بروتوكول جنوب كردفان والنِّيل الأزرق.. عثراته ومآلاته (18)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
13 December, 2013
13 December, 2013
shurkiano@yahoo.co.uk
دستور السُّودان القادم (الدائم).. لكن أي دستور نريد؟
أما بعد، فقد مر السُّودان عقب الاستقلال العام 1956م بست تجارب دستوريَّة : أثنان مؤقتان في 1956م و1964م، وأثنان انتقاليان في 1985م و2005م، وأثنان من المفترض أن يكونا دائمين في 1973م و1998م، ولكنهما لم يدوما أكثر من سنوات محدودات. وفي نهاية الأمر نستطيع أن نطرح التساؤل التالي، ونحن في حال السعي الحثيث نحو صيغة دستوريَّة سودانيَّة قادمة (دائمة): أي دستور نريد؟ إنَّ أي دستور يتبناه الشَّعب السُّوداني ينبغي أن يفي بالأشراط التالية:
(1) دستور يحتوي على الحقوق السياسيَّة والمدنيَّة والإنسانيَّة، وإنَّ الخطوة الأولى في سبيل ذلك لهي تأسيس هذه الحقوق في وثيقة دستوريَّة، حتى لا تكون عرضة لديكتاتوريَّة واغترار الأنظمة الحاكمة.
(2) تبني تراضٍ دستوري جديد، بحيث يضم – بواسطة ميثاق الحقوق – الحريَّات المدنيَّة كحق الاجتماع السلمي، وحريَّة التجمع، والحريَّة ضد كافة أشكال التمييز، والحريَّة ضد الاعتقال دون محاكمة عادلة، وحق ممارسة الإنسان لحياته الخاصة، وحريَّة التعبير.
(3) أن لا تكون السلطة التنفيذيَّة والامتيازات – مهما يكن شأن القائمين بها – فوق حكم القانون.
(4) تبني حريَّة المعلومات وحكومة مفتوحة.
(5) تأسيس نظام نزيه للانتخابات.
(6) إصلاح مجلس الولايات ليكون ممثلاً حقيقيَّاً لمصالح الولايات.
(7) وضع السلطة التنفيذيَّة تحت رقابة برلمان نزيه منتخب ديقراطيَّاً (أي وفق معايير ديمقراطيَّة حرَّة ونزيهة)، ووضع كل أجهزة الدولة تحت حكم القانون.
(8) الفصل بين السلطات التشريعيَّة والتنفيذيَّة والقضائيَّة، مع تقييد سيادة البرلمان، الذي برغم من أنَّه يحد من تسلطيَّة الجهاز التنفيذي، إلا أنَّه قد يعوق المصادقة على المعاهدات والاتفاقات الأمميَّة والإقليميَّة التي توقِّعها الدولة.
(9) إيجاد وسائل لضبط سلطات وصلاحيات أي من السلطات الثلاث أعلاه من خلال "مبدأ المراقبة والتوازنات" (Checks and balances). والدستور الفيديرالي الأمريكي يعتبر أنسب مثال لذلك.
(10) تأكيد إصلاح واستقلال القضاء.
(11) توفير المعالجات القانونيَّة لكافة أشكال استخدام السلطة بواسطة الدولة وموظَّفي الحكومة المركزيَّة والإقليميَّة والمحليَّة.
(12) ضمان التوزيع العادل للسلطة بين الحكومة المحليَّة والإقليميَّة والقوميَّة.
(13) تبني دستور لا يتعارض مع قيم المواطنة السُّودانيَّة، والمواثيق الدوليَّة، وميثاق الاتحا الإفريقي وغيرها من المعاهدات التي وقَّعت عليها، أو سوف توقِّع عليها، الحكومة السُّودانيَّة المكوَّنة بموجب هذا الدستور الجديد المنشود.
