بيتر نيوت كوك والتجاوز إلى ما بعد العنصرية في السودان (1)

 


 

 

 

 

ushari@outlook.com

كنت أحسبني قبِلتُ منذ أعوام مضت الحقيقة المرة عن تغييب صديقي بيتر نيوت كوك من دنيانا. فحين بدأ الدماغ في الرحيل، وذهبت معه الذاكرة، كانت سني الوعد الذي حمله بيتر للسودان قد قضت. عبَرتُ بالمغالبة مرحلة الإنكار. بعد أن ضاع الأمل في معجزة طبية. فبقيت الحسرة على ضياع الحياة المتفلتة من بين أيدي الحياة.

عادت صورة بيتر حاضرة بقوة حين اضمحل الأمل في جنوب سودان قد يعود إلى العقل. يوم بدأ اليأس يعصر القلوب أمام مشاهد الفشل السياسي والتقتيل الجماعي والقسوة والعتو بالقبيلة وبالعنصرية في دولة جنوب السودان. كنت أحادث نفسي أهذي، أردد في اللغة غير المُخَرَّجة: لو كان بيتر هنا، بذكائه وبصوته، لما كان حدث ما حدث.  

ما قرأت مقال الأخ د. سلمان محمد أحمد سلمان في سودانايل حتى اشتعلت عصبونات الدماغ تذكرني بموتي الذي أتفكر فيه بصورة مستمرة. فوجدتُني أعيش مجددا لحظة محددة في أكتوبر 2007 كنت متيقنا عندها أن  ساعتي اقتربت، وأني سأموت يومها موتا هادئا، ومقبولا عندي. تمددت وقبلت أن أموت. وقررت أن أموت. لحظة مشحونة بالحزن المخلط بالصفاء الذهني، حين نرى الموت ينظرنا ونحن ننظر. يوم كنت أغالب الإحساس بحتمية موت ابنتي المهددة بالتقتيل بالمحكمة الشرعية. فكان موتي المعجل أفضل من عذاب متوقع بدونها لا يطاق. شعور طاغ بالعجز أمام شر العدوان القضائي الإسلامي.

هذه المشاعر المتأججة عن دنو أجلي في العام 2007 عاودتني، مباشرة وأنا أقرأ الخبر للمرة الأولى أن بيتر قد رحل. كنت انتهيت للتو من البحث في مقال عن السلطة القضائية، أكتب فيه عن الكتابة بالألم عن التجربة الشخصية في المحاكم، وعن أهمية الكتابة للتعافي من الألم الذي لا يطاق.

... كان بيتر حاضرا، ويظل حاضرا، في حياة الذين عايشوه وعرفوه. زملاؤه أغلبهم مثلي قاربوا السبعين. في هذا العمر، نقبل الموت. لكنا لا نتحمل رحيل بيتر، فهو ألم لا طاقة لنا به.

صور مشرذمة من الذاكرة المُجرَّحة  تأتيني. متشابكة مع صور الصديقة القانونية جيميرا رون التي رحلت قبل أيام قليلة، وكان بيتر يعرفها أيضا ويقدر تحقيقاتها عن أوضاع حقوق الإنسان في السودان.

أرى بيتر، وأسمع صوته العميق المتميز. تدفعني الذاكرة دفعا لأسترجع بكتابة الألم تلك اللحظات المشحونة بالجمال. لحظات المحادثات  الثرية والممتعة مع صديقي الراحل بيتر نيوت كوك.

(1)

في محادثات بعد انتفاضة أبريل 1985- 1989 خلال فترة الحكومتين الدكتاتوريتين (الجزولي والصادق)

(أ)

التشجيع الذي وجدته من بيتر بعد نشر مقالي عن القرار القضائي عن إعدام الأستاذ محمود محمد طه، وادعاء القضاة أن الجثمان لا يمكن العثور عليه. كنت انتقدت القرار القضائي. وكان ذلك أول مقال أكتبه عن القضائية السودانية أحلل فيه نص المقال، لأخلص إلى أن المعلومات عن مكان جثمان محمود بل كانت معروفة، وأنه يمكن الحصول عليها. كانت لدي معلومات دقيقة ومؤكدة عن لحظة عودة الطياريْن من مهمة إخفاء جثمان محمود وتقديمهما تقريرا للفريق سوار الدهب في مكتبه (أين المقال؟ مدد!).

