اندلاع السلام لهيلدا جونسون: السودان والفشل المستمر في التعلم من دروس الماضي

 


 

 

قليلة للغاية ، إن وجدت ، هي الكتب التي كتبت عن مفاوضات نيفاشا وما أفضت إليه من انفصال جنوب السودان وتأسيس دولة جنوب السودان المستقلة. لهذا السبب ولأسباب أخرى بالطبع أهمها العلاقة المباشرة لكاتبة الكتاب بعملية صنع السلام في السودان يكتسب الكتاب المذكور أهمية معقولة إن لم تكن بالغة.
صدرت الطبعة الانجليزية الأولى للكتاب في العام 2011 عن دار سسكس وصدرت الترجمة العربية عن دار مدارك بالخرطوم في ذات العام 2011 تحت عنوان : " اندلاع السلام ، نيفاشا ، قصتي مع مفاوضات أطول حروب أفريقيا" وتمت الترجمة بواسطة " فريق ميتافرسي" (؟) كما هو مكتوب على غلاف الطبعة العربية التي نتناولها بالعرض هنا.
يقع الكتاب في 467 صفحة من القطع المتوسط . ويحتوي الكتاب في داخله على عدد محدود من الصور الفوتوغرافية (22 صورة بالأبيض والأسود) المختارة بعناية والمؤثرة ( على صاحب هذه الكتابة علي الأقل ). وبينما حمل غلاف الطبعة الانجليزية الصورة الرسمية والمشهورة لكل من الدكتور جون قرنق والسيد علي عثمان محمد طه وكل واحد منهما يحمل نسخة من الاتفاقية الرسمية ملوحين بها في حفل التوقيع الرسمي ، فقد حملت النسخة العربية صورة أخرى للشخصين ذاتهما وربما من ذات الاحتفالية وهما ممسكان بيدي بعضهما ضاحكين ضحكة ذهبت بها الأيام . بدا لي أن الصورة هنا أنسب للطبعة العربية والموجهة في غالب الأمر للسودانيين من القراء ، فمن غير المألوف أن يهتم قراء العربية بأحوال السودان .
قدم للكتاب السيد كوفي أنان ، الأمين العام للأمم المتحدة في الفترة من 1997 وإلى 2006 بمقدمة قصيرة ولكنها متعمقة ، وذلك يرجع في الغالب لانخراطه كذا مرة في مسار المفاوضات كما ذكرت المؤلفة في غير موضع بالكتاب. لعل مدخل التقديم في كلمة السيد كوفي كان هو الأكثر حكمة ، وذلك بما تمت ترجمته إلى العربية بما يلي من الكلمات: " إنها لحقيقة مؤلمة أن إحلال السلام أكثر مشقة على الدوام من شن الحرب. غير أن حصاد السلام بلاشك هو الأوفر عائداً" . حكمة بليغة دون شك ولكنها ولبالغ الأسف لم تتجل بجانبها الإيجابي في حالة سلام السودان.
تلى المقدمة شكر وتقدير من المؤلفة للأشخاص والجهات الذين كان لهم دور في مادة الكتاب ومن هذا الشكر نعرف أن الكتاب تم اعداده في إطار زمالة معهد مايكلسن في النرويج بالمساهمة المالية وكذلك فرصة الاستفادة من أرشيف وزارة الخارجية الملكية النرويجية.
تم تقسيم الكتاب بعد ذلك إلى سبعة فصول ومقدمة أخذت العناوين التالية: المقدمة : أطول الحروب الأهلية في أفريقيا ، الفصل الأول: الترويكا، الفصل الثاني: إتفاقية تقرير المصير الفيصلية ، الفصل الثالث: إحلال السلام في خطر ، الفصل الرابع: من أعداء إلى شركاء في السلام ، الفصل الخامس: التقدم الوئيد ، الفصل السادس: إتمام الصفقة ، الفصل السابع: المذاق الأول للسلام ، ثم خاتمة : الإنجازات والتحديات وأخيراً وفي صفحة واحدة: قائمة بأسماء الأشخاص الذين تمت مقابلتهم.
