من الوفاء به، بحسبانها واحدة من استحقاقات عملية السلام الشامل، وربما كانت الاستحقاق الأهم قبل الأخير لخلاصة هذه العملية، وهو الاستفتاء على تقرير المصير الذي سيتم بعد اشهر معدودة في وقت لا تزال هنا أجندة عالقة بالغة التعقيد تنتظر تسويتها بين الطرفين. وكما أشرنا في مقالات سابقة فإن إدراج العملية الانتخابية في منتصف الفترة الانتقالية لا يعنى حقيقة بمتطلبات التحول الديمقراطي الذي يدعو وتنتظره جميع القوى السياسية، بقدر ما هو معني بمكافأة طرفي اتفاقية السلام من أجل الحفاظ على المعادلة التي أرستها تسوية نيفاشا بين الشريكين لحين الوفاء بآخر متطلبات الاتفاقية، وهو ممارسة الاستفتاء على تقرير المصير، والترتيبات الأشهر الستة الأخيرة بعد إجراء الاستفتاء، المطلوب منها فك الارتباط نهائياً بين الشمال والجنوب في حالة التصويت لخيار الانفصال كما هو مرجح، وهي فترة قد تطول عن ذلك حسب مقترحات أمريكية في هذا الصدد تعتقد أن الطرفين في حاجة لفترة أطول لضمان تأسيس دولتين قابلتين للحياة كما جاء في استراتجية أوباما.
وبالتالي فإن القوى السياسية المختلفة تحتاج للتعاطي مع إفرازات العملية الانتخابية على ضوء هذه الحقيقة، وهي أنها انتخابات لأغراض تقرير المصير وليس لأغراض تحقيق التحول الديمقراطي، لأن أي تغيير في المعادلة السياسية الراهنة أو تغيير أحد طرفيها كان سينعكس بالضرورة سلباً على هذه الترتيبات الموقوتة خاصة في ظل عشر قضايا عالقة بالغة التعقيد مطلوب الاتفاق بشأنها متعلقة بالاستفتاء، وهو ما لا يسمح به أطراف اللعبة الرئيسيان، ولعل هذا ما يفسر غطاء الشرعية الذي أسبغه المجتمع الدولي على هذا الانتخابات، وغرضه واحد أن تمضي الأمور بأجلها المحدد دون إبطاء أو تعويق.
وعطفاً على ذلك فإن هذه العملية الانتخابية ونتائجها هي في الواقع كشأن الترتيبات السياسية كلها في السودان هي ترتيب مؤقت، أي أنها لن تكتب السطر الأخير في تاريخ السياسة السودانية، وهي ذات مفعول مؤقت إلى أجل الاستفتاء على تقرير المصير خاصة إذا سارت الأمور باتجاه ما هو متوقع على نطاق واسع محلياً ودولياً بأن أمر الانفصال قضي لا محالة، هذا بالطبع ما لم تحدث معجزة في زمن عزت فيه المعجزات.
ومن المؤكد أن الانفصال إذا حدث فلن يكون حدثاً سياسياً عابراً، يظن البعض أن الأمور ستسير بعده كالمعتاد، بل سيكون زالزالاً سياسياً بكل ما تعنيه الكلمة له توابعه المخيفة، وسيخلف واقعاً جديداً بالمرة، وستكون نعمة كبيرة أن تكون أخف استحقاقاته هي الذهاب إلى انتخابات عامة مبكرة، لأن السودان لن يعود هو السودان الذي عرفه أهله والعالم طوال العقود الماضية.
ولذلك فإن واجب المرحلة هو الحوار الوطني بين القوى السياسية، بغض النظر عن نتائج الانتخابات، من أجل العمل الجاد لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من وحدة البلاد في غضون أشهر قليلة وفي وسط ظروف غير مواتية، وبالطبع لن يكون ذلك مجانياً، والإنقاذ الحقيقي المطلوب هو إنقاذ وحدة السودان، لأنها مسألة مصيرية بحق، وليست ترفاً أو مما يصح التعاطي معه في سوق المزادات السياسية، فالسودان لا يملك ترف الوقت لجدل عقيم حول اقتسام كيكة السلطة، بل هناك حاجة ملحة للكف عن التنازع من أجل حلب بقرة تعاني من سكرات الموت.
والمسؤولية الأولى بلا شك تقع على عاتق المؤتمر الوطني، وعلى الرئيس عمر البشير شخصياً، لطرح مبادرة جريئة بحجم هذه اللحظة التاريخية توفر أبجدية المعطيات الموضوعية للخروج من هذه الأزمة لتعزز من فرص الحفاظ على وحدة السودان، اللهم إلا إذا كان المؤتمر الوطني لا يأبه لتأكيد أن الغطاء الدولي للانتخابات الملتسبة التي حققت له الفوز ثمنها التضحية بوحدة البلاد، ليبوء بإثم الانفصال وحده، وليتحمل المسؤولية عن عواقبه.
عن صحيفة (إيلاف) السودانية
الأربعاء 21 أبريل 2010