بطيخة حار في أمرها العرب

 


 

 

افتتح رئيس الجلسة اعمال المؤتمر بالقول:
السادة الكرام: لعلمي ويقيني أن جلسات هذا المؤتمر ستسير كما يجب، ودون أي خلافات، فقد جئت إلى هذه القاعة أيها السادة وأنا أضع في بطني بطيخة من الإنتاج الصيفي؛ ابتهاجا بأننا سنبدأ؛ ومن هذا اليوم الأغر مشوار الاتفاق، حيث أن طريق المليون ميل يبدأ ببطيخة واحدة، أياً كان مستقرها.
وحتى لا نتهم بالديكتاتورية يا اخوتي فقد أحضرنا أمامكم في هذه القاعة بطيخة أخرى ناضجة، زميلة لتلك التي في بطني، ولا شك البتة في كونها حمراء، واحضارها أنما هو خطوة تؤكد مسار الطريق.
اخوتي الإجلاء:
نحن لم نأت بها إلى هنا عبثا، بل لغرض نبيل، انتم تعلمون ايها السادة إننا متهمون دائما بكوننا لا نتفق على شيء أبدا، وأننا أمة العرب قوم غير ديمقراطيين، لقد اخترنا هذه المرة أن نثبت للعالم عكس ذلك تماما، لقد اخترنا الاتفاق وبالإجماع على أن لون هذه البطيخة احمر، وبهذا سوف نرسل رسالة للبشرية جمعاء؛ نبين فيها بجلاء تام أننا يمكن أن نتفق؛ وأن اتفاقنا يتم بالوسائل الديمقراطية.
استطرد الرئيس قائلا:
- سنطرح أمامكم خيارين ديمقراطيين للتصويت عليهما، الخيار الأول هو أن هذه البطيخة حمراء، وهو الخيار الذي يجب أن يصوت عليه الجميع بالإجماع، وهناك خيار آخر هو كونها بيضاء؛ وقد تم وضعه بصورة رمزية من باب صب قواعد الديمقراطية ووزن اعمدتها؛ وتأكيداً لاحترامنا للرأي الآخر.
قبل أن يكمل السيد رئيس الجلسة حديثه، قاطعه أحد الاعضاْء:
- يا سيادة الرئيس: ماذا لو وجدنا بداخل هذه البطيخة لونا متدرجاً لا هو بالأحمر البائن ولا هو بالأبيض البائن؟
استاء الرئيس من هذه المقاطعة، وسرت همهمة في القاعة باعتبار أن ما قاله العضو لا يعدو كونه نكتة لطيفة، ولكن إزاء تهديد العضو بالانسحاب من الجلسة؛ إن لم لم يدرج لونه غير البائن إلى قائمة الألوان المطروحة للتصويت؛ فقد تمت الموافقة علي أن تكون ألوان البطيخة المعروضة أمام القمة ثلاثة ألوان، أحمر وأبيض وثالث بين بين.
انتهز الفرصة عضو لم يقترح أي شيء منذ عدة قمم فقال:
- أنا اعترض على تحديد عدد الألوان بثلاثة، أرى أن العدد الصحيح هو أربعة، لأننا قد نقطع البطيخة من منتصفها بالعرض فنجد احد نصفيها أبيض بالكامل ونصفها الآخر أحمر بالكامل، وهذان النصفان لا شك أنهما ينعمان بالجوار دون أي مشاكل حدودية، وعلينا وضع هذا النموذج البطيخي السلمي نصب اعيننا؛ وأن نستهدي به عند التوسط في حل المشاكل الحدودية، وعليكم إدراج هذا التصور الجديد في قائمة المقترحات ولن اجلس ما لم يدرج!
تجاهل الأعضاء وقفة هذا العضو وكان رئيساً لاحد الوفود، كما اعتادوا ومنذ دهور تجاهل أي وقفة، لأنه وبكل بساطة واقف على قدميه وليس علي أقدامهم، لكنهم استهجنوا فكرة وجود جوار دون مشاكل حدودية، فهذا أمر لا يمكن أن يحدث ولا حتى في عالم البطيخ، وساد اللغط القاعة، غير أنهم اضطروا لإدراج اللون الجديد في قائمة الألوان، وذلك عندما شرع رئيس الوفد في انتعال حذائه، وأخذ افراد وفده يصلحون وضع كرافتاتهم، وانشغل كل واحد منهم بغلق ما انفتح من ازرار البدلة استعدادا للمغادرة، فأدرجت سكرتارية المؤتمر اقتراحه تحت مسمى اللون العرضي المتجاور الرابع.
