بين العولمة وعالمية الإسلام

 


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم
ahmedm.algali@gmail.com
مقدمة
قد لا يبدو أنَّ هناك أوجه شبه أو سبيلاً للمقارنة بين العولمة وعالمية الإسلام،لا سيما وأنَّ الإسلام دين إلهي يختلف في مصدره وغاياته عن العولمة: الجهد البشري ذي الغايات المادية المحدودة.ولكن مما يشفع لمثل هذه المقارنة أو المعالجة للموضوعين معاً،أنَّ الإسلام لم يتنزل ليحدد العلاقة بين الله والإنسان فحسب ،بل تضمن نظماً اقتصادية وإجتماعية وثقافية ،تنظم حياة الإنسان في تلك المجالات كلها،وتنظم علاقة المسلم بالآخر،وفوق هذا يتميز الإسلام بخطابه العالمي الذي يتجاوز حدود الزمان والمكان، ويتوجه للمسلم وغير المسلم.ومن هنا يلتقي الإسلام مع العولمة في سمتها العالمية التي تتضمن نظماً إقتصادية وإجتماعية وسياسية وثقافية،تسعى إلى أن يتبناها الناس جميعاً على اختلاف انتماءآتهم الفكرية والثقافية، ومستوياتهم الاقتصادية، وأوضاعم الإجتماعية.
وستحاول هذه الدراسة بداية تحديد المفاهيم: مفهوم العولمة والعالمية كل في اطاره. ثم تعرض للسمات العامة للعولمة ،والأصول الفكرية التي تنطلق منها،ومجالات تطبيقها المختلفة،والآثار الإيجابية والسالبة التي يتوقع أن تنتج عنها، أو نتجت عنها بالفعل.ثم تبين السمات العامة لعالمية الإسلام ،من حيث أصولها الفكرية، وأبعادها الحضارية، وتجربتها الإنسانية،وما خلفته من آثار في مسار الحياة البشرية .
ومن خلال ذلك أو بعده تعقد الدراسة مقارنة بين العالمية التي يدعو إليها الإسلام، وتتضمنها نظمه وتعاليمه،وبين العولمة في آفاقها العالمية،مع بيان أوجه الإختلاف بين النظامين،وبيان إلى أيِّ حد يمكن للمسلم المعاصر أن يستفيد من الآثار الإيجابية التي توفرها العولمة كنظام يتجاوز الحدود الجفرافية والسياسية.وكيف يمكن أن يتجنب الآثار السالبة للعولمة،ويتقي المخاطر التي يمكن أن تنجم عنها. وفوق هذا كله كيف يمكن الإستفادة من قيم الإسلام وتعاليمه في تخفيف حدة تلك المخاطر والآثار.

مفهوم العولمة:
العولمة ترجمة للكلمة الانجليزية(Globalization)، من "Globe": العالم أو الكون أو الكوكب الأرضي .ومن ثم سماها بعضهم "الكوكبية" اشتقاقا من الكوكب،والكونية اشتقاقا من الكون، والعالمية من العالم. ولكن شاعت كلمة عولمة ةانتشرت.وعولمة، مصدر على وزن فوعَلَة مشتقة من كلمة "العالم".كما يقال قولبة اشتقاقا من كلمة قالب.فالتعبير صحيح اذن من الناحية اللغوية.وكلمة عولمة كما تحددها المعاجم اللغوية : اكساب الشيء طابع العالمية،وبخاصة جعل نطاق الشيء أو تطبيقه عالمياً،وهذا المدلول اللغوي قد يعبر عن بعض خصائص العولمة،ولكنه لا ينسجم في عمقه مع دلالة اللفظ ومفهوم المصطلح ،كما يشاع في عالم اليوم.
واذا ما تجاوزنا هذا المعنى اللغوي لكلمة عولمة،فإنَّ المفاهيم التي تعبر عنها هذه الكلمة تختلف، والتعريفات تتباين وفقاً للمنظار الذي ينظر به المعرِّف، والزاوية التي من خلالها يطل على ظاهرة العولمة،ووفقاً للنظام الذي يتوقع أن يقدم من خلالها. ونجد هذا الاختلاف ينعكس على المثقفين العرب الذين حاول كل منهم أن يعرف العولمة من وجهة نظره الخاصة وموقفه من الظاهرة،وطبقاً لانتمائه الأيديولوجي.
فهناك من التعريفات ما اقتصر على وصف هذه الظاهرة على أنها عملية أمركة للعالم،أي نشر الثقافة الأمريكية بحيث تغلب على الثقافات الأخرى. (المضامين الاجتماعية للعولمة، ليث عبد الحسن جواد، مجلة دراسات،السنة الأولى،العدد الرابع،1999م،ص: 46). بينما يراها بعض آخر على أنَّها الوجه الآخر للهيمنة الإمبريالية على العالم تحت الزعامة المنفردة للولايات المتحدة الامريكية،فهي من ثم أبشع وأحدث صور الهيمنة الإستعمارية. وثمة من ينظر للعولمة بمنظور أوسع،ملخصه أنَّ العولمة تمثل عملية رسملة العالم،أي أنَّ العولمة عملية يراد منها نشر مباديء النظام الاقتصادي الرأسمالي،وفرضه على عامة الأساليب الإقتصادية التي تتبعها المجتمعات الأخرى. (العولمة واحتمالات المستقبل، شفيق الطاهر، مجلة دراسات،العدد الأول ص:17-18.) ،في حين يذهب آخرون للقول بأنَّ العولمة ظاهرة تنحو بالمجتمعات الإنسانية قاطبة نحو التجانس (التشابه) الثقافي، وتكوُّن الشخصية العالمية ذات الطابع الانفتاحي على ما حولها من مجتمعات وثقافات مختلفة. ( العولمة والهوية الثقافية ، عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة،عبد الإله بلقزيز، مجلة المستقبل العربي،العدد 234 1998،ص:91-92.)
وقد حاول السيد ياسين أن يربط بين العولمة وثلاث عمليات أساسية تكشف عن جوهرها فيقول:" إذا أردنا أن نقترب من صياغة تعريف شامل للعولمة، فلا بد من أن نضع في الاعتبار ثلاث عمليات: العملية الأولى، تتعلق بانتشار المعلومات بحيث تصبح مشاعة لدى جميع الناس.والعملية الثانية ،تتعلق بتذويب الحدود بين الدول. والعملية الثالثة، ترتبط بزيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات.وكل هذه العمليات قد تؤدي إلى نتائج سلبية بالنسبة لبعض المجتمعات،وإلى نتائج ايجابية لبعضها الآخر.وأيَّاً كان الأمر فيمكن القول:إنَّ جوهر العولمة يتمثل في سهولة حركة الناس والمعلومات والسلع بين الدول على النطاق الكوني".(في مفهوم العولمة، السيد ياسين، في :العرب والعولمة تحرير أسامة أمين الخولي/نشر مركز دراسات الوحدة العربية،طبعة أولى،بيروت 1998م ص:27.)
العولمة بين مؤيديها ومعارضيها:
من خلال هذه التعريفات،يمكن ان نلحظ موقفين من العولمة:موقف المعارضين ،الذين تمثل العولمة بالنسبة إليهم،نظيراً للنظام العالمي الجديد،أوالأمركة أو الظاهرة الأمريكية متمثلة في أنظمة اقتصادية واجتماعية وسياسية،يزعم دعاتها والمبشرون بها، بأنها آخر ما وصلت إليه البشرية أو يمكن أن تصل إليه،وعلى العالم أن يأخذ بهذه النظم ويقتدي بها بارادته واختياره،وإلاَّ فسوف تفرض عليه قهراً ورغم أنفه،وهي ما عبر عنه فوكوياما :"نهاية التاريخ".فالعولمة- كما يقول الدكتور سمير أمين:" - استراتيجية متبعة في النظام الرأسمالي العالمي للإعلان عن مكاسب دول بعينها ،وبخس دول أخرى والحاق الأذى باقتصادياتها بشكل متعمد حفاظاً على دولة الرفاهية الغربية.
ووفقاً لهذا فإنَّ العولمة أسلوب من أساليب الرأسمالية أو الدول الكبرى يتجاوز الأسلوب الإستعماري السابق أو العسكري،ويهدف إلى ضمان مصالح تلك الدول والحفاظ عليها عن طريق نشر النظام الرأسمالي ،وما يتضمنه من مفاهيم وقيم مثل: الليبرالية،وحرية السوق أو قانون السوق،بما يؤدي في النهاية إلى هيمنة تلك الدول بالكامل على عمليات الإنتاج واستغلال الدول الفقيرة اقتصادياً وادخالها كطرف في النظام الرأسمالي ليس طرفاً منتجاً بل مستهلكاً.وتتضمن العولمة اتجاهاً نحو مزيد من الإستغلال الإقتصادي من جانب الشركات العملاقة للمستضعفين في الأرض، وتتضمن قهراً لمعتقدات ومقدسات بعض الأمم لصالح نظرة تتخذ على الأقل اللامبالاة من العقائد الدينية ،والعولمة –بلا شك- تهدد أنماط للحياة الخاصة بالأمم التي كانت أكثر انعزالاً عن العالم، لصالح نمط معين من الحياة هو السائد في الدول الأكثر سطوة". (العولمة والهوية الثقافية والمجتمع التكنولوجي الحديث،جلال أمين، في العولمة وفضايا الهوية الثقافية ص:87)
بل يرى بعض معارضي العولمة تطابقاً بين العولمة و الأمركة وفرض النظام الأمريكي الإجتماعي والسياسي والأخلاقي والسلوكي على العالم، وهذا ما يعبر عنه، المفكر المسلم الدكتور مصطفى محمود بقوله : "المصطلحات الجديدة مثل: العولمة والكوكبة التي نتبادلها كرمز للتطور والتقدم والحداثة هي مجموعة من الفخاخ اللفظية التي تحتوي علي كثير من قلب الحقائق ،وعلى كم هائل من التبعية والتنازلات بالنسبة للدول النامية تنتهي بتفريغ المواطن من وطنيته وقوميته وهويته وانتمائه الديني والثقافي بحيث لا يبقى منه إلا خادم للقوى الكبرى التي تسمى نفسها بالنظام العالمي الجديد، وما هو إلا استعمار جديد شامل وأمركة تنزعك من جذورك وتخلع عنك اسمك ورسمك وهويتك، وتحولك إلى مرمطون في بار أمريكي يلبس الجنز ويشرب الكوكاكولا ويفكر على طريقة الكاوبوي، إنها قولبة جديدة للملايين من دول أفريقية وآسيوية ،توضع في مفرمة السياسة الأمريكية لتخرج وقد فقدت تنوعها الإجتماعي والبشري وتحولت إلى سوائم وأبقار وديعة مستسلمة تحلب خيراتها لصالح المصنع الكبير بمواصفات خطوط الإنتاج الجديدة التي تعد من الآن .والعولمة هي صناعة الأسواق الشاملة التي تضمن لأمريكا عالمية التصدير وأولوية السيادة وصنع القرار وسيطرة رؤوس الأموال الأمريكية الفلكية على كوكبنا الأرضي بأكمله"(. من مقال له بجريدة البيان ،العدد 6520.)
