بروتوكول جنوب كردفان والنِّيل الأزرق.. عثراته ومآلاته (10 من 13) . بقلم: د. عمر مصطفى شركيان

 


 

 

shurkiano@yahoo.co.uk


العودة إلى العدائيات وتجاوزات حقوق الإنسان



أما في منطقة النيل الأزرق فلم تقل الأوضاع مأسويَّة عن جنوب كرفان، كما تجلَّت دمويَّة النظام منذ اللحظة الأولى، وتصاعدت بإطراد.  ففي واقع الأمر لم يحمل النظام بدايةً سوى تصورات موهومة عن الحرب، وثمة إيمان رومانسي بقوة الجيش وبانتصاره في المحصلة، وثمة إدراك موهوم بأنَّ ميزان القوى يميل إلى مصلحته.  فمنذ إعلان الحكومة السُّودانيَّة الحرب في ولاية النيل الأزرق في الفاتح من أيلول (سبتمبر) 2011م اعتقلت السلطات الأمنيَّة أكثر من 101 شخصاً من مدن الولاية المختلفة، وأُودعوا سجن سنجة.  وقد تعرَّضوا لمعاملة قاسية تحت ظروف سيئة، وتعذيب جسدي وحشي، مع العلم أنَّ بعضاً منهم كان يعاني من أمراض مختلفة تتطلَّب العناية الطبيَّة العاجلة أو الآجلة، علاوة على أنَّهم لم يُسمح لهم بمقابلة أهليهم أو موكليهم القانونيين.  وحسب إفادات المعتقلين أنفسهم فإنَّ التعذيب تمَّ بواسطة الاستخبارات العسكريَّة والشرطة.  وفي تشرين الثاني (نوفمبر) 2011م أصدرت المحاكم الإيجازيَّة في مدينة سنجة أحكاماً بالإعدام في حق 19 من قادة الحركة الشعبيَّة من المدنيين، والذين لا علاقة لهم بالعمل العسكري في النيل الأزرق، والذين تم القبض عليهم من منازلهم وأماكن عملهم، وذلك بعد الهجوم الهمجي، الذي شنه المؤتمر الوطني على ولاية النيل الأزرق والوالي المنتخب مالك عقار.  وقد تعرَّض هولاء للتعذيب والإهانات والإساءات طيلة فترة اعتقالهم، الأمر الذي أدى إلى إصابة بعضهم بعاهات جراء التعذيب، ووصل الأمر بهم لمحاكمتهم في محاكم إيجازيَّة لاعلاقة لها بالعدالة الطبيعيَّة، والقضاء المحايد، ولم تتوفر فيها أدنى درجات النزاهة القانونيَّة.  وفي انتهاك كامل لكافة حقوق الإنسان، تم إصدار أحكاماً جزافيَّة على 19 منهم، وباتوا ينتظرون مصيرهم في سجن كوبر، وعلى رأسهم الكاتب والشاعر الأستاذ عبد المنعم رحمة.  وفيما يلي أيضا قائمة بمن جرت الترتيبات لمحاكمتهم في مدينة سنجة:
(1)    موسي جاه الرسول.
(2)    حماد أحمد قادم.
(3)    صدام عباس جول (اقل من 18 سنة).
(4)    محمد عبد الغني دقيس خليفة.
(5)    شيخ علي النور قري (عمدة قبيلة كولقي).
(6)    عبد الله التوم صالح.
(7)    موسى بلولة كسينة.
(8)    السر عامر الزاكي.
(9)    السيد جاروم جاه الرسول.
(10)    طه سوميت مرحوم.
(11)    عبد الله محمد الحسن.
(12)    كروم عوض بعشوم.
(13)    كوجي ملوال.
(14)    الرشيد عمدة خوصي.
(15)    عبد الله عبد الرحمن عبد الله.
والحال هذه في تينك الولايتين اللتان تتموقعان على التخوم، أوردت صحيفة "ذي إندبندنت" البريطانيَّة المرموقة مشاهد من مآسي حرب النيل الأزرق تحت عنوان "مفقودو السُّودان: الأرواح التي ضاعت وسط إطلاق النيران".(66)  وقالت إنَّه بينما العالم يتفرج في الحرب بين الخرطوم وجنوب السُّودان، فقد التقى مراسلها بالضحايا المنسيين في تلك الحرب.  وروت الصحيفة قصة عيسى دفع الله صباحي الذي كان يعمل حارساً في منزل سياسي معارض في ولاية النيل الأزرق السُّودانيَّة، وفي أيلول (سبتمبر) 2011م جاء جنود الحكومة يقصدونه، حيث شاهد هو والطباخ أربع سيارات شاحنات مليئة بالجنود، وحينما حاول الطباخ الهرب فتح عليه أحدهم النار.  قال صباحي من ملجئه ببلدة بونج في جنوب السودان، والتي قصدها عابراً الحدود المنشأة حديثاً: "الشيء الوحيد الذي رأيته بعد أن أطلق عليه النار كان الدم.  ثم ألقوا بي على الأرض وقيدوني."  ثم أشار لاعتقاله في العام الماضي، وقال السيد صباحي: "إنَّ الجنود انهالوا عليه بالضرب في الطريق إلى مقر قيادة القوات المسلحة السُّودانيَّة في الدمازين، عاصمة ولاية النيل الأزرق، حيث وضع في السجن."  وأضاف قائلاً: "إنَّه شهد هناك حادثين لا يستطيع نزعهما من ذاكرته.  رأى جنوداً في محاولة لانتزاع الطفل من أمه، قالوا لها إنها ليست مسلمة "حقيقية" وغير مؤهلة بالتالي لرعاية طفلها."  وأضاف مستطرداً: "عندما قاومت، قام جندي بقتلهما معاً."  صباحي الذي نجا، شاهد كذلك جنوداً وقد ربطوا رجلين من أقدامهما بعربيَّة، وجرجروهما حول الفناء قبل أن يربطوهما في شجرة. "سكبوا البنزين عليهما، وعلقوا حاوية البنزين البلاستيكيَّة الفارغة فوقهما، وقاموا بحرقها فسقطت عليهما"، وقال: "كانا يصرخان وماتا."
واعتقل صباحي ومئات آخرون في عملية تمشيط ضد المشتبه في كونهم متمردين في الدمازين وبلدات أخرى في أوائل أيلول (سبتمبر) 2011م.  ولا يزال أكثر من 200 شخص من النيل الأزرق محتجزين أو في عداد المفقودين، وفقاً للمحامين الذين تحدثوا إلى منظمة "هيومن رايتس ووتش".
