انظروا إلى “الحزب الحاكم” متورطاً
خالد التيجاني النور
21 March, 2013
21 March, 2013
khalidtigani@gmail.com
لولا أنني أعرف الأستاذ فيصل محمد صالح زميلاً عزيزاً غاية في التهذيب وصحافياً مهنياً متميزاً وكاتباً رصيناً لما ترددت في وصف إيقاعه ب"المؤتمر الوطني" في "ورطة عظيمة" بأنها فعلة تنطوي على قدر غير قليل من"اللؤم السياسي", ف"المؤتمر الوطني" الذي تسميه الصحافة من باب التدليل والحذلقة أحياناً ب"الحزب الحاكم", وقع جراء ذلك في "شر أعماله" وفي مأزق لن يكون خروجه منه ممكناً أو سهلاً بغير كلفة عالية تفقده برجه "العاجي" أو "الصدقية" التي يغدقها على نفسه.
والقصة أن فيصلاً, بحس صحافي عال, التقط خبراً مر به الجميع بلا اهتمام مع خطورة دلالته, وقد تكسرت النصال على النصال مع كثرة الأخبار المفجعة والموجعة في بلادنا حتى لم يعد يبالي بها الكثيرون. فقد تواترت أنباء صحافية أن "المؤتمر الوطني" يتباهى بأن الحزب الشيوعي الصيني تبرع له بأموال لبناء برج فاخر من الطوابق ذات العدد ليكون مقراً لرئاسته. وما كان في ذلك من غبار لو أن مديري "المؤتمر الوطني" اتسموا بقدر من التواضع وعدم مغالطة الواقع واعترفوا أن نظامهم مثل نظام حليفهم الصيني نظام حزب واحد يملك أن يفعل ما يشاء دون أن يتشدق بالديمقراطية وإن أقام مسرحاً لها, ويا دار ما دخلك شر.
وبمناسبة العلاقة الاستراتيجية التي يقول المؤتمر الوطني "الإسلامي" إنها تربطه بالحزب الشيوعي الصيني (....) ضع ما يناسبك في الخانة الخالية, والتي لم نسمع بحمد الله فتوى ضدها مما يؤكد أنها حلال بلال, فإنني اقترح على الرفاق هنا من باب الترفيه أن يحولوا تنظيمهم إلى الحزب الشيوعي الصيني – فرع السودان عسى أن ينالهم رضا "المؤتمر الوطني" ويتركهم في حالهم او يجدوا لهم نصيباً من خيرات بكين, وربما يصبحوا شركاء في السلطة. بيد أن ما يحير المرء حقاً ولا يجد له تفسيراً لماذا يعشق حزبنا الحاكم الشيوعية الصينية ويعتبرها حليفاً استراتيجياً و"يكجن" الشيوعية السودانية ويعتبرها رجساً من عمل الشيطان.
ما علينا نعود إلى موضوعنا ففي خطوة تدل على حسن إدراك وحس وطني عال وجه فيصل بلاغاً صحافياً مفتوحاً إلى مجلس الأحزاب ثم أتبعه بإجراء قانوني برفقة محامين في مواجهة "المؤتمر الوطني" الذي خرق القانون الذي يجرم تلقي الأحزاب السياسية أموالاً من جهات أجنبية. لأن في صنيعه الحسن هذا اختبار جدي للنظام السياسي, وللنظام العدلي وفق قواعد اللعبة التي وضعها "المؤتمر الوطني" نفسه لا بقواعد لعبة غيره, كما أن من شأن هذه الخطوة أن تكشف عيوبه على رؤوس الأشهاد إن تنكب طريق تطبيق القانون.
ويحي فيصل بخطوته هذه سنة حسنة في السعي لتأسيس حكم القانون وشفافية الممارسة السياسية, وإن بدا الطريق طويلاً, إذ يخطئ المعارضون بانتهاج سياسة عدمية باعتزال هذا الدور المهم, وما من شئ أكثر راحة للطبقة الحاكمة من تركها تطلق وعوداً وشعارات ثم لا تجد من يختبر جديتها. صحيح قد لا يكون المناخ القانوني ملائماً تتوفر فيه شروط العدالة الواجبة, لكن الإصلاح والتغيير لا يأتي بالزهد والجلوس على الرصيف, بل بالخوض في وحل الواقع حتى ينبلج الصباح.
