بروتوكول جنوب كردفان والنِّيل الأزرق.. عثراته ومآلاته (15)

 


 

 




shurkiano@yahoo.co.uk



دستور السُّودان القادم (الدائم).. لكن أي دستور نريد؟


أما بعد، فعلى الذين اعتبروا الجنوب بُعبعاً في حد ذاته، وأنَّه كان أحد معوِّقات التطوُّر الدستوري في الشمال، أن يدركوا أنَّ الشمال ذاته ليس بمتجانس وغير متصالح مع نفسه.  ومن أقاويل أولئك وهؤلاء ما أدلى به رئيس "منبر السلام العادل" بمحلية بحري الأستاذ النعيم محمد النعيم في ندوة المنبر بعنوان "التحديات الماثلة والمآلات"، بأنَّ "انفصال الجنوب أنتج شمالاً متجانساً وموَّحداً،"(94) وكذلك حديث القانوني وعضو الحركة الشعبيَّة السَّابق المحامي غازي سليمان، والذي ادَّعى في تلك الندوة بأنَّ "منبر السلام العادل هو الحزب الوحيد (...) (الذي) دعا إلى الانفصال لحل النِّزاع في السُّودان، الذي بحدوثه تكون صفحة الجنوب قد طويت."(95)  فالشمال يكتظ بقوميَّات وديانات وثقافات متعدِّدة، وعليه جاءت اتفاقيَّة السلام الشامل لوقف الحرب الأهليَّة، وصياغة السُّودان كله صياغة جديدة وبتراض من أهله.  بيد أنَّ تصريحات بعض قادة النظام، بما فيهم الرئيس البشير نفسه، أمست تثير هواجس خطيرة في جسد ما تبقى من السُّودان.  ففي لقاء صحافي ذكر وزير العدل مولانا محمد بشارة دوسة أنَّه "بقراءة عامة للشعب السُّوداني الذي أصبح فيه أكثر من 98% من المسلمين (بُعيد انفصال الجنوب)، فالدستور (سوف) يتأسس على نظام إسلامي، أي أنَّ الشريعة ستكون مصدر التشريع وهو من الأركان الأساسية للدستور، واعتقد أنَّ لا خلاف في ذلك، وإذا نظرنا إلى نقاط الخلاف والالتقاء لن نجد جهة تنادي بغير ذلك التشريع."(96)  لا مريَّة في أنَّ هؤلاء قد حوَّلوا الإسلام إلى إيديولوجيَّة شموليَّة صلبة، ترفض وجود أي توافق أو تلاق بين الإسلام والقيم والمبادئ العالميَّة لحقوق الإنسان، بل يريدون أن يمحوا غيرهم من أهل السُّودان بحيث لا يظهرون إلا إذا كانوا لهم تُبَّعاً.  والعصبة التي ائتمرت وكوَّنت "جبهة الدستور الإسلامي" برئاسة الشيخ أبو زيد محمد حمزة (جماعة أنصار السنة المحمديَّة) ونائبه الشيخ صادق عبد الله عبد الماجد (جماعة الإخوان المسلمين) وبسط لها الخال الرئاسي المهندس الطيب مصطفى يد العون المالي ما هي إلا أداة من أدوات حزب المؤتمر الوطني لائتلاف قلوب الذين آنست فيهم خيراً، حتى يكونوا عضداً لمشروع الدستور الإسلامي المرتهن في أيديهم.