ويتفق الدكتور عابد الجابري مع الدكتور مصطفى محمود في أنًّ العولمة هي أمركة العالم حيث يقول : "إن كلمة عولمة ظهرت أول ما ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تفيد معنى تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل الكل- وهي إذا صدرت من بلد أو جماعة، فإنها تعني تعميم نمط من الأنماط التي تخص ذلك البلد أو تلك الجماعة، وجعله يشمل الجميع، إذاً فالأمر يتعلق بالدعوة إلى توسيع النموذج الأمريكي وفسح المجال له ليشمل العالم كله- اقتصاداً وأيديولوجيا، وإذا كان الاستعمار هو أعلى مراحل الرأسمالية التقليدية التي أفرزتها الثورة الصناعية في أوروبا، فإن العولمة تعني اليوم ما كان يعنيه الاستعمار بالأمس فهي أعلى مراحل الرأسمالية الجديدة التي أفرزتها ثورة المعلومات وما يرافقها في مجال الاتصالات والإعلام".( قضايا في الفكر المعاصر ، محمد عابد الجابري، ص:137)
والعولمة بهذا المفهوم نظرية متوحشة تقوم على أساس قانون الغاب،فالأقوى هو الذي يستطيع أن يفرض ثقافته وهويته ونظامه الإقتصادي الذي سيبتلع سائر الإقتصاديات الضعيفة،ومن هنا ستسقط العولمة هيبة الدولة وتقضي على مفهوم الأمة،كما أن الدولة ستتخلى عن دورها،ولن تتمكن من حماية مواطنيها من الاستغلال والبطالة والفقر لأن قوى السوق هي التي ستفصل في كل شيء وستكون هي الحاكمة.
ومن المعارضين من يذهب الى أن العولمة سوف تؤدي إلى انهيار الديمقراطية ،وتصدع الحضارة الغربية،لأنًّ خسارة البرلمانات والمحاكم لسلطتها على المصارف والشركات الكبرى يترتب عليه أن تصبح نخب السوق أقوى من النخب الديمقراطية،وستبرز طبقة جديدة من (البدو التكنولوجيين)،وسيسقط الاعلام في يد الشركات المتعددة الجنسيات التي ستوجه أفكار الناس واذواقهم نحو قيم معادية للسياسة والقيم الديمقراطية،ومن ثم ستندثر الديمقراطية وتعلو فوقها آليات السوق ،وسيصبح مسيطراً على العالم شيء يسمى بدكتاتورية السوق". (جدل الآنا والآخر ، عبد الرزاق المضرب، ص:18 وما بعدها )
ومن ناحية اخرى فإن مؤيدي العولمة يرونها برؤية أخرى،اذ يذهب هؤلاء الى أن العولمة هي القدر المحتوم الذي لا مفر منه،فيرى تركي الحمد: بأنًّ الحداثة الغربية عموماً ،والعولمة المعاصرة خصوصاً،وما افرزته من ثقافة تقنية بصفة خاصة، في طريقها إلى أن تصبح ثقافة عالمية أو كونية شاملة بكل ما في الكلمة من معنى،أحببنا أم كرهنا،وافقنا أو رفضنا ،فثورة الاتصالات والمعلومات المعاصرة والاتفاقيات الدولية في السياسة والثقافة والاقتصاد ،سوف تحول العالم إلى قرية ثقافية واحدة ،ولن تستطيع الثقافات التقليدية أن تصنع شيئاً أمام هذه الثقافة المسلحة بوسائل وفعاليات قادرة على اختراق الغرف المغلقة والأصقاع البعيدة،و لا تصدها الحدود،او تقف جدران الحماية في وجهها" (هوية بلا هوية،نحن والعولمة ،تركي الحمد، في العولمة وقضايا الهوية الثقافية،ص:35).بل يدعو أحد المتحمسين للعولمة إلى تغيير أفكارنا وهويتنا لتتناغم مع هذه الظاهرة ،فيقول عاطف العراقي:" وإذا كنا نعيش الآن في عالم جديد عالم به العديد من المتغيرات ،عالم أصبح بفضل التطورات العلمية الحديثة قرية صغيرة،فلا بد إذن من تغيير أفكارنا تغييراً جذرياً،لا بد من ثورة فكرية تخلق إنساناً عربياً جديداً،وتوجد نظاماً ثقافياً عربياً جديداً،وإذا لم نفعل ذلك سنكون في واد،والعالم المتقدم والعالم الأوربي بصفة خاصة في واد آخر."( التنوير والثقافة العربية الجديدة، عاطف العراقي، في العولمة وقضايا الهويةالثقافية ،ص:91-92.)
فالعولمة في نظر هؤلاء تعني مجموعة من القيم متمثلة في :الحرية والديمقراطية والتقدم والتكنولوجيا وثورة المعلومات،والمساواة بين الجميع،والعمل على تعايش الشعوب المختلفة على أرض واحدة.
ويرى بعض متابعي الظاهرة بأنَّ العولمة لا تعني أكثر من اتاحة حرية الحركة للناس والسلع والخدمات والمعلومات بين الدول من غير أية حواجز،بوصفها حقاً طبيعياً للإنسان عليه أن يتمتع به دون أي حجر من أية جهة،وأن على الدول أن تتخذ من السياسات ما يشجع على ذلك.وأن يقف دورها عند حدود تأمين الأجواء المناسبة لهذا التبادل .ويقول أحد الدارسين للعولمة:"إنًّ جوهر العولمة يتمثل في سهولة حركة الناس والمعلومات والسلع بين الدول على النطاق الكوني،وان لها تجليات متعددة :اقتصادية وثقافية وسياسية.
أما التجليات الاقتصادية، فتظهر اساساً في نمو وتعميق الإعتماد المتبادل بين الدول في اطار نزعت عنه القواعد والاجراءت الحمائية.
وأما التجليات السياسية للعولمة، فأبرزها سقوط الشمولية والسلطوية ،والنزوع إلى الديمقراطية والتعددية السياسية واحترام حقوق الإنسان.
أما التجليات الثقافية، فتبدو في التراكم المعرفي والثقافي الذي يؤدي إلى تشكيل ثقافة عالمية لها قيمها ومعاييرها،التي تهدف من ورائها الى ضبط سلوك الدول والشعوب.أما عولمة الاتصال فتبرز من خلال البث التلفزيوني،وشبكة الانترنت،التي ستؤدي لا محالة إلى أكبر ثورة معرفية في تاريخ الإنسانية". (انظر في مفهوم العولمة ،السيد ياسين ص:32-33.)
وهكذا اختلفت الرؤى حول العولمة،فبينما هي في نظر المعجبين بها رخاء وديمقراطية سياسية،ومساواة وحرية وعدالة وكل ما يمكن ذكره عن منظومة القيم المثالية،تمثل في نظر المعارضين لها وحشاً كاسراً،يؤدي الى الفقر والبطالة، والسيطرة والتحكم،واخضاع الفقراء وتركيع الضعفاء،كما لا تعدو أن تكون قناعاً تخفي أمريكا والدول الغربية وراءه اطماعها في الهيمنة والسيطرة،وأداة للضغط والتخويف وكسر قدرة الدول الصغرى على المقاومة دفاعاً عن مصالحها،كما أنها محاولة لتهميش دول العالم الثالث وافشالها في المحافظة على استقلالها،وبمعنى آخر هي أعلى مراحل الاستعمار دون جنود أو معسكرات أو مدافع.يقول الدكتور أحمد كمال أبو المجد:" إن الدعوة لتهميش دور الدولة ردة جديدة،هدفها تحقيق أهداف الشركات العابرة للقارات،وأن المستفيد من ظاهرة العولمة هو الدول الكبرى والشركات العابرة للقارات بدليل أنها لم تخدم الدول الصغيرة كما يقال،وإنَّ ذلك لم بتحقق بعد،كما أن ظاهرة الفقر تتفاقم في العالم وتزداد الفجوة بين الأغنياء والفقراء،وأن الحديث عن أن العوملة هي العلاج لمشكلات العالم محض افتراض ومحض مبالغة".
و لا شك ان العولمة ليست خيراً محضاً كما تصورها المعجبون بها،وليست شراً مطلقاً لا خير فيه كما ذهب إلى ذلك أعداؤها وخصومها.بل هي ظاهرة تولدت نتيجة للتطورات التي حدثت في العالم خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين.وتقوم على دعائم ثلاث:انتشار المعلومات ونشرها،وتذويب أو ازالة الحدود بين الدول لا سيما في مجال الاقتصاد،وزيادة معدلات التشابه بين الجماعات والمجتمعات والمؤسسات.وعناصرها الأساسية :الاقتصاد والسياسة والثقافة.
ففي الاقتصاد:ركزت العولمة على الاقتصادات العالمية المفتوح بعضها على بعض. وفي السياسة،تمثلت في اعلان نهاية سياسة الدولة،وانتهاء عصر الجغرافيا والدولة القومية وبداية عصر بلا حدود يتحول فيه العالم إلى قرية صغير تتلاشى فهي سيادات الدول. وفي الثقافة :تسعى العولمة إلى توحيد القيم وخاصة حول المرأة والأسرة.وآلياتها في الاقتصاد:المنظمات العالمية والاتفاقيات الاقتصادية(صندوق النقد الدولي،واتفاقية الجات(التجارة العالمية الحرة)،والشركات المتعددة الجنسيات والتقنيات الاعلامية الحديثة.

متى ظهرت العولمة.
يقال إنَّ أول من أطلق مصطلح عولمة، أو كوننةكما يسميه البعض، معرفياً عالم السسيولوجيا أو الاجتماع الكندي مارشال ماك لوهان،استاذ الاعلاميات في جامعة تورنتو،عندما صاغ في نهاية الستينات مفهوم القرية الكونية،ثم شاع استخدامه بلفظ عولمة (Globalization) في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين،وبالذات بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.عام 1990م،وحرب الخليج الثانية عام 1991م.
