باقة ياسمين للثورة السودانية: مخاطر تفكيك الدولة تحت قناع الديمقراطية !!

 


 

 

ما أضر بنا مثل إتباعنا سنن من كانوا قبلنا، شرقاً وغرباً، وها ندخل معهم جحر الضب الذي تورطوا فيه. ولا خلاص لنا سوى باعتمادنا على ما نستخلصه من تجاربنا الخاصة بعقولنا، من حلول لمشاكلنا، ومن أجوبة على تساؤلاتنا. وإلا ماذا يعني التنوير وماذا تعني العقلانية والحداثة؟!.

فقد استقرت في ثقافتنا السياسية مفاهيم نقلناها – اتباعاً – "بضبانتها" من الثقافة الغربية ومن حقول الفكر السياسي الغربي. وقمنا باستزراعها – مع غياب العقل النقدي – في تربتنا الثقافية، وكأنها آيات منزلات لا تحتمل المراجعة والتفكير والتفسير والتأويل، أو حتى مقارنتها بالسياق الثقافي والتاريخي والاجتماعي الذي نشأت فيه وإليه تنتمي.

والنتيجة، كما يمكنك أن تتوقع، ستكون الفشل التام في قراءة نص واقعنا السياسي والاجتماعي، وعجزنا عن تفسيره، وبالتالي التخبط في متاهة البحث عن حلول لا علاقة لها بأسئلة الواقع.

وفي غير هذا الموضع شبهت حالنا في تعاملنا مع منظومة المفاهيم والمبادئ التي نأخذها من الغرب إستلافاً ومحاكاة وتشبها،ً برجل كهف أفلاطون الذي يرى ظلال الأشياء على حائط الكهف وهي تمر بالخارج وتنعكس ظلالها أمام عينيه، فيظن متيقناً بأنه يرى عين الأشياء، بينما هو لا يرى سوى صورها وظلالها وأشباحها التي انطبعت في وعيه.

كذلك نحن. نرى ظلال الحزب والنقابة والبرلمان والمدرسة والجامعة، وغيرها من مؤسسات الدولة الحديثة، ونتداول في أحاديثنا وكتبنا ومقالاتنا مفاهيم حديثة مثل الديمقراطية والحرية والتمثيل النيابي والاشتراكية والقومية، منفصلة عن سياقها التاريخي في الأصل، وقد تم تجريدها من دلالاتها الموضوعية المتعينة، لتصير أقرب ما تكون إلى الغيبيات الماورائية.

المشكلة الأكبر نتيجة كل ذلك، أننا نستخدم هذه المفاهيم، في بيئة تقليدية متخلفة، وقد اقتلعناها من سياقها التاريخي الموضوعي، لنستخدمها كأسلحة في صراعاتنا الاجتماعية والتي لها بالفعل أسبابها الحقيقية الموضوعية المختلفة. وكأننا بذلك نعطي الدواء الخطأ أو غير المناسب للداء، مما سيفاقم من المرض الأصلي عند المريض، ويضيف إليه ما تسببه  الآثار الجانبية للدواء الخطأ أو غير المناسب على المريض.

(2)

كانت هذه المقدمة ضرورية لإعادة فهم وتقييم ما يجري في تونس من أحداث مزلزلة، منذ أن أعلن رئيسها قيس سعيد في  الخامس والعشرين من يونيو 2021  عدداً من القرارات التي اختتمت يوم الاحتفال بذكرى إعلان الجمهورية، وأسدلت الستار على عقد من الممارسة الديمقراطية بمؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية، وتجميد اختصاصات مجلس نواب الشعب، وترؤسه السلطة التنفيذية والنيابة العمومية، ورفع الحصانة عن كل نواب الشعب.

وترافقت هذه القرارات مع فتح ملفات الفساد، خاصة بين الأحزاب وبعض النواب البرلمانيين، كان لحزب النهضة الحاكم فيها النصيب الأكبر من هذه القضايا. مع تكليف الجيش الوطني بتنفيذ القرارات، وحماية المنشآت الحساسة.

وفي مقالة سابقة كنت قد أعربت عن تأييدي لقرارات الرئيس قيس سعيد التي أثارت – وما زالت تثير – الجدل في العديد من المنصات السياسية والاجتماعية والإعلامية داخل وخارج تونس. بين مؤيد لها، يتكئ على مبررات لما يسميه انصار النهضة انقلاباً. ومعارض لها انطلاقاً من حرصه على الديمقراطية.

