بروتوكول جنوب كردفان والنِّيل الأزرق.. عثراته ومآلاته(1) (2 من 11). بقلم: د. عمر مصطفى شركيان
الدكتور عمر مصطفى شركيان
11 February, 2012
11 February, 2012
د. عمر مصطفى شركيان
shurkiano@yahoo.co.uk
الطريق إلى العدائيات
من يعي قدراً يسيراً من العلوم السياسية يدرك الإدراك كله بأنَّ هناك فرقاً وضوحاً بين حل النزاع واستكانة الصِّراع (Peace solution and peace settlement). فالأول يعني الوصول إلى حل مرض للطرفين المتصارعين حلاً نهائيَّاً دون إبداء أي طرف من الأطراف شيئاً من التحفظات؛ أما الحال الثانية فالقصد منها التوافق أو التراضي على إنهاء الصراع المسلح بتهدئة خواطر الطرفين أو الأطراف المتنازعة وحملهما أو حملها على إبداء جانب أو جوانب من المرونة، ريثما يتم التوصل إلى منطقة وسطى. وفي عملية التوافق هذه يضطر كل طرف في أشد ما يكون الاضطرار إلى التنازل عن بعض الأشراط السياسية التي يعتبرها أقدس من بقرة بني إسرائيل. وهذا النمط من أنماط إنهاء الصراعات الدموية يمثل خطراً محدقاً في حد ذاته، وينبغي التعامل معه بحذر لأنَّ الجروح القديمة لم تندمل بعد، حتى ولئن اندملت فستبقى آثارها باقية، مهما عملت لجان المصالحة والعفو والصفح الجميل. فبمجرد إخلال طرف من أطراف الصراع بأشراط التوافق قد يثير حمية السنوات الغابرة، وتدور عجلات المشكل إلى الوراء، وقد يكون أعنف من ذي قبل بفضل التطور التقني، وبخاصة أنَّ العلم يتجدَّد بين الفينة وأخرى، ومجالات التصنيع الحربي والعلوم العسكريّة والاتصلات ليست ببعيدة عن ذلك، فضلاً عن الاستفادة والتعلم من تجارب الماضي ودروسها.
إزاء هذا الإيضاح الموجز كان إنهاء الحرب العالميَّة الأولى العام 1918م بمثابة استكانة للنزاع، برغم من أنَّ النهاية كانت هزيمة للألمان وانتصاراً للحلفاء. لذلك نشبت الحرب العالمية الثانية العام 1939م؛ وكذلك كل حروبات الدول العربية ضد إسرائيل – بما فيها الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني – وقضية الأكراد في العراق وغيرها قد فشلت في حسم هذه الصراعات حسماً نهائياً لأنَّها طبَّقت مبدأ استكانة الأزمات وليس الحل الجذري للمشكل، لذلك أمست تطل رؤوس هذه العدائيات في كل مرة. وفي السُّودان كانت عودة الحرب الأهلية مجدداً في جنوب السُّودان العام 1983م - بعد العبث أيَّما العبث باتفاق أديس أبابا للعام 1972م – عبارة عن تأجيج التحفظات التي بقيت كامنة في نفوس أهل الجنوب تجاه العلاقة مع الشمال، وكانت هذه التحفظات مشروعة نسبة لعدم الثقة تجاه أهل الشمال، وفي نظرتهم الدونيَّة إلى الجنوبي. وكان من الذين احتفظ بهذا التحفظ الغليظ وأبداه في الاعتراض على الإجراءات الأمنيَّة في اتفاقيّة أديس أبابا الضابط جون قرنق دي مبيور . لذلك لم نندهش حين قاد هذا الضابط تمرداً جديداً لتصحيح الأوضاع السياسيَّة في السُّودان. والحال في جنوب كردفان والنيل الأزرق ليست بالشاذة، أو الخارجة عن المألوف. فبروتوكول وقف النزاع في هاتين المنطقتين ترك في ثناياه جمرة من النار هامدة؛ وهناك سبيلان للتعامل دوماً مع الجمرة التي هي هامدة، فإذا صببنا الماء عليها صباً انطفأت، وإذا ألقينا عليها مواداً مشتعلة فإنَّها تلتهب وتغدو ناراً حارقة تلتهم الأخضر واليابس وكل من أو ما يمر في طريقها. فقد اختارات حكومة المؤتمر الوطني الصِّراط الثاني ولسوف نبين لكم ذلك بعد حين.