فالنظام الذي أمسك مفاصل البلد طوال أكثر من عقد – وقبل أن ينشطر جزء منه – احتكر لنفسه تقديم الصورة الزائفة التي يريدها عن المجتمع، ومنع الأخير من التعبير عن مكنوناته الحقيقة، أو الإفصاح عن الحق.  لذلك لم نندهش عن رد النظام على الاتهامات الغليظة إيَّاها؛ إذ قالت الخرطوم إنَّها تحتجز 13 متمرداً فقط.  وتقف القوات المسلحة السُّودانيَّة متهمة أيضاً بقتل المدنيين العزل في جنوب النيل الأزرق.  فقد قال مدرس من بلدة "باو" أنَّه شاهد الجنود يطلقون النار على 10 من السكان في كانون الأول (ديسمبر) 2011م.  وفي قرية السليك قال مسئول في الحركة الشعبيَّة (قطاع الشمال) إنَّه عثر على جثث لستة من المدنيين من أعضاء الحركة الشعبية (قطاع الشمال) الذين عُذبوا وأُعدموا.  وقالت جيهان هنري من "هيومان رايتش واتش": "هذه الجرائم المزعومة تشكل انتهاكات لقانون حقوق الإنسان ويمكن أن ترقى أيضاً لكونها جرائم حرب، ولكن يلزم إجراء مزيد من التحقيقات."  وتعتمد الحكومة بشكل كبير أيضاً على القصف الجوي باستخدام طائرات الشحن الروسية الصنع (أنتونوف). والقنابل غالباً ما تدحرج ببساطة عبر مجرى أبواب البضائع، وهي الإستراتيجيَّة التي تنتهك القانون الدولي بسبب الطابع العشوائي للتفجير الذي بطبيعته يجعل المدنيين معرضين للخطر.
ويقول عمر إدريس: "إنَّ قريته كوبري يبوس قد تعرضت في أيلول (سبتمبر) 2011م للقصف،" وأضاق قائلاً: "كنت وحماري أبحث عن الماء، وجاءت الطائرة (…) وبدأت فوراً في التفجير، وقُتل الحمار على الفور، وكما ترون، فقد أصبت بأذى في يدي وصدري كذلك."  فالمشهد مليء بأشياء تنبئك بأنَّ شيئاً مأسويَّاً قد جرى هناك، فلتجدنَّ القرى التي تقف فارغة والأسواق الصامتة، وقد أغلقت المدارس.  وقد فر أكثر من 100000 شخص إلى مخيمات للاجئين في جنوب السُّودان وإثيوبيا.  وهناك 100000 آخرون تقطعت بهم السبل داخل النيل الأزرق، والكثير منهم – بمن فيهم السيد إدريس – يعيشون في الغابات، حيث لا يمكن رؤيتهم من الجو.
فهناك تقارير شهريَّة تنشرها منظمة المجتمع المدني العاملة بالنيل الأزرق وتحوي هذه النشرات تقارير عن ضحايا الغارات الجويَّة التي تقوم بها طائرات السلاح الجوي السُّوداني على الأهداف المدنية والمدنيين، وحرق القرى والقرويين والمحاصيل، واغتصاب النساء والتحرش بالمواطنين، والاختفاءات القسريَّة، واختطاف المواطنين بواسطة عملاء الحكومة السُّودانيَّة ليس داخل حدود الولاية فحسب، بل من داخل الأراضي الإثيوبيَّة وقتلهم داخل السُّودان خارج نطاق القضاء.  ففي يوم 21 أيار (مايو) 2012م تم اختطاف الشيخ عوض خليفة رجب وتسعة أشخاص آخرين من معسكر شورقالي في إثيوبيا بواسطة أفراد من أجهزة الخرطوم الأمنيَّة، حيث تم قتل الشيخ عوض مع ستة آخرين وجرح ثلاثة، وذلك على الحدود الشرقيَّة داخل الأراضي السُّودانيَّة في يوم 23 أيار (مايو).  والضحايا هم:
(1)    الشيخ عوض خليفة رجب (45 عاماً).
(2)    عمر خليفة الفضل (15 عاماً).
(3)    خضر جمعة رمضان (20 عاماً).
(4)    عثمان جمعة رمضان (18 عاماً).
(5)    مؤتمر عبد الله (17 عاماً).
(6)    بشير موسى (14 عاماً).
(7)    عبد الفاضل دقش (30 عاماً).
والجرحى هم:
(1)    الصَّادق حسين خميس (14 عاماً).
(2)    خضر حسين خميس (12 عاما).
(3)    مرجان أحمد (15 عاماً).
وهنا تجدر الإشارة إلى أنَّ هذا التنكيل بالأبرياء لم يوقِّر الشيخ الكبير، ولم يراع حقوق الطفل الذي لم يبلغ الحلم، بل استهدف هؤلاء العملاء "الخرطوميُّون" أفراد الأسرة الواحدة كما ترى من الأسماء الواردة إيَّاها.  هذه الأمثلة، التي أوردناها إليكم، من الاعتقالات والاغتيالات لا تمثل الصورة الكاملة لوجه النظام الدموي في الخرطوم، بل عينات مختارة فقط، لأنَّ ما خُفي أعظم.