وعلى الرغم من أن الكتاب مخصص لحكاية مجريات التفاوض وتفاصيل أخرى لم يكن من الممكن معرفتها لولا أن الكاتبة كانت في صميم تلك المحادثات ، فإن الكتاب محتشد كذلك بالملاحظات الذكية واللمّاحة للكاتبة عن طبيعة الصراع وكذلك عن طبيعة علاقات القوى في الدولة الإسلامية في السودان. من ذلك تذكر الكاتبة لقاءها بالدكتور حسن الترابي عرّاب الحركة الاسلامية في السودان والعقل المدبر وراء انقلاب الثلاثين من يونيو الذي انقلب عليه هو ذاته فيما بعد ! ترى الكاتبة أن الترابي كان عبارة عن رجل مشوش الرسالة وتساءلت إن كان ذلك الرجل المشهور بذكائه قد جن أم أن الأمر كان مجرد مراوغة ليحول بينها والكلام ! أياً كان السببب فإن ذلك يشير إلى الطريقة التي كانت تدار بها الأمور في السودان على أعلى مستويات المنظرين فيها وربما التنفيذيين كذلك في حالة الدكتور الترابي. ملاحظة أخرى جديرة بالانتباه أشارت إليها الكاتبة وهي أن الصراعات الداخلية على السلطة بين اسلاميي السودان كانت تنبع من الطموحات الشخصية المتنافسة أكثر منها من الاختلافات الأيدلوجية. وهي ملاحظة جديرة بالانتباه إزاء ما كان يتشدق به اسلاميو السودان من حرصهم على الدين قصاد الداخل السوداني وبراغماتيتهم المكشوفة قصاد الخارج، وربما تستثني الكاتبة في ذلك الدكتور غازي صلاح الدين الذي تصفه بأنه إسلامي حتى النخاع وشديد الولاء للقيم والمباديء التي قامت عليها " الجبهة الاسلامية القومية السابقة أو حزب المؤتمر الوطني الحالي" رغم ما قد يبدو عليه من البراغماتية - والتعبير بين المعقوفتين هو للكاتبة –. تضيف الكاتبة هنا ملاحظة قد تبدو خارج السياق أو غريبة بعض الشيء ، إذ تذكر أن الدكتور غازي هو السياسي السوداني الوحيد الذي عرفته يتواصل منذ البداية عن طريق البريد الالكتروني وبصورة فورية ! هذه الفجوة المعرفية في غالب الأمر هي ما انتهت بالمؤتمر الوطني إلى حزب مترهل عجز عن فهم احتياجات الشباب الذين خرجوا ضده فوعدهم مدير الأمن بالسماح بافتتاح محلات تدخين الشيشة !
وعَوداً إلى وصف الكاتبة للدكتور غازي بالإسلامي حتى النخاع فالحقيقة أن إسلاميي السودان ظلوا إسلاميين على طريقتهم ، أو ربما كانت تلك هي طريقة الأسلاميين على وجه العموم . صدر الكتاب كما ذكر أعلاه في العام 2005 ، وبعد ذلك بعدة أعوام وفي تسريبات موقع ويكيليكس المشهورة وقتها ورد فيما يخص السودان أن الدكتور غازي صلاح الدين التقى المبعوث الخاص سكوت غرايشون ومن ضمن ما قاله متحدثاً عن النخبة الشمالية ( وهي في غالب الأمر في نظره تمثل رهطه من الاسلاميين ) " إننا أقرب ثقافيا لمسيحيي أثيوبيا و اريتريا أكثر حتى من مسلمي الجنوب" ! وعلي كل فلم يكن السيد غازي نسيج وحده في ذلك ، فالسيدة مشاعرالدولب الموصوفة بأنها من قيادي حزب المؤتمر الوطني كانت قد صرحت وقت كانت وزيرة للرعاية الإجتماعية بالحكومة بأن " الجنوب لم يكن يوماً جزءً من الوطن " . وغير بعيد من ذلك صرّح الدكتور نافع علي نافع القيادي الكبير بالحزب الحاكم في ديسمبر من العام 2010 مخاطباً لأمناء الزراع والرعاة بحزبه الحاكم : " وإذا حدث الإنفصال فلن تحدث كارثة ، بل الإنفصال محطة من محطات النصر والإنجاز والفتح الكبير.... إنفصال الجنوب محطة ولادة جديدة لمشروعنا ، وسنخرج منها أكثر عزيمة لهزيمة الآخرين ..!! "
كمواطن سوداني عاش تحت حكم الإنقاذ لثلاثين عاماً أجدني متعجباً بعض الشيء لتعامل الغرب مع حكومة الخرطوم على أنها اسلامية. والحقيقة أن ذلك ربما كان بعض ميل الغربيين عموماً لفهم الاسلام على أنه دين للتطرف ومعاداة الآخر بل ولمعاداة الداخل كذلك كما في حالة نظام الجبهة الإسلامية في السودان ، ويشمل ذلك التدخل في ملبس الناس وفيما عليهم مشاهدته وطريقة حلاقة شعورهم وغير ذلك مما يستدعي كعقوبة جلد النساء والرجال على أقل تقدير. لا ينطبق ذلك بدرجة كبيرة على الكاتبة ، أعني سوء فهم الاسلام ، فهي وكما يتضح من الكتاب لم تتعمق في هذه المسألة ولا كان ذلك من صميم عملها ولاحتى اهتمامها كدبلوماسية أو كسياسية تمتعت بالأفق الواسع والرؤية السديدة فيما خص عملها إنما ببراغماتية مهنية لا تخفى . غير أننا إذا نظرنا للمسألة من منظور مختلف فحكومة الأنقاذ كانت فعلاً حكومة اسلامية إذا ما تمت مقارنتها بحكومات بني أمية والعباسيين في التاريخ الاسلامي والتي ينظر إليها عامة المسلمين في الغالب كعهد زاهر للاسلام !