وتفاعلاً مع ما نشر بعنوان "التونسيون يكتبون الفصل الأخير في كتاب الثورة السودانية" كاتبني من المدافعين عن قيم الديمقراطية الأخ الدكتور هيثم عثمان مشكوراً من لندن. وهو يُجمل دفاعه عن الديمقراطية ونقده لقرارات الرئيس التونسي في جملة واحدة جامعة: "أن الديمقراطية ليست انتقائية. أى أن نقبلها ونشجعها إذا أتت بمن نحب وأن ننتقدها بل ونرفضها إذا أتت بمن لا نحب".

(3)

ولا يمكنك أن تختلف مع الدكتور عثمان حين يدخل في تفاصيل مرافعته بنقاطها الأربعة:

- أولا: لأى شعب فى أى دولة الحق فى ان ينتخب من شاء للبرلمان و للرئاسة ولا يمكن ان يمنطق شخص الالتفاف على هذا الاختيار اذا كان عبر انتخابات حرة ونزيهة.

- ثانيا: لا يمكن لأى حزب تم انتخابه ان يحكم و ان يطبق برنامجه الانتخابي إلا اذا تم تعيين أعضاء الحزب الملتزمون فى الوظائف القيادية مثل الوزراء ووزراء الدولة الخ.. لانه ببساطة هذا هو عين المطلوب.

- ثالثا: اذا كان المطلوب من التوانسة ان يفرحوا لان الرئيس قد قام بحل مجلس الوزراء والبرلمان والايعاز للعسكر باعتقال أعضاء البرلمان الذين انتخبهم الشعب ليمثلوه؛ إذن لماذا قاموا بالثورة ضد الرئيس بن على أصلا؟

- رابعا: اذا كان من المنطق ان يقوم الشعب أو أفراد من الشعب بالمطالبة بحل أى برلمان منتخب بإرادة شعبية حرة و نزيهة بحجة ان الحزب الذى تم انتخابه قد قام بتعيين أعضاءه فى الوظائف القيادية إذن لا داعى للديمقراطية ولا للانتخابات أصلا و لنعيش فى ظل الديكتاتورية إلى الأبد.

والنقطتين الأخيرتين كانا رداً، أو تعليقاً منه، لما ذكرته في المقال السابق عن الأسباب التي دعت الشعب المصري للثورة على حكم الإخوان ورئيسه المنتخب، ما نصه " إذ رفضت شريحة واسعة من المصريين سيطرة الجماعة على الحقائب الوزارية ومحاولتها الاستئثار بمؤسسات إدارة الدولة تطبيقاً لسياسة التمكين، من خلال تعيين أنصارها في المناصب القيادية"(1).

ولا يمكنك إلا وأن تتفق معه – من حيث الشكل – على ما يسوقه من نقاط في ما يتصل بعلاقة ما يدور في تونس بالسودان وتطلعه للعبور الديمقراطي حين يقول:

- اولا نحن مقبلون على فترة مفصلية فى وطننا و الكل يريد للديمقراطية ان تنجح و اذا احس اى طرف ان هناك من يشرعن للانقلاب للديمقراطية ستكون النتائج كارثية لاسباب واضحة لا داعى لشرحها

- ثانيا لماذا لا ينتظر المنظرون للانقلاب على الديمقراطية قبل نهاية الفترة الديمقراطية الدستورية و نهاية الدورة البرلمانية و عندها سيكون هناك فرصة للجميع لطرح برامجهم الانتخابية للدورة القادمة؟ اما اذا اصر الحزب الفائز فى الانتخابات على امتهان الدستور عندها سيكون للرىيس كل الحق فى ايقاف القطار. اما ايقاف القطار هكذا فجأة يعتبر كارثة

لماذا الاصرار على ايقاف قطار الديمقراطية فى كل مرة قبل نهاية الدورة البرلمانية الاولى (كما فى نموذج الجزائر و فلسطين و مصر و الان تونس)

التشجيع على هذه الانقلابات سيجعل الشعوب تكفر بالديمقراطية.

ويشير في ختام مرافعته إلى أن "وظيفة الصحفيين هي ان يشجعوا الشعوب على تقبل الديمقراطية لا على الكفر بها".

(4)

كل أولئك لا غبار عليه لولا عدد من النقاط غير الجوهرية التي دعنا نوضحها، تصحيحاً، قبل أن ندلف إلى ما هو جوهري.