(ب)

أتذكر تعليقات بيتر وتدخلاته في كتاباتي عن العنصرية في السودان، واقتراحه لي أن أستخدم تعبير "جهاز الفبركة" في ورقتي عن "فبركة المؤامرة العنصرية". بسبب وجود ذلك جهاز الفبركة في الاستخبارات العسكرية، بقيادة السر أب أحمد (أين المقال؟ مدد!).

كان بيتر مهتما بالمؤسسة العسكرية. وأكثر معرفتي باستراتيجيات القوات المسلحة وسياسة الأرض المحروقة في الحرب في جنوب السودان كانت منه، ومن الضابط باك مشام مشام. كان همه يتجاوز دور القوات المسلحة في الانقلابات.

(ج)

هنالك التغيير الذي أدخله بيتر في نص محاضرتي للأكاديمية العسكرية بالخرطوم، لينقذني من طائلة القانون ومن غضبة العسكر. باقتراحه لي أن أطرق النقطة الخطيرة عن المليشيات العنصرية وعن ثبات القوات المسلحة في محاربة ما يسمى "التمرد" في شكل أسئلة، وأن لا أضعها في جمل تقريرية. سأنشر المحاضرة، في سياق ذكرى بيتر (2).

(د)

بين الأوراق  خطاب بيتر لي من ألمانيا، عن كتاب مذبحة الضعين (بلدو وعشاري). قال لي إن الحدث التاريخي هو "الكتاب" في ذاته، وصدوره في تلك المرحلة السياسية في السودان من قبل شخصين من المجموعة "الشمالية".

كان بيتر، مثله مثل فرانسيز دينق، يسعى إلى حل المشكل القومي في السودان بالتأثير الأخلاقي على المجموعة الشمالية لتتغير. ولابد أن الانتصارات التي حققتها حركة مارتين لوثر كينغ للحقوق المدنية في أمريكا كانت في بالهما. أن التغيير المؤسسي بالطرق السلمية ممكن في السودان.

(هـ)

كذلك أتذكر الأثر الباقي الذي تركه بيتر في مجموعة من التجار جيراني بمدينة الرياض، بعد جلسة ونسة له معهم في الشارع أمام بيت المقاول الحاج لشرب شاي المغرب باللبن. مما ذوب غضبتهم على كتاباتي الفظيعة عن جنوب السودان. لم ينسوا بيتر قط، قال لي أحدهم إنها كانت أول جلسة ونسة لهم مع "جنوبي" في حياتهم. وظلوا يسألوني عن بيتر بعد انضمامه للحركة الشعبية.

تحضرني عبارة "ما بنمشي ليهو، ما بنمشي ليهو"، في النكتة التي ظلت تُضحك بيتر على مدى أعوام ممتدة، بعد أن قرر الصادق المهدي أخيرا عقد لقاء مع جون قرنق. "ما قلتوا ما بتمشوا ليهو"، كان التعليق مصحوبا بالضحكة المدوية من بيتر.

(2)

في أديس أبابا في العام 1987

في المحادثات الفكرية مع جون قرنق وقادته. بحضور بيتر، والصديق الواثق كمير، والصحفية الناشئة ليلى عبد الرحيم (اليوم أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة في كندا).

وفكرة بيتر عن لزوم إنشاء الحكومات المدنية المحلية في المناطق المحررة في جنوب السودان.

يا للمأساة، فقد تمت في مطار الخرطوم سرقة أشرطة الكاسيت السبعة فيها صوت بيتر وأفكاره، ضاعت في كرتونة شحنتها من الإمارات. وفيها أفكار الدكتور الواثق الذي كان يناكف جون قرنق خلال ذلك اللقاء. لا يبق لنا إلا الملخص عن أقوال جون قرنق الذي تم نشره في سودان تايمز من قبل ليلى عبد الرحيم. لربما تكون ليلى تحتفظ بنسختها الكاملة من الأشرطة.