ورغم شيوع هذا المصطلح في هذه الفترة من الزمان،فإن ظاهرة العولمة التي يشير إليها ليست حديثة بالدرجة التي توحي بها حداثة هذا اللفظ،فالعناصر الأساسية في فكرة العولمة:ازدياد العلاقات المتبادلة بين الأمم ،سواء المتمثلة في تبادل السلع والخدمات أو في انتقال رؤوس الأموال،أو في انتشار المعلومات والأفكار،أو في تأثير أمة في قيم وعادات غيرها من الأمم،كل هذه العناصر عرفها العالم منذ عدة قرون.إذ أنًّ الإتصال لم ينقطع بين الأمم على مر العصور،فقد ظلت علاقات التبادل التجارية والحروب قائمة بين الدول و الشعوب،مما كان له آثار ثقافية وحضارية واضحة،تدل عليها أية نظرة ثاقبة الى الحضارات الكبرى في العالم،وما تشتمل عليه من ملامح ثقافية أو علمية أو معمارية استفادتها من الحضارات الأخرى،الأمر الذي يؤكد ما كان بينها من اتصال ،و تأثير وتأثر،وإن لم يكن بسرعة اتصال اليوم وتأثيره.
لذلك يذهب بعض الدارسين الى أن العالم شهد عولمات متعاقبة :عولمة يونانية، وعولمة رومانية، وعولمة عربية إسلامية.ولعل العلاقات الاقتصادية والثقافية بين الأمم ازدادت قوة على اثر الكشوف الجغرافية في أواخر القرن الخامس عشر،أي منذ خمسة قرون،حين ازداد وعي العالم بعضه ببعض،وتسارع الإنتقال للبشر والأشياء من طرف الى آخر من أطراف العالم.ولكن من الصعب جداً المقارنة بين تلك العولمات وبين العولمة في صورتها المعاصرة من حيث الأسس والعناصر والآثار.فالعولمةفي صورتها الحاضرة نتاج تفاعل طويل استمر على مدى القرن العشرين،وكانت له مقدمات بدت ظاهرة لمن يتابعون الأحداث.
فخلال القرن العشرين نشبت على المستوى السياسي والعسكري حربان عالميتان أسفرتا عن تجمع معظم دول العالم في عصبة الأمم ثم في منظمة الأمم المتحدة.وعلى المستوى الأيديولوجي ضمت الكتلة الاشتراكية نصف العالم تقريباً،بينما سيطرت الرأسمالية على النصف الآخر تقريباً.وعلى المستوى الاقتصادي برز نفوذ الشركات الكبرى التي تحولت بالتدرج الى شركات عالمية ومتعددة الجنسيات وعابرة قارات.وعلى مستوى الاتصال والاعلام حلقت في الفضاء الأقمار الصناعية التي أصبحت تنقل لكل انسان في العالم ما يجري في سائر الأنحاء بالصوت والصورة.كما هيأت الاتصال بأي مكان من الأرض دون عوائق،وصدق ما قيل:إن العالم أصبح قرية كبيرة.
وسعت دوائر غربية وأمريكية بصفة خاصة للاستفادة من ذلك التحول الذي شهده العالم في السياسة والاقتصاد والاعلام،ولذلك نجد من يعود بالعولمة كنظام اقتصادي واعلامي الى مبادرة تقدم بها بعض المفكرين في الولايات المتحدة عام 1965 م،طرحوا فيها ثلاث قضايا جعلوا منها برنامج عمل يضمن للولايات المتحدة الأمريكية الهيمنة على العالم:
القضية الأولى،تتعلق باستعمال السوق العالمية كأداة للاخلال بالتوازن في الدولة القومية.
والقضية الثانية، تخص الاعلام بوصفه الأداة الرئسة التي يجب الاهتمام بها لاحداث التغير المطلوب على الصعيد المحلي والعالمي.
والقضية الثالثة،تتعلق بالسوق كمجال للمنافسة،واعتبروا السوق مسرحاً لانتخاب الأنواع واصطفائها.وقد لعبت المؤسسات الادارية وصندوق النقد الدولي دوراً هاماً في ذلك.
وقد بدأت مرحلة تاريخية جديدة بعد التخلص من ثنائية الأقطاب،أو الاستقطاب العالمي بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي،والتي دامت نصف قرن من الزمان:1939-1990م.
ويذهب البعض الى أن عبارة كارتر:" إن تدخلنا في العالم الثالث ممكن، للدفاع عن حقوق الإنسان"،كانت مؤشراً إلى ما آلت إليه الأمور من انفراد أمريكا بالعالم ،أو السعي إلى أمركة العالم أو العولمة،وفرض قيم حضارية معينة،هي قيم الحضارة الغربية،والتي أصبحت تحاصر الناس في كل مكان في العالم:المأكولات السريعة،وملبوسات الجينز،والبرامج والأفلام والفنون المختلفة،والأهم من ذلك ما تحمله العولمة في طياتها من الترويج لأنماط معينة من العلاقات الأسرية والاجتماعية والجنسية السائدة في الغرب.
مفهوم العالمية:
العالمية Univesalismنسبة إلى العالم :( Universe)،وهي تعبير عن المدى والاطار الجغرافي للعالم الموجود الذي بدأت تتضح وتتحدد ملامحه وحدوده الجغرافية من خلال حركة الكشوف الجغرافية الواسعة والمراحل التاريخية التي تلتها وحملت معها تكثيف الاتصالات،وتوسيع العلاقات والانفتاح بين الدول القائمة،مع بقاء كل دولة منها متميزة عن غيرها ومنفصلة ومستقلة،ووجود هيئات متعددة ومنظمات متنوعة تعمل في المجتمع الدولي
فالعالمية نزعة انسانية وتوجه نحو التفاعل بين الحضارات،والتلاقح بين الثقافات،والمقارنة بين الأنساق الفكرية،والتعاون والتساند والتكامل والتعارف بين الأمم والشعوب والدول،ترى العالم (منتدى حضارات)،فيها مساحات كبيرة من المشترك الإنساني العام،ولكل منها هوية ثقافية تتميز بها،ومصالح وطنية وقومية وحضارية واقتصادية وأمنية لا بد من مراعاتها،في اطار توازن المصالح وليس توازن القوى بين هذه الأمم والحضارات" (مستقبلنا بين العولمة والعالمية الإسلامية ،محمد عمارة، ص:3)
فالعالمية تعني التفاعل والتدافع والتسابق مع الآخر في ظل التأكيد على أن التعددية الحضارية والتنوع الثقافي والاختلاف بين الشعوب والأمم والقبائل،وفي الألوان والأجناس والأعراق،وفي الألسنة واللغات ومن ثم القوميات وفي الشرائع والملل الدينية.. وفي المناهج والمذاهب والثقافات والحضارات... وكل هذا التنوع والاختلاف هو القاعدة الطبيعية والقانون التكويني،والسنة الإلهية التي لا تبديل لها و لا تحويل.." ( المرجع نفسه: ص:5.)
بين العالمية والعولمة:
1. العالمية تصف موضوعها بما هو عليه،بمعنى أن الشيء الذي يوصف بالعالمية لا بد أن تكون طبيعته ونتائجه صالحة لأن يستخدمها كل البشر،بينما العولمة تدل على فعل وليس صفة، يراد به اخراج شيءٍ عن طبيعته الاقليمية وفرضه على المجتمعات الأخرى،وإن لم يتفق في طبيعته ونتائجه مع طبيعة وظروف المجتمعات الأخرى.
2. مصطلح العالمية يتضمن إلى جانب صلاحيته لطبيعة كل البشر الاعتراف بخصوصية الآخر وضرورة أخذها في الاعتبار واحترامها، بينما العولمة لا تعترف بالآخر بل وتنكر حقه في الاحتفاظ بخصوصياته الثقافية والاجتماعية.
3. العالمية لا يترتب عليها رد فعل مضاد من الآخر،لأنها لا تفرض عليه تبنيها،بل تفرض نفسها عليه كبديل يعتد به وتترك له الحرية في أن يأخذه بمجمله وتفصيله،أو أن يأخذ عنه ما يرى فيه صلاحه،وترك غير ذلك،ولا تضمر العداء لهذا البديل.بينما العولمة تؤدي حتماً إلى رد فعل مضاد يقوى بمقدار قوة القهر التي تستخدمها العولمة في فرض مفاهيمها وقيمها.
4. العالمية تنتشر عن طريق الكلمة المكتوبة أو الدعوة بالأساليب التقليدية مثل الأبحاث والمحاضرات والندوات وما اشيه ذلك،بينما تعتمد العولمة على الضغط الاقتصادي والغزو الثقافي الذي قد يصل إلى الغزو العسكري اذا لزم الأمر.( انظر:العولمة والعالمية بين المنظور الإسلامي والمنظور الغربي، السيد محمد الشاهد، في مؤتمر الفلسفة الرابع ص:59-77)
ولكن العالمية في المفهوم الغربي ،ارتبطت بما سمي بالنظام العالمي الجديد ،بينما العولمة والنظام العالمي الجديد وجهان لعملة واحدة. فالعولمة هي الوسيلة لتحقيق هدف النظام العالمي الجديد الذي هو في الأساس الأداة التي تحقق بها الولايات المتحدة سيطرتها وهيمنتها على القرار العالمي في شتى الميادين." ( العولمة والعالمية والنظام العالمي الجديد،فضيل أبو النصر، ص:149.)
ويتميز المفهوم الغربي للعالمية،بالنزعة المركزية،والصراع مع الآخر ومحاولة استئصال فكره،ولغته واقتصاده وعقيدته،بدعوى أن الحضارة الغربية هي وحدها العالمية والإنسانية،بل هي وحدها الحضارة التي يجب أن تكون النموذج الوحيد للتحضر والتقدم والقالب الأوحد الذي يجب أن يصب فيه العالم جميعاً.وليست العولمة إلا امتداداً لهذا المفهوم وتركيزاً على قيمه ومعانيه،ومن ثم فإن الاختلاف بين مفهوم العالمية والعولمة انما هو اختلاف فى الدرجة لا في الجوهر. ومن ثم فإن المقارنة ينبغي أن تكون بين العولمة ،الصورة الأخير للعالمية في مفهومها الغربي، وبين عالمية الإسلام
عالمية الاسلام:
إن الإسلام،كما سبق أن ذكرنا، ينظم العلاقة بين الإنسان وربه،كما ينظم علاقة الإنسان بالإنسان في جوانبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية،ويدعو الناس جميعاً الى تبني ما يقدمه من نماذج ونظم في هذه المجالات. ومن ثم فهو نظام عالمي ،ومما يؤكد عالميته ما يأتي:
1- إنَّ الاسلام في جوهره دعوة عالمية الى البشر جميعاً ،تخاطب الناس كافة على اختلاف ألسنتهم وألوانهم،وقد تأكدت هذه الحقيقة في جملة من المبادئ نص عليها القرآن وأكدتها سنة الرسول ،والتزم بها المسلمون في واقع حياتهم . فمن خصائص الرسالة المحمدية أنها رسالة عالمية، لم تختص بالجنس العربي ولم تقف عند حدود الجزيرة العربية، بل كانت رسالة عامة. تجاوزت حدود القوم،والعرق، والعصر والزمان والمكان ، فالرسالات الإلهية السابقة جاءت تخاطب أقواماً بعينهم وتناسب أحوالهم وتوافق بيئتهم ومستواهم ومن ثم جاء خطاب الأنبياء السابقين متوجهاً إلى أقوامهم فقط دون من عداهم: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) ،الأعراف:59 .