فلا مُراء في أنَّ الدستور ينبغي أن يستوعب قيم ومعتقدات ومكوِّنات الناس حتى يبسط العدالة والمساواة لا لفئة معيَّنة فحسب، بل لكافة قوميَّات السُّودان المتباينة وثقافاته المتعدِّدة.  أفلم يحن الحين أن نتعلَّم الاعتزاز بهُويَّتنا الأثرى لا الأفقر، ونتعلَّم أن نفخر بتعدُّدنا الأثني لأنَّ التعدُّد ضمان وجودنا في الأبعاد المحليَّة والإقليميَّة والدوليَّة، ونتعلَّم الاعتداد بتنوُّعنا الثقافي لأنَّ في تنوُّع الثقافات واختلاف الديانات يكمن امتدادنا الروحي وعراقتنا الإلهيَّة؟  بلى!  أولم يقل عزَّ وجلَّ: "يا أيُّها النَّاس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنَّ الله عليم خبير" (الحجرات: 49/13)؟  أجل!  والتقوى موئله أو مكانه في القلب، وليس بالرِّياء والمن والأذى.  فالمعروف في علم السياسة أنَّ الأكثر تطرُّفاً هو الأكثر تحكماً، ولئن لم يكن الأجدر حكماً.  غير أنَّ الذي يسيء إلى أيَّة ممارسة سياسيَّة في السُّودان هو التعامل مع القضايا المصيريَّة من منطلق ذاتي ضيِّق.  فقد رأينا أنَّ ردود الأفعال عند النخب الحاكمة إزاء أيَّة ظاهرة أو أي حدث سياسي تأخذ غالباً طابع الانتماء العرقي والدِّيني اللذان يتبعون لهما، لا لما تمثِّله تلك الظواهر السياسيَّة من حقائق.  وقد ساعدت هذه السمة الرَّاسخة على تعميق هذه السلبيَّة وحالات الانقسام والتقوقع الحزبي لدي الأحزاب المتحكِّمة في أمور البلاد والعباد.  ومثل هذه النخب الحاكمة المتحكِّمة كحال الطفل الغرير المريض الذي يرفض في أعنف ما يكون الرَّفض تناول الدواء البلسم، الذي وصفه له الطبيب المختص.
والمسيحيُّون الذين يكيل عليهم المسلمون القانتون السباب واللعان قد أسدوا إلى الإسلام والعرب معاً معروفاً لا ينكره إلا مكابراً عتلاً بعد ذلك زنيم.  فكم اهتمَّ كثرٌ من المسيحيين بمدح الرسول صلى الله عليه وسلَّم والإلحاح على الإشادة بإنسانيَّته وعاطفته نحو البشر وسائر الكائنات.  فقد جادت قريحة الشاعر المسيحي السوري ميخائيل خير الله ويردي (1904-1951م) بقصيدة "أنوار هادي الورى"، التي يبلغ عدد أبياتها 124 بيتاً من البحر البسيط.  و"برغم جماليتها الفائقة، وغرضها الجليل، إلا أنَّها لم تنل حظها اللائق بها من الشهرة والذيوع بين دارسي المدائح النبويَّة وشداة الأدب."(97)  ولا ريب في أنَّ ذينك الإهمال والتجاهل يعودان إلى أنَّ منظِّم القصيدة مسيحي.  ومع ذلك، فتح ميخائيل ويردي الباب على مصراعيه أمام شعراء مسيحيين آخرين ليحذوا حذوه، ويسلكوا مسلكه، ويسيروا على دربه وخطاه.
علاوة على ما ذكرنا آنفاً، فهناك "نحو 120 مرجعاً حتى الآن تؤكِّد على أهميَّة الدور الذي لعبه المسيحيُّون العرب، وبخاصة السريان منهم، في ترجمة علوم اليونان إلى اللغة العربيَّة، ومنها على سبيل المثال "أسد الغابة في معرفة الصحابة" لعز الدِّين بن الأثير، "بدائع الزهور في وقائع الدهور" لمحمد بن أحمد بن إياس، "النجوم الزاهرة في علوم مصر والقاهرة" لأبي المحاسن بن تغري بردي، و"تأريخ مختصر الدول" لابن العبري."(98)  "أما علماء المسيحيين العرب فقد أشارت مصادر كثيرة (...) إلى أنَّهم كانوا نحو 215 طبيباً، 63 ناقلاً، 40 فيلسوفاً ومنطقيَّاً، 15 فلكيَّاً، 10 رياضيين، 7 منجِّمين، 5 كيميائيين، 4 صيدلانيين، نسابة واحد، حجام واحد، واصطرلابي (العامل في الآلات الفلكيَّة) واحد،"(99) والعهدة هنا على الرَّاوي الأستاذ إميل أمين.