عودة إلى الكتاب مرة أخرى نجد أن الكاتبة عمّقت صلاتها الشخصية بأطراف عديدة شاركت في مفاوضات السلام السودانية ، لعل أبرزهم كان السيد علي عثمان محمد طه النائب الأول لرئيس السودان عمر حسن البشير وقتها ثم نائب ذات الرئيس ( بلا صفة الأول هذه المرة ) بعد ذلك وكذلك الدكتور جون قرنق ديمبيور قائد الحركة الشعبية لتحرير السودان لواحد وعشرين عاماً وأحد مؤسسيها كذلك، وإن كانت الكاتبة تذكر معرفتها للدكتور جون منذ العام 1998 ، ولكن المحادثات عمقت علاقتها الشخصية به أكثر. تذكر الكاتبة في هذا الإطار أن هناك شخصان فقط ربما كانا أكثر إلماماً منها ومقدرة على الكتابة بتفاصيل محادثات نيفاشا ، وبما أن واحداً منهما قد رحل فإنها لترجو أن يقدم الطرف الثاني ( أي السيد طه )، إفادته ، محفزاً برحيل رفيقه في المحادثات تماماً كما حفّزها هي هذا الرحيل على الكتابة : من الواضح الآن بعد هذه السنوات أن ذلك لم يحدث وغالب الظن أنه لن يحدث أبداً .
تصف الكاتبة الدكتور قرنق بالشخصية المحترمة والمؤثرة ومن ذلك النوع من الناس الذين يشدّون الانتباه وهم يدخلون المكان. وتصفه كذلك بالشخصية ذات الروح المرحة والمستندة في ذات الوقت إلى عقل سياسي قوي وثاقب في النظرية والتكتيك. وترى الكاتبة أن الصعوبات والانقسامات التي عانت منها الحركة الشعبية هي ما جعلت من قرنق شخصاً حذراً يصعب الحصول على ثقته بسهولة. وكرئيس للحركة فقد كان دكتاتورياً في مرات كثيرة كما بدا من وصف الكاتبة وإن لم تستخدم مصطلح الدكتاتورية ، ولكنه في المقابل ، أشارت الكاتبة ، كان يتشاور بانتظام مع زملائه أثناء مفاوضات نيفاشا. إن وصف الكاتبة للدكتور جون قرنق يجعله في مصاف قادة حركات التحرر المتميزين وذوي الرؤية على مستوي العالم ، والحقيقة أنه كان كذلك . لقد فقد السودان ( والكلمات هنا لكاتب المقال ) برحيل قرنق مفكراً كبيراً ورجل دولة حقيقي ربما لم يتسن للسودان على طول تاريخ دولته الوطنية منذ استقلال البلاد أن حكمه رجل برؤيته وسعة أفقه. بالمقابل ربما أدى الرحيل السريع للدكتور قرنق إلى هذه الهالة المحيطة به بعد وفاته كونه لم يدخل في تعقيدات الحكم وتجاذبات السياسة ، وإن كانت فترة الكفاح المسلح وما بثه من آراء وأفكار عبر طرق مختلفة إن بالكتب أو في اللقاءات المكتوبة أو المفتوحة ما يشي بعظمة الرجل ، على الأخص بالنسبة لنا نحن جيل الدولة الوطنية في السودان في عز تدهورها إذ يمتن علينا حكام البلاد بما هو مطلوب منهم كتوصيل الكهرباء مثلاً وتعبيد الشوارع ، بل ، ولغرابة الأمر وليس طرافته ، يمتنون علينا بأنهم علمونا أكل البيتزا !