أما الرسالة المحمدية فقد كانت موجهة للبشرية بأسرها، وللناس جميعاً على اختلاف أعراقهم،وقومياتهم وسلالاتهم وبيئاتهم ، ومن ثم تكرر فيها خطاب الإنسان على الإطلاق والعالمين جميعاً : (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) ،الأعراف:158. (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ،الحج:49. وقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ،سـبأ:28. (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) ،الانبياء:107 . كما وصف القرآن بأنه :"بلاغ للناس" و "بيان للناس" و "هدى للناس "، كما ورد في الحديث الصحيح عنه "فضلت على الأنبياء بست ، اعطيت جوامع الكلم ، ونصرت بالرعب ، واحلت ليَّ الغنائم ، وجعلت ليَّ إلارض طهوراً ومسجداً ، وارسلت الى الخلق كافة وختم بيَّ النبيون".( صحيح مسلم، كتاب المساجد،ومواضع الصلاة).
.وروى البخاري في صحيحه عن رسول الله  انه قال :"أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي،نصرت بالرعب مسيرة شهر،وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ،فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل،وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي،وأعطيت الشفاعة،وكان النبي يبعث الى قومه خاصة ،وبعثت الى الناس عامة".( صحيح البخاري،كتاب التيمم، حديث رقم:335)
كما خاطب الرسول  الملوك والأمراء. وأرسل الرسائل الى الزعماء والرؤساء ،ووجه دعوته إلىعظماء النصارى وقادتهم في زمانه،وأوفد اليهم الرسل وبعث اليهم الكتب يدعوهم الى الإسلام واتباع رسالته.فكتب الى النجاشي عظيم الحبشة،وهرقل عظيم الروم البيزنطيين، والمقوقس عظيم مصر،وجبلة بن الأيهم من ملوك الغساسنة،وكتب أيضا الى كبار القساوسة،ومنهم: الأسقف ضغاطر أسقف الروم في القسطنطينية،وأبو الحارث بن علقمة اسقف نجران.
2-أكد الإسلام على وحدة الأصل الذي ينتمي اليه الناس جميعاً،فوحدة الخلق الإنساني،في المنظور الاسلامي، حقيقة مقررة في ابتداء الخلق، سعت الأديان السماوية كلها، وخاصة الإسلام، الى احيائها في نفوس الناس وازالة كل ما يؤدي الى اضعافها من حقد وخصام وافساد بين الناس. فالناس جميعاً، في المنظور الإسلامي،يعودون الى أصل واحد، وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة فقال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ،الأعراف:189. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) ،النساء:1 . وحدد الإسلام ميزاناً وحيداً للتفاضل بين بني البشر ، هو ميزان التقوى ، وما تنطوي عليه هذه الكلمة الجامعة المانعة من استحضار مخافة الله في كل أمر ، والحدب على عباده ، والحرص على إعمار الكون ، وإشاعة الخير والصلاح بين ربوعه، وبيَّن أن معيار التفاضل بين الناس هو مقدار ما يحمل كل منهم من قيم انسانية،أو يتحلى به من تقوى كما عبر القرآن الكريم:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ،الحجرات:13 ،وبين الرسول  :" ألا إنه لا فضل لعربي على أعجمي ،و لا لأحمر على أسود الا بالتقوى "،فالناس جميعا شركاء في الانسانية،والانسان بصرف النظر عن دينه وأصله كائن مكرم عند الله تعالى، وهو مفضل ومميز على كثير من المخلوقات. (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) ،الإسراء:70. (لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ،التين:4.
ومن الأمثلة العملية على هذا التكريم ما رواه البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:"مر بنا جنازة فقام لها النبي:فقمنا معه فقلنا:يا رسول الله إنها جنازة فقال:إذا رأيتم الجنازة فقوموا"( صحيح البخاري،كتاب الجنائز باب من قام لجنازة يهودي (حديث رقم 1311)
وفي حديث آخر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد قاعدين بالقادسية،فمروا عليهما بجنازة فقاما.فقيل لهما :إنها من أهل الأرض=أي من أهل الذمة=فقالا:إن النبي مرت به جنازة فقام فقيل له:إنَّها جنازة يهودي.فقال:أليست نفسا".( صحيح البخاري،كتاب الجنائز باب من قام لجنازة يهودي، (حديث رقم1312).
3-أكد القرآن الكريم وحدة الرسالات الإلهية التي جاءت إلى البشر. فالإسلام يلتقي في أصوله العقائدية، ومبادئه الايمانية، مع الرسالات الإلهية السابقة جميعاً، اذ ان تلك الرسالات السماوية جميعاً قد خرجت من مشكاة واحدة،وتعود إلى اصل واحد،ومن ثم لا تختلف في جوهرها،و لا تتعارض في قيمها ، وتعاليمها.وقد أكد القرآن الكريم ذلك كما في قوله تعالى: (مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ) ،فصلت:43، (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ) ،الشورى:13. . وهذه الرسالات، رغم تنوعها وتعددها، فإنها تشير الى دين واحد تلتقي أصوله ،وتختلف شرائعه،من أجل ابتلاء الإنسان واختباره: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ،المائدة:48. وقد أكد الإسلام هذه الحقيقة بأن جعل الايمان بالرسل السابقين أمرا لا يكتمل إيمان المسلم الا به: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ،البقرة:136.
4-تقرير مشروعية اختلاف الناس في الدين:فرغم الوحدة الإنسانية التي أعلنها الإسلام وأكدتها مبادؤه،ورغم القيم المشتركة للاديان الإلهية،فإن الإسلام يقرر أن هناك سنناً اجتماعية جعلها الله حاكمة في المجتمعات الانسانية. ومن هذه السنن تعدد الديانات واختلاف الناس حولها نظرا لاختلاف خياراتهم ،كما يختلف الناس أيضاً في ألوانهم وألسنتهم وانتمائهم القبلي والعشائري: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ،،إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ،هود: 118-119 .
و اختلاف الناس في نظر الإسلام،مدخل للتواصل والتعارف وتبادل التجارب والخبرات،والتسابق الى التعاون وعمران الكون،يقول تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ،المائدة:48 . ويقول أيضاً: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) ،يونس:99. ويقول أيضا: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) المائدة:48، (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ) ،الروم:22. وتبعا لهذا جعل الإسلام حرية الاعتقاد مبدأ من المبادىء الهامة فيه، وقررها بصورة قاطعة لا تحتمل لبسا و لا تأويلا ،وأكد أنه لا يجوز اكراه شخص على ممالأة احدى الديانات تحاملاً على غيرها،سواء بانكارها أو ازدرائها أو التهوين من شأنها والحط من قدرها. ،قال تعالى: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ،البقرة:256.
وبتأكيد هذه المبادىء ،واشاعة تلك القيم، قضى الإسلام على التعصب الديني الذي استشرى-قبل ظهور الإسلام- في كثير من المجتمعات وجر على البشرية ويلات الحروب والصراعات الدموية.ولم يتخلص الناس منه نظريا الا بعد الثورة الفرنسية، وما قررته المواثيق الدولية المعاصرة من حقوق للانسان ومن بينها حرية الاعتقاد.وقد قرر القرآن الكريم هذا المبدأ،مبدأ حرية التدين، في عدة آيات منها قوله تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) ،الكهف:29.
ومصداق ذلك عملياً قبول الإسلام في مجتمعه،غير المسلمين ،وتمكين غير المسلمين من أهل الكتاب من أداء شعائرهم الدينية في دور العبادة الخاصة بهم والسماح باقامتها وترميم ما يتهدم منها.وكتب التاريخ خير شاهد على ذلك سواء في ذلك ما كتبه المؤرخون المسيحيون والمؤرخون المسلمون.
5- العدل والمساواة بين المسلمين وأهل الكتاب:قرر الاسلام مبدأ العدل والمساواة بين اتباعه وبين غيرهم من أصحاب الديانات السماوية الأخرى في العديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.
وحقيقة فإنَّ مبدأ العدل بين الناس يعد من أبرز مبادئ الإسلام ومقاصده، وخطاب الإسلام يتوجه الى الناس جميعاً دون تمييز بينهم بسبب الدين أو اللغة أو الأصل أو الحرفة أو الطبقة الاجتماعية.فأمر الله سبحانه وتعالى بالعدل بين الناس فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً) ،النساء:58. وقد جعل الرسول  الامام العادل من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله فقال :"سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاَّ ظله:إمام عادل ،وشاب نشأ في عبادة الله،ورجل ذكر الله ففاضت عيناه،ورجل قلبه معلق بالمساجد،ورجلان تحابا في الله ،ورجل دعته إمرأة ذات منصب وجمال إلى نفسها،قال: إنَّي أخاف الله،ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما صنعت يمينه". (مسند الامام أحمد ج2/ص:113،صحيح مسلم ح 7 ص:120 ). وحرص الاسلام على تأكيد ان العداوة بين الناس لا ينبغي أن تحملهم على الظلم، وعدم اقامة العدل:فيقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) ،المائدة:8. وأنَّ النصر مقرون بالعدل بينما الخذلان مرتبط بالظلم،وأنَّ الله سبحانه وتعالى ينصر العدل أيا كان مصدره،ويؤكد ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية فيقول:"فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة،وعاقبة العدل كريمة،ولهذا يروى إن الله ينصر الدولة العادلة،وإن كانت كافرة،و لا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة." ( مجموعة الفتاوى،ابن تيمية، ج28،ص:62-63).