وفي إريتريا يواظب المسيحيُّون الأرثوذوكس التابعين للكنيسة الشرقيَّة على نظافة الميدان العام الذي يصلي فيه المسلمون في أوقات الأعياد.  هذا فلم نكد نعثر على أعظم ما يمكن أن نستدل به من مروءة المصريين الأقباط "مثل قيام فتاة قبطيَّة بصب الماء لشاب ملتح للوضوء، وقيام مجموعة من شباب الأقباط بإحاطة المصلَّين في الميدان لحمايتهم، وتوفير الأمان لهم من غدر من وُصفوا آنذاك بفلول (الرئيس المصري محمد حسني) مبارك ورجال المباحث."(100)  وأي تضحية أجل خطراً وأبلغ أثراً من التضحية بالحياة في سبيل الأغيار؟  كل هذا حدث إبَّان ثورة 25 كانون الثاني (يناير) 2011م ضد حكم الرئيس المصري محمد حسني مبارك، وبعد تفجير كنيسة القديسين في الإسكندريَّة ليلة رأس السنة الميلاديَّة – أي قبل 25 يوماً فقط من بدء الثورة – ثمَّ لحق ذلك ما عُرف بفتنة كنيسة أمبابة.  ومع ذلك، فإذا الإسلاميُّون المتطرِّفون التابعون للجماعة المتدثِّرة بالإسلام، أو المناصرون لها من جماعات السلفيَّة الجهاديَّة المتورِّطة تأريخيَّاً في قتل الرموز المصريَّة والسياح الغربيين منذ تسعينيَّات القرن المنقضي، يقومون باعتداءات "غير مبرَّرة تعرَّضت لها 64 كنيسة مصريَّة ومدارس قبطيَّة وممتلكات المسيحيين، منها ما أُحرق تماماً ومنها ما أُحرق جزئيَّاً، وذلك في أكثر من مدينة وقرية،"(101) وفي أعقاب فض الأمن المصري لاعتصامي جماعة الإخوان المسلمين في "رابعة العدويَّة" و"النَّهضة" في يوم 14 آب (أغسطس) 2013م.  وهل ننسى حرق الكنيسة الكاثوليكيَّة والمدرسة والمساكن المحيطة بها في الخرطوم في نيسان (أبريل) 2012م، وحرق الكنائس إبَّان الحرب الأهليَّة في السُّودان (1983-2005م) والآن في جنوب كردفان (جبال النُّوبة) وجنوب النيل الأزرق.
مهما يكن من أمر، فإنَّ الاعتماد على الأرقام الحكوميَّة في السُّودان يعتبر خطأً فادحاً تقترفه الحكومات السُّودانيَّة، وبخاصة الشموليَّة، حيث أنّها تعتمد دوماً على تزوير الأرقام لتمرير سياساتها.  فليست هناك إحصائيَّة صادقة يمكن الاعتماد عليها والأخذ بها.  لذلك لا تصلح النِّسب المئويَّة لتقسيم سكان السُّودان إلى أقليَّة وأغلبيَّة، وبخاصة حين تكون هذه الأقليَّة المزعومة من سكان السُّودان الأصليين.  فأية إساءة أبلغ من هذه؟!  فالأمر حين يتعلق بالحقوق والواجبات لا ينبغي النظر إليه في حساب الأرقام المختلفة دون إحصاء دقيق موثوق به.  وإذا استخدمنا هذه الأغلبيَّة في مسار آخر فلسوف لا تعجب الأغيار.  ولا نظن – الظن الذي يرقي إلى اليقين – بأنَّ الذين يدَّعون العروبة قد تعجبهم عزيمة الأفارقة الأغلبيَّة إذا انتوت الأخيرة إجلاءهم من السُّودان إلى شبه الجزيرة العربيَّة التي يزعمون بأنَّهم جاءوا منها؟!