مهما يكن من شيء، ففي تقرير شامل أعدته "المجموعة السُّودانيَّة للديمقراطيَّة أولاً"، تحدَّث التقرير عن "التصفيات الجسديَّة، الاختفاءات القسريَّة، الاعتقالات والتعذيب،" واغتصاب النساء والقاصرات، وكل دولة لا تجرِّم كل أنواع الاغتصاب لا يُعوَّل عليها.  إذ "لم تتمكن فرق العون القانوني من مقابلة وتقديم المساعدة القانونيَّة لمن تم اعتقالهم، وكانوا في عداد المختفيين قسريّاً لمدة عشرة أشهر، سوى مؤخراً في منتصف تموز (يوليو) 2012م.  فقد تمكن فريق المحاميين التابع للهيئة السُّودانيَّة للدفاع عن الحقوق والحريات من مقابلة 113 سجين ممن تم اعتقالهم منذ أيلول (سبتمبر) 2011م الماضي، وذكرت في الوقت نفسه السلطات العدليَّة أنَّ المعتقل، الشاعر والكاتب عبد المنعم رحمة، والذي تناولت العديد من المنظمات الدوليَّة جريمة اختفائه، لا يقع ضمن سلطات اختصاصها وإنَّ على المحاميين الاستفسار عنه عند الاستخبارات العسكريَّة."(67)  وكذلك تحدَّث التقرير عن "الكشف عن ال113 معتقل من قبل السلطات الحكوميَّة بعد مضي نحو عام من اختفائهم، والذين تتوفر معلوماتهم الكاملة لدي المجموعة السودانية للديمقراطية أولاً، (إذ) تثير هذه المعلومات المزيد من الشكوك حول الأعداد الفعليَّة لمن تعرَّض للتصفية الجسديَّة والاختفاء القسري والاعتقال والتعذيب منذ اندلاع العنف بالنيل الأزرق، خاصة في ظل ورود تقارير عن محاكمات عسكريَّة عقدت وأصدرت أحكاماً بالإعدام في مواجهة عدد من المعتقلين.  كما تحصلت المجموعة السُّودانيَّة للديمقراطية أولاً ومركز الدراسات الإستراتيجيَّة بالنيل الأزرق على معلومات مؤثقة، ومن الأقارب وممن شهدوا عمليات القتل والتصفية الجسديَّة للعشرات من المواطنين داخل المعتقلات والسجون العسكريَّة للسلطات بمدينة الدمازين، أنَّ أعداد المعتقلين سياسيَّاً تتجاوز ال200 معتقل داخل سجون السلطات الأمنيَّة بالولاية، يتعرَّضون للتعذيب وسوء المعاملة على مدى الأشهر الأحد عشر الماضية، هذا إضافة للتصفيات الجسديَّة التي لم تقتصر على من يحملون شبه الانتماء السياسي للحركة الشعبيَّة بالسُّودان الشمالي، أو الانتماء الاثني للمجموعات التي ينظر لها كقاعدة شعبيَّة لحزب الحركة الشعبيَّة.  حيث طالت عمليات اغتيالات الأقارب والعاملين مع قيادات حزب الحركة الشعبيَّة، مثل حادثتي التصفية الجسديَّة وقتل أبناء شقيقة والسائق الخاص لمعتمد محلية الرصيرص، واعتقال وتعذيب الشقيق الأصغر وحارس المنزل الخاص لأحد قادة الجيش الشعبي بالمنطقة."(68)
وفي جريمة يندي لها الجبين، وتتقطع لها القلوب، وتدمع لها الأعين، وهي جريمة لم تكن هي الأولى من نوعها في سجل الحكومة الدموي فتح الجيش الحكومي النار في شهر كانون الأول (ديسمبر) 2012م على نحو 7000 من أهالي منطقة النيل الأزرق الذين كانون في طريقهم من منطقة باو في النيل الأزرق إلى معسكرات اللجوء في دولة جنوب السُّودان حتى دب فيهم الهلع والرعب بعد القتل العشوائي الذي تعرَّضوا له، والجراح الخطيرة التي أٌصيب بها بعضهم.  فقد اعتادت القوات السُّودانيَّة على قصف اللاجئين الفارين من أتون الحرب الأهليَّة منذ أن أقدم سلاح الطيران السُوداني على إلقاء القنابل على اللاجئين الجنوبيين الذي فروا من معسكرات اللجوء في إثيوبيا بعد سقوط نظام العقيد الإثيوبي العقيد منغيستو هايلي ماريام العام 1991م.  فبينما كان هؤلاء اللاجئون هاربين من قوات المعارضة الإثيوبيَّة – التي استولت على السلطة في أديس أبابا – إلى جنوب السُّودان كانت القوات الجويَّة السُّودانيَّة تتعقبهم وتقصفهم من الجو.
فمهلاً يا أيُّها القوم الظلمة، فإنَّ الجرائم ضد الإنسانيَّة وجرائم الحرب والإبادة لسوف يُسأل المسؤولون عنها عما كانوا يفعلون، وعما اقترفت أياديهم، مهما طالت الآماد.  فدماء الأبرياء التي سفكتها حكومة "الإنقاذ" في جبال النُّوبة والنيل الأزرق من قبل وفي دارفور، وعادت لتسفكها في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق لسوف لن تذهب هباءاً، بل سيأخذ القضاء مجراه طال الزمن أو قلَّ.  فدونكم والمذابح التي قام بها قادة الخمير الحمر في كمبوديا قبل ثلاثة حقب من الزمان؛ إذ هاهم اليوم يواجهون القضاء.  ففي يوم الأثنين 21 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011م مثَّل ثلاثة من هؤلاء القادة، وهم الساعد الأيمن لبول بوت والمدعو نون شيا (85 عاماً)، ورئيس الدولة السابق خيو سافان (80 عاماً)، ووزير الخارجية السابق إينق ساري (86 عاماً) أمام القضاء.  والمحكمة، التي بدأت جلساتها في العاصمة الكمبوديَّة – فينوم فين – تحت رعاية الأمم المتحدة، للنظر في حق 1,7 مليون شخص لقوا مصرعهم بواسطة الإعدامات والتجويع، والإرهاق أو الحرمان من الرعاية الطبيَّة، وذلك كنتيجة حتمية لسياسات الخمير الحمر الراديكاليَّة.  وتحت قيادة بول بوت، الذي مات العام 1998م، أحال هؤلاء القادة كمبوديا إلى معسكر للعمل القسري، حيث سعت حركة الخمير الحمر إلى اختلاق مجتمع زراعي اشتراكي في عهد إرهابي دام أربع سنوات وانتهى العام 1979م.  وبرغم من مزاعم المفكر الرئيس في الحزب الشيوعي وقتذاك نون شيا، والذي كان يُعرف ب"الأخ الرقم (2)" (أي الرجل الثاني) في النظام الذي استمر في الفترة ما بين (1975-1979م)، بأنَّه "كان واجباً عليه أن يحرِّر وطنه الأم من الإمبرياليَّة والعدوان والاضطهاد بواسطة اللصوص الذين أرادوا أن يسرقوا أرضنا ويزيلوا كمبوديا من وجه الأرض،" لم تشفع عنه هذه الخطبة السياسية في وجه التهم الموجهة إليهم، وهي ارتكاب جرائم ضد الإنسانيَّة، الإبادة، القهر الديني، القتل والتعذيب.