(3)

في واشنطن 1997-1998

في لقاء مع الأستاذ جون بريندرقاست، عندئذ مساعد الأمن القومي في حكومة كلينتون. عن الهم بالتوثيق لانتهاكات حقوق الإنسان.

تذكرت بيتر حين كتب بريندرقاست قبل أيام قليلة مقالا قويا عن خطر الفساد، وعن حكومة الحرامية في جنوب السودان، الكليبتوكراسي، على الاتفاق الأخير في جمهورية جنوب السودان.

كان بيتر الذي أعرفه سيتفق مع  بريندرقاست بشأن العلاقة بين الفساد والتعبئة العرقية والنزاع الدموي. وبشأن لغة التوصيف والتحليل أيضا. 

(4)

في رومبيك 2001-2002

اللقاءات الجميلة مع بيتر ومع والدته، في مدينة رمبيك، مدينة بيتر.

حين كنت أشرف على مشروع إعادة الأطفال المجندين إلى مجتمعاتهم المحلية بعد تسريحهم.

وخلال مؤتمر في ذات رومبيك. كان بيتر من منظميه. لتطوير قوانين وسلطة قضائية مستقلة لجنوب السودان. من مشروعات بيتر الكبيرة التي تسجل إسهامه العلمي في هذا الجانب.

كان معروفا عن بيتر أنه من بين قليلين يعبرون عن آرائهم الانتقادية ضد جون قرنق، أمامه. ولم  تكن له أية طموحات شخصية من أي نوع. كان راضيا بالحياة وسعيدا بها.

كان له تقدير خاص لمنصور خالد ومودة خالصة تجاهه. كان يضحك حين يردد عبارات  منصور له "تعرف يا بيتر، إنتوا الجنوبيين ديل، الشغل معاكم صعب!"

(5)

أتذكر بالألم سعي بيتر، عبر الدكتور عطا البطحاني، يبحث عني لا يجدني. أرادني أن أعينه بشأن التعليم في جنوب السودان، بعد أن  أصبح وزيرا بعد اتفاقية السلام. لكني كنت حينئذ حبيس محاكم الإمارات، وبعدها حبيس محاكم السودان. يوميا، ستة أياما في المحكمة. على مدى أعوام. وكان بيتر بدأ رحلته الأخيرة، في الحياة التي انتهت قبل شهرين.     

...

أحاول ترتيب الصور التي جمعتني مع بيتر لأكتب عنها بالألم. فلا أستحضر إلا فداحة الفقد. لا أدري إلى أين تذهب بي كتابة الألم عن بيتر. ولا تكون الكتابة عنه إلا بالألم، ذاتية وشخصية، ومتعلقة بالشأن العام، في آن. فقد كرس بيتر حياته لتغيير السودان. بالمقاومة اليومية. وبالاندراج في العمل السياسي الأخلاقي. بالضحك والنكات وبالأسى. وبالحب العظيم للسودانيين. أتمنى الصبر والشجاعة لزوجته وأبنائه.

..

(6)

في العام 1986 نشرت مقالا في جريدة الأيام بعنوان "صورة الجنوبي في العقل اليميني". فجاءني بيتر في بيتي يحمل نسخة. قال لي إنه قرأ المقال عدة مرات. وإن المقال أبكاه.

أعيد نشر المقال ليتناص مع ما كتبه د. سلمان محمد أحمد سلمان عن أن بيتر ظل دائما يحمل الأمل في سودان موحد.

أضيف بهذا المقال أن بيتر بل ظل يحمل ذلك الأمل في وحدة السودان بالرغم من شراسة الممارسات العنصرية والإهانات الصغيرة ذات الأثر التي كان يتعرض لها المثقفون مثله من جنوب السودان، بصورة يومية. في الخرطوم. مما يسجله هذا المقال.

أعيد نشر المقال لتستبين قدرة بيتر على تجاوز الحواجز النفسية والمؤسسية المركبة بالعلاقات العنصرية في السودان. 

فلنتذكر بيتر نيوت كوك الذي عاش حياته متمثلا في الفكر وفي الممارسة وعْدَ "ما بعد العنصرية في السودان". وهو كان متقدما علينا لا زلنا نرزح في هذا برزخ العنصرية.

