إليك اكتبُ يا شاعري العزيز. . محمد المكي ابراهيم. . إنّ الذي جاء من قلمك عن دار الثقافة في الخرطوم، والتي كانت كياناً قائماً قبالة القصر الجمهوري، هو كلام صادرٌ عن عقل موجوع وقلب مفجوع، فالزمان والمكان يشكلان معاً قوام التاريخ، ومعنى الانتماء. أضحت بعض رموز الثقافة ونواديها في هذه العقود الزمانية التي نحيا أواخر عمرنا فيها، قاعا صفصفا، بل أطلالاً لو اهتدى إليها بوم "العـقـاد" لجلس إليها ونعق. كنتُ أسمع عن "دار الثقافـة" في يفاعتي، وأنـــا "أم درماني" قح لا قبل لي بحواري الخرطوم ولا بأمكنتها ، لكني كنت أعرف أن كبار مثقفي البلد يحجّون إلى تلك البقعة، يتفاكرون ويتسامرون فيها عن أحوال الثقافة والسياسة والاجتماع. كم يأسرنا الحنين لأيامنا الأوّل. أعرف يا عزيزي محمد أن مفكراً فصيح القلم مثل منصور خالد، لا يطيق أحاديث النوستالجيا، ويرى فيها بعض أنانية من جيل آفل على حق جيل ناهض في صوغ حياته وتجاريبه وفق هواه، وهوى معطيات عصره وبيئته التي يتنفس فيها هواءاً غير هواء تلكم الأجيال التي سبقته. قد يكون لمعلمنا منصور بعض الحق، ولكن ليس كلّ الحق، وأعلم أن المعلم يطرب إن حاججه بعض تلاميذه، وإما إن لم يرضه مقالنا، فليمدد - كما فعل أبو حنيفة النعمان – قدميه، إن ظنه باطلاً حَنبَـريْت. .
(2) قلْ لي يا عزيزنا الشاعر البريع: اين ستجد في هذه الأيام، ركناً يتسع لمثل تلك المفاكرات التي كان شباب الخرطوم، ينعم بها في سنوات ما بعد الاستقلال، وفي العقود التي تلته. .؟ لعلك تتذكر مقالاً لي كتبته قبل سنوات قليلة، عن "مكتبة أم درمان المركزية" ، قلت في عنوانه، أن "المدينة تختبيء في المكتبة"، وكنت أجاري بهذا العنوان ما جاء منك من تعبيرٍ ذكيٍّ ، عن اختباء الحديقة في الوردة. كان حنيني إلى طفولتي واستحضار صور صباي في مدينتي أم درمان، قد حملاني إلى البحث عن تلك المكتبة الحميمة، فكأني كنت أنقّب عن بعض تاريخي الشخصي، أو بعض وجدانٍ ضاع مني، وعن مدينتي كلها. غمستُ قلمي في حبر الحنين لماضٍ جميلٍ، عشته بقلبٍ نابضٍ وبعقلٍ حَي. قد يسألنا المعلّم منصور أنا وأنت، عمّا سنجني من بكاءٍ على أطلالٍ دوارس ، وعلى حدائق أجادِب . النفع عندي هو في إذكاء نار الوجدان، فتهِـبَ المعنى ألوانه الزاهية في معايشةٍ رسختْ في الذاكرة، وشكّلت ما يميز الواحد عن الآخر، بل وما يفاخر به من سبقه أو من لحق به من الأجيال. ليس في مثل هذا النفع الذي ندّعيه، من مزاعم تفضيلية ، إذ الحياة مسيرة لا تقف عند جيلٍ دون جيل ، والتاريخ الانساني حلقات من تجاريب البشر، يتصل بعضها ببعض، فلا مفاخرة ولا تفاضل، وإنما البذل والمجاهدة والابداع هو الفيصل.