وكذلك لم تتوار ذكرى الإبادة التي ارتكبها الأتراك-العثمانيُّون ضد الأرمن في عامي 1915-1916م والحرب العالميَّة الأولى في أوجها (1914-1918م)، حيث لقي حوالي 1,5 مليون شخص من الأرمن حتقهم من جراء القتل المباشر، التعذيب، السجن، اغتصاب النساء والأطفال، ضربهم وإساءة معاملتهم، والترحيل القسري لهم إلى معسكرات الحشد في الصحراء، برغم من أنَّ الحكومة التركيَّة أخذت تنكر ذلك وتعترف فقط بالرَّقم 300000 شخص.  ونسبة لهول الجريمة أقرَّ البرلمان الفرنسي في كانون الأول (ديسمبر) 2011م قانوناً يجرم كل من ينكر علانية وقوع مذبحة الأرمن على أيدي الأتراك-العثمانيين؛ ومن ينكر تلك المذبحة يعرِّض نفسه للسجن مدة العام وغرامة ماليَّة قدرها 20000 جنيه إسترليني.(69)  هذا، وكان أغلب الضحايا الأرمن من المسيحيين، مما جعل المذبحة تُعتبر إبادة عرقيَّة ودينيَّة في الآن نفسه.  ومن جانب آخر، رد الرئيس التركي رجب طيِّب أردوخان بغضب على القرار الفرنسي، قائلاً: "إنَّ فرنسا استباحت أرواح 15% من سكان الجزائر في الفترة ما بين (1945-1962م)، مضيفاً بأنَّ فرنسا تحت إدارة الرئيس نيكولاس ساركوزي رفضت طلب تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوربي، وشابت العلائق بين باريس وأنقرة إلى حدٍ ما، وبات حزب ساركوزي السياسي يستغل قانون الإبادة لكسب أصوات 500000 فرنسي من أصل أرمني في انتخابات العام 2012م."(70)  وبالطبع لم نكن مندهشين من القول الملول عند بعض الدول التي تقف دوماً في خطوط الدفاع الخلفيَّة حينما يتعلَّق الأمر بقضيَّة حقوق الإنسان، وعلى هذا النحو تفجَّر أردوخان قائلاً: "إنَّ العنصريَّة والتمييز والعوطف الوجدانيَّة ضد الإسلام قد وصلت إلى أبعاد قصوى في فرنسا وأوربا."  على أيَّة حال، فيشارك الأتراك في هذه الصرخة اليائسة كل الدول العربيَّة والمستعربة والإسلاميَّة، والسُّودان واحد منها.  بيد أنَّ ثمة خطأين لا ينتهيان إلى الصواب – أي كما تول الفرنجة (Two wrongs do not make a right)، حيث أنَّ القوات الفرنسيَّة قتلت ما يعادل مليون جزائري في سبيل نضالهم من أجل الانعتاق من ربقة الاستعمار الفرنسي، حتى أصبحت الجزائر تُعرف ب"أرض المليون شهيد".
فبدلاً من الإقرار بالحقائق والبحث عن وسائل ناجعة لمعالجة الأمر من النواحي القانونيَّة والإنسانيَّة والأخلاقيَّة، ومن ثم إحقاق الحق أو إعمال المصالحة والتعويضات لذويهم، تلجأ هذه الحكومات الطاغوتيَّة المدمنة في انتهاكات حقوق الإنسان والرافضة للتغيير الديمقراطي، والمانعة لحريَّة الصحافة والتعبير والانتخابات الحرَّة النزيهة، أو – في بعض الأحايين – تقدم على إطلاق سراح بعض السجناء السياسيين والاحتفاظ بالبعض الآخر، أو إخفائهم في معتقلات سريَّة، أو حراسات الجيش في ثكنات عسكريَّة، بحيث لا يصلها المراقبون الأجانب، ولا يسمح للمدنيين اقترابها أو تصويرها، مما قد يعرِّض فاعل ذلك للمساءلة القانونيَّة تحت طائلة قانون التجسس.  فسبب الضغوط من الأمم المتحدة، ومنظمة "هيومان رايتس ووتش"، أطلقت بورما (المعروفة باسم ميانمار) 216 سجيناً سياسيَّاً، بينما احتفظت ب1669 آخرين في السجون.  فبعد انهيار هدنة وقف إطلاق النار التي دامت 17 عاماً بين حكومة بورما من ناحية، ومنظمة كاشين للاستقلال من ناحية أخرى، اندلع القتال مرة أخرى، وارتكبت حكومة بورما جرائم حرب منذ حزيران (يونيو) 2011م في ولاية كاشين، مما أدى إلى نزوح أكثر من 30000 مدنياً من جراء تجاوزات العسكر لحقوقهم الإنسانيَّة.  واحتوت هذه الانتهاكات – فيما احتوت – على السخرة، القتل خارج نطاق القضاء والاغتصاب، والهجمات العشوائيَّة الاعتسافيَّة على المواطنيين المحليين العزل.  وفي الحين الذي فيه أنشأت حكومة بورما مفوضيَّة حقوق الإنسان لم تستطع أن تقنع أحداً باستقلاليَّتها عن النظام، وفعاليتها في صيانة حقوق الإنسان.
وإذا انتقلنا إلى أمريكا اللاتينيَّة لوجدناها قد ابتليت بشيء من انتهاكات حقوق الإنسان كثير.  إذ لم يستطع رئيس بنما المخلوع مانويل أنتونيو نورييغا مورينو الإفلات من ملاحقة القضاء بسبب تجاوزات حقوق الإنسان في السبعينيَّات والثمانينيَّات، وفي الجرائم التي اقترفها أثناء حكمه الديكتاتوري في الفترة ما بين (1983-1989م)، برغم من بقائه في السجن بالولايات المتحدة الأمريكيَّة وفرنسا لفترة تقارب ال22 عاماً في جرائم تتعلق بتورطه مع عصابة ميدلين في كولمبيا لتهريب المخدرات إلى الولايات المتحدة، وتبييض الأموال في فرنسا.  وكذلك برغم عمره الذي ناهز ال 77 عاماً، لم يفلح نورييغا في الحصول على العفو في بلده، الذي حُكم عليه غيابياً في ستة أحكام بلغت حصيلتها 67 عاماً.  ثم لم تشفع عنه علاقته العضوية بوكالة الاستخبارات المركزيَّة (Central Interlligence Agency – CIA) كرصيد كنزي وحليف ذي ثقة في حرب الولايات المتحدة ضد الشيوعيَّة في أمريكا اللاتينية، وبخاصة ضد نظام ساندينيستا في نيكاراغوا.(71)
وفي غواتيمالا يواجه رئيسها السابق الجنرال إيفرائين ريوس مونت – بعد أن بلغ من العمر عتياً (85 عاماً) – تهماً قضائيَّة في الإبادة وجرائم ضد الإنسانيَّة.  ويعتبر الجنرال مونت مسؤولاً عن مبحة 1700 قروياً من قبيل "إيكسيل" وأثنية "مايا" عامي (1982-1983م) لاتهامهم بدعم المتمرِّدين اليساريين، وذلك خلال حكمه الذي استمر 17 عاماً.  وكانت هذه المبحة واحدة من الصفحات الوحشيَّة في النزاع الدموي الذذي استمر 36 عاماً، وانتهى العام 1996م، وتسبب في إرهاب مواطنين كثر واغتصاب نساء كثيرات ومقتل 200000 شخص.(72)  ويأتي هذا التقاضي بعد حقب عديدة من الانتظار من قبل ضحايا النظام، وبعد أن فتحت النيابة العامة بلاغات ضد جنرالين متقاعدين في العام 2011م.
