أعدت طيبة برس في 8 مارس 2018، ندوة بقصد تدشين كتاب جديد للدكتور عبد الله على ابراهيم ، بعنوان "مذبحة بيت الضيافة : التحقيق الذي يكذب الغطاس"، وأيضاً للتداول من جديد حول قصة مذبحة بيت الضيافة، التي وقعت بعد المحاولة الانقلابية المجهضة في يوليو 1971 ، والتي قادها الرائد هاشم العطا . لعلّ أعجب مافي قصة يوليو 1971م ، هو الغموض الذي اكتنفها، ولم نجد من بيده القول الفصل، إن كان الحزب الشيوعي السوداني هو من ارتكب تلك المجزرة أم هي قوات نظام نميري،أم أن جهة ثالثة ، سماها عبدالله هي ربما قامت بتلك المذبحة ولكن لم تتضح معالم قياداتها وأهدافها. اكتفى أغلب الراصدين بما قيل عن تورط الحزب الشيوعي السوداني . ذلك ما حدا بد.عبدالله لأن يدعو لفتح تحقيق تقوم به جهة قومية محايدة ، تمحص الوثائق والشهادات، فتبريء الحزب الشيوعي أو تدينه. إن مذبحة بيت الضيافة التي وقعت في 22 يوليو 1971، لا ولم تشبه الممارسات السياسية السودانية وشكلت جرحا لا شبيه له في الصفحات السياسية لسودان ما بعد الاستقلال . إنها حادثة فارقة في تاريخ البلاد.
(2) لا نود الخوض في التفاصيل ولكن لد.عبد الله طرح واضح وافقه عليه اكثر الحضور والمتداخلين ، وهو ضرورة فتح ملفات الحادثة، وضرورة إجراء تحقيق دقيق ومفصل لتحديد من ارتكب جريمة مذبحة بيت الضيافة. تلك مهمة وجب القيام بها ، ولكن يبقى السؤال وقد تباينت حوله رؤى المتداخلين في الندوة : من الذي يقوم بذلك التحقيق ..؟ يحضرني عنوان بليغ لأول كتاب وثق للمحاولة المجهضة في يوليو 1971م ، وهو كتاب الأستاذ الصحفي اللبناني فؤاد مطر والعنوان هو: "الحزب الشيوعي السوداني : نحروه أم انتحر. .؟" من الغرائب أن يظل عنوان هذا الكتاب بتساؤله، مرفوعاً دون أن يجد إجابة شافية، منذ ما يزيد عن ستة وأربعين عاما.. !
(3) إن الدول الراسخة في المؤسسية، تعمد على رفع الحظر عن نشر الوثائق والمعلومات الخطيرة ، بعد أن يمر على حدوثها زمان محدد إما بثلاثين عاما أو أربعين عاما، أو نحو ذلك . لكن ثمّة بلدان لا تنتهج هذا النهج، إما للجهل بأهمية التوثيق، أو لحاجة إلى اتباع "دغمسة" ، تضيع معها الحقائق، فلا يصل إليها من يقصدها عمدا. ظنّي أن السببين لهما صلة وثيقة بما وقع لوثائق تحقيقات أحداث انقلاب يوليو 1971م ، خاصة تلك المتصلة بـ"مذبحة بيت الضيافة". بل الأرجح أن وثائق محاكمات ضباط تلك المحاولة ، لا توجد في أي مكان، لربما تم إتلافها فور الانتهاء من الإعدامات التي تمت بعجلة بالغة. التحقيق وحده والذي دعا إليه د. عبدالله هو من يؤكد ذلك.
(4) ثمّة شهادات لم تخرج إلى العلن، ولم يسمع بها أحدٌ حتى تاريخ كتابتي هذه. هنالك من رأى بأمِّ عينيه ما جرى ، ولكن لم يصدر عنه شيء. هنالك من كتب شهادته ، ولكن ربما تعمد إخفاء بعض جوانب الحدث، لحاجات في نفسه أو في نفوس آخرين. والكثير الكثير الذي كتب عكس حقائق وغابت عنه حقائق أخرى. في تلك الجلسة الهامة في منتدى "طيبة برس"، استمعنا لأول مرّة ما قصه على الحضور، الدكتور النبيل مصطفى خوجلي، وهو الذي أشارت الوثائق إلى أنه الشخص الذي عينه الإنقلابيون في 19 يوليو 1971، ليتولى رئاسة الوزراء. حكى الرجل عما شهده بأمِّ عينيه ذلك التعذيب البشع الذي ناله الشهيد الشفيع أحمد الشيخ، من زمرة من المعتدين عليه من الجنود أو ضباط الصف، وقد تجاوز عددهم العشرة، وكيف أن نميري، ومن مكتبه المؤقت في سلاح المدرعات، أرسل ضابطا لغرفة المعتقلين، ليوقف عملية تعذيب الرجل. . وهو محكوم عليه بالإعدام. .