ومأزق "المؤتمر الوطني" يأتي من إصراره على الزعم أن البلاد تعيش في بحبوحة نظام ديمقراطي كامل الدسم, وفي دولة يحكمها القانون, وأنه حزب ديمقراطي يحكم بأغلبية منتخبة شعبياً, ليس ذلك فحسب لا يفتأ قادته يتحدون معارضيهم بأن ينازلونهم في الانتخابات المقبلة, ومن يسمع مثل هذه التصريحات الولهى بالديمقراطية والاحتكام إلى الاختيار الشعبي يكاد يظن آثماً أن "المؤتمر الوطني" جاء إلى السلطة محمولاً على أعناق الجماهير متناسياً أنه ربيب نظام جاء إلى الحكم بإنقلاب عسكري, وأنه حزب تم تصنيعه لإكمال الديكور السياسي للطبقة الحاكمة حتى أن أغلب الإسلاميين الذي صنعوه يفضلون الجلوس على الرصيف ولعنه في الظلام بدلاً من الانخراط فيه ولذلك ظلت تسيطر عليه وتحتكره فئة قليلة على مدار أكثر من عشرين عاماً. والسؤال ما دام مديرو الحزب الحاكم مولعون إلى هذه الدرجة بالديمقراطية والانتخابات فلماذا لم ينتظروا صناديق الاقتراع في العام 1989؟.
تصرف "المؤتمر الوطني" وهو يقبل الهدية الصينية دون أن يرف له جفن, بل ويتباهى بإعلان ذلك, في مخالفة واضحة لأحكام القانون التي تجرم حصول الأحزاب السياسية على هبات أجنبية, وهو قانون هندسه دهاقنة الحزب وليس غيرهم, تصرف ينم عن شئ واحد الفقدان الكامل للحس السياسي, وتدني الكفاءة والحنكة السياسية, وهو على أي حال يكشف العقلية الحقيقية التي يتعامل بها المؤتمر الوطني مع نفسه قبل غيره, فهو لا يرى نفسه حزباً سياسياً مسؤولاً وواعياً عليه أن يحسب تصرفاته بدقة وأن يتحرى احترام قواعد اللعبة التي صنعها بنفسه, بل يتعاطى السياسة بعقلية مصلحة حكومية ملحقة بالجهاز التنفيذي للحكومة وليس قائداً لها كما يفترض.
ولذلك يتعامل مديرو "المؤتمر الوطني" مع حزبهم باعتباره جهازاً بيروقراطياً حكومياً لا يستطيع الفطام من ثدي الامتيازات والمساعدات الحكومية المفتوحة خزائنها أمامه بلا قيود, بدلاً من أن يستمد وجوده الحقيقي من قواعد شعبية فعلية تمده بأسباب الحياة وتضمن له الوجود خارج مظلة السلطة. وما يبدو من وجود قاعدي لا يعدو أن تكون تحالف مصالح معهود طالما خبره الناس في ظل الأنظمة الشمولية, وهي مصالح ليست بالضرورة كلها ذاتية, ولكن تقتضيها أيضاً تحقيق مصالح جماعات اجتماعية تتحالف عادة مع أي سلطة تملك الثروة لتحقيق مطالب ومكاسب معينة, وهي ولاءات متحولة لن تصمد بمجرد فقدان السلطة لأنها ستتحول إلى صاحب السلطة الجديد. ولذلك تتبخر مثل هذه الأحزاب الاصطناعية الشمولية بمجرد خسارة السلطة.
والمازق الحقيقي أن مديري "المؤتمر الوطني" يتعاملون مع استحقاقات العمل السياسي ويتعاطون مع خصومهم باعتباره حزباً صنع على عين السلطة, وأنه وجد ليخلد في السلطة بأية وسيلة, ولا يتصور نفسه لأي سبب خارج أسوارها أو بعيداً عن ظلها, ولا يبدو مستعداً لأي خيار غير تصور نفسه جزءً من لعبتها, ومن أجل ذلك يبدو مستعداً للذهاب بعيداً ليضمن الخلود فيها, وما إبداء استعداده لمنازلة خصومه انتخابياً إلا لأنه يضمن أن تكتيكاته المعروفة ستحقق له هذا الهدف, وفكرة تداول الحكم أو خروجه من اليد لأي طرف آخر, والتحول للمعارضة يبقى مجرد حلم ليلة صيف. فالطبقة الحاكمة لم تقبل بتدوير السلطة وتبادلها سلمياً حتى داخل "المؤتمر الوطني" نفسه ولا حتى في "حركته الإسلامية" فكيف ينتظر أن تقبل للأخرين ما تحرمه حتى على مواليها.
بتلك العقلية لا يرى "المؤتمر الوطني" نفسه ملزماً بقواعد اللعبة حتى على ضوء تلك القوانين التي وضعها بنفسها معطياً نفسه الحق تجاوزها متى ما شاء لأنه يعرف أنه ليس هناك من يستطيع محاسبته أو مساءلته على الخروج عليها, ولذلك يبقى الدستور والقانون مجرد كلمات منمقة وهبات تمنح أو تمنع حسب حسابات السلطة ومزاجها السياسي, وليست حقوقاً اصيلة بمقتضى العدالة والنزاهة, وهي طريقة تحاكي فعلة مشركي مكة الشهيرة الذين يقال أنهم كانوا يصنعون آلهتهم من العجوة فإذا جاعوا أكلوها.