وفي البرازيل أنشأت حكومة ديلما روسيف "مفوضيَّة الحقيقة" للتحري في الجرائم التي اُرتكبت في الفترة ما بين (1946-1988م) حتى يعرف الشعب البرازيلي ما الذي حدث للمئات من الأشخاص الذين أُخفوا قسراً في التأريخ القريب لهذا البلد.  إذ يُقدَّر عدد الضحايا الذين أُخفوا قسراً في فترة الأنظمة العسكريَّة في الفترة ما بين (1964-1985م) بحوالي 475 شخصاً، وتم سجن 50000، وتعذيب 20000 آخرين.  وفي العام 1979م أقرَّت الحكومة العسكريَّة قانون العفو لحماية المتَّهمين بالتَّعذيب وبعض الممارسات الجنائيَّة الأخرى من التعرض للمحاكمة أو المساءلة القانونيَّة من جراء جرائمهم.  وقانون العفو – الذي كان الغرض منه النسيان وطي مرارات الماضي، وليس الغفران – أمر بإطلاق سراح السجناء السياسيين، وعودة المعارضين من المنفى؛ وكذلك إقرار العفو لكل الجرائم السياسيَّة "والجرائم المتعلقة بها"، في إشارة ضمنيَّة للتعذيب.  هذا، فقد بات هذا القانون مصدر انتقاد لاذع من قبل "محكمة دول أمريكا لحقوق الإنسان" (Inter-American Court of Human Rights).  ففي العام 2010م أدانت هذه المحكمة البرازيل، وأعلنت بطلان ذلكم تالقانون واعتبرته غير متجانس مع "المفوضيَّة الأمريكيَّة لحقوق الإنسان"، والتي يعتبر البرازيل أحد موقعيها، وحثت الحكومة البرازيليَّة على توفير حق الذكرى للضحايا، فضلاً عن منحهم حق العدالة والتعويضات.  وفي العام 2009م حاول الرئيس السابق لويث إناثيو لولا دا سيلفا إنشاء "مفوضيَّة الحقيقة" في البلاد، لكنه عجز عن ذلك، مهما يكن من شيء، لأنَّ قيادات الجيش والبحريَّة وسلاح الطيران – بالإضافة إلى وزير الدفاع – قد هدَّدوا يتقديم استقالاتهم.  ولكن بعد انتخاب الرئيسة ديلما روسيف وقرارها بتكوين "مفوضيَّة الحقيقة"، انتقد نادي العسكرتارية، وهو مؤسسة لأفراد الجيش المتقاعدين، هذه المفوضيَّة، واعتبروها بأنَّها سوف لن تكون محايدة، ولسوف تحاول إعادة كتابة التأريخ.(73)  وفي الحق، فإنَّ معرفة الحقيقة لشيء أساس في حياة الأجيال القادمة حتى لا تتكرَّر اللطخة الدمويَّة في تأريخ أي قطر، وليس في البرازيل وحده.  ولمثل هذه المفوضيات طابعان: أولهما، التركيز على مسؤوليَّة المؤسسات والأدوار، التي لعبتها في تكريس انتهاكات حقوق الإنسان، وذلك لتوضيح ما الذي جرى لأولئك وهؤلاء وكيف يمكن المضي إلى الأمام؛ وثانيهما، العمليَّة الجنائيَّة والتركيز على مسؤوليَّة الأفراد في اقتراف هذه الجرائم، وذلك كما حدث في الأرجنتين وشيلي وبيرو وغيرها من الدول التي حكمها قادة عسكريُّون ومدنيُّون، وكانوا مسؤولين عن انتهاكات حقوق الإنسان، ولنريهم أنَّه يمكن مقاضاة ومحاكمة المتهمين في بيئة ديمقراطيَّة.  إذن، ينبغي أن تسير الحقيقة مع العدالة جنباً إلى جنب.