لا ريب في أنَّنا جميعاً – أو بعض منا – قد سمعنا بعبارة "ميزان الرأي العام"؛ ولكن كيف يكسب هذا الرأي العام جماهيره في المقام الأول ويصبح ميزاناً للمكيال؟  فاليوم – وبفضل انتشار قوة التلفاز (Reality TV)، المذياع، وشبكات الإنترنيت، أو ما يسمى بوسائل التواصل الاجتماعي (Social media network) – بات من اليسر يسراً زرع اعتقاد جديد وسط الناس، وصار من الأمور الهينة أن ينتشر هذا الاعتقاد ويغدو إجماعاً .  فعلى سبيل المثال إذا احتوى التعداد السكاني على 60 مليون نسمة، فما هي النِّسبة المئويَّة المطلوبة للإقناع وانحناء ميزان الرأي العام؟  وإذا كانت الفكرة ملموسة، بحيث أنَّك تستطيع أن تتناولها وتضعها على منظومة المعايير، فيقول المنطق إنَّ الميزان لينحني حين تصل النسبة إلى أكثر من نصف السكان.  بيد أنَّ الواقع أغرب من ذلك.  فقد اكتشف العلماء في معهد رينسلير التقني في مدينة نيويورك بأنَّ الاعتقاد أي اعتقاد لكيما يغزو السكان في بلد ما، فإنَّك تحتاج فقط إلى إقناع 10% من الناس.  وقد استخدم الباحثون الحاسوب لإدارة النماذج، التي تحاكي تبني فكرة ما، ووجدوا أنَّه طالما بقي رقم الناس الذين يحملون فكرة الأقليّة دون ال10%، فلسوف تأخذ هذه المجموعة أكثر من عمر الكون لتصبح الأغلبيَّة.  ولكن حين تعبر الأقليَّة هذه النسبة السحرية – أي 10% - فإنَّها لتمسي قطاراً لا يمكن توقيفه في مدينة الإجماع.  هذا الأنموذج يساعد في توضيح كيف يمكن أن يتبنى السكان العقلانيُّون فكرة غير عقلانيَّة، وفي نهاية الأمر يمسوا ضحايا لهستيريا جماهيريَّة.  ثمَّ إنَّه كذلك يساعد في شرح كيف تستطيع فكرة أقليَّة ما، والتي ظلت كامنة على مر الحقب، أو حتى عدة قرون، بحيث يمكن أن يكسب فجاءة قوة لحظية كافية لتحدِّي وتغيير الوضع القائم.  إذ نجد أنَ المؤتمر الوطني طالما استخدم هذه النظرية في البقاء في الحكم، وتمرير سياساته، فإنَّه لسوف لن يستطيع أن يستمر في خداع الناس، واللعب على وعيهم البسيط وسذاجتهم البريئة مدى الحياة، ولسوف لن تسمح له الجماهير الثوريَّة استخدام الأرقام المزورة لإعلان دستور جديد ينفي الأغيار من حقوقهم ويهمِّشهم أكثر فأكثر.
فحين أعلن الرئيس البشير في القضارف بُعيد انفصال جنوب السُّودان بأنَّه لا تعدُّديَّة بعد اليوم فدستور السُّودان القادم سيكون مبنياً على العروبة والإسلام تناسى سيادته بأنَّ الجزء المتبقي من السُّودان ما يزال متعدداً إثنيَّاً ودينيَّاً وثقافيَّاً.  والتناسي هنا يعني افتعال النسيان الذي يكرس الديكتاتوريَّة والظلم والاضطهاد والقهر باسم الأثنية والعقيدة.  والأدهى في الأمر أنَّه حينما واجهه الفريق مالك عقار في حضور رئيس الوزراء الإثيوبي الراحل مليس زناوي في الخرطوم عما تلهج به سيادته في القضارف أنكر الرئيس البشير ما قاله.  ولكن حين أصرَّ عليه عقار بأنّ ما صرَّح به أمام الملأ والعامة مدون تصويراً وصوتاً وكتابة، ردَّ الرئيس، الذي بُهت، بأنّه ولئن قال ذلك فلم يكن يقصد بالأمر شيئاً؟!  وقد استهجن الكاتب عبد العزيز حسين الصاوي تصريح الرئيس البشير هذا واستعظم ذلك قائلاً: "(...) يقف رئيس الجمهوريَّة المستدام مبشراً/ناعقاً بأنَّ السُّودان أضحى عربيَّاً ومسلماً خالص،"(102) والغريب في الأمر أنَّ صاحب هذا اللفظ في تزيُّد الرئيس البشير كان بعثيَّاً عربيَّاً اشتراكيَّاً حتى أخمص قدميه، ينشد رسالة الحزب الداعي إلى أمة عربيَّة ذات رسالة خالدة من الخليج إلى المحيط.
