لم يحوج الأديب السياسي هنري كسنجر الشعوب التعمق في فحوى المقاطعات التي تعلنها الولايات المتحدة ضد الدول الآبقة أو الخارجة عن إرادة المجتمع الدولي، إذ لفت النظر إلى جدواها بقوله "ليس من مصلحة الولايات المتحدة أن تحل أي مشكلة في العالم، لكن مصلحتها أن تمسك بخيوط المشكلة وتحرك هذه الخيوط حسب المصلحة القومية الامريكية." إن "المصلحة القومية الأمريكية" كما يراها المحللون تقتضي الإبقاء على نظام الخرطوم في "حاله الراهن،" لا هو قادر على إحداث ضرر أكبر للمنطقة ولا هو عازم على اتخاذ خطوات جادة نحو الإصلاح، بمعنى أنها تُّرَّغِبه لكنها لا تعطه ما يعينه على الخروج من ورطته. لأنها إن تركته أحدث ضررا أكبر من في المنطقة، إن فكت اسره بالكلية أطلق يده وامعن في إهانة شعبه، لأنه ببساطة لا يملك رؤية أخلاقية تهيئ له فرصة إحداث تسوية سياسية، ولا يملك استراتيجية تنموية توفر له فرص التعافي من أمراض التخلف والعنصرية. وها هو صباح اليوم يطالب المجتمع الدولي بفرض عقوبات علي حركة تحرير السودان، عوض عن انتهازها فرصة لإحداث تسوية وطنية شاملة. حتي لو ابتلعت الارض حركة العدل والمساواة، فإن قضايا التهميش والظلم التاريخي تظل ماثلة بل معيقة لإمكانية السودان النهوض بجناحيه (الشرق والغرب) ورجليه وصدره ورأسه. إن انتاج مشروع وطني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية وللنهضة عموما يقتضي حتما فك الارتباط بدول المشرق التي ستتحول قريبا، كما يري المراقبون، الي كانتونات طائفية متحاربة و متقاتلة : سنية ، شيعية ، كردية ، علوية، آشورية ، تركمانية ، ايازيدية ، درزية ، مارونية الخ. وهي إذ تشكل عبئا معنويا تحرم السودان من فرصته للاستفادة ماديا من موقعه الاستراتيجي. في الوقت الذي يسعي فيه النظام لاستيلاد دولة وهمية لا تحمل اي مقومات طبيعية شمال شندي، كان من المفترض ان تحث خبراء التخطيط الحقيقيين --وليس العشوائيين-- لإنشاء منطقة حرة في الشرق يمدها خط سكة حديدية بالبضائع التي ترد اليه من قلب افريقيا المنغلقة او التي لا تجد منفذا علي البحر. هذا هو شريان الحياة الطبيعي الذي لا يحتاج الي ذكاء بقدر ما يحتاج الي زكاء او صدق مع الذات. وإذ أن التحول الاقتصادي لا يحدث "لمجرد "اتخاذك قرار سياسي،" كما يقول الدكتور وجدي كامل، إنما انعتاق وإعادة توجيه ثقافي يهيئ لاستشراف رؤية تنموية متكاملة الأبعاد. يقول القاضي مجدي محجوب "يجب ان ننضم لمنظمة الكومونولث حيث الدعم الفني في مجالات التكنولوجيا و التعليم العالي و البحث العلمي ، و يا حبَّذا لو حلقنا ايضا بجناح ايسر فرانكوفوني ، ولذات الأسباب تضم الهضبة الحبشية وقلب أفريقي من سيادات مستقلة تمتد من ساحل البحر الأحمر الى ساحل الأطلسي ، و عبر تشاد ، وإقامة كونفدراليات اقتصادية ومن بينها جنوب السودان." هذا من الناحية النظرية والمنطقية، أما من الناحية العملية والبراغمتية، فإن النظام لا يستطيع أن يقدم على محاولة إصلاح جذري، لأن ذلك يعد بمثابة مساومة سياسية قد تؤدي إلى تفكيكه. إما من الناحية