وفي الأرجنتين، وبعد وفاة الرئيس خوان بيرون العام 1975م عقب عودته للتو من المنفى الذي فيه قضى 18 عاماً، خلفته أرملته إزابيل بيرون في الحكم، وهي كانت عديمة التجربة والخبرة.  وفي هذه الأثناء اعتزمت عدة مجموعات يسارية مؤتلفة باسم جيش الشعب الثوري أن تنتهز الفرصة وتستولى على الحكم في الأرجنتين.  ومن ثمَّ أنشأت معسكراً لخوض حرب العصابات امتثالاً بالثوري الأسطوري تشي جيفارا في كوبا في الخمسينيَّات من القرن المنقضي.  هكذا احتشدت هذه الجماعات اليساريَّة في مديريَّة "توكومان" الريفيَّة.  وفي نهاية العام 1975م تمَّ تعيين الجنرال أنطونيو بوسي ليكون على رأس "عمليَّة الاستقلال" ضد فلول متمردي جيش الشعب الثوري.  وبعد الانقلاب العسكري الذي أطاح بنظام الحكم في الأرجنتين العام 1976م عُيِّن بوسي حاكماً عسكريَّاً لمحافظة "توكومان".  ذلك أنَّ تلك المرحلة كانت مرحلة صراعات سياسيَّة كبرى في الأرجنتين، وما كان للجيش أن ينأى بنفسه عن تلك الصراعات، ولما كان مثل تلك الصراعات يحتاج إلى تعبيرات سياسيَّة وعسكريَّة، وجد الجيش نفسه كقوة سيساسيَّة وعسكريَّة في آنٍ معاً.  وفي خلال العامين اللذين قضاهما بوسي كحاكم للمحافظة اختفى أكثر من 1,000 شخصاً في المحافظة إيَّاها على أيدي قوات الأمن.  ففي تقرير صُدر العام 1985م تحت اسم "لكي لا يحدث أبداً"  (Nunca Mas) بالأسبانيَّة، و(Never Again or Nevermore) بالإنكليزيَّة حول الناس الذين اختفوا، وذلك بعد عودة الحكم المدني.  فقد مضى التقرير قائلاً: "بسبب بوسي، تمتَّعت محافظة "توكومان" بامتياز مشؤوم بعد أن أنشأ مؤسسة مركز الاعتقال السري كأحد الأدوات الرئيسة في الطغيان العسكري في الأرجنتين."  وحسب إفادات شهود عيان من أعضاء سابقين في الشرطة والقوات المسلحة الأرجنتينيَّة، فقد اشترك بوسي شخصياً في تعذيب السجناء قبل إطلاق أوامره بالتخلص من جثمانهم.  وقد شرح أولئك وهؤلاء كيف تمَّ ذلك.  وفي الثمانينيَّات نجا بوسي من المحاكمة بعد أن أصدر الرئيس راؤول ألفونسين قراراً بوقف محاكمات القادة الانقلابيين العسكريين السابقين.  وفي الحين نفسه استغل بوسي هذه السانحة وأنشأ حزباً سياسياً هو "القوة الجمهوريَّة" العام 1988م.  وفي العام التالي انتخب في البرلمان القومي في بوينيس أيريس، حيث خدم كنائب برلماني حتى العام 1995م حين أصبح حاكماً لولاية "توكومان" للمرة الثانية، ولكن كحاكم مدني.  وفي العام 1998م تم تعليقه لأنَّه رفض الإفصاح عن حساب سري له في سويسرا.  وبعد العام تم انتخابه كنائب في البرلمان القومي، وفي هذه الأثناء منعه أنداده من أخذ مقعده في البرلمان.  وفي العام 2003م تم انتخابه مأمور سان ميغويل دي توكومان، لكنه – وللمرة الثانية – لم يستطع ممارسة صلاحياته، حيث تم اعتقاله تحت تهمة اعتقال واختفاء سيناتور المحافظة السابق – قيليرمو فارقس إيغناسي – وذلك لأنَّ إدارة الرئيسة كريستينا كيرشنر قد أحيت المحاكمات ضد أعضاء الديكتاتوريَّة العسكريَّة البارزين.  بناءاً على ذلك، أُدِين بوسي بتهمة قتل فارقس إيغناسي وحُكِم عليه بالسجن مدى الحياة العام 2008م، وظل في الحبس حتى توفى في يوم 24 تشرين الثاني (نوفمبر) 2011م.(74)
قد يتساءل سائل ماذا أردنا بهذا مثلاً؟  حال السُّودان كالظاهرة الأرجنتينيَّة في تلكم الحقبة من الزمان، وذلك منذ اندلاع التمرد العسكري الأول في السُّودان العام 1955م حتى اليوم، وأعقب ذلك استرخاص أرواح المواطنين الأبرياء، وإراقة الدماء بواسطة القوات المسلحة والميليشيات المسلحة تحت دعاوي الوحدة الوطنية، وصيانة سيادة الدولة، وحفظ القانون، والقضاء على "الخوارج" وما سواها من شعارات.  وفي الحين نفسه توضح الحال الأرجنتينيَّة أنَّ دماء الأبرياء لا يمكن أن تذهب سدى بعد إراقتها سدى، ولا بد أن يأتي يوم يُسأل المرء عما اقترفت يداه ضد الأبرياء من الناس، وبعدئذٍ سيرى الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.  وتزداد الحال سوءاً في الأنظمة العسكريَّة الديكتاتوريَّة.  فالفقر والمجاعات والجريمة والاختلاسات وعدم الفعالية البيروقراطيَّة وتخريب البيئة هي ما تورثه الأنظمة القمعيَّة، ولكن يكفي أنَّ سقوط هذه الأنظمة القمعيَّة ينجي ضحايا قمعها، ويفتح الطريق أمام إعادة بناء هذه المجتمعات على الحريَّة السياسيَّة والديمقراطيَّة والعدالة الاجتماعيَّة.  والحال هذه لا شك في أنَّ الناس قد شاهدوا مساعد الرئيس السُّوداني الدكتور نافع علي نافع على شاشة التلفاز السُّوداني لدي زيارته إلى الصومال "وقد طاف على معسكرات عديدة هناك تحتشد بالجوعى والعراة، وأخذ يوزع الطعام والكساء لأهل الصومال، وكان أحرى به أن أن يفعل ذلك في جنوب كردفان وفي معسكرات دارفور، وعلى الهائمين على وجوههم في خلاء الدمازين الذين لا يجدون معسكرات تأويهم."(75)  وتقول الفرنجة إن الأعمال الخيريَّة لتبدأ في البيت في بادئ الأمر (Charity begins at home)، والإحسان يجب أن يبدأ بالذات.  فعلى المرء ان يحسن إلى ذوي القربى أولاً، حتى إذا فرغ من ذلك أحسن إلى من عداهم من الناس.  ولكن ليس في ميسور المرء أن يستخرج الماء من حجر؛ وبكلمة أخرى، إنَّك لا تستطيع أن تنزع العطف أو المشاركة الوجدانيَّة من إمرئ فظٍّ غليظ القلب.