وعوداً إلى مسألة الدستور، وأيَّاً كانت نوايا الرئيس البشير فيما تلفَّظ به وفيما أسرف فيه على نفسه، فعلى الدولة السُّودانيَّة المتبقية – إن أرادت أن تبقى، أو بالأحرى إن أراد حكامها أن تبقى على قيد الحياة – أن تبحث "عن تراض سياسي بين كل مقومات المجتمع في وثيقة تعاقد جديد ودائم (تحت مسمى الدستور)، ويمكن لهذا الدستور أن يحقق مقاصد كثيرة في الحريات والفصل بين السلطات المختلفة في الدولة، وبث العدالة والمساواة، على أن تشمل اللجنة، (التي تُكوَّن) لكتابة (هذا) الدستور، أطياف المجتمع السياسي والاقتصادي وفئاته المختلفة، ولا تقصي أحداً أو تحاصر آخر (...)."(103)  غير أنَّهم عابوا على اللجنة بقلة تمثيل المرأة، وغياب النقابات العماليَّة المستقلة والمصريين بالخارج.  هذا هو الدستور العصري الذي "يحدِّد شكل الدولة ويلهم أي مواطن بإحساس المشاركة والعدالة والمساواة."(104)  وفوق ذلك كله، ينبغي على هذا الدستور، الذي قد يتوافق عليه الناس ويحتكموا إليه، أن يقوم بحماية منظومتي حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني والنهوض بهما والإسهام في تطويرهما مع مراعاة الطابع الكوني لتلك الحقوق وعدم قابليتها للتجزئة بعلل المحليّة والخصوصيّة وغيرها.  أي بمعنى آخر، ما نصَّت عليه المبادئ العالمية لاحترام حقوق الآخر، وعدم الإساءة إلى العرق أو الدين، وما هناك من قيم إنسانية وفكريَّة عامة، بما فيها من حق الإنسان في التفكير والتعبير؛ أي بعبارة أخرى تضمين التكامل في الحقوق والتوازن في السلطات.
فحين تتعارض الدساتير مع المواثيق الإنسانيَّة، أو المعاهدات الدوليَّة، أو القوانين الوضعيَّة، أو مبادئ الأخلاق، فإنَّ ذلك التعارض لسوف يخلق ثمة مشكلات قد تكون جسيمة، ولا يُحمد عقباها.  فعلى سبيل المثال تحدَّثت وثيقة إعلان استقلال الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة عن سواسية الناس كما خُلِقوا، وذلك بعد مباركته بواسطة الآباء المؤسِّسين حتى اعتبر ذلكم الدستور ينبوعاً للحكومة الرَّاشدة، ومنارة للحريَّة، والحجر الأساس للاستثنائيَّة الأمريكيَّة.  بيد أنَّ هذا الدستور الأمريكي – برغم من أنَّه لم ترد فيه كلمة رقيق – قد جاء متواطئاً مع العبوديَّة في أبشع ما يكون التواطؤ.  ففيما اعتمد دعاة الانعتاق من ربقة الاسترقاق على الضرورة الأخلاقيَّة، كان القانون يقف إلى جانب ملاك الرقيق، وكانت مصالحهم محميَّة قانونيَّاً بواسطة الحزب الديمقراطي ذي النفوذ القوي، والذي كان يقف بصلابة مع الاسترقاق في الولايات الشماليَّة والجنوبيَّة معاً.  هكذا وجد أصحاب الرقيق ضالتهم في السلطة السياسيَّة في مطلع القرن التاسع عشر في قانون العبد الآبق للعام 1850م، والذي يلزم جميع مواطني الولايات المتحدة الأمريكيَّة بإرجاع الأرقاء الأبَّاق إلى أسيادهم.  وبعد انقضاء عدة أشهر من الموافقة على هذا القانون هرب عبد إلى بوستون، مما اضطرَّت الحكومة إلى الإنفاق على آلاف الجنود لضمان عودة العبد الآبق.  