أولها أن الشعب المصري عندما ثار على حكم الإخوان فليس لأن الرئيس مرسي قام بتعيين وزراء أو وزراء دولة في حكومته، ولكن لأن الإخوان شرعوا في أخونة الدولة، ولم يكن هذا ليخفى على فطنة وذكاء الشعب المصري. لأن مجرد ظهور الرئيس المصري وهو يقبل يد المرشد العام للإخوان المسلمين كان كافياً ليتعرف المصريون على طبيعة وهوية الدولة المصرية التي تنتظرهم مستقبلاً.

ثانياً ما أكد هذه المخاوف هو تحركات الإخوان بالتحالف مع التيار السلفي لإجراء تعديلات دستورية جوهرية ترسِّخ أسس دولة دينية شمولية، وإقصائية، تجعل مصراً دولة للمسلمين لا للمصريين على مختلف أديانهم وثقافاتهم. وهذا عين ما دفع قيس سعيد لاتخاذ هذه الإجراءات، أي الحفاظ على الدولة ووحدة شعبها. اللذين بات يهددهما زحف الأخونة والفساد.

(5)

 لا يحتاج مخطط أخونة الدولة التونسية في برنامج حزب النهضة الإخواني إلى كثير عناء. فأيديولوجية الإخوان المسلمين تقوم على مبدأ أممية الفكرة. وقد سبق وان وصف راشد  الغنوشي الثورة التونسية من تركيا، بأنها "تمثل آمال المسلمين وخطتهم وحلمهم بالنهوض". وجاء ذلك التصريح في ندوة نظمتها بتركيا "منصة متطوعي الأناضول للتعليم والدعوة" في ولاية أفيون قره حصار غربي تركيا، تحت عنوان "العالم الإسلامي ، نموذج التعاون ورؤيته المستقبلية". كما ذكر بأن "الإسلام ليس دينا بحد ذاته بل دولة". ولم يقل آمال الشعوب العربية، لأن آمالهم تتمثل في التنمية الاقتصادية وإعادة الثروات المنهوبة، بينما تتمثل آمال النهضة في السيطرة السياسية على الشعوب العربية.(2).

ومما له من الدلالات ما يكفي لكشف القناع الإسلاموي الأممي، بعد قرارات قيس أن وزارة الخارجية التركية "أبدت " قلقها البالغ جراء تجميد عمل البرلمان في تونس وأملت الخارجية التركية، في بيان، "إعادة إرساء الشرعية الديمقراطية في إطار أحكام الدستور التونسي بأسرع وقت. كما استنكرت الرئاسة التركية أيضاً ما أسمته "تعليق العملية الديمقراطية في تونس"، وقال المتحدث باسمها "إبراهيم قالن" في تغريدة نُشرت عبر  تويتر إن "تركيا ترفض تعليق العملية الديمقراطية وتجاهل الإرادة الديمقراطية للشعب في تونس الصديقة والشقيقة"(3).

وستكشف التحريات التي تجرى الآن حجم الفساد المالي لحزب النهضة وما تلقاه من أموال مشبوهة من الخارج لتحقيق هذا المخطط الإخواني، وهو ما لم يعد من الأسرار على كل حال، فنحن في السودان نعرف من الذين هربوا بعد الثورة من الفلول وما هي الدولة التي توفر الملاذ ليمارسوا أعمالهم العدائية ضد السودان وثورته.

(6)

أما ما هو جوهري في تفسير وتبرير القرارات التي اتخذها الرئيس قيس سعيد وما أثارته من جدل، وتتم محاكمتها باسم الديمقراطية. فهو العلاقة "غير المفكر فيها" بين الديمقراطية كمبدأ من المبادئ الأساسية التي تقوم عليها الدولة الحديثة، ولا يمكن أن تقوم لها قائمة في غيابها، وبين الدولة بحد ذاتها ككيان أو شخصية اعتبارية تشكل الديمقراطية واحداً من أهم أركان ثباتها العملية.

وقد يبدو من الغريب، أو غير المألوف السؤال حول أولوياتهما: أيهما أسبق؟.

أو بصيغة أخرى: أيهما أهم، وأولى بالرعاية؟.

ستجد عند طرح السؤال على هذا النحو أن العديد من الناس يقدمون الديمقراطية، ربما دون تفكير، لأن مبدأ الديمقراطية في دول العالم الثالث، ومنها مجتمعاتنا، تم إضفاء شيء من القدسية عليه.