(14) على الدولة أن لا تسن تشريعات يكون الهدف منها معاقبة فرد أو مجموعة من الأفراد لارتكابهم جريمة، وذلك دون السماح لهم بحق التقاضي. ومن هذه التشريعات ما يُشار إليه في الدستور الأمريكي ب"تجريد المرء من الحقوق المدنيَّة" أو "الحرمان من حماية القانون" (A bill of attainder, an act of attainder or writ of attainder). ففي هذه العمليَّة القضائيَّة يبدو تأثير هذه التشريعات في تحريم الشخص المستهدف من حقوقه المدنيَّة، وبخاصة حق التملُّك والحياة. فقد استخدمت هذه التشريعات في إنكلترا في الفترة ما بين (1300-1800م)، ونتجت عنها إعدامات كثيرة لعدد من الشخصيَّات التأريخيَّة المرموقة. ولكن نسبة لسوء استخدامها وتجاوزها لعدد من المبادئ القانونيَّة، وبخاصة مبدأ فصل السلطات، وحق التقاضي، والمبدأ القائل بأنَّ القانون ينبغي أن يخاطب نمطاً معيَّناً من السلوك وليس فرداً أو مجموعة محدَّدة، تمَّ حظر هذه القوانين في دستور الولايات المتحدة، وكذلك في الولايات الخمسين الأمريكيَّة.
(15) على الدولة تجنُّب تغيير الأحكام القانونيَّة، أو أحوال أفعال ارتُكبت، أو علاقات سائدة قبل إصدار القانون. وهو ما يسميه أهل القانون ب"التشريع على نحو ارتجاعي" (An ex post facto law or a retroactive law). وإنَّ مثل هذا التشريع ذي المفعول الرَّجعي في القانون الجنائي لمن المحتمل أن يجرم أفعال كانت قانونيَّة حين تمَّ اقترافه؛ وإنَّها قد تفاقم الجريمة بتحويلها إلى نوع أكثر خطورة عما كانت عليه حين ارتُكبت؛ ثمَّ إنَّها قد تغيِّر العقوبة المفروضة على الجريمة، وذلك بإضافة جزاءات جديدة أو مد العقوبة؛ أو قد تغيِّر أحكام الإثبات حتى يكون هناك احتمال للتجريم عكسما كانت عليه الحال حين اقترافها. بيد أنَّ القانون يمكن أن يكون له مفعول التشريع بأثر رجعي دون أن يكون قد قصد بذلك فنيَّاً. فعلى سبيل المثال حين يلغي القانون قانوناً سابقاً، فإنَّ الآخر الملغي لا يتم تطبيقه على الأوضاع التي كان يتم تطبيقه عليها من قبل، حتى إذا بدت هذه الأوضاع قبل إلغاء القانون. فمثل هذه القوانين محظورة بشدة في دستور الولايات المتَّحدة في المادة 1، القسم 9، الفقرة 3. أما في بعض الدول الذي يتبع نظام "الويستمينستر" في الحكم – كالمملكة المتحدة، فإنَّ إعمال قوانين بأثر رجعي ممكنة فنيَّاً، لأنَّ عقيدة السمو البرلماني تسمح للبرلمان بإجازة أي قانون يرغب فيه. أما في الدولة التي لديهة وثيقة الحقوف متينة، أو دستور مكتوب، فإنَّ سن تشريعات بأثر رجعي قد يكن محظوراً.
على أيٍّ، يمكن تصنيف الحقوق والحريَّات على النحو التالي: الحقوق الاقتصاديَّة، والحريَّات المدنيَّة والحقوق المدنيَّة. وحين نتحدَّث عن حماية الحريَّات المدنيَّة ينبغي علينا التفريق بين الحريَّات الأساسيَّة من جهة، والحقوق الإجرائيَّة (Substantive freedoms and procedural rights or guarantees) لتفسير قرارات أيَّة محكمة في سبيل هذا المجال من جهة أخرى. فالحريَّات الأساسيَّة تشمل حق الحياة وحريَّة العبادة، والتعبير، والصحافة، والتجمع و"عرضحال" (عرض حال). أما الحقوق الإجرائيَّة فهي الحقوق التي تتعلَّق بإنفاذ المبدأ القانوني الشائع، كما تقول الفرنجة (The writ of habeas corpus). وهو أمر قضائي للشرطة بإحضار شخص للمثول بين يدي المحكمة، وبالتحقيق معه في قانونيَّة اعتقاله. وتعود هذه العبارة إلى أصلها اللاتيني، والذي يعني لغويَّاً "إنَّك تملك الجَّسد"، وقانونيَّاً يُقصد به حق أي سجين أن يتحدَّى شروط حبسه. فلا يجوز الاحتفاظ بشخص رهن الاعتقال دون المثول أمام القاضي أو محكمة عادلة. إذن هذا الحق الهام ليس بمبدأ فحسب، بل هو كذلك مطلب قانوني لأغراض عمليَّة عدليَّة. وكذلك تشمل الحقوق الإجرائيَّة الحصانة ضد التفتيش، أو الاعتقال دون أمر قضائي يوضَّح أسباب الاعتقال، ويعطى المعتقل حقه في الاستعانة بالدفاع فيما إذا رغب أم لم يرغب فليكن الأمر سيان، وحق أن لا يكون المتهم شاهداً في قضيَّة في حقه. كما لا ينبغي استخدام عبارات "وفق ما يفصِّله القانون"، و"كما ينظِّم ذلك القانون"، و"وفق ما يراه القانون" (Due process of law) لاستغلال عصا القانون في إساءة معاملة الناس، ولا ينبغي كذلك تجاهل هذه العبارة وتجاوزها لطمس العدل.
