بمناسبة بدر الكبرى: حديث الوليد آدم مادبو للجالية السودانية بدولة قطر

 


 

 

 

السادة الأجلاء، الضيوف الأكارم، الأخوة المسلمون، الجمع السوداني المبارك ....
منذ أن انطلقت الحضارة الغربية وهي لا تخرج عن مدار الهيمنة ومحاولة الاستحواذ علي موارد البشرية مستخفة بحضارة المسلمين والإنسان الإفريقي خاصة ومنكرة فضله في السبق وجديته في التعريف بفضائل الارتقاء الأخلاقي للإنسانية. لا أود هنا استبدال مركزية بأخري إنما استعادة مفهوم يربط التقدم بالأخلاق. إن الإنسانية شقيت يوم أن فصلت أحداهما عن الأخر. بالقدر الذي أسهمت فيه الحضارة الغربية في نهضة البشرية فقد انطلقت دون بصيرة مسببة الهلاك لها وللجميع. في الوقت الذي يكون فيه المسلمون أكثر انهزاما فإنهم يتبارون في التسلح ويعمدون على تذكر الأمجاد العسكرية. ومما يترخصون الخوض فيه دون حرج هو أمر الغزوات أو المعارك العسكرية التي لا يكادون يخوضون في توثيق تفاصيلها الحسية والميدانية حتى تكاد تغيب مغازيها وحكمة مشروعيتها. فيما يتبارى شيوخ القنوات الفضائية في أيهم أوثق سنداً وأزكي نطقاً لحديث أَبِي هُرَيْرَةَ عن الشهيد، ينحي العالمين منهم منحاً موضوعياً ومنطقياً يحفظ للنص قدسيته وللدلائل رمزيتها.
النص: عن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه و سلم إِلى خَيْبَرَ. فَفَتَحَ الله عَلَيْنَا. فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبا وَلاَ وَرِقا. غَنِمْنَا الْمَتَاعَ وَالطَّعَامَ وَالثِّيَابَ. ثُمَّ انْطَلَقْنَا إِلَى الْوَادِي. وَمَعَ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و سلم عَبْدٌ لَهُ، وَهَبَهُ لَهُ رَجُلٌ مِنْ جُذَامٍ. يُدْعَى رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدٍ مِنْ بَنِي الضُّبيْبِ. فَلَمَّا نَزَلْنَا الْوَادِيَ قَامَ عَبْدُ رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه و سلم يَحُلُّ رَحْلَهُ فَرُمِيَ بِسَهْمٍ. فَكَانَ فِيهِ حَتْفُهُ. فَقُلْنَا: هَنِيئا لَهُ الشَّهَادَةُ يَا رَسُولَ اللّهِ قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و سلم: «كَلاَّ. وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ! إِنَّ الشَّمْلَةَ لَتَلْتَهِبُ عَلَيْهِ نَارا. أَخَذَهَا مِنَ الْغَنَائِمِ يَوْمَ خَيْبَرَ. لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ» قَالَ فَفَزِعَ النَّاسُ. فَجَاءَ رَجُلٌ بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ! أَصَبْتُ يَوْمَ خَيْبَرَ. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه و سلم: شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ.