التقط فكرة الجوار الحدودي رئيس وفد آخر، وكانت وقتها قد داهمته غفوة سريعة؛ كما يداهم الوقت المتحدثين في البرامج الحوارية؛ فهب مذعوراً عندما لكزه احد مرافقيه ونقل له ما فاته من احداث، خاف الرجل أن تفلت منه فرصة الحديث؛ فامسك من فرط استعجاله بكوب الماء ظناً منه انه الميكروفون، مما حدا بالمرافق إلى الإسراع لتصحيح الموقف قبل أن تلتقط كاميرات القنوات الفضائية اللعينة ما دار بينهما؛ فتكرر المشهد كما تكرر أخبار الأسهم وتضعه في قائمة البرومو، فنصحه بشرب كوب الماء كله تصحيحاً لهذا الخطأ البروتكولي. اذعن رئيس الوفد للطلب وشرب الكوب إلى آخر قطرة رغم برودته ثم قال وهو يمسح شاربه:
- إذا قبلنا بما يسمى باللون العرضي المتجاور الرابع فلماذا لا نقبل باللون الطولي المتجاور الخامس؟
ما أن خرجت هذه الكلمات من شفتيه حتى وثب رئيس وفد آخر من مقعده محتجاً، فقد أصابت كلمة (الخامس) وتراً حساساً في بؤرة صميمه، لذا بادر من فوره إلى نقل هواجسه إلى أشقائه المؤتمرين؛ لتنبيههم لضرورة حذف كلمة الخامس، كانت حجته أن الخامس كلمة مخصصة للأساطيل، وما للبطيخ فيها من نصيب، وانه من الأفضل عدم الخلط بين الحالة الاسطولية الخامسة؛ والحالة البطيخية الراهنة، تمشيا مع المثل العربي القائل (ابعد عن الشر وغني له) ومع المثل القائل: (اللى يخاف من العفريت يطلع له).
صفق الحاضرون طويلاً لهذا الاقتراح الذي يدل على حصافة وبعد نظر، ومن شأنه تجنيب المنطقة منزلقات ومنعطفات هي في غنى عنها، كما شكر رئيس الجلسة العضو على هذا التنبيه، ولكنه وجه نقداً للمؤتمرين وهو يرى سيلاً من الألوان يتدفق دون ضابط، قال الرئيس:
- لقد جمعناكم هنا أيها السادة لنخرج بلون واحد؛ ولم اطلب منكم أن تجعلوني أتفرج على حفلة العاب نارية، ولا طلبت منكم أن تأتوا إلي بقوس قزح، عليكم أن تتفقوا على اللون الأحمر المطروح باعتباره المرشح الوحيد. ثم نطق الرئيس جملة المرشح الوحيد باللغة الإنجليزية مستعرضاً ثقافته أمام القنوات الأجنبية.
كان رئيس الجلسة متأكداً أن المؤتمرين لن يجدوا صعوبة في فهم عبارة المرشح الوحيد ولو قيلت لهم بأي لغة، حتى لو كانت لغة منقرضة، أو لغة الطير، لذا لم يكلف نفسه عناء ترجمتها لهم، ولم يدهش البتة عندما وجدهم قد فهموها كما رطن بها.
رفعت الجلسة للتداول، وفي هذه الأثناء وردت اتصالات من جهات دولية عديدة، تضمن أحدها تأنيباً شديد اللهجة، قال المتحدث من مكان قصي في ما وراء البحار:
- لماذا لم تحاولوا يا هؤلاء شق البطيخة لمعرفة لونها بدلاً من هذا الجدل العقيم، أين عقولكم؟
تبنى رئيس الجلسة هذا الاقتراح وقام بنقله إلى الحضور دون الإشارة لمصدره، كانت دهشة الحضور شديدة كيف غابت عنهم هذه الفكرة طيلة هذا الوقت، وبدأوا يبتسمون في سعادة لظهور هذا الحل غير المتوقع. غير أن احد الأعضاء قال:
- ولكني لا أرى أي سكين لشق البطيخة؟
تجاهل الرئيس السؤال، مما حدا بالعضو لتكراره.
أجاب الرئيس وهو يتصنع الابتسام:
- وجود السكين في قاعة المؤتمر، أيها الأشقاء، ربما يبعث إشارة غير ايجابية للمجتمع الدولي؛ توحي بأن الأمة العربية امة إرهابية، وسكين الفاكهة كما تعلمون واردة ضمن أسلحة الدمار الشامل. ولا نريد الدخول في هذه المتاهة. فلتذهب الفاكهة كلها للجحيم إن كانت بحاجة الى سكين.
لكن العضو اللئيم حرن رافضاً مبارحة الأسئلة المحرجة:
- وكيف سيتم شق البطيخة إذن يا سيادة الرئيس؟
ظهرت علامات الامتعاض على وجه الرئيس، فاخرج مضطراً أداة تقليم الأظافر من جيبه، واقترب من العضو المشاكس، وقام بفرد أجزائها أمامه، مشيرا بأصبعه الى سكين صغيرة جداً بداخلها، ثم قام بإعادتها بسرعة إلى جيبه قبل أن تلتقطها كاميرات القنوات المتحفزة.
أنبرى عضو يقرض الشعر ويقترض به وقد أطربه العثور على حل فارتجل قائلا:
نحن قوم هاموا في البطيخ
وأنتجوا الشربات من فسيخ
ناموا بعد ملء البطن بالطبيخ
فكيف الحلم بالصعود للمريخ
تكالب الحضور في الثناء على الأبيات، وقال أحدهم:
- لله درك يا أخا العرب من أي بحر هي؟
قال العضو الشاعر مغتاظاً وقد سمع (لله درك) وكأنها (الله يضرك):
- من بحر البلطيق، لماذا تدعو على بالضرر؟
حلف شقيقه بان كلمة ضرر لم تأتي على لسانه، ووجه أصبع اتهامه نحو هذه الأجهزة الامبريالية ناقلة الصوت؛ والتي صممت لتحريف الكلام وتشويهه بغرض خلق الفتنة بين الأشقاء.
دق رئيس الجلسة على المنصة لفرض النظام بعد أن انفرط عقده، وأعطي الفرصة لمتحدث كان يلح في طلب الحديث، قال المتحدث:
- الاقتراح المقدم من السيد الرئيس بشق البطيخة اقتراح مفخخ.
فوجئ الرئيس بكون اقتراحه مفخخاً وكذا الحاضرون، فهم قد سمعوا بحمار مفخخ وجنازة مفخخة، و دراجة مفخخة؛ وعروس مفخخة وعربة مفخخة؛ لذا فقد استدارت وجوههم ناحية العضو مستفسرين، قال العضو شارحاً قوله:
- الاقتراح لا يقدم حلاً بل يقدم مشكلة، أنا أتساءل من الذي سنوكل له شرف القيام بهذه المهمة؟ ألا ترون أن هناك قنبلة موقوتة تم زرعها داخل هذا الاقتراح!
تبددت الابتسامات ووجم القوم لدى سماعهم هذا التساؤل وقد أدركوا حجم المشكلة الجديدة، من الذي سيحظى بهذا الشرف يا ترى؟
بعد مداولات استمرت يومين؛ قرر المؤتمرون ما يأتي:
(حفاظاً على وحدة الصف العربي من التفتت، وتفويتاً للفرصة على الأعداء، لقد قررنا أن تبقى البطيخة سالمة كما ولدتها أمها، فوحدة الصف العربي غالية ولا يمكن مساواتها ببطيخة، لأن شق البطيخة يعني شق الصف العربي، لذا ستبقى أمتكم متحدة؛ وسنملأ صفحات القاموس بكل ما سنختلف عليه من ألوان البطيخ؛ حتى لو وصل العدد إلى مائة أو أكثر، لكن اهم انجاز لهذا المؤتمر والذي سيخلده التاريخ؛ هو اتفاقنا وبالإجماع على لون البطيخة).
تصفيق...قبلات.. سيارات سوداء .. أعلام تعاكس الهواء.. طائرات.. صحف.. قنوات فضائية.. محللون استراتيجيون.. قمة بطيخية ناجحة.
ملحوظة: ظلت البطيخة مكانها بعد انتهاء المؤتمر وعندما جاء عمال القاعة لتنظيف المكان؛ كان بهم شوق عارم لمعرفة لون البطيخة من الداخل، كانت خيبة أملهم عظيمة عندما لم يجدوا بطيخة حقيقية بل بطيخة مصنوعة من البلاستيك، وجوفها ملئ بالهواء ،ومكتوب عليها بأحرف صغيرة ( Made in USA )، صنع في الولايات المتحدة.

nakhla@hotmail.com

 

آراء