وهذا كما ذكرنا من قبل لأن العقل السياسي في مجتمعاتنا قام بتجريد هذه المفاهيم الحديثة من سياقاتها التاريخية. ولذا يتعامل معها كما لو كانت مجردات غيبية.

لقد أصبحت الديمقراطية وكأنها غاية في ذاتها وبذاتها.

وبالتالي اقتصر تعريفنا لها باختصار في حدودها الإجرائية.

والنتيجة كما ترى في تاريخنا الحديث والمعاصر مع ما نسميه نظام ديمقراطي برلماني. والذي ظل يعود بنا دائماً إلى بيت الطاعة العسكري، أو شبه المدني الشمولي.

وإذا كانت الديمقراطية واحدة من مكونات هوية الدولة الحديثة، فإن الخطأ بالنسبة عندنا دائماً يتركز في وضعنا هوية الدولة، ونظام الحكم فيها قبل الدولة. وأن سؤال هوية الدولة ونظام حكمها يسبق سؤال الدولة.

في حين أن الدولة الحديثة تاريخياً تقوم أولاً على تعاقد اجتماعي يضمن الحقوق المتساوية للناس الذين يتساكنون الرقعة الجغرافية ،على مختلف عقائدهم وأعراقهم وثقافاتهم. وعلى هذا تتأسس هوية الدولة ونظام الحكم فيها

وحينما يسبق سؤال هوية الدولة قيام الدولة ذاتها، لن تقوم لها قائمة. لأن مكوناتها الاجتماعية ستكون منهمكة في صراع الاستحقاقات.

(7)

نأتي الآن إلى عقدة المنشار في هذه المعادلة، ونأخذ الإخوان المسلمون ومعهم أيضاً كل أصحاب السرديات الكبرى التي تمتلك أجوبة نهائية على كل الأسئلة   مثل الشيوعيين والقوميين (عروبيون وأفريقانيون).

هؤلاء يريدون دولة تعبر عن هوياتهم الأيديولوجية فهل تعتقد أن الدولة يمكن أن تقوم لها قائمة طالما هي دولة أصحاب الشوكة؟؟.

وعن طريق الديمقراطية الشكلية التي تعتمد على صناديق الاقتراع التي تُشترى فيها أصوات الناخبين الفقراء بالزيت والطحين، أو بغرف في جنات النعيم.

نعم يمكن أن تقوم دولة – حسب ابن خلدون – على غلبة العصبية والعقيدة.

ولكنها بالنسبة للآخرين ستكون دولة مستعمرة لمن يختلفون دينياً وعرقيا وثقافياً من مواطنيها.

إلا أن دولة مثل هذه لن تعرف الاستقرار والسلام والاستدامة. وينبغي مقاومة قيامها وتأسيسها بشتى الطرق.

لذا أؤيد انقلاب قيس القانوني طالما الهدف هو حماية الدولة والعمل على تثبيتها .. فالدولة عندي قبل الدين والعرق والثقافة.

فهي الكيان والهوية الكبرى، التي تستوعب داخلها كل الهويات الصغرى.

وما ينقصنا الآن، وفي هذه اللحظة المفصلية من تاريخ سودان ما بعد الثورة، هو وجود رجل مسؤول، وعلى وعي، يملك من الشجاعة ليقوم بما قام به قيس سعيد دفاعاً عن الدولة، ويردد معه:

" أحترم القانون المعبر عن الإرادة العامة للشعب لا على التحالفات والحسابات". ويعلن انحيازه للدولة.

فهل بين هؤلاء الذين يحكموننا اليوم من يملك هذا القدر من الوطنية والمسؤولية والشجاعة والوعي ليتخذ من الإجراءات ما يحفظ الدولة من التفكك والانهيار ؟؟.

للأسف: لا أحد !.

مصادر وهوامش

(1) موقع صحيفة سودانايل، بتاريخ 30 يوليو, 2021.

(2) نعيمة كراولي الإسلام السياسي بين الخطاب العقائدي ورهان السلطة مع التركيز على تونس، تقديم البرفسور إسماعيل دبش، المركز الديمقراطي العربي، برلين، ألمانيا، الطبعة الأولى ماي 2020، ص 58.

(3) انقلاب على الدستور".. حركة النهضة تعلق على قرارات الرئيس التونسي، الحرة - واشنطن, رويترز، 26 يوليو 2021.



izzeddin9@gmail.com

 

آراء