باختصار تصف الكاتبة جون قرنق بأنه كان من طبقة الفنانين . ولكنه فنان لم يكن سطحياً أبداً بحسب تعبيرها في الحالتين.
تروي الكاتبة كذلك كيف أن قرنق كان مختلفاً عن رجال الدينكا قبيلته في نظرتهم للمرأة وتعاملهم معها بحسب رواية زوجته ربيكا، بالاحترام الذي كان يبديه لها ومعاملته لها كنِد وكذلك بدعمه لها بلا تردد. ثمة قصة أخرى هنا ، ففي بور مسقط رأس الزعيم كان الدينكا يصرون عليه كقائد وزعيم أن يتزوج المزيد من النساء بوصفه زعيماً حقيقياً ، بينما كان قرنق بالمقابل يرد بأن هذه المسألة خارج النقاش باعتباره مسيحياً والإخلاص لزوجته هو العامل الأكثر أهمية.
عند النظر للجهة الأخرى تشير الكاتبة إلى أنه وبينما كان قرنق كاريزمياً ومنفتحاً فإن طه كان حذراً بل وحتى خجولاً في بعض اللحظات. وتري أن مظهر السلطة الصامتة كان نابعاً من دوره وراء كواليس الحكم والحركة الإسلامية. وتشير الكاتبة إلى أن العلاقة المريرة بين طه والترابي كانت جيدة لعملية السلام ، بل أنها تذكر أن علي عثمان أخبرها أن مفاضات السلام مع الجنوب كانت ستكون مستحيلة إذا كان الترابي في موقع السلطة . رغم ذلك رأينا نحن السودانيون كيف تحالف الترابي مع قرنق في العام 2001 ووقع معه اتفاقية وصفها الرئيس البشير وقتها بوثيقة العار وقال عنها السيد علي كرتي القائد الأسبق لقوات الدفاع الشعبي ثم وزير الخارجية بعد ذلك " إن المجاهدون بريئون من الوثيقة التي تنصلت عن الشريعة الاسلامية " ! وليس من غرض هذه الكتابة بالطبع الحديث عن أفكار وأفعال الرئيس المخلوع البشير الإسلامية أو نشاطات السيد علي كرتي ، وفي الانترنت وأرشيف وحكايات السودانيين متسع من ذلك .
ترى الكاتبة أن طه على المستوي الشخصي كان انسحابياً نوعاً ما . عنيداً وذو عزم لتحقيق مخططاته ومتأنياً في ذلك. لم يقم بالمجازفات ولم يكن على عجلة من أمره. ولا تنسى الكاتبة الإشارة إلى أن طه نسّق بوصفه وزيراً للتنمية الاجتماعية في وقت من الأوقات أنشطة عدة وزارات سعياً وراء أجندة ما عرف بالمشروع الحضاري ، أي الأجندة الأسلامية . وفي النهاية ترى أن رؤيته للسودان هي جدول الأعمال الإسلامي الخاص بالجبهة الإسلامية القومية وتصف كيف كان يتحدث بشغف عن هذه الرؤية .
كمواطن سوداني عانى من تبعات هذا الشغف لثلاثين عاماً أدت في آخر الأمر إلى انفصال بلاده وإلى الحروب العبثية بل وفي آخر الأمر إلى ماهو ماثل من فشل الدولة أجدني أتعجب من كيف استمر هؤلاء الناس يتحدثون عن مشروعهم الحضاري إلى آخر الأيام ، بل إن طه هذا هو نفسه من هدد الشباب عند ثورتهم التي بدأت في نهايات العام 2018 واستمرت بعدها علي حكم الدكتاتورية المتطاول ، برعايته في أحايين كثيرة، هددهم بكتائب الظل التي ستقوم بسحلهم في الشوارع ، وهو ما قد حدث بعد سقوط حكومته بطريقة أو بأخرى في مجزرة اعتصام القيادة العامة بالخرطوم وفي أماكن أخرى من البلاد.