وتاريخ المسلمين يؤكد التزامهم بهذا المبدأ . ويمكن الاشارة هنا إلى قصة الإمام علي بن أبي طالب مع خصمه الكتابي أمام القاضي شريح في المدينة المنورة،عندما وجد عليٌّ درعه عند رجل من أهل الكتاب،فتخاصما إلى قاضيه شريح،الذي طالب علياً أمير المؤمنين بالبيِّنة،ولما لم يستطع أن يقدم بينة حكم للكتابي بالدرع ،فلم لم يكن من الكتابي إلا أن أسلم حينما وجد هذا النموذج العالي من العدل فكافأه علي بأن ترك له الدرع ووهبها له.( انظر:البداية والنهاية،ابن كثير، ج 8 ص:8)
وفي نفس هذا السياق تأتي قصة اعتداء ابن عمرو بن العاص- والي مصر- على الغلام القبطي الذي فاز عليه بسباق الخيل فضربه ابن عمرو قائلاً له:خذها وأنا ابن الأكرمين.فرفع المصري أمره إلى الخليفة عمر الذي طلب من عمرو بأن يحضر ومعه ابنه،وأمر المصري أن يقتص لنفسه من ابن عمرو،ولما أخذ المصري حقه من ابن عمرو،قال له عمر: ادرها (الدرة) على صلعة عمرو، فو الله ما ضربك إلاَّ بفضل سلطان أبيه،فقال يا أمير المؤمنين لقد ضربت من ضربني،فقال عمر : أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه،ثم قال قولته المشهورة مخاطباً عمرو بن العاص :"متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً". ثم قال للمصري:انصرف راشداً فإن رابك ريب فاكتب إليَّ.( انظر: عمر بن الخطاب ، ابن الجوزي، ص:119.)
كما قرر الاسلام مبدأ المساواة كأساس متين تقوم عليه المعاملة بين الناس جميعاً داخل المجتمع المسلم ووفقا لتعاليم الاسلام،فالناس جميعاً خلقوا من أصل واحد، فالأب آدم ،والأم حواءُ ،يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) ،النساء:1، .وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله :"لينتهين أقوام يفتخرون بفحم من فحم جهنًم أو يكونون شراً عند الله من الجعلان التي تدفع النتن بأنفها،كلكم من آدم وآدم من تراب،إنَّ الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها بالأباء،الناس مؤمن تقيٌّ وفاجر شقيٌّ." ( سنن أبو داوود،كتاب الأدب باب في التفاخر بالأنساب حديث رقم:5116.)
. والله لاينظر الى صور الناس و لا الى ألوانهم ولا الى أموالهم ،ولكن ينظر الى قلوبهم وما تنطوي عليه من خير أو شر،وما يصدر عنهم من أعمال طيبة خالصة،وقد ورد عن أبي هريرة أن رسول الله  قال:" إن الله لا ينظر الى صوركم وأموالكم،ولكن ينظر الى قلوبكم وأعمالكم:. (صحيح مسلم،كتاب البر والصلة،باب تحريم ظلم المسلم وخذله،واحتقاره ودمه وعرضه وماله ،حديث رقم:2564)
ووفقاً لهذه التعاليم القرآنية ،والقيم النبوية،سادت روح المساواة في المجتمعات الإسلامية،واصبحت حقيقة مستقرة بين الناس،تؤكدها مواقف الحكام،وتصرفات العامة،وتسندها أحكام الإسلام من عبادات ومعاملات وحدود وغيرها،التي تبرز فيها المساواة بين الناس بشكل واضح.
6-: العلاقة بين الناس أساسها التعاون :إن اختلاف الناس شعوبا وقبائل لا ينبغي أن يكون مسوغا للصراع والتنازع والفرقة.بل ينبغي أن يكون سبيلا الى التفاهم وتبادل المنافع والمعارف والتجارب: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ،الحجرات:13، وأن الأساس الذي تقوم عليه علاقات الناس- مسلمين وغير مسلمين-التعاون والعمل المشترك من أجل خير الناس جميعا: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ،المائدة:2،كما أن اختلاف الدين ليس مدعاة للعداوة أو الاعتداء،ولا يحل الخلاف الديني عن طريق حمل الأقوياء الناس واكراههم على معتقداتهم،فالقرآن يقرر: (لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ،البقرة:256 . وأن دور الرسول هو البلاغ: (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ) ،آل عمران:20. بهذه الروح العالية ووفقاً لهذه المبادئ السامية، والنظرة المتسامحة، وضع الاسلام أسس العلاقة مع الآخرين،فأكد الوحدة بين الناس ،وفي الوقت نفسه قرر سنة الاختلاف والتنوع،ونص على أن هذا الاختلاف وما يترتب عليه من تدافع أو حوار حضاري سنة من سنن الله وقوانينه التي تحكم المجتمعات والأفراد،وأنه رحمة من عنده من خلالها يتبين الحق من الباطل،ويظهر الخير على الشر. (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) ،الحج:40. (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) ،البقرة:251 ،( كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) ،الرعد:17.
ولم تكن تلك المبادئ مجرد نظريات مثالية ، ولكنها طُبقت عملياً في المجتمع الإسلامي الأول ، حتى رأينا الموالي من غير العرب يتصدرون مكان القيادة . ومع اتساع الرقعة الإسلامية واحتواء حضارات عريقة ولغات عديدة - ترعرعت العلوم والمعارف ، وبرز ساسة ومفكرون وفلاسفة من الفرس والترك والروم واليهود ، واستطاع موسى بن ميمون( 1135- 1204م) ،أن يكتب أشهر كُتبه في أصول الدين اليهودي ، ويوجه الرسائل للجاليات اليهودية المنتشرة في العالم ؛ يحثها على التمسك بدينها وثقافتها ، وهو يعمل طبيباً للأسرة الأيوبية في مصر ، واستطاع يوحنا الدمشقي،النصراني ( 676- 749 م)، أن يكتب كتباً في الإلهيات المسيحية ، وهو يعمل وزيراً للمالية في قصر الخليفة الأموي في دمشق ، وفي الحالتين حصل العالمان على إذن ولي الأمر المسلم ، مع أن كتبهما اشتملت على غمز مباشر أو غير مباشر في الإسلام ، ولم يكن هناك حرج أن تنتقل القيادة السياسية للعالم الإسلامي برمتها من ديار العرب ، وأن تصبح الجزيرة العربية نفسها - مهد الرسالة ، ومتنزّل الوحي - جزءاً من الإمبراطورية العثمانية (التركية) ، وأن يقود دولاً إسلامية ملوك من الترك والألبان والأكراد وغيرهم .
بين العالمية الإسلامية والعولمة الغربية:
كما أكدت الدراسة في بدايتها،فإن هناك فرقاً أساسياً بين العولمة وعالمية الإسلام من حيث إن العولمة جهد بشري يحيط به كل ما لدى البشر من جوانب النقص والتحيز والمحدودية ، بينما القيم والمعايير التي تضبط مسيرة عالمية الإسلام، وتحكم توجهها وتحدد أهدافها مستمدة من مصدر خارج عن وضع الإنسان،إذ لا يمكن أن يتصور أن يكون الإنسان نفسه بأنشطته المتعددة هو محل التقويم وهو وسيلته ،وبذلك برئت القيم الإسلامية من التحيز والمحاباة والتمييز،ووضعت الناس على قدم المساواة والعدالة بعيداً عن الهيمنة والتسلط،وبذلك لم تكن القيم الإسلامية حكراً على قوم أو جنس أو لون أو طبقة،وإنما جاءت إنسانية تفسح المجال أمام الجميع لبناء المشترك الإنساني.
وبينما يتردد بعض المفكرين في اضفاء صفة العالمية على العولمة أو النظام العالمي الجديد ،لأنه كما يقولون لم ينبثق من إرادة أممية ،وإنما هو حصيلة الاختلال الذي حدث في النظام الدولي السابق الذي أفرزته فترة الحرب الباردة لصالح طرف في المعادلة الدولية،كما أنه نظام دولي أحادي القطبية،ومعالجته للمشاكل المطروحة في الساحة العالمية تؤكد كونه نظاماً دولياً متسلطاً يعمل لتحقيق مصالح آنية أو آجلة لمجموعة من الدول التي تقف على رأسه،فالقوى الفاعلة والمؤثرة في قراراته هي أطراف دولية وليست أممية ،وما عملية تهميش الجمعية العامة للأمم المتحدة ،وإهمال دورها منذ أزمة الخليج الثانية إلا برهان ساطع على سطوة النظام العالمي الجديد ،أو بالأحرى النظام الأمريكي الجديد الذي تجسده العولمة"،وكذلك ما يشاهد الآن من محاولة الاعتداء على العراق من قبل أمريكا وبريطانيا رغم وقوف العالم كله بدوله ومنظماته ضد ذلك.فهو نظام يخدم المصالح الخاصة للدول التي تتحكم فيه وتوجه مساره،ومن ثم فهو في حقيقته عبارة عن إئتلافية بين عدد قليل من الدول الكبرى لإعادة فرض سيطرتها على العالم ،مع انفراد الولايات المتحدة في هذه المرحلة بالهيمنة. فإنَّ عالمية الإسلام منطلقها الوحي الإلهي والشرع،ومن ثم فهي تحمل كل السمات الإنسانية العامة والموضوعية في الحكم ولكن رغم ذلك فإنَّ هناك بعض القيم التي أثارتها العولمة،يتوق إليها الناس جميعاً مسلمين وغير مسلمين مثل: الديمقراطية،وحقوق الإنسان والتعددية السياسية ،والتقدم والوفرة الاقتصادية،مما يستدعي مقارنة بين العولمة والإسلام في هذا الصدد.