وليست تلك هي المكشلة فحسب فقادة الحكم يعطون أنفسهم الحق في محاكمة خصومهم على الهواء, يتهمونهم بتصريحات صحافية, ثم يحاكمونهم مباشرة, ثم يطلقون الأجهزة التنفيذية لتنفيذ أحكامهم, وأما من يفترض بهم إقامة العدالة وحراستها و فلا عزاء لهم إذ يبدو أنهم مشغولون جداً بمطاردة صغار اللصوص وبؤساء المجرمين. إذ طالما "شالت" الحكومة حال خصومها سواء كانوا سياسيين أو جميعات مجتمع مدني معترف بها رسمياً, أو صحافيين أو غيرهم تطاردهم بتهم تلقي أموال أجنبية, وتزيدها من تهم الخيانة والعمالة, والسؤال ما الذي يجعل ما يجرمه قانون الحكومة نفسها حرام على الجميع وحلال عليها؟!!
كيف سيبرر "المؤتمر الوطني" فعلته بتلقي أموال أجنبية ويعلنها جهاراً نهاراً دون أدنى وازع بمخالفة القانون أو المسؤولية الأخلاقية, وهو الذي طفق يوزع شهادات الوطنية على البعض ويحجبها عن بعض مواطنيه لمجرد اختلافهم معه في الرأي, أهذه هي عدالة الشريعة في ظنهم التي طالما تغنوا بها شعارات وأزوروا عن استحقاقاتها , ألم يقرأوا مقومات ومقتضى العدالة التي أثبتها الحق عز وجل في كتابه العزيز "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا, اعدلوا هو أقرب للتقوى", هل بعد هذا الهدي الواضح من سبيل لجرأة على الحق باسم رب العالمين.
صحيح يستطيع "المؤتمر الوطني" ببعض الفهلوة, وكثير من قوة العين الخروج من هذه الورطة, أو ببعض الذكاء إن وجد من يحسن تدبر سبيل يجنبه هذا المازق اللزق الذي وجد نفسه فيه متلبساً لأن مديريه لا يحسنون التصرف خارج دائرة العقلية البيروقراطية, ويثبتون أكثر من ذلك انهم لا يأبهون بالقانون أو لا يلقون له بالاً, و"أن الأمر كله عندهم صابون", فالديمقراطية التي اكتشفوا محاسنها أخيراً وينادون الخصوم لمنازلتهم باسمها انتخابياً, هي مسألة أكثر من مجرد صناديق اقتراع, هي قبل ذلك سيادة حكم القانون, حقاً لا قولا, وتكافوء الفرص, والشفافية والنزاهة, وأن ينطلق الجميع للسباق من منصة واحدة, ولكن أن يقيد أرجل وايدي خصومه ويعصب عيونهم ثم يدعوهم للتسابق فذلك مما يثير السخرية.
وفعائل "المؤتمر الوطني" المنكرة هذه لا يرميه بها خصومه ممن يستسهل قادته اتهامهم حتى بالخرج من الملة, بل يأتي من أقربين لا يستطيعون التشكيك في نياتهم تجاه الحكم أو ضمهم في زمرة الخوارج, وها هو الأستاذ الطيب مصطفى يكتب في عموده منتقداً تضييق الحكومة وحزبها الحريات على الأحزاب السياسية بما فيها للمفارقة حزبه الذي يعتبره كثيرون وجهاً آخر للمؤتمر الوطني, أو حتى الحزب الحقيقي الخفي لبعض كبار قادته.
انتقد الطيب مصطفى بشدة نائب رئيس "المؤتمر الوطني" د. نافع ونعى عليه تخطي الحدود في معاركه التي لا تنتهي بانتقاده لقوى المعارضة المصرية التي نعتها بعدم الديمقراطية لمعارضتها لحكم مرسي في وجود رئيس حزب العدالة والحرية الحاكم بمصر الذي نأى بنفسه عن الخوض في ذلك, وسخر الطيب من الديمقراطية المزعومة في السودان قائلاً له بالحرف"لن تستطيع يا نافع أن تقنعنا نحن في الأحزاب السودانية أنك تتيح لنا ما يمكننا من مزاولة العمل السياسي الديمقراطي, وانك وحزبك وحكومتك ترموننا في اليم مكتوفين وتأمروننا ألا نبتل بالماء".