أما ميثاق الحقوق، أو خلاصة الحقوق الأساسيَّة لشعب ما، فالغرض منه سحب مواد معيَّنة من تقلُّبات النِّزاع السياسي والجدل الخلافي، ووضعها بعيداً عن أيادي الساسة، وموظَّفي الدولة، وتأسيسها كمبادئ قانونيَّة ينبغي تطبيقها بواسطة المحاكم. وهذه الحقوق تشمل حق الفرد في الحياة، والحق في عدم التمييز فقط بسبب العنصر أو الجنس أو الملة الدِّينيَّة، وحريَّة العقيدة والتملك، وحريَّة التعبير، والصحافة والتجمع، والحق في التقاضي، والالتزام بحرمة البراءة (عملاً بالمبدأ القانوني القائل: المتَّهم بريء حتى تثبت إدانته)، وحق الدِّفاع، والحقوق الأساسيَّة الأخرى غير القابلة للتصويت عليها. ويجب أن لا يُقدم أي مسؤول – كبيراً كان أم صغيراً – على إملاء الناس ما الذي ينبغي أن يكون راشداً مألوفاً في السياسة والوطنيَّة والعقيدة، أو أيَّة قضيَّة من قضايا الرأي أو مواضيع الخلاف الأخرى، أو إجبار المواطنين على الاعتراف عن طريق العبارة أو الممارسة بالعقيدة التي هم بها يؤمنون.
بيد أنَّ الصلاحيات الممنوحة لأحد المجلسين (البرلمان أو مجلس الولايات) أو الاثنين معاً ينبغي أن لا تفوق تلك المخوَّلة للرئيس، وأن لا تعلو على الدستور في الآن نفسه، حتى لا تُوصف العمليَّة الرقابيَّة التي يقوم بها أحد المجلسين أو الاثنين معاً ب"المكارثيَّة". فما هي المكارثيَّة في هذا المورد؟ المكارثيَّة، التي أصبحت مذهباً، تعود إلى السيناتور الجمهوري جوزيف مكارثي (1908-1957م)، الذي كانت له آراء متطرِّفة ضد الشُّيوعيَّة وغيرها من القضايا السياسيَّة والوطنيَّة في الولايات المتحدة الأمريكيَّة. ففي أيار (مايو) 1954م اقترح السيناتور مكارثي للكونغريس الأمريكي طلباً متطرِّفاً يلحُّ فيه على موظَّفي الحكومة القوميَّة (الفيديراليَّة) البالغ تعدادهم وقتئذٍ 2 مليون شخص بأنَّه لا ينبغي عليهم أن يُقيَّدوا بواسطة الرئيس عن عدم إعطاء معلومات عن الأفراد أو القرارات التنفيذيَّة للكونغريس، قائلاً: "إنَّه ليحس أنَّه من واجبهم أن يعطونا أيَّة معلومة بحوزتهم، والتي تتعلَّق بابتزاز المال والفساد والشُّيوعيَّة والخيانة العظمى، وكذلك يجب أن لا يكون هناك ولاء للموظف الأعلى، والذي يختال تبختراً فوق أو بعيداً عن ولائه لوطنه." وفي رده على هذا الطلب الملحاح أمر الرئيس دوايت ديفيد آيزنهاور (1890-1969م) النائب العام بأن يصوغ رد أو موقف السلطة التنفيذيَّة (الرئاسة) في كلمات معتدلة وحاسمة على النحو التالي: "إنَّ الفرع التنفيذي للحكومة ليمتلك المسؤوليَّة الوحيدة والأساسيَّة تحت طائلة الدستور لتطبيق القوانين والأوامر الرئاسيَّة؛ وتشمل هذه القوانين والأوامر تلك التي تهدف إلى حماية أمن أمتنا، والتي تمَّت صياغتها بحذر لهذا الغرض. وهذه المسؤوليَّة لا يمكن أن تُغتصب بواسطة أي فرد يسعى أن يضع نفسه فوق قوانين وطننا، أو يريد أن يتخطَّى أوامر رئيس الولايات المتَّحدة، أو الموظَّفين الاتحاديين للفرع التنفيذي للحكومة."