مناط التفسير:
إن الغلول وأكل أموال الناس بالباطل من الآفات التي تحدث الفتنة وتؤدي إلى هلاك المجتمعات ولذا فقد نبهنا النبي (صلى) إلي خطورة الانشغال بمظهر من مظاهر التدافع الخارجي وإهمال ذاك الداخلي الذي يتمثل في الشح وظن المرء أنه بالتملك إنما يحصن نفسه فيما أنه يتسبب في إهلاك ذاته والمجتمع! هذا أخذ شَمْلَة فما بالك بمن يسرقون ثروات مجتمعات بأكملها فينجم عن ذاك إفقار وقتال ودمار وتهجير والأخطر إفلاس أخلاقي وروحي ومادي؟
***********
كانت معركة بدر إحدى التجليات الربانية وحادثة فرق فيها المولى عز وجل بين الحق والباطل. فالتوحيد تحقق باستمطار الرحمة والبركة، والنصرة تبددت في تنزل المدد الإلهي واختيار الأعيان والحكمة تجلت في تحديد المكان والزمان والتأييد أدخر في الأزل لمحمد وأله وصحبه إلى يوم الدين.
النص: كَما أَخرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَريقًا مِنَ المُؤمِنينَ لَكارِهونَ ﴿٥﴾يُجادِلونَكَ فِي الحَقِّ بَعدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقونَ إِلَى المَوتِ وَهُم يَنظُرونَ ﴿٦﴾ وَإِذ يَعِدُكُمُ اللَّـهُ إِحدَى الطّائِفَتَينِ أَنَّها لَكُم وَتَوَدّونَ أَنَّ غَيرَ ذاتِ الشَّوكَةِ تَكونُ لَكُم وَيُريدُ اللَّـهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقطَعَ دابِرَ الكافِرينَ ﴿٧﴾ لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبطِلَ الباطِلَ وَلَو كَرِهَ المُجرِمونَ ﴿٨﴾
مناط التفسير: لقد انتصر النبي (صلى) على المشركين في كافة الميادين (الأخلاقية والفكرية والمجتمعية، إلى أخره)، فكان الانتصار في المعركة العسكرية امتداد طبيعي وحصاد بشري ناله باستحواذه أسباب النصر المادية والروحية. فما بالنا نتخلف في جميع الميادين ونطلب النصرة في ميدان لم يلجئنا إليه غير العجز؟ بل ما بالنا نتعجب من انحياز الشعوب العربية لقيم السماء ونقابل ذلك بالمراء؟
إن الشرعة التي تتحقق بها الحرية والسلام والعدالة هي الشريعة هي حسب المفهوم الدلالي والمنهاجي للكلمة، أما النظم القروسطية التي استحدثتها النظم الاستبدادية لتطويع الشعوب وحملها على تقبل الذل فهي شريعة يجب أن تضاف إلى الطغيان لا أن تنسب إلى الرحمن. لا تنتظم حركة المجتمع ولا ينسجم أفراده وتظهر فرادتهم إلا بالاحتكام إلى دستور يسهل إمكانية انتقالهم الوجودي من كونهم جماعة مؤمنين إلى واقعهم في دولة المواطنين.

وإذا كاد "حظ النفس أن يكون سببا لفساد ذات البين" في بدر وما حاك في صدور الحراس والمقاتلين بسبب الغنائم، فإن تحيز الدولة اليوم بسبب انتماء أفرادها الأيديولوجي أو الجهوي أو الاثني وعدم اتخاذها مسافة متساوية من الكل من شأنه أن يحدث إرباكا في المجتمعات نتيجة للتغول والتداخل غير السوي بين السلطات. لم ينشد الإسلام دولة دينية أو دولة علمانية فكلاهما يشكل شكلا من أشكال الاستبداد، دعك عن الاستحالة العملية لمثل هذه الأطروحات، إنما نشدت مبادئ الإسلام دولة مدنية تساوي بين المواطنين (وليس فقط المسلمين) في الحقوق والواجبات.

************
لقد استهل المولى عز وجل توجيهه للمسلمين بالصيام بالحديث عن التقوى، تكلم عن العلم والأسس الغيبية للتلقي فقال (وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)، حثهم على الشكر فقال (يُرِيدُ اللَّـهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّـهَ على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿١٨٥﴾، دلهم على أسباب الرشاد، ختم بالتقوي وعقب على كل ذلك بالحديث عن الرشى وخطورة تورط الحكام فيه نظرا لما لديهم من حيل قد يستخدمونها لإفساد الأفراد ومن ثم المؤسسات. لا يخفى على أحد أن غياب الأسس السليمة والمطلوبة لتحقق الشفافية والمحاسبية والتبادلية قد تسبب في هلاك كثير من المجتمعات إن لم يكن أغلبها.