المجال السياسي :في هذا المجال نجد أن العولمة تبشر بالديمقراطية ،والتعددية السياسية والانتصار لحقوق الإنسان. ولكن الديمقراطية في منظور العولمة، ليست عقيدة اجتماعية لها قواعدها ومرتكزاتها وآلياتها الداخلية التي تحركها وتقود مسيرتها،فالتعددية الشكلية هي مقياس الديمقراطية في هذا المنظور،وليست التعددية الموضوعية التي تعكس بالفعل التوجهات العميقة داخل كل مجتمع. إن الدعوة لاعتماد الديمقراطية وجدت في نطاق العولمة آذاناً صاغية،رغم أن العديد من الدول قام بعملية خداع،حيث رأينا بعض الأنظمة وقد لبست عباءة الديمقراطية فيما هي تمارس كل أنواع وصنوف القهر والابادة،وتجد هذه الأنظمة دعماً قوياً من "أم الديمقراطية"،الولايات المتحدة،و لا ندري كيف توفق أمريكا بين دعوتها للديمقراطية وقيامها بدعم أنظمة يقودها مجموعة من السفلة واللصوص".) هذه هي العولمة (محمد توهيل) ص:173-174.(
فالعولمة تسعى إلى تقليص دور الدولة وتخليها عن كثير من سلطاتها ،وحصر دورها في حراسة النظام حيث لم تعد صاحبة القرار الوحيد بل اصبحت تشاركها في صنع القرار مجموعة من القوى والمؤسسات الدولية،والواقع يشير الى تقييد الديمقراطية وتقليص جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية."فالديمقراطية في منظور النظام العالمي الجديد(العولمة)،هي مفهوم مجرد مطلق صالح لكل زمان ومكان،ويتحدث الغربيون عن الديمقراطية - مثلاً - ويعتبرونها شرطاً للتعامل مع الدول ، غير أنهم يستخدمون مقياسين يظهر بينهما التناقض الواضح ، أولهما: فهمهم هم للنظام الديمقراطي السائد عندهم ، والثاني اختيار النمط الذي يتفق مع سياستهم ، ويخدم أغراضهم ، بصرف النظر عن الظروف الخاصة بالمجتمعات الإنسانية التي يتعاملون معها.
هذا في الوقت الذي نجد فيه الإسلام سبق العولمة في ترسيخ قيم سياسية مثل قيمة الشورى التي تعد من أهم المبادئ الدستورية الإسلامية ،وعدها الإسلام سمة من السمات التي يتميز بها المجتمع المسلم إذ وصف الله المؤمنين بانهم : (وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ،الشورى:38،وألزم بها رسوله  : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ،آل عمران:159،كما مارسها الرسول  في كثير من المواقف والأحداث،وبالمثل قدم الخلفاء الراشدون نماذج نادرة لممارستها.ولم يحدد الإسلام اطاراً معينا تمارس من خلاله الشورى،ولكنه ترك للناس اختيار الوسيلة او الآلية التي ينفذون بها هذا الأمر الإلهي.وقد تكون الصورة المناسبة هي الصورة الحالية المتمثلة في المجالس النيابية المنتخبة انتخابا حرا مباشرا ،وقد تكون صورة أخرى حسب ظروف كل عصر.
أما التعددية السياسية:فليست بدعة أو أمراً يرفضه الإسلام،بل هي سمة أساسية ،وسنة من سنن الله وآية من آياته، في الاجتماع الإنساني،فقد اشار القرآن الكريم الى التعددية في القوميات والأجناس،قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْعَالِمِينَ) ،الروم:22،وفي الشعوب والقبائل تعددية تثمر التمايز الذي يدعو إليه القرآن ويوظفه في إقامة علاقات التعارف بين الفرقاء المتمايزين: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ،الحجرات:13 ،كما يؤكد الإسلام سنة التعدد في الشرائع والمناهج ومن ثم في الحضارات،التي تمثل حافزا للتنافس في الخيرات والإستباق إلى الطيبات والسبب في التدافع الذي يقوٍّم ويرشد مسارات أمم الحضارات على دروب التقدم والارتقاء: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، هود: 118-119،ويقول تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ،المائدة:48. ( الإسلام والتعددية ،الاختلاف والتنوع في اطار الوحدة( محمد عمارة) ص:8-9)
وهكذا فإنَّ الإسلام لا يعارض التعددية السياسية،بل إنها تتفق مع ثوابته وأصوله،ما دام الهدف منها تنمية الحياة وتطويرها.
حقوق الإنسان:
أما حقوق الإنسان،فإنَّها ليست من ابتداع العولمة وابداعها ،بل هي مكسب نتج من نضالات الإنسان المعاصر.ومن خلال الممارسات التي تقوم بها الدول العظمى، يخشى أن تتحول هذه القيمة الإنسانية إلى سلاح سياسي في يد حماة النظام العالمي الجديد،لاستخدامه ضد الرافضين هيمنتهم.فالولايات المتحدة تكيل بمكيالين حين تتحدث عن حقوق الإنسان،ففي الوقت الذي نراها تدافع عن حقوق الإنسان في الصين الشعبية،نراها تتجاهل حقوق الشعب الفلسطيني،وحقوق الإنسان الفلسطيني،وتغمض العين على الجرائم الصهيونية ضد الفلسطينيين،فهل بعد هذا كله يمكن وصف الولايات المتحدة الأمريكية بأنها راعية حقوق الإنسان؟". ( هذه هي العولمة، محمد توهيل، ص: 174).
أما في الاسلام فإنَّ حقوق الإنسان شأنها شأن التشريعات التي تنظم حياة الناس ومسار حياتهم ،لم تأت منحة من أحد ،أو وضعت نتيجة لصراع الإنسان مع الآخر ،بل هي تشريع الهي جاءت من عند الله تعالى وتضمنتها مبادىء الشريعة الإسلامية ،ووضعت أسسها وقواعدها ،وجعلت لها من الضمانات ما يحميها ويقوم عليها،طالب بها صاحبها أم لم يطالب سعى اليها أم لم يسع
وهكذا نجد أن الإسلام قد سبق بمبادئه وتشريعاته ،كل القوانين الوضعية والمواثيق العالمية فأحق للإنسان حقوقه فكرم الإنسان –مطلق الإنسان- وساوى بين الناس جميعا بصرف عن أعراقهم وأجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم ،وامر باقامة موازين العدل بين البشر،وتمثلت مقاصد الشريعة الإسلامية في حماية : الدين،والنفس،والعقل،والنسل،والمال ،وغيرها من الحقوق المرتبطة بها والتي لم تعرفها البشرية إلا في العصر الحديث،وأقر للآدميين حياة كريمة لا ظلم فيها و لا إجحاف.وأصبحت تلك الحقوق جزءا من منظومة القيم الإسلامية وتعاليم الشريعة الإسلامية ،في حين أن المجتمعات البشرية التي لم تصلها رسالة الاسلام، انتظرت أربعة عشر قرنا،لتقر تلك الحقوق فيها وتلتزم بتطبيقها
إن الإسلام سبق الأنظمة الانسانية جميعا بأربعة عشر قرنا ،فأقر للإنسان من الحقوق ما يكفل له أمنه وحياته،وسعادته.و أقام تلك الحقوق عل أسس ثابته وربطها بقيم ربانية راسخة،وجعلها فرائض وواجبات ألزم بها المجتمع المسلم على كافة مستوياته:الفردية ،والجماعية،الرعاة والرعية. وعليه فان دعوى غياب هذه الحقوق من منظومة القيم الإسلامية ،تصبح دعوى باطلة لا تقوم على اساس، ولا تستند الى منطق.
كما لا ينبغي أن يؤاخذ الإسلام ويحاكم الى ممارسات بعض المسلمين وتقصيرهم في احترام المواثيق الدولية التي تهتم بحقوق الإنسان ،وتعمل على تأمينها. و على هؤلاء المسلمين العودة الى قيم الإسلام وتعاليمه،وأن يكون في سبق الإسلام واهتمامه المتفرد بتلك الحقوق حافزا الى القيام بمراجعة شاملة لمواقفهم ،وأحوالهم ،ويقدموا نموذجا أمثل لرعاية تلك الحقوق ،وتطبيقها والحرص على الدفاع عنها،فلا يجد منتقديهم فرصة للاساءة اليهم والى الإسلام من خلالهم.
في مجال الثقافة:ربما تكون هذه هي القضية التي لا سبيل الى المساومة حولها،لانها تؤدي في النهاية الى الغاء كيان الأمة وطمس هويتها.
و لا شك في أن العولمة تتضمن غزواً ثقافياً ،إذ يعتبر الغربيون حضارتهم خاتمة الحضارات الإنسانية ونهاية التاريخ.ومن ثم تبنوا الدعوة الى تغيير كل الثقافات القومية بما تنطوي عليه من معتقدات ونظم سياسية واجتماعية وثانونية وأعراف وقيم وتقاليد.وهكذا فإن العولمة تستخدم وسيلة لسحق الهوية القومية والمصالح القومية والثقافة القومية.أي سحق كل ما هو قومي ووطني وإنهائه لصالح الاختراق الثقافي والغزو الحضاري وتغريب الشعوب وتهميشها،وتنميط العالم وفق منظور الدول المهيمنة ومخططاتها وأهدافها.إنها تستهدف التبشير بالقيم الغربية الراسمالية والترويج للعلاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للدول الرأسمالية،ودمج العالم ودوله في إطار مكاني تفاعلي تسوده منظومة من القيم والممارسات والعلاقات الرأسمالية.
فالعولمة تغالي في تركيزها على حرية الفرد الى المدى الذي يتحرر فيه هذا الفرد من كل قيود الأخلاق والدين والأعراف المرعية. فدعت إلى إباحة ممارسة الجنس دون ضوابط،واباحة الشذوذ الجنسي والاجهاض واعتبار ذلك حرية شخصية،ولقد دعا الى هذا ممثلو الدول الكبرى في العديد من المؤتمرات الدولية ومنها مؤتمر السكان والتنمية الذي عقد في القاهرة في سبتمير 1994م.