على أيٍّ، فاللجنة المختارة من مجلس الشيوخ العام 1954م، والتي اقترحت على المجلس تقريعاً أو تعنيفاً رسميَّاً لبعض كلمات وأفعال السيناتور مكارثي، أقرَّت بأنَّ على المجلس أن يظهر احتراماً "معقولاً" للقرارات التنفيذيَّة، والتي تتعلَّق بإفشاء المعلومات السريَّة أو "المصنَّفة"، والموظَّفون الذين لا يعيرون اعتباراً لهذه القرارات يخاطرون بتعريض أنفسهم للجزاءات. لكن اللجنة اتفقت مع السيناتور مكارثي بأنَّ للمجلس الحق في الحصول على "أيَّة معلومة، حتى لو كانت مصنَّفة"، تكشف الفساد أو التهديم في الفرع التنفيذي، وقرَّر بأنَّ نوع الدَّافع إلى ذلك، بغض الطرف عن خطأ السلوك المتبع، كان الإحساس بالواجب الوطني. إذ لم توص اللجنة المختارة إيَّاها على التعنيف الرسمي في هذه المسألة، ولكن اقترحت أن يجتمع قادة مجلس الشيوخ مع الموظَّفين بغرض التوافق حول الإجراءات التي ينبغي اتباعها لإعطاء المعلومات السريَّة للكونغريس.
وعودة إلى تزيُّد واستكثار مكارثي في درس الوطنيَّة، فليس هناك جهازاً آليَّاً أو إلكترونيَّاً لقياس معدَّل الوطنيَّة في أي شخص كائناً ما كان، ثمَّ ليس هناك معياراً لتحديد قيمة الوطنيَّة كماً وكيفاً، بل كل الذي نعرفه هو وجود وجهات النَّظر، والتقييم الذاتي للناس حسب الأهواء، وبناءاً على الرغبات النفسيَّة، والتمايز الاجتماعي والطبقي، وبخاصة في دولة مثل السُّودان. فالوطنيَّة، التي من المفترض أن تكون جناحاً سياسيَّاً للوفاق الاجتماعي، أمست جناحاً سياسيَّاً للديكتاتوريَّة والتسلُّطيَّة، وبخاصة ضد أولئك وهؤلاء الذين خانتهم وخوَّنتهم الدولة التي هم فيها مقيمون ليسوا كمستوطنين، ولكن كسكان البلد الأصليين. هذا لا يعني أبداً عدم وجود أناس يقترفون جرائماً حيث يطالهم القانون كل حسب جنايته. وقد تكون الدَّوافع للقيام بمثل هذه الأفعال سياسيَّة، حيث ينبغي النَّظر إليها من هذا المنطلق. ومن هنا تبرز أهميَّة وجود دساتير مفصَّلة، وقوانين رادعة، وحقوق إنسانيَّة، لحماية الناس من التجاوزات تحت أي مسمَّى، أو تحديداً ما يسمَّى في الفقه القانوني ب"قوة الطغيان الباهتة" (The Vage Power of Tyranny). و"إنَّ الخطر من هذه القوة يأتي من كونها غير مرسومة الحدود، وهي لهذا يمكن أن تستعمل للإجهاز على الناس وإدانتهم بجرائم خياليَّة مثل "عدم التعاون مع السلطة"، أو "تهديد القيم الاجتماعيَّة"، أو "إضعاف معنويات الشَّعب"، وتلعب اللغة هنا دوراً خطيراً."(133)
هكذا ينبغي أن يكون هناك سقف حقوقي للمواطن بحيث لا تتخطاه سلطة الدولة، وتنفذ خلاله. ففي تموز (يوليو) 2013م اشتدَّت الضغوط على الرئيس الأمريكي باراك أوباما لضبط الرقابة الداخليَّة في الولايات المتحدة، وذلك عندما اقترح المشرِّعون تشريعاً جديداً للحد من صلاحيات وكالة الأمن القومي في الرقابة، حيث سقط مشروع القرار في مجلس النواب (217 – 205). إذ تعد هذه الخطوة هي الأولى من نوعها، والتي أقدم عليها الكونغريس لتقييد نشاط الوكالة في الرقابة، وذلك بعد إفشاءات إدوارد سنودن الذي كان موظفاً متعاقداً