الاقتصادية، فإن التعافي يتطلب بالضرورة إصلاحات بنيوية لا تأتي إلا تفكيك نظام الاعتمادية الفاسدة، وهذا ما لن يجرؤ عليه النظام لان الفساد هو روح النظام وحياة رئته المسرطنة. لا أوافق اقراني الذين يزعمون أن الولايات المتحدة هي حليف النظام، لكنها لا تلام إذ وجدت ضالتها في فئة غير أصيلة تأتي لها فرصة تجميع أوراق "الجماعات" بادعائها الثورية وعزمها على مناهضتها الإمبريالية؛ لقد انخدع كارلوس إذ ظن أن الترابي "إرهابي أصيل"، ولم تمض المدة حتى اكتشف هو وبن لادن أن النظام هو "مجرد عميل" تجمعت لديه أوراق يسعى بتملكها لإبرام صفقة تطول من أمده، لكنها لا تحل معضلته. إن النظام الذي صدر الرعب ربما لشعبه وللمنطقة باسرها لا يمكن يخدع ان جهة، ناهيك عن ان تكون المخابرات الأمريكية التي تملك أكبر جهاز تصنت على المنطقة في الخرطوم، بتحسن سلوكه وقابليته على الرشد. لكنه يستطيع ان يسلي نفسه ويوهم شعبه بإمكانية الخروج من عنق الزجاجة. فالمقاطعات التي طبقت طيلة العقود الماضية لم تفلح في إضعاف الأنظمة المستبدة كآفة، بل ساعدتها في بسط هيمنتها، التي تعتمد أكثر من قبضة الأجهزة الأمنية على غياب الفكر المستنير وضياع الإرادة الراشدة. وليس نظام القذافي منا ببعيد. فالأخير قد رفع الحظر عنه في 2003، ولكنه بلِي ولم يدر ماذا يفعل بعود العشر الذي أهدته اياه "الإمبريالية العالمية" حتي داهمته الجماهير وهو لم يزل بعد سادرا في غيه مستكبرا في نفسه حتي غشيته الصاعقة فلم تمهله قليلا حتى ترنح وسقط قتيلا في 2011 منطبقا علي حاله مثلنا الشعبي القائل: "عود عشر تقيف انحشر تقعد انكسر!" وذلك فحوى المقاطعات التي تعلنها الولايات المتحدة وليس جدواها التي تعلنها ضد الدول الآبقة أو الخارجة عن إرادتها أو إرادة المجتمع الدولي. التقيت فتاة إيرانية في مدينة شيكاغو الصيف الماضي، تجاذبنا اطراف الحديث فأحسست من نبرتها أنها ناقمة على النظام التيوقراطي في ايران، بل عجبت إذ علمت أنه يكاد يتطابق من حيث خصائصه المرضية مع نظام الخرطوم وابرزها استخدامه الايديولوجيا وسيلة للاستحواذ على المال العام. في غياب الشفافية وانعدام سبل المحاسبية الا من رقابة الجليل الرحيم، يتسنى للشيبة الورع خاميني وأبناءه وقادة الحرس الجمهوري الهيمنة على مجمل الأنشطة الاقتصادية التي تدر عليهم المليارات. قلت للأنسة الايرانية مستحيا او متحاشيا إحراجها أن ثروة زعيمها الديني حسب اخر نشرة فرنسية هي 23 مليار، ففاجأتني بأنها بلغت 38 مليار دولار. اي متاع يمكن ان يجنيه رجل ثمانيني (او حتي عشريني) من ثروة بهذا الحجم؟ وهل يختلف ذلك عن حسابات الإسلاميين --منهم من حرم الاستمتاع بها وهي حيا ومنهم من سيلقمها الافاعي وهو ميتا-- التي تم الأفراج عنها مؤخراً والمقدرة بـــ5 مليار دولار من حيث النسبة والتناسب بين ثروات الشعب الايراني وذاك السوداني؟ (آفة الانظمة الثيوقراطية كآفة أنها تنازع الرب حقه في التشريع وتصادر الشعوب احقيتها في صيانة كرامتها). إذا كانت المقاطعة تساعد المجموعات الطفيلية والانتهازية في الهيمنة على زمام الأمر الاقتصادي، كما هو حادث في ايران وكوريا وكوبا، فإن رفع الحظر لن يكون أقل سوءاً من الناحية الفوضوية لان جل ما يصبو إليه النظام هو إعطاء ميزات تفضيلية للمتنفذين الذي يرغبون في تحويل أموالهم من هنا أو هناك، أو عقد صفقات مع شركات أمريكيات تافهة لا يعود التعامل معها بالنفع السلوكي أو المؤسسي مثلها مثل الشركات الصينية والروسية التي دمرت البيئة وافسدت الاخلاق. حتي لو استثنيننا الانتهازيين، فأن اصحاب الامتياز --كما يسميهم الاستاذ محمود محمد طه-- لا يفكرون في هذه الاثناء الا في المدي القصير وما يمكن أن يجنونه من مصلحة ذاتية، لكنهم يفتقرون حتما الي الحس الاخلاقي الذي يستدفع المرء للتفكير في حال المشردين الذين تستهدفهم الطائرات ليل نهار أو أولئك النازحين المحاصرين في المعسكرات، أو مجرد التفكير البديهي (وليس بالضرورة الاستراتيجي) الذي يجعل الانسان العاقل يوقن بأنه لا يمكن لتنمية ان تحدث ناهيك عن ان يكون هناك ازدهار ما لم يكون هنالك استقرار. والاستقرار لن يحدث طالما النظام عازم علي إبادة الزرقة وترحيلهم بغرض الاستحواذ علي أراضيهم او افقارهم واستثمارها مثلما فعل المتعافي مع الفور عندما حاول تسجيل اراضيهم (تلكم المتاخمة لخط الامداد) بعد أن استوثق هو وإخوانه العقائديين من تمدد خط المياه من حوض البقارة الي نيالا، او مثلما يفعلون مع أهالي الجزيرة. هم لا يقصدون التنمية لذاتها إنما لما قد تجنيه لهم من مصلحة ذاتية. ولذا فالمواطنون يقاومونهم في كل شبر، في كجبار وفي جبال النوبة وفي جبل مرة وفي ام عجاجة وفي ابو فاما، ويرفضون التعاون معهم ومع شركائهم الاجانب، ليس لأنهم "فَقُر" كما يزعم قائلهم، بل لأنهم "مٌكُر" (شطار يدركون مصلحتهم وبراءة او جرم من يتعامل معهم). هم، اي هؤلاء الانقاذيين، انتهازيين حتي عندما يكونون استراتيجيين (لعنة الله عليهم والملائكة والناس أجمعين). إن غندور إذ يبدو منتشيا بإعلانه رفع الحظر لا يعدو كونه محتفيا أو مغتبطا بتسجيل أو بتقنين إحدى الظواهر الصوتية التي ابتلي بها هذا البلد العتيق، مثله مثل تراجي مصطفي وحسين خوجلي والصادق المهدي وهلم جرا. هو لا يملك مقدرة تحليليه تعينه على الولوج إلى بواطن الأمور؛ الأدهى انه يعرض ما يعتقد كمسلمات لا مناص من وقوعها. لا لشيء إلا لأنها صدرت منه هو شخصياً. لك أن تتصور أن البروفسير الجليل والذي يسوق له علي أنه خبير في القرن الافريقي جعل جل اهتمامه التسهيلات التي يمكن ان يتلقاها رجال الاعمال (مقابلته مؤخرا مع قناة الجزيرة في شأن "رفع الحظر" بتاريخ 15/1/2017) من خلال تعاملهم ببطاقات الائتمان وانا أتسأل: هل بقي رجال أعمال حقيقيين في السودان أم إنها مجموعة السماسرة الذين تعج بهم الساحة الاخوانية؟ هل اولوية السودانيين الان هي الحصول علي بطاقة الائتمان المالي ام بطاقة الضمان الاجتماعي والصحي؟ هل الاولوية اليوم لتفعيل قنوات التحويل البنكي ام ضبط وتقنين سبل الكسب الشرعي؟ هل من الأجدى التفكير في خلق مناخ يحتفي بالاستنارة وحرية التعبير أم استجداء الولايات المتحدة لنيل فرص لتبادل علمي وأكاديمي تنالونه أنتم وأبنائكم ولا تستفيدون منهم؟ من يصدق أن حسن مكي هذا حضَّر في جامعات الغرب وفمه لا ينبس ببنت كلمه إنجليزية سليمة النطق ناهيك عن المنطق؟ بل من يصدق أن أمين حسن عمر ونافع والجاز حضَّروا في كاليفورنيا؟ لو لم يلجوا الا الي المراقص، دعك من المكتبات ودار الاوبرا والمسارح وصالات الرياضة ودو العبادة، لتعلموا منطقا وسلوكا وتهذيبا وتشذيبا وحضارة ومهارة وارثا ولما اعلنوا حربا علي امريكا صاحبة اعظم اكاديمية في تاريخ الانسانية؟ وهم إذ يعلنون أن امريكا قد دنا عذابها فهم يهرولون اليها ويستنجدون بها في كل وقت وحين، وهذه لعمري سمات المنافقين والسذج الآبقين. أمريكا، كما يقول جورج فريدمان في كتابه "المائة سنة القادمة" (2009) ستظل قوة صاعدة والكيس من ادرك أنها في عنفوانها تملك كثير من الحيوية و الطيش، فليحسن التعامل معها. ليتهم قرأوا ما كتبه الأستاذ/ صلاح شعيب مؤخرا في سودانيل، أو ما قاله البروفسير/ هاري هان هوفان في مقابلته مع قناة الجزيرة مؤخرا (انصح الكل بالرجوع لها في يوتيوب كي يدرك الكل الفرق بين البروفسورات الذين تخرجهم الجامعات الغربية وأولئك الذين تمنحهم اياها الجامعات السودانية)، إن كان بوسعهم أن يتعلم شيئا عما يدور في دهاليز السياسة الأمريكية. إن الرئيس ترام ليس لديه خطة لأفريقيا، ناهيك عن أن تكون لدية فكرة دقيقة عن السودان، ولذا فإن مقدرتي او مقدرة اي شخص علي التكهن بسلوك الرئيس الامريكي لا تفضل إمكانية بله الغائب. على النظام ان ينتظر الأحسن والذي لا يتعدى حدود المصلحة الشخصية لبعض النخب المركزية ويتهيأ للأسوأ والذي لن ينحصر في مناهضة الريف له إنما في مساجلة المدينة التي فقدت فرصتها في الحصول علي سبل العيش الكريم. ختاماً، يجب ان ننأي بأنفسنا عن التبسيط --ذلك المخل الذي يجعل المرء بين خيارين يُسَوّقان من قبل السذج والمؤدلجين (وحتي غير المؤدلجين): هل انت مع المقاطعة أم ضدها؟ لأن إنفاذ هذه المقاطعات أو إبطالها لا يقصد منه خدمة الإرادة الوطنية، إنما فقط تفعيل السياسة الأمريكية، والقاضية بتقنين اسس الفوضى الخلاقة. تخطئ المعارضة او الحكومة، وهم بعد لم يتعلموا الدرس من نيفاشا، إذ يسعون للاستقواء بالمجتمع الدولي في المحاولة لإحراز نقاط ضد بعضهم البعض. يجب أن نعول علي ذواتنا في محاولتنا للخروج من المآزق وسعينا لاستشراف افاق التنمية المستدامة. فالدول الغربية ما زالت تنظر للسودان علي أنه بوابة خلفية لمصر وسيأخذها بعض الوقت كي تدرك أهميته الجيوستراتيجية التي يكتسبها من موقعه والاهم سلوك قادته. باتخاذه خطوة غير ناضجة في آخر أسبوع إنما أراد أوباما الرئيس المنتهية ولايته توريط خلفه الذي إن مضى في التطبيع مع النظام وحل وإن تراجع فشل. يجب ان يعول السودانيون على ذواتهم وان يسعوا لترجمة الوعي الجمعي الذي تحقق في العصيان المدني الاخير إلى فعل جمعي وذلك باستحداثهم لمنصة للسياسات التنموية وعدم الاكتفاء بالنشاط السياسي والحماس الواتسابي.