النص: وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴿١٨٨﴾

مناط التفسير: إن للتقوى مدلول شخصي يتبدى في العرفان، ولديها مدلول جماعي يتبدى في التكافل، كما أن لديها مدلول قيمي رأسي غير ذاك الأفقي يتعلق بدور الحاكم أو القائم بالأمر في تنسيق حركة المجتمع والتحقق من تناغم كافة منظوماته. إن إخلال الفرد بدوره يؤدي إلي إخلال في حركة المجتمع كافة، وقد ينذر بهلاكه. من هنا كان التحذير والتنويه من خطورة التورط في الفساد.

الخاتمة
إن القرآن من حيث هو كتاب لا يمثل "معجزة" حسية قدر ما ينشء إحساساً غامراً بالحيرة والدهش والانقطاع، هي حالة أشبه بحالة "الإبلاس" الناتجة من القدرة غير المحدودة لاستيلاد معاني جديدة منه.
وإذا كانت الاسطورة في العهد القديم هي الإطار الذي توضع فيه الظواهر المرئية، مثل ناقة صالح، العجل، يأجوج ومأجوج، الدجال، الدخان، خروج الشمس من مقربها، الدابة، إلى آخره، فقد جاء الإسلام معليا من شأن النص ومعززاً من قيمة الحرية، بل ومتدرجاً حتى يخلص النص من الاسطورة ويبقى على حرية الاختيار.
إن عجز عقول المسلمين في ازمان متفاوتة عن الاحاطة بأصول وظواهر الأحداث الكونية الضخمة، وعدم إحساسهم بالأمان الفكري والمادي جعلهم يضخموا من قيمة "الانا الشخصية" على حساب قيمة "الانا النصية"، فانتقلنا لا شعورياً من التجريد إلى التجسيد ومن التوحيد إلى التحييد، حتى أصبح الإسلام دينا لأشخاص معجزين هم "معيار صحة العقيدة والدليل عليها" وليست رب العالمين. وهذه هي الورطة الكبرى. فقد استعدنا الأسطورة (بطريقة أخرى) معليين من قيمة الاشخاص ومغيبين لقيمة النصوص. لا غرو، فقد أخذ التطور شكل باروبلا (Parabola)، انخفاض-علو-انخفاض، مما يجعل مجتمعاتنا على جرف قد انهار بالغربيين من قبل عندما كان قادتهم يحسون دونية وعجز حال تغلغل المسلمين في أراضيهم وتوجس عانوه لكن سرعان ما تخلصوا منه حال صعود حضارتهم الي مراقيها.
في الوقت الذي أنهى فيه المسلمون الدولة البيزنطية تقدموا نحو المانيا، وسيطروا على كل الساحل الجنوبي للبحر المتوسط، كانت الكنيسة تمنى نفسها بظهور المسيح الوحيد الذي بقدوره أبطال حبائل المسيح الدجال (بالنسبة لهم المسلمون) والقضاء على شراسته وخبثه! هذه الخرافات التي غزت مخيلة الكنيسة وجعلتها تدفع مراراً وتكراراً تجاه خوض الحروب الصليبية كانت مما عطل انطلاقة الغرب الحضارية وساهم في وضع عراقيل أعاقت التفاعل مع المسلمين لمدة أربعة قرون -كانت الآزهى في تاريخ الفكر الإسلامي. صحيح إن العسكر تقهقروا لكن فكر بن رشد وبن سينا وروحانية بن الرومي وبن عربي تسربتا محدثتين طفرة هي احدى أسباب البراعة التي نعاينها اليوم. ظلت قوة المسلمين العسكرية ظاهرة في الوقت الذي تراجعت فيه قوتهم الحضارية، حتي هذه الاخيرة انهارت بالتقادم. إذن فالتفكيك الأنثروبولوجي الثقافي لبنية المجتمعات الإسلامية هو الاجدى في فهم الرؤى الإسلامية للغرب والانفع في تجاوز المسائل الكبرى والأجدى لحل إشكاليات كثيرة في آتون العلاقة مع الأخر ومع الذات لأنه يرأب الصدع الذي اعترى بنية الوعي السياسي والاجتماعي ويعالج التورمات (او الشغريب بلغتنا الدارجية) التي شابت النفسية.

auwaab@gmail.com

 

آراء