وتساءل عن كيفية ممارسة العمل السلمي الديمقراطي, بما يقطع الطريق على الحركات المسلحة, والأحزاب ممنوعة من مخاطبة جماهيرها إلا من داخل دورها. بالطبع في الوقت الذي يسرح فيه المؤتمر الوطني ويمرح في طول البلاد وعرضها بإمكانيات الشعب التي تتحكم فيها الحكومة, وباحتكار وسائل الإعلام الحكومية كافة لأنشطة "المؤتمر الوطني". ووجه الطيب مصطفى سؤالاً حارقاً هل كان مديرو المؤتمر الوطني سيرضون لأنفسهم هذه الحالة من تكميم الأفواه والقدرات إن كانوا في المعارضة, وتساءل عبثاً عن موقع ما يحدث عن المشروع الحضاري, وعن عدالة الإسلام وشريعته؟.
كل هذه اسئلة منطقية, ولكن المشكلة إلى من توجهها, فالطبقة الحاكمة تفترض أن المطلوب من معارضيها أن يسبحوا بحمدها وأن يمكونها من الخلود في السلطة, لا أن يعارضوها, لأنه تكرمت عليهم وسمحت لهم بقدر محدود من النشاط, يضيق ويتسع وفق حساباتها, لا بحكم الحرية المكفولة بالدستور, ولا بحق القانون المفترض تساوي الجميع أمامه, وتقتضي قواعد الشريعة الحق أن الجميع سواسية أمام القانون لا فرق بين رئيس ومرؤوس "ولو كانت فاطمة بنت محمد" دعك من هوى أدنى من مقامها بما لا يقاس. فالحرية حق كفله الحق عز وجل لعباده, "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً" والحق في الحرية الذي يعتقد هؤلاء أنها منحة يملكون أن يعطوها أو يمنعونها لا يمكن عدادها في باب الحرية أصلاً, وتفقد قيمتها ابتداءً عندما تصبح هبة.
وما يثير الاستغراب حقاً ليست هذه التغول على مقاصد الإسلام وتجير شعاراته لصالح فئة لا ترى لوجودها في السلطة بديلاً, بل هذه القدرة العجيبة من الجرأة على رب العالمين, هؤلاء الذين ينصبون أنفسهم قضاة باسمه تعالى ليمنعوا على خلقه ما لم يمنعه عليهم. ويختصرون في نقائصهم الإنسانية كل قيم الدين حتى باتوا بفعائلهم هذه يصدون عن سبيل الله حقاً. لا نريد أن نفسد على قادة الحكم بهجة سلطتهم, بل لدينا رجاء واحد افعلوا ما يحلو لكم فقط رفقاً بالإسلام, ورحمة بعباد الله.
يواجه قادة المؤتمر الوطني مأزق أخلاقياً قبل ان يكون دينياً, وزد عليه مأزقاً وطنياً فلو ان حال البلاد بعد ربع قرن من سيطرة الطبقة الحاكمة عليه كان مما يسر لقلنا لا تثريب عليهم و"مبروك عليهم" أما وان حال البلاد مائل إلى درجة لا تحتاج إلى مغالطة الواقع سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ويواجه بوادر تحولات اجتماعية خطيرة, وتفككاً غير مسبوق بعد تقسيمه, وانفلات أمني توشك أن يفقد الدولة السودانية معنى وجودها, فذلك كله أدعى لأن يوقف مديرو "المؤتمر الوطني" الأسلوب البهلواني الذي يحاولون به معالجة أمور البلاد الخطيرة التي لا تحتمل الجدل البيزنطي, ومن المؤكد أن قادة "المؤتمر الوطني" يدركون في قرارة أنفسهم أكثر من أي طرف آخر الهاوية التي يقودون إليها البلاد.
والحديث عن الانتخابات القادمة باعتبارها هي الحل, ترف في غير محله, فحال البلاد لن ينتظر انتخابات لا تتوفر لها أدنى الشروط الموضوعية لتستحق أن يراهن عليها باعتبارها مبادرة جدية. كما أن الأصرار على هذا السيناريو الانتحاري التمسك بالسلطة بأي ثمن ولو كان ذهاب ريح ما تبقى من الوطن لن يورثهم إلا خسارة في الدنيا قبل الآخرة, ومن العظات في التاريخ وفي الواقع المعاصر ما يغني, والشعوب أبقى من حكامها ولن تنتظر حتى تساق إلى هذا المصير البائس وهي تنظر يائسة.
ولكن من يقنع مديرو "المؤتمر الوطني" أن الأمر لا يتعلق بصراع مستميت للتمسك بالسلطة مهما كان الثمن في مواجهة معارضين, بل يتعلق اساساً بمسؤولية تجاه مواطنيهم الذين لا ينبغي أن يدفعوا ثمن تنازع عبثي على السلطة بين المتناحرين عليها.
عن صحيفة إيلاف السودانية
Khalid Tigani [tigani60@hotmail.com]