تتعرض الكاتبة إلى خشية الدولة المصرية وقتها من أن تؤدي ممارسة حق تقرير المصير لجنوب السودان إلى الإنفصال ، وترى أن مرَدّ هذه الخشية حرص مصر على مصالحها الاستراتيجية في مياه النيل ، وإن كان ثمة أمر جدير بالذكر هنا فهو ما ذكرته الكاتبة من أن المصريين انزعجوا ونأوا بأنفسهم بعيداً عن عرض قدم لهم في ربيع 2002 لمنحهم وضعية المراقب في الجولة الأولى من مفاضات مشاكوس، وتجزم الكاتبة أن المصريين لابد ندموا على ذلك بعدها. وربما يشابه ذلك ما رشح بعد سنوات من ذلك في شأن سد النهضة الأثيوبي ورفض المصريين ( والسودانيين بالطبع ! ) عرضاً أثيوبياً أيام السد الأولى بالدخول في شراكة من نوع ما.
ترد في الكتاب وبتفاصيل معقولة عن دورها أسماء عديدة كان الواحد منا يسمع بها أيام المفاوضات وبعضها في الحقيقة سمعت بها لأول مرة بعد قراءتي للكتاب ، من هذه الأسماء جاك دانفورث المبعوث الأمريكي، كلير شورت ، يان برونك ، شارلي سنايدر ، ألان قولتي ، سيمبويو ، بونا ملوال ، كول دينق وغيرهم من الأسماء المعروفة وغير المعروفة أيضاً.
بعد قراءة الكتاب يترسخ لدى القاريء كيف أن الدكتور جون كان صادقاً في حرصه على وحدة السودان ورؤية السودان الجديد مقابل حرص السيد علي عثمان ومفاوضو الحزب الحاكم وقتها على العموم على تطبيق رؤيتهم الاسلامية للدولة أو قل رؤيتهم للشريعة وإن أدى ذلك إلى انفصال الجنوب، وهو ما قد حدث في آخر المطاف . يخرج القاريء بانطباع مفاده أن الجنوبيين قد دفعوا دفعاً أو أنه لم يكن أمامهم خيار آخر غير تفضيل الانفصال ، كان ذلك باصرار الحزب الحاكم على عدم استثناء الخرطوم العاصمة من تطبيق الشريعة أو بما أظهره هذا الحزب من تهافت على السلطة بعد ذلك باحتكار الوزارات الأكثر أهمية وغير ذلك من السلوكيات التي يجدها القاريء موثقة عبر صفحات الكتاب . وعموماً فقد فقدت رؤية السودان الجديد الكثير من زخمها بالرحيل المفجع لصاحبها ومؤسس الحركة وغياب كاريزميته العالية ، فقد كان خلفه سلفاكير ميارديت انفصالياً صريحاً من زمن بعيد ، وربما كان في ذلك الأمر واقعية منه تجاوزها الدكتور قرنق برؤيته المتجاوزة لحال السودان وقتها كونه كان مفكراً ذو أفق وعقل ثاقب لا شك في ذلك.
وفي مقابل ذلك فإن المرء ليعجب من هذه الشريعة التي تشدق ويتشدق بها اسلاميو السودان ، إذ ما أن تسنى لهم حكم السودان بالحديد والنار كما في المصطلح المشهور إلا وكثر الفساد وفاحت أخباره وولغ فيه نفس الناس الذين حاربوا في الجنوب جهاداً لأجل هذه الشريعة ذاتها ، بل وأثبتت المحاكم وقتها وعلي ضعف حرية القضاء ، أثبتت الكثير من حالات الفساد غير المسبوق في تاريخ الدولة السودانية بل وربما من عهد بعانخي ، بل أن بعض أناسهم قد ضبطوا بالفواحش ولكن شيئا من هذه الشريعة لم يطبق عليهم. نشرت بعض الصحف مرة أن رجلاً ستتم محاكمته لأنه قد سرق خلاط فواكه منزلياً وكذا فتاةً لثبوت سرقتها دجاجة مجمدة من إحدى المحلات بالخرطوم.