لا يتناطح أثنان حول دروس الطبيعة الإنسانيَّة أنَّ المقدرة الكامنة فينا تنحو نحو العنف.  وقد برزت هذه الطبيعة بتقديم الإنسان قرباناً للآلهة أو غيرها من قوى الطبيعة غير المرئيَّة في عصور ما قبل التأريخ، والمبارزات الدمويَّة في الساحات الرياضيَّة في العصر الروماني، والحربين العالميتين، وإلقاء القنبلة النووية علي مدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين في نهاية الحرب العالمية الثانية (1939-1945م).  ففي تأليفه "الملائكة الأفاضل في طبيعتنا" (The Better Angels of Our Nature)، ابتدر البروفيسور ستيفين بينكر – الأستاذ بجامعة هارفارد الأمريكيَّة – كتابه بحقيقة مدهشة هي أنَّ الإحصاءات تدل على انخفاض العنف في العالم، برغم من القصص الغزير المثير عن الإجرام والإرهاب في قنوات الأخبار.  فقد انخفض معدل القتل في أوربا على مر القرون بنسبة 50%، حتى محصلة الوفيات في الحربين العالميتين فنجدها أقل من مذابح جنكيز خان بالقياس إلى مجموع السكان.  إذ أنَّ في تحديه للمفهوم السائد بتزايد العنف، اعتمد البروفيسور بينكر في بحثه المثير للدهشة عن سمو "الأخلاق الكانتية (نسبة للفيلسوف الألماني عمانوئيل كانت (1724-1804م) في حقوق الإنسان، ومقدرة الدول الحديثة في تطبيق القانون، وحفظ النظام العام، وتحسين مستوى حياة الناس.  ثمَّ هناك كذلك العولمة التي تشجع ثقافة السلام بواسطة جعل الآخر ذا قيمة كشريك تجاري لا عدواً مقاتلاً.(76)  ولكن هل يمكن تطبيق نصوص هذه الدراسة على الحال السُّودانيَّة؟  كلا!  إنَّ العنف في السُّودان منذ العام 1983م حتى هذه اللحظة بدأت في تزايد طيلة أعوام الحرب الأهلية، وفي دارفور منذ العام 2003م، وها هو العنف يتجدَّد كرة ثانية في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وذلك في حق مواطنين رأوا بأم أعينهم قساوة نظام اعتبروه ظالماً في حقهم أكثر من ظلمة أي نظام آخر حكم السُّودان.  والأرهب من ذلك كله أنَّ العنف الذي أُخِذ يُمارس في حق هؤلاء الضعفاء المسحوقين استمر لفترة من الزمن طويلة.  وحديثاً كان وقع ذلكم العنف المميت في دارفور أكثر صدى في عواصم العالم الغربي، مما أدَّى إلى إصدار أمر توقيف لوالي ولاية جنوب كردفان أحمد محمد هارون والرئيس عمر البشير ووزير الدفاع الفريق عبد الرحيم محمد حسين وأخرين لم تفصح المحكمة عن أسمائهم بعد بواسطة محكمة الجزاء الدوليَّة.  ونحن إذ نندهش بعد مختلف الرزايا وضروب البلاء التي عرَّض أولئك وهؤلاء بمواطنيهم كيف يتلذَّذون بالحياة وينعمون بالعيش الرغد، وهم بأنفسهم مطلوبون أمام القضاء، وبمعنى آخر كمال قال أبو العتاهية:
سُبحانَ رَبِّك كيفَ يلْتَذُّ امْرُؤٌ
بالْعَيْشِ وَهُوَ بنفسِهِ مَطْلوبُ؟!

ولكن حين يعم السَّلام نجد أنَّ هناك ثمة أثاراً جانبية لا يألوها الناس بالاً ولا يقيمون لها وزناً، ألا وهو الآثار النفسية للذين تعرَّضوا لويلات الحرب، سواء الذين فقدوا ذويهم أم تعرَّضوا لها مباشرة وخرجوا من الموت سالمين أو معاقين.  فما من أحد أجرى بحثاً عن أولئك الذين كانوا قاب قوسين أو أدنى من الموت، أو تلك الحال التي تسمى عند علماء النفس ب"تجارب الإقتراب من الموت" (Near-death experiences).  فليس هناك من أحد بذل جهداً في تقصي آثار هذه الظاهرة غير المرئية من خلال آثارها المستدامة على حيوات الناس في السُّودان.  فبالإضافة إلى التغييرات النفسيَّة لأولئك الذين تعرَّضوا لمآسي الحرب، نجد التبعات الكهرومغنطيسيَّة.  ولأهميَّة هذه الإفرازات صارت هذه الحال علماً يُدرَّس في الجامعات والمعاهد العليا، وفيه يتخصص الطلاب، وفيه تُقام المؤتمرات الحولية والدراسات البحثية باسم "المؤتمر الدولي لدراسات الاقتراب من الموت (The International Association for Near-Death Studies (IANDS) Conference).(77)
فهذا النظام، الذي ساد على امتداد أكثر من عقدين من الزمان، عمل على إلغاء الحياة السياسيَّة أو تهميشها، من خلال ضرب الحركات السياسيَّة من قبل أقلية متنفذة، أذاقت شعبها ويلات، ومارست سياسة الإفقار والتجهيل والبطالة وسوء التعليم والصحة، إلى الممارسات البوليسيَّة والفساد والسحق الشخصي، حتى قسَّم الشعب السُّوداني إلى فئتين: قوم أثرياء "ينامون ملء جفونهم عن شواردها" وآخر "يسهرون جرَّاها ويختصمون".  كل ذلك كان – وما يزال – مقروناً بتسليط سيف القمع المادي الذي أودي بقوى المعارضة إلى القبور أو السجون أو المنافي، وما تبقى منها لم تكن أحزاب حقيقيَّة.   وأخذ هذا النظام الاستبدادي يمارس تدمير القوى الحية في المجتمع السُّوداني، وظل في المقابل يفتح الأبواب على مصاريعها للتيارات الأصوليَّة وللفكر المتخلف والمتزمت الذي تحمله، ويبيح للمؤسسات الدينيَّة الهيمنة على مؤسسات التعليم والثقافة ويمتثل لمطالب هذه المؤسسات في قمع القوى الديمقراطية أو المتصلة بالحداثة، ويمارس إرهاباً مزدوجاً عليها، يمنع نشر كتبها ويصادر فكرها، ويسمح بتسليط سيف الإرهاب من جانبها أو من جانب السلطة.  هؤلاء هم الحكام الذين لم يتوقفوا منذ عقود من الزمان عن الإساءة إلى السلام باسم الإسلام، والذين اتخذوا من الإرهاب شعاراً لهم، وأدواته تجهيل الجماهير وأدلجتها لمآرب سياسية لا علاقة لها بالدين – بأي دين على الإطلاق – ونشروا في البلاد ثقافة الجحيم والموت، حتى أمسينا كأنَّنا في "منبغة"، والمنبغة محيط ثقافي ممتلئ بالأنبياء، مما بات كل صوت يتوق إلى الوعي، وإلى الحريَّة الحقيقيَّة مرفوض في أزمنة الزعيق بالشعارات الإيديولوجيَّة، والخطابات "الشعبويَّة التعبويَّة"، والانتصارات الخادعة.  أفأريتم أنَّ هذه الحكومة هي التي نذرت نفسها لإصلاح العالم، بدءاً بأمريكا التي أمرتها أن "تلم جدادها"، وأنذرتها بأنَّ "عذابها قد دنا"، ولكي نقول من الخرطوم؟  أجل بالتأكيد!  وهل تبلسم الكتابة جراح هذا النظام؟  كلا!