هذا هو المقال.

... صورة الجنوبي في العقل اليميني

(1)

تنطوي العقلية السائدة في الأحزاب اليمينية الثلاثة  (الأمة القومي، الاتحادي الديمقراطي، الجبهة الإسلامية) على تصورات محددة حول طبيعة  "الجنوبيين". وتجد هذه العقلية تعبيراً عنها في صحف هذه الأحزاب، حيث تقدم صورة نمطية عامة للجنوبي كعنصري حاقد، وغدار خؤون، ومهووس دموي الخ..

قدمت لنا صحيفة "صوت الأمة" في أعدادها الصادرة في 23/7/1986 و30/7/1986 عينة من هذا الخطاب الذي يعبر عن تصورات العقل اليميني لـ "الجنوبيين".

فأركز هنا على العقل اليميني في هذي جريدة حزب الأمة بالتحديد. لأن هذا الحزب صاحب الأغلبية البرلمانية، وهو القابض على السلطة، والمسيطر على الحكومة، ولأنه مناط التفاؤل لدى بعض الفئات بأنه الحزب الذي يملك مفتاح الحل لقضية الوحدة الوطنية. لهذا، يجد خطابه المنشور قدراً كبيراً من اهتمامي.

أود أن أطلق تحذيرا أن العقل اليميني الذي يفرز تصورات لـ "الجنوبيين" كحقدة عنصريين يشل قدرات حزب الأمة، والحزبين اليمنيين الآخرين، عن التصدي العقلاني لقضية الوحدة الوطنية.

إن كلمة "اليمين" التي أستخدمها مصطلحاً لتوصيف هوية حزب الأمة والعقلية التي ينطوي عليها خطابه تدعمها طبيعة هذا الخطاب في تصديه لتوصيف "الجنوبيين". فلغة هذا الخطاب ومحتواه تمثلان دليلاً كافياً على يمينية التفكير والتوجه. ولا يبدل من هذا القول شيئاً النزوع الرمزي داخل حزب الأمة نحو "الوسط". فوسطية هذا الحزب تبقى على مستوى الطموح، لا الواقع الماثل الذي يكشف عنه تصور للجنوبيين تعوزه الاستنارة الفكرية.

(2)

رمبيك وجوبا ولام أكول

أفرزت الأحداث التي اتصلت بحصار رمبيك وجوبا، وبانضمام د. لام أكول للحركة الشعبية، سيلاً من المقالات، والتحقيقات والبيانات والتصريحات من قبل حمَلة العقل اليميني. هذا العقل اليميني، في تقديري، هو الذي يستبطن صورة "الجنوبيين" التي أعرض لها في هذا المقال، وتمثلها مقالات رئيس تحرير جريدة "صوت الأمة" التي أشرت إليها. 

هذه الصورة "للجنوبيين" ليست من اختراع رئيس تحرير جريدة صوت اللامة. وهى ليست صادرة عن نزعات شريرة لديه. لكنها جزء من تكوين العقل الثقافي اليميني العام في السودان، تنبعث في أشكال لغوية أو ممارسات يومية لدى التاجر أو المثقف في آن واحد. في سياق الصراع بين اليمين والمجموعات الجنوبية.

على سبيل المثال، مثلت أحداث مدينة رمبيك هزة نفسية عنيفة للتاجر محمد أحمد الشفيع. وفق ما أوردته جريدة صوت الأمة (30/7/1986). ففي التحقيق الطويل، يعطى هذا التاجر وصفا لـ "عمليات النهب والخراب والدمار" في رمبيك، مما كان "صادراً من قبيلة الدينكا".

ويجد هذا التعميم دعماً إضافياً حين يواصل التاجر قوله بأن "أي فرد ينتمي إلى قبيلة الدينكا بمختلف فروعها سواء كان عمره 8 سنوات، أو ثمانين سنة، فهو متمرد أو ينوي التمرد". فتورد جريدة صوت الأمة هذا القول دون أي تعليق، وكأنه حقيقة لا مراء فيها أو حكمة دهرية لا يطالها شك.