يتعرض الكتاب كذلك للحروبات الأخرى في السودان غير حرب الجنوب ، وذلك لتداخل هذه المسائل مع الحرب في الجنوب ثم مع المفاوضات كذلك، فتذكر الكاتبة بعضاً من أحوال النزاع في جبال النوبة ولكن الإشارات الأكبر والأوضح في الكتاب كانت لأزمة دارفور التي تزامن صعودها مع استمرار عملية التفاوض في نيفاشا. والحقيقة فإن الكاتبة تذكر بوضوح محمود وأكاديمي بأن التوترات الإثنية في إقليم دارفور الغربي تعود إلى عهود ماقبل الإستعمار، وتذكر هنا أن القضايا المتصلة بالمياه وحقوق الرعي والسلطة السياسية دائما ما كانت تحل بالطرق السلمية إلى حد كبير بين الفور والمساليت والتنجر الذين يمثلون الرعاة المستقرين من جهة والعرب الذين كانوا بقارة (رعاة بقر) أو أبّالة ( رعاة إبل) . وتشير الكاتبة إلى أنه ومنذ ما قبل الاستقلال فقد كانت الضغوط الاقتصادية والاجتماعية تتراكم سلفاً لينتج عنها بعد ذلك في مطلع الألفية وما بعدها ما سميت ب" أسوأ كارثة إنسانية في العالم" . وفي فترة المجاعة في العام 1984- 1985 تذكر الكاتبة أن حكومة الخرطوم كانت في حالة من الضعف الشديد مما أدى إلى عجزها عن الإدارة وكذا القمع في الإقليم فظهرت قوات الفور والمساليت للدفاع عن النفس والمليشيات القبلية التي حصلت على السلاح بسهولة من تشاد وليبيا ودول الجوار الأخرى . تشير الكاتبة كذلك إلى أن أنشطة بعض المليشيات خاصة في الشمال البدوي عُدّت من قبيل النهب المسلح تقريباً ، ولكنها في النهاية تطورت إلى ما سمي بالجنجويد ، وتستشهد الكاتبة هنا بكتاب " دارفور : تاريخ جديد لحرب طويلة" ( وترجمة عنوان الكتاب هي من عندي ) لمؤلفيه جوليا فلنت والكس دي وال اللذان يريان أن تزاوج الحركة المسماة بالتجمع العربي – القائم على تفوق العرب والإسلام المتطرف - مع تدفق السلاح هو تزاوج قاتل.
تذكر الكاتبة أن استخدام المليشيات العربية سيصبح منهجياً مع مجيء نظام الجبهة الاسلامية بالإنقلاب العسكري في العام 1989 حيث أصبح من الصعب بعدها التمييز بين ما يسمى قوات الدفاع الشعبي والمليشيات القبلية والجنجويد.
فيما خص سلام دارفور ذكرت الكاتبة أكثر من مرة سعي الدكتور جون للتدخل لحل الأزمة في بداياتها ، بل تذكر أنه لم يكن يمانع من حيث المبدأ في ضمها للمفاوضات ولكن على أن تتحدث الحركة الشعبية باسم كافة الحركات المتمردة في طاولة المفاوضات وهو ما رفضه السيد شريف حرير، أما فيما خص قائد التمرد الدارفوري الآخر وقتها الدكتور خليل ابراهيم فتذكر أن الاختلافات الايديلوجية بشأن الدولة والدين لم توفر أرضية مشتركة مناسبة للانطلاق . بالمقابل كان السيد علي عثمان والحكومة على وجه العموم رافضين تماماً لهذه الفكرة. تذكر الكاتبة هنا أنه وفي نوفمبر من العام 2002 حضر السيد شريف حرير من قيادات التمرد في دارفور وطلب ضم دارفور إلى مفاوضات الإيقاد وتذكر كذلك أن طلبه قوبل بالرفض من جميع الأطراف !
وتشير الكاتبة إلى أنه عندما كانت المحادثات رفيعة المستوي بين طه وقرنق علي وشك أن تبدأ في يوليو 2003 أشار قرنق بإيجاز إلى إمكانية أدراج دارفور والشرق ولكن طه رفض ب" لا " قاطعة.
يقولون إن التاريخ لا يكرر نفسه بذات النسق ، ولكنه في حالة السودان يكرر نفسه وبسماجة ! في المفاوضات التي أفضت إلى توقيع اتفاقية أديس أبابا للسلام في الجنوب في العام 1972 اقترحت حركة الأنانيا إدراج كافة أقاليم السودان في التفاوض مع الحكومة وقتها وعدم الإكتفاء بمناقشة مسألة الجنوب ، الذي حدث أن الوفد الحكومي المفاوض رفض ذلك رفضاً قاطعاً !