(5) إن البحث عن الوثائق وجمع الشهادات حول أحداث المحاولة المجهضة في يوليو 1971م ، عملية شاقة ومضنية ولن يتاح أمرها لا اليوم ولا غدا. إلا أن التاريخ سيميط اللثام عما جرى بالتفصيل ، وستنجلي الحقيقة ساطعة كالشمس في يوم ما . نحتاج لاستجلاء موقف بريطانيا إن كانت مخابراتها قد تواطأت أم لا ، بشأن اختطاف الطائرة البريطانية وإجبارها للهبوط في ليبيا، ومن بعد إرسال قائدي المحاولة الإنقلابية في طائرة ليبية إلى الخرطوم ليتم إعدامهما. نحتاج لاستجلاء موقف المملكة السعودية حول طائرة عراقية خاصة سقطت أو اسقطت في أجواء مطار جدة وعلى متنها سوداني في القيادة القومية لحزب البعث العربي، هو حفيد الخليفة التعايشي. جاءت الطائرة لتناصر انقلاب 19 يوليو 1971، ولم تصل الخرطوم في ذات يوم مذبحة الضيافة. نحتاج لاستجلاء موقف "موسكو" مما جرى من أحداث ومحاكمات وإعدامات . .
(6) وعن استجلاء موقف "موسكو" تحديداَ، أود أن أشير لتفاصيل ، عرضتْ لي في كتابٍ اطلعتُ عليه مؤخراً ، رأيت أنها من الأهمية بمكان. ذلك الكتاب هو "حقول ألغام السياسة"، لمؤلفه "يفجيني بريماكوف"(1929م-2015م) وصدرت ترجمته في دمشق عن دار الفكر في عام 2008 ، وقد أنجز ترجمته الأستاذ عبد الله حسن. أجل. . بريماكوف"، هذا الذي تولى بعد نحو خمس وعشرين عاما من أحداث السودان، منصب وزير الخارجية في روسيان بين 1996م و 1998م، ثم رئيساً لوزراء روسيا حتى عام 1999م. ذكر السيد بريماكوف في كتابه الصادر في 2008م، أنه كان مقيماً في القاهرة ، بصفته مراسلاً لوكالة "تاس" السوفيتية، في أواخر الستينات من القرن العشرين. قال الرجل أنه جرى تكليفه من قبل الحزب الشيوعي السوفيتي وقتذاك، بحمل رسالة عاجلة للضباط الذين قاموا بانقلاب في السودان في مايو 1969.
(6) كتب بالنص في صفحة 40 من كتابه المترجم إلى العربية ، ما يلي: ((...كما أنني كنت أول أجنبي التقى اللواء جعفر نميري الذي قاد الإنقلاب في السودان عام 1969م، وحملت إلى الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني، رسالة من اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي، ورد فيها أن الاتحاد السوفيتي يدعم التحولات الثورية في هذه البلاد . وممّا يؤسف له أن تنبؤاتنا المتفائلة لم يقدر لها أن تتحقق، وقد مارست دورها ضمناً ، أخطاء الحزب الشيوعي السوداني أيضا . لكن الصدامات بين النميري والشيوعيين جرت في وقت لاحق . وصلت العاصمة السودانية قبل أن تعاد الاتصالات الهاتفية . وقد اضطررت لارسال أول خبر من السفارة ببرقية كتبت بالشفرة . طبعا هذا كان مخالفا لجميع القوانين المرعية . لكنه كان أول خبر حول ما يجري ، مع عرض للمحادثة مع النميري. وفيما بعد علمت أن خبري قد نشر ، إذ كتب سوسلوف على برقيتي الملاحظة التالية :"ينشر في برافدا" . وعموما هناك ذكريات كثيرة ، فقد واصلت تنفيذ المهام ذات المسئولية المكلف بها من قبل القيادة السوفيتية ، حتى بعد أن تركت العمل الصحفي ..))
(7) إن أهمية شهادة الرجل تأتي في تكليفه بحمل رسالتين الأولى لقائد الإنقلاب جعفر نميري، والثانية لسكرتير عام الحزب الشيوعي السوداني، الأستاذ عبدالخالق محجوب . علمنا ممّا كتب بريماكوف، مجمل ما حوته الرسالتان ، ولكن لن تكتمل الصورة، إلا بعد أن يخرج إلى العلن، ذلك الذي أدلى به نميري وعبد الخالق للسيد بريماكوف، وعما إن كان له صلة بالانشقاقات التي وقعت في صفوف الحزب الشيوعي السوداني ، وهي الانشقاقات التي أفضت إلى أحداث انقلاب 19 يوليو وتداعياته. ترى هل تتوفر محاضر لمثل تلك الاجتماعات التي تمّتْ مع "مبعوث" من قبل الحزب الشيوعي السوفيتي وقتذاك. . ؟ ألا تلقي مثل هذه التفاصيل إضاءات مهمة حول مواقف الاتحاد السوفيتي السابق تجاه أحداث السودان . . ؟ فهل من مستجيب لدعوة عبدالله على ابراهيم ، ولأغراض التاريخ، فتح تحقيق يبين الكثير من الحقائق الضائعة. . ؟ ؟