مع الوكالة. فلعلَّ الإدارة الأمريكيَّة قد وجدت نفسها في موضع يتطلَّب حماية الأمن القومي وخصوصيَّة مواطنيها في الآن نفسه. وفي خطابه في المركز الأمريكي للتقدم في 23 تموز (يوليو) 2013م قال عضو اللجنة الأمنيَّة في مجلس الشيوخ – السيناتور رون وايدن – إنَّه دعم مشروع قانون الوطنيَّة، والذي يعطي السلطة القانونيَّة الحق في جمع معلومات أمنيَّة، ولكن بمرور الوقت باتت النشاطات الأمنيَّة سريَّة للغاية، وأخذ القانون يُفسَّر بطريقة تدهش أغلب الأمريكان. إنَّ التحام التكنولوجيا المتطورِّة جداً مع انهيار منظومة التدقيق والرصد (Checks and balances)، والتي تحد من عمل الحكومة قد يؤدِّي إلى دولة رقابة غير عكوس، أو بحيث يتعذَّر إلغاؤه. وأضاف وايدن مستطرداً بأنَّ هناك قانونين منفصلين للوطنيَّة: قانون عام وهو متواجد وقابل للفحص في الشبكة العنكبوتيَّة، ونوع آخر سرِّي، والذي تقوم بتفسيره محكمة الرقابة الأمنيَّة الخارجيَّة. وأضاف قائلاً: "إنَّه لا يجلس في المقعد الخلفي حينما يتعلَّق الأمر بحماية المعلومات القوميَّة السريَّة الحساسة حقيقة، واعتقد أنَّ أغلب الأمريكيين يتوقَّعون من الوكالات الحكوميَّة أن تقوم في بعض الأحايين بإجراء عمليَّات سرِّيَّة. بيد أنَّ هذه الوكالات لا ينبغي عليها أن تعتمد كل الاعتماد على القانون السرِّي، أو السلطات التي تمنحها المحاكم السريَّة. وإن أدلى موظَّفو الدولة بتصريحات مضللة عن أنشطتهم، وبذلك – عملاً بقانون الوطنيَّة – تكون للحكومة سلطات بلا حدود (...)؛ إنَّ الوكالة باستطاعتها جمع وفحص وحفظ معلومات شخصيَّة عن كل شيء من سجلات ماليَّة وصحيَّة إلى حيازة السلاح ومواد الاطِّلاع. إذا لم نقطف قطوف هذه الفرصة السانحة الفريدة في تأريخنا الدستوري لإصلاح قوانين الرقابة فلسوف نعيش كلنا أجمعون أبتعون نادمين على ذلك."(134)
إنَّ بغيتنا في هذا كله لهي القانون الأسمى، فليست هناك دولة يمكن أن تعتبر نفسها حرَّة في الحين الذي فيه تكون الحكومة فوق القانون، ثمَّ إنَّ الديمقراطيَّة لا يمكن أن تمسي آمنة في اللحظة التي فيها تكون الحريَّات غير مغروسة في الدستور الأساس. وعند تحقيق الأشراط إيَّاها يمكننا أن نجادل بثقة بأنَّنا استطعنا الإتيان بمرجعيَّة دستوريَّة ثابتة تشجِّع المواطنة – لا السياسة الفاسدة السائدة – بحيث يستطيع المواطنون أن يدركوا ويحسوا بالمقدرة على توكيد حقوقهم. وبذلك ونكون قد انتقلنا بالسُّودان إلى الخط العام مع الديمقراطيَّات المتقدِّمة الأخرى، وأوجدنا الضمانات القانونيَّة للحد من سلطات الحكومة، وأثبتنا مبدأ حماية حقوق الأفراد والمجموعات، ووقفنا بصلابة ضد أيَّة محاولات إضافيَّة لتركيز السلطة في المركز. وفي نهاية الأمر يستطيع الشَّعب السُّوداني أن يتمتَّع بالتعايش السلمي، والتساكن الأخوي، تحت ظلال حكومة مؤسسة على التوافق الاجتماعي والثقافي والسياسي، وتكون صلاحياتها محكومة بضوابط وموازنات سياسيَّة وقانونيَّة، وتمسي الحقوق – أيَّة حقوق، فرديَّة كانت أم جمعيَّة – محميَّة بحكم القانون والدستور.