(3) عزيزي محمد، دعني أحدثك عن أساي. . وقفتُ قبل يومٍ أو بعض يومٍ، لابتاع صحيفة من بائع للصحف في ركنه القديم عند ناصية سينما "كولوزيوم" المهجورة، قبالة "شارع القصر" في قلب الخرطوم، حين لفت انتباهي عمل دؤوب يقوم به نفرٌ من العمال مُعلّقون على جدار السينما، المطلّ على "شارع القصر" ويسدّون بالأسمنت الفجوات التي أنشئتْ أصلا لتيسير التهوية في دار السينما غير المسقوفة، لروادها الكثر الذين لا يتركون مقاعدها شواغر، في سنوات حضورها الباذخ. سألتُ بائع الصحف مستفسراً، فهو في موقعه ذاك، مقيمٌ لأكثر من ثلاثين أو أربعين عاما. قال لي الرجل متحسّراً : أن مصرفاً شهيراً- سمّاهُ لي- قد امتلك دار السينما وأنهم يعدّونها - فيما بلغه- مخازن لذلك المصرف . ليس ما يهمنا أيّ منفعة يبغونها من تلكم الدار، ولكن كان واضحاً أن سينما "كولوزيوم" التي نعرف منذ سنوات بعيدة، لن تقوم لها قائمة بعد الآن، وأن تاريخها إلى اندثار. وقفتُ أتأمل بعينٍ دامعة، عمالاً ينجزون عملهم بهمّة عالية، في محو تاريخ سينما "كولوزيوم" . أعرف يقيناً أن أياً منهم لم يكن يوماً من روّاد سينما "كولوزيوم" . ليس منهم من شهد تلك الأفلام العظيمة التي عرضت في تلك الدار. لم يكن بينهم من شهد شريط "رجل لكل المواسم". لا.. ولا شاهد واحدٌ منهم شريطَ "زوربا الإغريقي" الذي لعب فيه "أنتوني كوين " أعظم أدواره في الشاشة الفضية. ليس من بين هؤلاء من شهد شريط "زد" ، أوائل سبعينات القرن العشرين. .
(4) كدتُ أن أسأل يا عزيزي. . هل يعرف رئيس هؤلاء البنائين، أنّ تلك الدار ضمّت ذات يومٍ، مكاتب مؤسسة إسمها "مؤسسة السينما"، والتي كانت تستجلب الأفلام الغربية والعربية الرصينة من مظانها، في لندن وفي هوليوود وفي القاهرة. .؟ ليس ذلك فجسب ، بل إن أول عرض لفيلم "زد" الشهير ، وهو عن فساد الحكم العسكري في يونان الستينات، قد جرى في العاصمة الخرطوم، وفي سينما "كولوزيوم" تحديداً. حضر ذلك التدشين التاريخي الموسيقار اليوناني العالمي الشهير وواضع موسيقى الفيلم : "ميكيس ثيودوراكيس"، تلبية لدعوة من مدير مؤسسة السينما السودانية الأديب الراحل على المك. قبل بدء العرض طلب "ثيودوراكيس"، أن يأتوه بعلبة طلاء أحمر اللون وفرشاة. كان الراحل على المك فخوراً بحضور هذا الموسيقار الشهير إلى الخرطوم ، فسارع يوجّه موظفيه لاحضار طلاءٍ أحمر اللون. جاءوه بالعلبة والفرشاة. أمسك "ثيودوراكيس" الفرشاة ورسم باللون الأحمر إسم الفيــلم : " زد " Z “ “، حرف الحرية في اللغة اليونانية، والحضور يصفقون. .
(5) رحم الله الأديب الكبير على المك، فما أنبل رؤيته الثاقبة، وما أعمق حسّه المبدع. رحل وفي وجدانه شيء من حتى، على حال بعض مشروعاته الإبداعية. أما "ثيودوراكيس" وهو في تسعيناته الآن، أتصوّر إنْ بلغه ما آل إليه حال دار السينما التي دشن فيها موسيقاه و فيلم "زد"، في أوائل السبعينات من القرن الماضي، وهي سينما "كولوزيوم"، لمات قبل يومه من الحسرة والأسى . . علّ ذلك المصرف الذي امتلك قطعة عزيزة ، سكنتْ ذاكرة جيل كامل، ولوّنت طرفاً من حيواته، أن يلتفت لطبيعة ذلك الربع الذي كان موقعاً تنويرياً لفنون السينما، فصار من بعض أطلال ذلك الزمن الجميل، الذي حسبناه سيعود إلينا ذات يوم قريب، فإذا هو الآن أثر بعد عين . المملكة السعودية التي استعادتْ وعياً غائباً لعقود طويلة، رحبتْ بفنون السينما بأريحية غير متوقعة، وافتتحت دوراً لعرض الأفلام السينمائية، يؤمها الرجال والنساء. نحن في الخرطوم، والتي كانت أول عاصمة في القارة الأفريقية والشرق الأوسط، تدشن أفلاماً أوروبية وأمريكية، في سنوات الستينات والسبعينات، أحلنا أكبر دار للعروض السينمائية، إلى ما يشبه المخازن التجارية في قلب العاصمة، وفي أكبر شارع رئيسيٍّ فيها. . هل ثمّة تاريخ قريب لعودة وعينا بفنون السينما، أم لا يبقى لنا إلا البكاء على الأطلال. . ؟