إنَّ الإسلام-كدين يحمل رسالة للبشرية جمعاء-لا يقبل مثل هذا السلوك، بل إنه جاء لتغيير ما عليه الناس من انحراف في الفطرة،وفساد في الأخلاق،وتحلل في القيم الإجتماعية،و لا يعني هذا أن الإسلام يرفض الثقافات الإنسانية،بل على العكس من ذلك يمكن القول بأن الإسلام لم يضع قيودا على المسلم فيما يتعلق بالثقافات الإنسانية الأخرى، وأعتبر كل جهد بشري مفيد ونافع من الحكمة التي هي ضالة المؤمن، وهو أحق الناس بها أنى وجدها.لذلك لم يجد المسلمون حرجا في الاستفادة من تجارب الأمم التي اتصلوا بها،والوقوف على ما لديهم من معارف وعلوم.وتبعاً لهذا الارشاد النبوي فتح المسلمون عقولهم وصدورهم للثقافات الإنسانية الأخرى،وأخذوا منها ما يتلاءم مع قيمهم واستفادوا في بناء حضارتهم من كل الثقافات التي كانت قائمة حينذاك،بل ان فيلسوفا مثل ابن رشد يقول: " إن من واجبنا، إذا نظرنا فيما قاله من تقدمنا من أهل الأمم السابقة، أن ننظر الذي قالوه من ذلك ، وما أثبتوه في كتبهم ، فما كان منه موافقاً للحق قبلناه، وسررنا به، وشكرناهم عليه، وما كان غير موافق للحق نبهنا عليه، وحذرنا منه وعذرناهم . وعلينا ان نستعين على ما نحن بسبيله بما قال من تقدمنا في ذلك ، وسواء كان هذا الغير مشاركاً لنا في الملة أو غير مشارك". ( فصل المقال ،ابن رشد، ص:60-61)
مجال الاقتصاد:
وإذا كانت هذه هي المؤثرات الثقافية والاجتماعية للعولمة، فإن الجانب الاقتصادي لهذه الظاهرة، أكثر خطراً ؛ اذ أن العولمة لا تستهدف إيجاد نوع من العدالة للشرائح الاجتماعية الفقيرة والمعوزة،وإنما خلق وإيجاد إمكانات أكبر للأغنياء من خلال المزيد من استغلال الفقراء.فالآليات الإقتصادية التي تستخدمها العولة ،والأساليب التي تتبعها،تزيد من معدلات الفقر والبطالة ، وتهز أركان الاستقرار الاجتماعي ، بل إن تلك الممارسات والآليات الاقتصادية،تنفذ بتهدديدها إلى صميم الهيكل الاقتصادي الوطني والقومي ، فحين يقع الضغط لتأكيد حرية التجارة - والاستيراد والتصدير ، والعمالة ، وحرية الاستثمار ، وغير ذلك من التسهيلات - فإن الطرف المستفيد حتماً هو الدول المتقدمة صناعياً ، والشركات المتعددة الجنسيات ، التي تملك رؤوس الأموال الضخمة ، وتستطيع أن تصبر على المنافسة حتى تقضي على المؤسسات المحلية ، وتخلو لها الأسواق ؛ فتفرض الأسعار التي تعوض خسارتها أضعافاً مضاعفة ، وقد ظهرت بوادر الخطر في بعض الدول العربية التي استخفّت بالشركات الإسرائيلية ، وفتحت لها المجال في بلادها .
ومن الواضح أن المؤسسات المالية الدولية - كالبنك الدولي وصندوق النقد والصناديق الأخرى - تمارس دوراً خطراً ينسجم مع هذا التخطيط ، وقد رأينا أن الضغط التحكمي الاعتباطي على سياسة التخصيص ، وإبعاد الدولة عن واجبها في التخطيط المتكامل والرقابة - وخصوصاً أمام ضعف استعداد القطاع الخاص في أكثر البلاد - قد أدى لانهيار كثير من الشركات الاستثمارية في البلاد العربية ، علاوة على أن تطبيق ما يسمى (التصحيح الاقتصادي) العشوائي المفروض من الخارج - قد أضعف القدرة الشرائية للمواطن العربي ، وجعله عاجزاً عن تأمين السلع الضرورية للعيش ؛ مما تسبب في انتفاضات الخبز ، وثورات الجِيَاع.
كما أن الاتفاقيات الاقتصادية كانت وبالاً على الدول النامية إذ عرضت صناعاتها المحلية للخطر،وأصبحت تلك البلاد سوقاً لتصريف بضائع الدول الكبرى.وأدت الى الاستغناء عن كثير من العمال ،ويتوقع أن الذين سوف تتاح لهم فرص العمل سيمثلون 20% فقط من السكان،بينما 80% سيكونون فائضين عن الحاجة،ومن ثم لا يمكنهم العيش إلا من خلال الاحسان والتبرعات،مما يؤدي الى مشكلات اجتماعية خطيرة مثل زيادة البطالة والفقر والتطرف،و اتساع الهوة بين الدول الغنية والفقيرة اتساعاً غير مسبوق.فإن 358 ملياديراً في العالم يملكون ثروة تضاهي ما يملكه 2 ونصف مليار من سكان المعمورة،أي ما يقرب من نصف سكان العالم. وأن 20% من دول العالم تستحوذ على 85% من الناتج العالمي الاقتصادي،وعلى 84% من التجارة العالمية،ويمتلك سكانها 85% من مجموع المدخرات العالمية. .(هذه معلومات مرة عليها عدة سنوات وهي تتغير كل عام ومن ثم نجد في وقت مـخر قليلا أن نسبة 10% من الأثرياء يملكون نسبة 87.8% من الثروة العالميةوأنًّ 10 دول في العالم تملك حصة 73.5% من الثروة العالمية الخاصة المقدرة بحوالى 215 ترليون دولار)
إن الاتجاه نحو فرض السوق الحرة سيفجر الحروب ،ويعمق الصراعات العرقية،ويفقر الملايين،كما سيؤدي إلى استبعاد عشرات الملايين من العمل والمشاركة في المجتمع حتى في الدول المتقدمة،وقد تفاقمت الأوضاع بالفعل في بعض الدول الشيوعية السابقة لتصل إلى الفوضى العامة وشيوع الجريمة المنظمة وسيطرة المافيا،كما أدت إلى تزايد تدمير البيئة." (هذه هي العولمة ، محمد توهيل ، ص:180-188)
وهكذا فرغم دعوة العولمة إلى توسع اقتصادي هائل ،فإنها أدت في الوقت ذاته إلى تزايد في الديون والفقر والتفاوت بين الدول،وإلى انتشار الجوع وسوء التغذية كما تشير الى ذلك الاحصاءآت التي أصدرتها المنظمات العالمية عن أوضاع الأطفال وأحوال سوء التغذية في الدول النامية.
اما الإسلام فإنه فيما يتعلق بالاقتصاد وضع نظاما متميزاً راعى فيها حق الفرد في التملك ،كما حفظ للجماعة حقوقها.وأقام أسساً لنظام اقتصادي يقوم على العدل،أقر فيه من ناحية للفرد حق الملكية،ولكنه قيد تلك الملكية بقيود تحفظ للجماعة مصالحها،وتحميها من طغيان الفرد.فحرم الربا والاحتكار،والوسائل غير المشروعة في الكسب وحيازة الأموال،كما أوجب حسن التصرف في المال بما يعود بالنفع على صاحب المال والمجتمع،كما اشترط مراعاة المصلحة العامة للجماعة وعدم إلحاق الأذى بها،وفوق هذا كله أوجب على صاحب المال العديد من الحقوق والواجبات ،من انفاق على من تجب عليه نفقته ،وزكاة المال الذي يمتلكه ،بل فرض في الأموال حقوقا عير الزكاة ،إذا لم تف الزكاة بالواجبات الاجتماعية،ووضع اطارا عاما اقام فيه نوعا من التكافل الاجتماعى بين فيئات المجتمع المختلفة ،سواء على نطاق الأسرة أو الدولة والمجتمع،ووفقا لهذا النظام فإن كلاً من الفرد والجماعة يكمل الآخر،وبذلك تخلص الإسلام من سوآت النظام الرأسمالي ،وحمى افراد المجتمع من أن يكونوا ضحايا لسطوة أصحاب الأموال أو المؤسسا ت المالية ،كما يحدث الآن في ظل العولمة الاقتصادية.كما استطاع النظام الإسلامي القضاء على أعتى مشكلة يعاني منها الإنسان وما زال ،وهي: مشكلة الفقر وذلك باقراره بأن هناك تفاضلاً في الرزق بين الناس ،وأن هذا التفاضل من باب الابتلاء: (وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ) ،النحل:71،ولكنه في الوقت نفسه وضع أموراً تقرب بين الفقراء والأغنياء،كالميراث والزكاة والصدقات ،كما اهتم النظام الاقتصادي الإسلامي بمسألة العمل والعمال،وحسن توزيع الموارد الاقتصادية بين المسلمين،وحدد لذلك معالم تتمثل في الاعتدال في الانفاق،والتحذير من الاسراف في النفقة،الى غير ذلك من النظم والضوابط التي تحدد توزيع الموارد بالعدل بين الناس.
الموقف من العولمة:
من خلال ما سبق عرضه يمكن القول بأنَّ العولمة ليست دعوة للتعاون الدولي،على قدم الندية والمساواة بين كافة الشعوب،وكافة الثقافات،ولكنها دعوة إلى خلق عالم أحادي في كل شيء تحت سيطرة وهيمنة دول الاستكبار،(الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية إلى حد ما)،ومن ثم فإن هناك فرقاً كبيراً بين العالمية التي تتضمن التعاون بين الدول على أساس من المساواة والمصالح المشتركة وبين العولمة في الصورة التي ظهرت من خلال الممارسة،والتي تتمثل في تصور عالم واحد يتبع نموذج التطور الرأسمالي الليبرالي الغربي بقيادة وهيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا،وتسيطر عليه مجموعة من الشركات العملاقة متعددة الجنسيات، وتنظم أموره مؤسسات تابعة لتلك الدول مثل صندوق النقد الدولي .
فبدلاً من تحقيق العولمة نوعاً من الاستقرار السياسي والرفاهية الاجتماعية ،والتعاون بين الدول والشعوب،نجد أن العالم تزداد فيه النعرات الوطنية والقومية وتتنامى فيه النزعة’العنصرية ،وظهرت فيه الردة إلى النظام القبلي والعرقيات الضيقة، والتوجه نحو مزيد من الانشطارات والتشظي، وإلى بروز الكيانات الصغيرة ،وتفتت الكيانات العملاقة مثل الاتحاد السوفيتي.
ومن ثم فإنَّ كثيراً من الناس ينظر إلى العولمة بأنها نوع جديد من أنواع الإستعمار ، فيه كل ما في الاستعمار القديم من صفات ، وله ما لسَلفه من الأهداف والغايات ، لكنه يتخفى وراء شعارات حالمة،و تحت ألفاظ ناعمة كالتعاون ، والشراكة ، والتعاون المتبادل ،ويسعى من خلال قوة المال،والتفوق التقني الحديث،ووسائل الاعلام المتطورة،إلى الهيمنة على الأمم والشعوب ،والتحكم في مصائر المجتمعات.
وحقيقة أنه في الوقت الذي يفرض فيه النظام الدولي على الدول ضرورة احترام حرية انتقال البضائع والأموال دون عائق،وفي الوقت الذي أزالت فيه الثورة التكنولوجية الجديدة العقبات أمام حرية انتقال المعلومات،في هذا الوقت بالذات، زادت القيود والعقبات أمام حرية انتقال الأفراد في ظل قوانين أكثر تشددا في مسائل الجنسية وإقامة الأجانب.وهكذا فإننا نعيش في عالم أكثر تقابراً وتداخلاً في تعامله مع البضائع ،والأموال والمعلومات،لكنه أكثر تباعداً عندما يتعلق الأمر بانتقال البشر".( حوار أم صراع الحضارات، حازم الببلاوي،في قضايا العولمة ص:11.)