فأبداً لا نريد حكومة تروِّع نساءها بالسياط، وتجوِّع شعبها، وتسومه سوء العذاب، وتعطِّل أحكام الدستور من فرط ما تداور به الحكام، حتى بدت المطالبة بالحقوق ضرباً من الهدم. وما أحسن قول الشَّاعر العراقي محمد مهدي الجواهري فيما ألهمت به موهبته في الشعر الثائر. فقد أورد نماذج لمشكلات وإحباطات الناس الغلابة، وعرض كل هذا في قالب شعري بليغ، وصورة فنيَّة معبِّرة. وإنَّنا إذ نسجِّل تقديرنا للصورة الشعريَّة التي عرض بها الشَّاعر فكره، وثناءنا على أسلوبها الجميل، وصياغتها البليغة، وموسيقاها الرقيقة، وإيقاعها الشجي، ونعترف لصاحبها بشاعرة موحية. ألا تُرى أنَّه كان قد أنشد:
تباً لدولة عاجزين توهَّموا أنَّ (الحكومة) بالسِّياط تُدام
والويل للماضين في أحلامهم إن فرَّ عن حلم يروِّع منام
وإذا تفجَّرت الصُّدوربغيظها حنقاً كما تتفجَّر الألغام
وإذا بهم عصفاً إكليلاً يُرتمى وإذا بما ركنوا إليه رُكام
شعبٌ يُجاع وتُستدر وضروعه ولقد تُمار لتحلب الأغنام
وأمد للمستهترين عنانهم في المخزيات فارتقوا وأساموا
وتعطَّل الدستور عن أحكامه من فرط ما ألوى به الحكام
فالوعي بغيُّ، والتحرُّر سبة والهمس جرم والكلام حرام
ومدافع عما يُدين مخرِّب ومطالب بحقوقه هدَّام
خلاصة
مما سبق نخلص إلى القول إنَّ مشكلات السُّودان الاجتماعيَّة والثقافيَّة والسياسيَّة والاقتصاديَّة أكبر مما يمكن أن يحلها الدستور مهما جاء في ديباجته بأجمل ما يمكن أن يتصدَّر الدستور، أو انفرد بمواد في غاية الصياغة العدليَّة أو غيرهما. فلا مندوحة عن أنَّ المشكل الرئيس في السُّودان هو الظلم المؤسَّس على العنصريَّة، وتفشي الأميَّة، حيث لا يستطيع المواطنون إدراك حقوقهم القانونيَّة والمدنيَّة ومن ثمَّ الذود عنها، والتهميش المستكثر عن قصد، مما أمسى من سياسات الدولة المعلنة وغير المعلنة على حدٍ سواء. على أيٍّ، يُساس بعض الدول بدساتير مكتوبة وأخرى بدساتير غير مكتوبة، ولكن يسودها الاستقرار والرُّقي والتقدُّم، وينعم سكانها بالحريَّة والعدالة والمساواة، والرفاهيَّة الاجتماعيَّة والحقوق الثقافيَّة، وتكمن العبرة في ذلك في التعليم والإلمام بالحقوق. ونحن في السُّودان الآن تخطينا حال الطبيعة (State of nature)، ولكن ما نزال في صراع دموي في سبيل تحقيق العقد الاجتماعي، الذي أخذ منا طيلة سنوات الاستقلال، وعندما نفلح في تحقيق هذا العقد لسوف ننتقل إلى مرحلة الدولة-المدينة، ولا نقل الدولة-الأمة، لأنَّ الله لئن أراد أن يجعل الناس أمة واحدة لفعل ذلك، وما ذلك على الله بعسير.