إن كان ثمة نقطة جديرة بالانتباه هنا فيما خص مسألة دارفور ودور السيد طه باعتباره النائب الأول بل وربما عراب النظام بعد إقصاء الدكتور الترابي فهي ما ذكرته المؤلفة من أن أحد المسئولين الأجانب (كينقيبي) ذكر لها أنه قد لاحظ أن ردود فعل طه أثناء زيارته دارفور تشير إلى أنه لم يكن على علم تام بمدى الفظائع التي ترتكب في دارفور ! وتعزز الكاتبة هذا الرأي بقولها إنها أدركت صعوبة تصديق طه للقصص التي روتها له هي ذاتها بل وشكّك في مصداقية التقرير الذي استشهدت به عند مقابلتها له والتباحث في الأمر! ولما سألته عن رأيه في القصص التي رويت لها شخصياً تقول الكاتبة : أقر الرجل بأن هذه الممارسات غير مسبوقة وأنها ضد تعاليم القرآن ويجب أن تتوقف ! هل يسعنا تصديق ذلك ؟ أي تصديق مشاعر طه وجهله بما كان يحدث في البلاد وقتها ؟ ربما ، بل ولعله من المؤكد أن السيدة هيلدا كانت صادقة فيما ذكرته وأحسّت به . ومن المؤكد هنا أن جهل السيد طه بما كان يدور هناك في دارفور من الفظائع هو جهل بالطريقة وليس بالفعل ذاته ، فالحرب كانت معلومة للجميع ، ولكن مستوى الفظائع التي ارتكبت والطريقة التي أديرت بها هذه الحرب هو ما أشارت إليه الكاتبة بجهل السيد علي عثمان .
الكتاب مكتوب بمنهجية أكاديمية معقولة توسلت ضبط المراجع وذكر التواريخ وتحديد الأسماء والحرص على النقل السليم والالتقاء بالمعنيين ومن قد يضيفون لمادة الكتاب ما تيسر ذلك.
تمثل هذه القراءة إضاءة من وجهة نظر كاتب العرض ولا تدعي على الأكيد الإحاطة بكل ما ورد في الكتاب ، إذ أن الكتاب غني بالمعلومات والتفاصيل التي يصعب استعراضها كلها دون الوقوع في الاسهاب والتطويل، ولكنه على كل حال يلقي الضوء على مقدار الفرص الضائعة على البلاد بسبب قصر رؤية السياسيين وقبل ذلك العسكر الذين ابتلى الله السودان بحكمهم .
السيدة هيلدا جنونسون من مواليد العام 1963 في أروشا بتنزانيا حيث كان والدها يعمل وقتها ، ثم هي وزيرة التعاون النرويجي وقت انخراطها في مساعي إحلال السلام في السودان ، كما عملت بعد انفصال جنوب السودان عن السودان الأم واعلانه الاستقلال كمبعوث خاص للأمين العام للأمم المتحدة في حنوب السودان ورئيسة بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان .
ثمة بعض الأخطاء أو قل الهفوات الطباعية المحدودة وبعض الأخطاء في بعض التواريخ الناتجة في الغالب عن أخطاء طباعية هي الأخرى ولكنها لا تفوت على القاريء لوضوحها في السياق.
أود أن أختم هنا بما ذكرته الكاتبة في الصفحة 271 ونجده في المراجع منسوباً للسيد ياسر عرمان من أنه " يعتقد كثير من الجنوبيين أن حكومة الخرطوم مشوهة بالقدر الذي يصعب معه إصلاحها" . وهو ما قد ثبت عملياً بعد ذلك كما نرى من واقع الحال في السودان ! وكذلك ما ذكرته الكاتبة عن مقاربة الخرطوم العسكرية لحل مشكلة دارفور في عهد وزير الداخلية السوداني الفريق عبد الرحيم محمد حسين حيث تذكر ما يلي: " لم تمض الحكومة قدماً في هذه الخطة في دارفور – لكنها كشفت عن نمط التفكير في الخرطوم والفشل في التعلم من دروس الماضي " !
نعم ، فشل مستمر في التعلم من دروس الماضي !

wmelamin@hotmail.com

 

آراء