كما يرفض كثير من الناس تلك المواقف الانهزامية العاجزة المستسلمة،ويرون أن الثقافة الوطنية في ظل العولمة ليست بالضرورة ضحية عاجزة ،مجردة من العناصر الدفاعية،فالتحديات التي تستثيرها العولمة يمكن أن تحفز الثقافة الوطنية على مواجهتها من خلال التسلح بوسائل جديدة لتجديد ذاتها، وتقوية قدرتها على مواجهة العولمة الثقافية والقيمية،عن تأصيل الديمقراطية ،والتعددية، وحقوق الإنسان، والمواطنة واحترام التنوع الثقافي والإثني في العالم العربي ،يمكن أن يتحقق لحساب الدولة القومية ولصالح الثقافة العربية،وليس بالضرورة على حسابهما".( الثقافة والوطنية والتعددية في ظل العولمة ،هاني حوراني، في :العولمة وقضايا الهوية الثقافية ص:59-60.)
كما أنًّ القول بحتمية العولمة ليس أمراً مسلماً،ويبدو أنًّ القائلين بأنًّ العولمة حتمية تاريخية وقانون طبيعي لا مفر من الخضوع له عن اضطرار أو اختيار، لا شك أن هؤلاء قد تجاهلوا السلبيات الخطيرة لبعض جوانب العولمة،والتي بدأت تتكشف يوماً بعد يوم ،الأمر الذي أدى الى معارضتها من قبل كثير من الدوائر الغربية.
فقد نبه الكتاب المشهور الذي صدر بالألمانية عام 1996م،وترجم الى العربية تحت عنوان:" فخ العولمة،الاعتداء على الديمقراطية والرفاهية"، إلى أنَّ العولمة إنما هي فخ ومصيدة للقبض على العالم والسيطرة عليه وتحويله إلى عالم يسوده التدهور الاقتصادي والاجتماعي والتدمير البيئي والانحطاط الثقافي في ضوء حضارة التنميط التي تسعى العولمة لفرضها.
كما ارتفعت أصوات العديد من المفكرين ينبهون الى خطورة العولمة ،ومن هؤلاء الفيلسوف الفرنسي(جاك أتالي) ، الذي ذهب إلى أنًّ العولمة سوف تؤدي إلى إنهيار الديمقراطية وتصدع الحضارة الغربية لأنًّ خسارة البرلمانات والمحاكم لسلطتها على المصارف والشركات الكبرى يترتب عليه أن تصبح نخب السوق أقوى من النخب الديمقراطية،وستبرز طبقة جديدة من (البدو التكنولوجيين)،وسيسقط الاعلام في يد الشركات المتعددة الجنسيات التي ستوجه أفكار الناس واذواقهم نحو قيم معادية للسياسة والقيم الديمقراطية،ومن ثم ستندثر الديمقراطية وتعلو فوقها آليات السوق ،وسيصبح مسيطراً على العالم شيء يسمى بدكتاتورية السوق". (جدل الآنا والآخر، عبد الرزاق المضرب، ص:18 وما بعدها)
وما حدث في سياتل،ودافوس يشير إلى مدى القلق الذي بدأت المجتمعات تشعر به ازاء مخاطر العولمة.ففي بداية ديسمبر عام 1999م اجتمع وزراء تجارة 135 دولة،في اطار المنظمة الدولية للتجارة،وقد أخفق هذا الاجتماع الحاشد تحت وطئة الخلافات في داخله،وتحت ضغوط مئات الجمعيات والنقابات والمنظمات غير الحكومية التي حولت تظاهراتها شوارع سياتل الى ساحات حرب حقيقية تحت شعار"الإنسان قبل الكسب".،وبعد شهرين من أحداث سياتل(نهاية يناير من عام 2000م)، انعقد المنتدى الاقتصادي العالمي الثلاثون في دافوس بسويسرا،والذي ضم ألفاً من كبار سياسي واقتصاديي ورجال أعمال العالم،وفي هذا الاجتماع لم تغب ايضاً أصوات احتجاج المنظمات الشعبية غير الحكومية.وفي هذه المنتديات ظهرت أصوات جادة تدعو للسيطرة على جماح الليبرالية المفرطة،ولاتخاذ اجراءات عملية لمكافحة التفاوت.ونجد ظاهرة الإحتجاجات هذه ومعارضة العولمة تظهر في كل اجتماع لرجال المال أو المؤسسات المالية العالمية.وفيها يعبر المحتجون عن المخاطر التي تمثلها العولمة على حياة الناس الاقتصادية،ومستقبلهم المعيشي، وتنشط هذه الاحتجاجات مع كل اجتماع لمنتدى دافوس،ولكن يبدو ان أثرها ضعيف ولا يؤبه لها.
فالعولمة –كما تبدو من خلال نشاط الدول الكبرى- نظام مادي صِرف يقوم على الجشع والسيطرة والاستغلال ، وشهوة الكسب ، ويثير أكثر الميول وضاعةً في النفس الإنسانية: ميول التقليد الأعمى ، وعشق المظاهر ، والتبذير ، والاستسلام للشهوات ، وبتعبير آخر إطلاق الوحش البُدائي الذي يقطن في أعماق الإنسان ، وتحطيم تلك الكوابح الأخلاقية التي جاء بها الأنبياء،والقيم الإنسانية التي تميز البشر عن غيرهم من الكائينات.
بينما العالمية الإسلامية هدفها نشر القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية،والحفاظ على الكرامة الإنسانية لكل البشر،وتأكيد حق كل إنسان في الحرية والمساواة وحماية الأنفس والمعتقدات والعقول والأموال والأعراض،وإقامة موازين العدل بين الناس،وصيانة مؤسسة الأسرة،واحترام المرأة،ومنع الظلم والاستغلال في كل أشكاله وصوره.
فالمفهوم الإسلامي للعالمية،كما رأينا، يرى أن التعدد والتنوع والإختلاف، القاعدة والقانون،ويؤمن أن التفاعل هو الوسط العدل بين العزلة وبين التبعية فتصبح الصورة الحضارية للعالم هي صورة منتدى الحضارات،ومن ثم فهو يختلف عن مفهوم العالمية في الفهوم الغربي ،وعن العولمة التي هي امتداد طبيعي لذلك المفهوم. فيه ما تتفق عليه الديانات المختلفة والنحل المتعددة من حفظ الدين والمال والعرض والعقل فضلاً عن حفظ النفس. يتضمن القيم التي لا بد منها في التعامل بين الناس من: العدل والصدق والأمانة ،والرغبة في الثواب والخوف من العقاب والرحمة بعباد الله بل وبغيرهم من المخلوقات.فيه ما يشبع أشواق النفس وتطلعات الفكر . وفيه ما يردع الظلم ويقمع الفساد.
خلاصة البحث:
تبين من خلال هذه الدراسة ما يأتي:
• إنَّ العلومة،رغم اختلاف الناس حول مفهومها وأهدافها،ما بين مؤيد ومعارض،فإنها أصبحت حقيقة واقعية لا سبيل إلى تجاهلها،وأنَّها تتضمن جوانب سالبة ينبغي تجنب عواقبها،وجوانب إيجابية يمكن الاستفادة منها.
• إنَّ هناك فوارق واضحة بين العولمة والعالمية التي دعا إليها الإسلام،فبينما تتضمن العولمة روح الهيمنة والتسلط والقهر،يدعو الإسلام بعالميته إلى التعاون بين الناس وتبادل المنافع والخبرات.وتظهر الفروق بين عاليمة الإسلام والعولمة أوضح ما تكون،في الأهداف السياسية والاقتصادية والثقافية للعولمة:فبينما تبشر العلومة في المجال السياسي بديمقراطية زائفة،وتعددية سياسية شكلية،والحرص على حقوق الإنسان بصورة إنتقائية،نجد أنًّ الإسلام بقيمه العالمية يدعو إلى ترسيخ قيم الشورى،ويؤكد على التعددية القائمة على الإختلاف المشروع بين الناس،ويقرر أنََّ التدافع سنة من سنن الله في الكون،وأنَّ حقوق الإنسان ليست منحة من أحد ،يصرفها وفق هواه،بل هي تشريع إلهي تقره الشريعة الإسلامية،وتضمن تحققه مبادؤها،التي وضعت الأسس لإقامة حقوق الناس والضمانات اللازمة لحمايتها والدفاع عنها.وفي مجال الثقافة تحمل العولمة مضامين الغزو الثقافي،وفرض قيم الحضارة الغربية بكل ما تحمله من تصورات سالبة عن الإنسان والمجتمع،بينما يدعو الإسلام إلى قيم إنسانية راقية،تنمي جوانب الخير عند الناس وتحفظ لهم خصوصياتهم الثقافية.وفي مجال الاقتصاد،خلافا للعولمة-التي تسعى إلى سيطرة الشركات العابرة للقارات،وفيئة من المليارديرات،على موارد الأمم ومصادر رزقها-يضع الإسلام نظاماً متوازناً يضمن فيه للأفراد حقهم في الملكية،وللجماعة حقها في رعاية أفرادها.
• أما موقف الإسلام من ظاهرة العولمة،فيمكن تلخيصه في أن الاسلام لا يعارض العولمة جملة، ولكن يعارض جوانبها الظالمة والمظلمة والتي لا تتفق وصالح البشرية. وإذا كانت العولمة دعوة إلى الوحدة بين الامم والشعوب وتعاون بين الناس، فهذا ما يدعو إليه الاسلام ،لكن إذا كانت استغلالاً ونهباً واستعماراً وسيطرةً وابتزازاً واغتصاباً واختراقاً واستلاباً،فإن الإسلام لا يعارضها فحسب بل يسعى إلى موجهتها ودفعها،وبكل الوسائل والسبل.
• ولكنَّ مقاومة العولمة ومجابهتها،لا تعني أبداً الانعزال عن مجرى الأحدث، أو التقوقع داخل الاطار القومي أو القطري.بل إنَّ مواجهة العولمة تعني أن نهزم أهدافها وأجندتها في فرض الهيمنة الأمريكية على العالم،وربما نستطيع أن نحقق ذلك بالعمل من داخل منظومة العولمة نفسها،فإن حروب الأنظمة الطالمة المستكبرة من داخلها،ربما يكون أسهل بكثير من مواجهتها من الخارج.
• وأخيراً تقترح الدراسة، أنَّ المشاركة في مسيرة العولمة،والعمل الجاد على الحد من اندفاعها المدمر لجوهر الإنسان،والعمل على تعديل مسارها وتقويم توجهاتها من أجل مصلحة الإنسان،من أوجب الواجبات على المسلمين في هذا العصر .

 

 

آراء