ولكن، فما لم يتوافق أهل السُّودان على حلول المشكلات السياسيَّة، وإبرام عقد اجتماعي جديد يحترم حقوق الإنسان، حيث فيه تعلو سيادة القانون والنَّزاهة وأخلاق المهنة، والقيم الإنسانيَّة السامية، وفيه يتحقق نبذ المحسوبيَّة والعنصريَّة، وتُعمَّم العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات؛ فما لم يتم التَّعامل مع هذه القضايا الجوهريَّة بإخلاص شديد، وإيمان عميق بالمسؤوليَّة الوطنيَّة دون خوف من أحد، أو محاباة لأحد، سوف يظل السُّودان وطناً قابعاً في مستنقع الظلم والقهر والاضطهاد والنِّزاعات المسلحة حيناً من الدَّهر. وأي دستور سوداني جديد ينبغى أن يتضمَّن في صوغه مواداً خاصة بحقوق الإنسان والمرأة والطفل والمعاقين والمسنين، وحقوق أهل الديانات السماويَّة الأخرى، وكريم المعتقدات الروحيَّة لكافة سكان السُّودان الأصليين. فلا جدال في أنَّ هذه الحقوق قد أمست عالميَّة، وأخذت تحبِّر المواثيق الأمميَّة، وباتت تصادق عليه الدول في سبيل رفاهيَّة الإنسان وخدمة مصالحه العليا في الحياة الدنيا. فما لم يتحل السُّودانيُّون بهذه المثل العليا، ويتركوا العادات القميئة، سيظل أي دستور يتراضوا به أو يحتكموا إليه مداداً على ورق. فما بالفجور يكون عز الأوطان وضمان الاستقلال، ولكن بالأخلاق الرضيَّة تُحفظ الأمجاد وتسمو الأوطان. وفي مختتم الأمر يمكن أن نصف حالنا ب"المتشائلين"، و"المتشائل" تعبير نحته الروائي الفلسطيني إميل حبيبي في رواية تحمل الإسم نفسه، ويعني به الجمع بين صفتي "متشائم" و"متفائل" في حال واحدة جسَّده بسخريَّة ماتعة في شخصيَّة سعيد أبي النحس، الذي جسَّد به حال ما يُعرف بعرب الدَّاخل في إسرائيل.
مهما يكن من شيء، فبعد أن أخفقت الحكومة السُّودانيَّة في تنفيذ اتفاقيَّة السَّلام الشَّامل الإخفاق كله، وبخاصة الجزء المتعلِّق بالترتيبات السياسيَّة والإداريَّة والأمنيَّة لكل من ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، رأينا النتائج المأسويَّة لتجدُّد العدائيَّات في هاتين الولايتين. وبرغم من ذلك شرعت الحكومة "الخرطوميَّة" وأمعنت في صياغة دستور لحكم البلاد دون اعتبار لكل القوى السياسيَّة والفئات الاجتماعيَّة وتنظيمات المجتمع المدني، وقد أوضحنا وأسهبنا في تبيان وتبيين رأينا في ملامح الدستور السُّوداني القادم (الدائم). ووضعنا الدائم عمداً بين معكوفتين لأنَّنا لا ندري هل حقاً سيكون ذلكم الدستور دائماً وحتَّام يدوم؟ وقبل الشروع في التداول حول مشروع الدستور يستوجب على الحكومة وقف إراقة الدِّماء والوصول إلى حل سياسي للنِّزاع المسلَّح حلاً يرضي جميع الأطراف السُّودانيَّة المصطرعة حول القضايا السياسيَّة الملحَّة. فما هي المساعي الحثيثة المحليَّة والإقليميَّة والدوليَّة التي بُذِلت لحقن الدِّماء، وترميم النسيج الاجتماعي، والسيطرة على الأوضاع الأمنيَّة التي انفرط عقدها، وبات السُّودانيُّون يقتتلون مع بعضهم بعضاً؟ هذا تساؤل لسوف نجيب عليه في الصفحات التَّاليات.
للحديث بقيَّة،،،،