هذا، فقد رأى دعاة تحرير العبيد هذا البذخ الحكومي في سبيل القبض على عبد واحد آبق وإرجاعه إلى سيِّده سخفاً ما بعده سخف، وأشعل الحادث حملتهم ضد الاسترقاق.  بيد أنَّ مرونة الدستور الأمريكي نفسه هي التي سمحت بالتعديلات الرقم 13، 14، و15.  وهذه المواد التي عُدِّلت تتعلَّق بإلغاء ممارسة العبوديَّة أو السخرة الإلزاميَّة في الولايات المتحدة أو أي مكان خاضع لسلطاتها، إلا كعقوبة لجريمة ما وتمَّ إصدار حكم قانوني بذلك.  وكذلك إنَّ الولايات المتحدة أو أيَّة ولاية غير ملزمة بدفع تعويضات لملاك الرقيق المتضرِّرين من انعتاق أي عبد.  ثمَّ لا ينبغي أن يُحرم مواطنو الولايات المتَّحدة من حقهم في الاقتراع بواسطة الولايات المتَّحدة أو أيَّة ولاية بسبب العرق أو اللون أو ظروف السخرة السابقة.(105)  بناءاً على ما سبق ذكره عن تناقض الدستور مع الأخلاق والحقوق المدنيَّة والسياسيَّة، ندرك أنَّ أي دستور يصدر متعارضاً مع هذه المبادئ السامية سوف لا يدوم، بل سيتعرَّض لهزات سياسيَّة قد يضطر القائمون بأمره إلى تعديله أو إلغائه.
وبرغم من كل هذه التعديلات التي جرت على الدستور الأمريكي، فإنَّ الأحداث التي عمَّت الولايات الجنوبيَّة العام 1963م قد فجَّرت صدمة عنيفة لأمريكا.  فالسود كان يتم عزلهم في جميع أوجه الحياة: في المدارس والخدمة المدنيَّة ووسائل النقل.  وكذلك حُرموا من حق الاقتراع من خلال ضرائب الدقنيَّة (Poll taxes)، واختبارات المعرفة، وإجراءات التمييز الأخرى.  هؤلاء هم الذين سماهم الدكتور مارتن لوثر كينغ (1929-1968م) ب"المنفيين في أرضهم، والذين نزحوا اجتماعيَّاً من كوخ صغير إلى آخر كبير: هذا هو مدى حركتهم فقط، وها هم يواجهون جبلاً من اليأس."  ولكن بعد المسيرة التي فاق عدد المشاركين فيها أكثر من ربع مليون شخص من السود والبيض والشباب والشيب في واشنطن في آب (أغسطس) 1963م، وخاطبهم الدكتور كينغ (King)، والذي يعني حرفيَّاً الملك وهو كان ملكاً حقاً يومئذٍ، اكتسبت حركة الحقوق المدنيَّة تشريعاً فاصلاً بعدئذٍ: قانون الحقوق المدنيَّة (1964م)، الذي حظر التمييز في الخدمة والإسكان على أساس العرق، اللون، الدِّين أو الأصل القومي؛ وقانون حق الاقتراع (1965م)؛(106) وقانون الإسكان المنصف (1968م)، الذي حظر التمييز في بيع أو إيجار البيوت.  بيد أنَّ حادث مقتل الصبي الأسود تريفون مارتن وإطلاق سراح قاتله الأبيض بواسطة المحكمة في ولاية فلوريدا في تموز (يوليو) 2013م، وقانون "قف على مبدئك" (Stand-your-ground laws)، وقانون بطاقة الناخب كلها تشي بشيء من العنصريَّة كثير ضد السود والملونين الآخرين من أصول أسبانيَّة وهنود حمر وهلمجراً.  كل ذلك دفع أعضاء الكونغريس الأمريكي لتقديم عينات من المقترحات، التي تهدف إلى تقليل عواقب قانون "قف على مبدئك"، وتركِّز على التدريب الأفضل للمتطوِّعين الذين يقومون بحراسة الجيرة، وتقدِّم سبلاً أخرى لتقليل العنف.

للحديث بقيَّة،،،،

 

آراء