هذه الصورة لـ "الجنوبي المتمرد" ليست قاصرة على تفكير مثل هذا التاجر الذي قد لا يكون مستنيراً أو دقيقاً في لغته. وهو قد لا يرى في الحرب الدائرة أكثر من أنها تعرقل تجارته وحياته التي عهدها في رمبيك زماناً طويلاً. بل إن هذه الصورة تبدو أكثر تحديداً ووضوحاً في خطاب رئيس تحرير الجريدة، الأستاذ سيد أحمد خليفة.

وإذ صمت المثقفون والقادة في حزب الأمة إزاء تلك المقالات عن "الجنوبيين" من أعوان قرنق وغيرهم من الجنوبيين التي كتبها رئيس تحرير صوت الأمة، رأيت أن لا أترك هذا الأمر يمر دون وقفة. وأن أتناول مادة ولغة تلك المقالات بالفحص. لأجل تركيز الضوء على المؤسسة العقلية اليمينية التي تفرز صورة "الجنوبي العنصري الحاقد المهووس اللص ..."

كذلك قدَّرت أن ما يكتبه الأستاذ سيد أحمد خليفة ينبغي أن يُنظر إليه بجدية. فهو رئيس تحرير جريدة الحزب الحاكم فعلاً. وهو الذي يكتب افتتاحية الجريدة، ومقالها الأسبوعي الرئيسي. فهو، إذن، لسان الحزب، والمعبر عن ما يدور في ذهن رئيس الحزب، والمفسر لأفكاره، والمهيئ للرأي العام الملائم لتنفيذ سياسة الحزب. هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، يحتل الأستاذ سيد أحمد خليفة وضعاً مقدراً في الصحافة السودانية. وله إسهام كبير في تكوين الرأي العام السوداني. ودونك مقالاته المشهورة التي تصدى فيها للجبهة الإسلامية وأعوانها في المجلس العسكري ومجلس الوزراء إبان الفترة الانتقالية، مثل "السدنة والجيش"، و"الربائب يبحثون عن مشير"، وغيرها مما كان له الأثر في تحجيم شعبية الجبهة، وفي كبح مساعي نائب رئيس المجلس العسكري لتكوين حكومة قومية تشارك فيها الجبهة، وفي التصدي لحزبية رئيس الوزراء، الجزولي دفع الله، آنذاك.

فرئيس تحرير صوت الأمة يتحدث من موقع السلطة التي يستمدها من حزبه، أقوى حزب. فيتداخل حديثه عن "الجنوبيين" مع الممارسة والمواقف السياسية لحزب الأمة. فحين أعرض لمقالاته بالانتقاد أنتقد عقلية السلطة من حيث هي، في تقديري، إحدى معرقلات السلام. وهي عقلية تستبطن تصوراً محدداً لـ "الجنوبيين" كصنف أنثروبولوجي جامد، يتسم بخصائص مثل العنصرية والحقد والهوس واللصوصية. مما سأبنيه في هذا المقال.

(3)

اللصوصية خاصية عرقية

يقدم رئيس تحرير صوت الأمة في مقاله بعنوان "قرنق والذين معه" (23/7/1986) رؤيته لأسباب الحرب الدائرة الآن. فيتكئ على تفسير محوره تصوره الخاص لسيكولوجية أعوان قرنق من الذين كانوا وزراء، وحكاماً، وإداريين، وموظفين، ومدرسين، وجنوداً، وضباطاً، "وكلهم من أبناء الجنوب".

فيذهب رئيس التحرير إلى أن "هذا الصنف من الجنوبيين" هم "مجموعة من اللصوص الذين شدتهم روائح موائد قرنق بعد أن جاعت موائد نميري". وأنهم "هربوا مع قرنق بعد أن حشوا جيوبهم بالمال المنهوب من الدولة".

بعدها، يقدم رئيس تحرير جريدة "صوت الأمة" صورة نمطية لسيادة الوزير الجنوبي الذي، حينما يتم إعفاؤه من حكومة نميري، كان يأخذ معه كراسي مكتبه، وعربة الوزارة. وعند التلويح له بالعقاب، كان هذا الوزير، على حد تعبير الكاتب، "يعلن النضال ويهرب إلى الغابة ملتحقاً بجون قرنق". ثم يسوق الكاتب حديثاً عن "جنوبيين" يبيعون كوتات السكر، وآخرين بددوا ملايين الدولارات من المال العام في "الترفيه بنيروبي"!