وها نحن هنا مرة أخرى أمام قادة – جاءوا إلى سدة الحكم بالإكراه والغلبة – يواصلون السعي إلى أسلمة المجتمع السُّوداني، بمعنى تفتيته على أسس من "شريعة" ذاتيَّة تتسم بطابع نرجسي، تناقض قيم وثقافة الديمقراطيَّة والحداثة والمساواة والعدالة، ويحاولون الاستمرار في السلطة بقوة السياسات الأمنيَّة والعسكريَّة والبيروقراطيَّة الحزبيَّة، ويتحصنون خلف شعارات إسلامويَّة خادعة، وسرد مرويات تأريخيَّة مزورة، بل وتزوير تأريخ راهن نعايشه يوميَّاً، وإن ادَّعوا عروبة مزعومة، ووطنيَّة كاذبة.  ووسط أخلاقيات التكاذب السياسي والاجتماعي والحب الذاتي الطاغي ومركزيَّتها وتضيخم دورها التي غرسها النظام في أهل السُّودان انتفت الحريَّة.  فالحريَّة المرتبطة بالمواطنة وفكرة المواطن لها ارتباط بالفلسفة الإنسانيَّة والأخلاقيَّة، على نحو لا يقبل انفكاكاً.  في حين أن الحريَّة غاية في ذاتها لأنَّها جوهر حياة الفرد الإنساني وماهيَّتها، والإنسان غاية في ذاته، لا وسيلة لأي غاية مهما بدت نبيلة.
فالأفعال الدمويَّة التي تمارس بها السلطة سياستها، والعنف الذي يطاول الشعب الأعزل، والقتل اليومي الذي يفتك بالنساء والأطفال والكهول على حد سواء، كل ذلك يدفع الأخر في الجيش الشعبي بالتمسك بالسلاح وتموضع الأصابع على الزناد للرَّد بالطريقة ذاتها على جيوش النظام دفاعاً عن الكرامة والشرف والعرض والذات والممتلكات.  إذن، فإنَّ هناك حاجة ملحة إلى كل ما يؤسس لدولة القانون والمؤسسات، وكل ما يحقق المساواة للجميع، بصرف النظر عن الطوائف الدينيَّة والإثنيات وغيرها من الفوارق الاجتماعيَّة والثقافيَّة، والتوافق على المبادرة التي تعد بمثابة خارطة طريق للعبور إلى بر الأمان والسلم الأهلي، والاستقرار وبناء الدولة المدنيَّة الديمقراطيَّة على أساس راسخ من القانون الذي يمتح من معين المبادئ الإنسانيَّة السمحة، ويقوم على قاعدة المواطنة واحترام حقوق الإنسان التي هي واجبات وحقوق معاً.  والقيم التي يجب أن تعمل الدولة على ترسيخها في مجتمعاتنا المعاصرة في السُّودان، والتي يطالب بها كثر من أهل السُّودان، ليست قيماً أسطوريَّة لم يكن لنا عهدٌ بها، ولكنها قيم نابعة من تراثنا الإفريقي ومحيطنا الإقليمي والتزامنا الدولي، لذلك لا ينبغي أن ننأى عنها، أو نزدريها، أو نشعر تجاهها بعقدة النقص.  وبرغم من أنَّنا ما زلنا نواجه تحديات شديدة الوطأة في إبلاغ هذه الرسالة، إلا أنَّنا سوف نظل نعزف عليها، فلعلها تجد آذاناً صاغية وقلوباً صافية وعقولاً راجحة في آخر المطاف.
فبعد كل ما شهدنا وشاهدناه كانت الحكومة في الخرطوم قد اعتزمت، وعقدت العزم، على "مرمطة" بروتوكول جنوب كردفان في الوحل (To drag it in the quagmire)، وعملت في سبيل ذلك بكل ما أوتيت من قوة عسكريَّة وأمنيَّة وهيمنة سياسيَّة وإعلاميَّة، ورفضت النصائح النصوحة من دول الغرب عبر سفاراتها في الخرطوم بالاحتكام إلى العقل واستخدام منطق السلم في مسألة تجريد قوات الجيش الشعبي وزوَّرت الانتخابات وخططت على تصفية قيادات الحركة الشعبيَّة، حتى كان ما كان.  وكانت تصرفات الحكومة هذه قد نكأت جراحاً لم تكن قد اندملت بعد، ثم كانت تصرفات الحكومة قد مسَّت النُّوبة في كرامتهم وحقوقهم في غير رفق، ثم كان هذا الرئيس البشير، الذي نهض في الخرطوم يستصرخ السودانيين ويستغيت بالجيش على قادة الحركة الشعبية لأنهم – فيما زعم – عرضوا الدولة للخطر، قد استفز النوبة أيما الاستفزاز.  فهل يستقيم المنطق أن تنتظر هذه القيادات حتى تأتي قوات الحكومة العسكريَّة والاستخبارات والأجهزة الأمنية وتفعل بهم فعل النيران في الأعشاب؟  كلا!  وما أن أطلقت القوات الحكوميَّة النيران على مساكن قيادات ووزراء الحركة الشعبيَّة حتى أخذت الأخيرة المنهاج القويم في الدفاع عن النفس، وهذا المنطق سنة أزلية.  إذن، لم تبدأ الحركة الشعبيَّة والجيش الشعبي بإطلاق النار، بل فرضت الحرب عليها وعلى أعضائها وهي كره في عقر دارهم بجبال النُّوبة، وكان عليهم أن يحموا أنفسهم وأعراضهم وأهليهم وممتلكاتهم.  فقادة المؤتمر الوطني يهابون السَّلام، لأنَّ للسَّلام استحقاقات لا يرغبون في إيلاء أمرها لأهلها.  فالأشخاص الذين لديهم رهاب (Phobia)، وبخاصة من له استعداد للمرض العصبي المعروف ب"رهاب الانغلاق" "كلاستروفوبيا" (Claustrophobia)، تجاه شيء معيَّن يرونه أكبر حجماً مما هو في الواقع، وقد يتفادونه، مما يجعل الأمر مؤذياً في أحايين كثيرة، لأنَّ ذلك يعزِّز الخوف عندهم، ويجعل مسألة التغلب على المشكل أمراً صعباً.  ومع ذلك، جنحت الحركة الشعبيَّة للسلم، ولئن لم تجنح له الحكومة السُّودانيَّة، وذهبت إلى أديس أبابا – بقعة إثيوبيا – استجابة للوسطاء الأفارقة السعاة في سبيل السَّلام.  فلسوف نرى في الصفحات القادمات ماذا حدث في سبيل هذا السَّلام.


وللحديث بقية!



 

آراء