يجب أن لا يغيب علينا هنا أن النقطة الجوهرية في التصدي الانتقادي لهذا النوع من إفرازات العقل اليميني ليست لصوصية بعض الوزراء والمسؤولين "الجنوبيين". لكن جوهر الأمر هو تركيز رئيس التحرير على هذه اللصوصية عند الحديث عن الجنوبيين بالتحديد، وكأن اللصوصية خاصية أنثروبولوجية لأزمة لكونهم "جنوبيين".

وتؤكد استنتاجي هذا عن مكر العقل اليميني حقيقةُ أن لصوصية بعض قادة النظام المايوي، من غير الجنوبيين، تناقش ويكتب عنها دون تحديد الهوية العرقية لمقترفيها. بل ينظر إلى هذه اللصوصية، الخاصة "بنا نحن" كأعمال فردية لا تمس المجموعة "الشمالية"، العربية المسلمة، من قريب أو من بعيد.

(4)

المتعلمون الجنوبيون

يواصل رئيس تحرير جريدة "صوت الأمة" بحثه عن أسباب الحرب في خصائص "المتعلمين الجنوبيين" (27/7/1986). ففي تصوره، يمثل المتعلمون الجنوبيون "القطاع الحاقد من أبناء الإقليم الجنوبي".  وأنهم هم الذين يزرعون "الفتنة والحقد والعنصرية". ويقارب العقل اليميني درجة الفجور حين يصف هؤلاء المتعلمين بأنهم من "مثقفي الكنائس الخسيسة الحاقدة على السودان قبل الإسلام"!

ثم يقارن رئيس تحرير جريدة "صوت الأمة" بين هؤلاء المتعلمين من الجنوبيين الحاقدين "الذين يملؤون شوارع العاصمة متحدثين عن ظلم الجنوب وتخلفه" وبين الجنوبيين المفضلين لدية ممن يطلق عليهم "الناس العاديين البسطاء". وهؤلاء، في تقديره "لا يعرفون الحقد ولا البغضاء إلا عندما يتعلم أحد أبنائهم ويعود إلى المدينة ليبدأ رحلة انتزاع أهله من نفوس إخوتهم الشماليين".

فهكذا تتكشف دواخل العقل اليميني وتصوراته "للجنوبي المتعلم". وتتميز مقالات رئيس تحرير جريدة "صوت الأمة" بوضوح وصراحة نادرين في التعبير عن صورة تظل في بعض الأحيان مستترة وإن دلت على معالمها السياسات الواقعية.

إن الكلمات التي يستخدمها قادة حزب الأمة في توصيف الجنوبيين من نوع "حساسية"، "أوهام"، "مخاوف"، و"انعدام الثقة"، هذه الكلمات، على رقتها وبراءتها الظاهرتين، تنطوي على عنف رمزي ضد الجنوبيين أشد قسوة من صراحة رئيس تحرير صوت الأمة. فهذه الكلمات تجرد الجنوبي من كونه قادراً على اتخاذ موقف سياسي موضوعي وعقلاني ومبرر ومسبب أو محسوب بدقة. بل هي تجرده من العقل ذاته، وتصوره ذاتاً تتعامل وفق سيكولوجية فطرية: حساسية، مخاوف، أوهام الخـ...

من منطلق هذا الإدراك، تكون مساعي اليمين إلى "طمأنة" الجنوبي، لا إلى اتخاذ موقف تجاه مطالبه.

وإذا لم يصدِّق "الجنوبي المتعلم" تأكيدات السلطة أن حقوقه ستكون مكفولة في ظل القوانين الإسلامية، واتخذ موقفاً سياسياً مبدئياً لا يوافق هوى السلطة، تُسخَّر الأقلام، عندئذ، لتكيل له أقذع التهم وعبارات التحقير والعزل الاجتماعي.

فبعد انضمام د. لام أكول للحركة الشعبية، نجد أن رئيس تحرير صوت الأمة يصفه بأنه "أبرز مثال سيء" و"أسوا مثال يذكر" للمتعلم الجنوبي. ولا يستثنى الكاتب الشتائم النمطية مما ظل يفرزه العقل اليميني ضد الجنوبيين طيلة 30 عاماً. فالآن يتم تذكير لام أكول بـ "ثقافته الاستعمارية الحاقدة" وبـ "داخله الخرِب"، وبما يحمله من "الحقد والكراهية لإخوانه وأقرانه من أبناء الشمال"، وبتوجهه "العنصري"، وبـ "أحقاده المريضة".

وأخيراً يسائله رئيس تحرير صوت الأمة عن سبب عدم اختياره الإسلام ديناً، وهو الذي كان "طفلاً وثنياً"، بل "خامة وثنية قابلة لاعتناق أية ديانة" (27/7/1986). فهذه هي صورة "الجنوبي المتعلم" في عقلية اليمين. صورة نمطية جامدة محددة المعالم. وهى صورة إن لم تكن موجودة أصلاً في العقل اليميني السوداني لاخترعها. لأنها ضرورية لتبرير هيمنته وسيطرته اللتين تجدان تهديداً مباشراً وحاسماً من قبل هؤلاء "المتعلمين الجنوبيين".

(5)

أقليات عنصرية!

إن أحد أهم إسهامات دكتور الجزولي دفع الله للقاموس السياسي السوداني كان تزويره للدلالة الحقيقية لكلمة "العنصرية". فلقد كانت حقاً استراتيجية ذكية من جانبه أن حوَّل الدلالة السارية للمصطلح السياسي الاجتماعي "عنصري" لصالح القوى اليمينية التي ينتمي اليها.

ذلك أن هذا المصطلح "عنصري" يطلق أصلاً على المجموعة المهيمِنة التي تبرر هيمنتها بابتداع وتكريس قومية عنصرية إزاء الأقليات الاجتماعية المتساكنة معها. فجاء دكتور الجزولي دفع الله فأطلق مصطلح العنصرية على "بعض أبناء النوبة" و"بعض أبناء الجنوب" مِن مَن أسماهم بالمتآمرين على "الهوية القومية للشعب السوداني وحضارته وتاريخه".

وها هو رئيس تحرير صوت الأمة يكشف عن نسبه الفكري إلى السلف اليميني. فيصف المجموعات الرافضة للهيمنة بأنها مجموعة من "العنصريين".

 لقد أتاحت لي مقالات رئيس تحرير صوت الأمة فرصة تسليط الضوء على المؤسسة العقلية اليمينية. كما هي ممثلة في خطاب لسان السلطة السياسية. فهذه المؤسسة، بتصنيفاتها الجامدة الموغلة في العمومية والتعميم عن الجنوبي الحاقد العنصري اللص المهووس   تشكل أعتى معرقلات السلام.

ولابد من أن نتذكر هنا أن الاستخدام الاحترازي لكلمة "بعض" من قبل رئيس تحرير "صوت الأمة" في توصيفه للجنوبيين لا يفيده البتة في تخصيص تصوراته أو قصرها على "البعض السيء" من أعوان قرنق.

فلقد كان دكتور الجزولي دفع الله حاول ذات الألعبانة اللغوية من قبل. حين رد على مهاجميه بالقول إنه إنما قصد "بعض أبناء النوبة" و"بعض أبناء الجنوب".

لكن حين تُستخدم اللغة أداة للقمع والعنف ضد "أفراد" تُحدَّد هويتهم العرقية، ينسحب الاستخدام آلياً على المجموعة العرقية كلها. ومن جهة أخرى، فإن إدراك الدلالات التي ينطوي عليها العنف اللغوي العرقي تكون على أساس جماعي، بصرف النظر عن توجيهها لـ "أفراد".

فلا يتوهمن أحد أن وصف أعوان قرنق من الجنوبين بشتائم من قاموس الأمراض النفسية مثل همجي وعنصري وحاقد ستجد القبول من "أي جنوبي" بما في ذلك من الجنوبيين في "القوات الصديقة".

لقد قصدت أن يثير مقالي هذا مزيدا من النقاش حول موضوع العقل اليميني من حيث هو أعتى معرقلات السلام.

 

آراء