بِانْتِظَارِ شَاتِمَاتِ الوَزِير!
كمال الجزولي
11 April, 2020
11 April, 2020
الإثنين
مرَّت، في الثَّامن من مارس الجَّاري، ذكرى عيد المرأة العالمي، لتُستعاد النِّقاشات، بمناسبته، في أنحاء العالم الإسلامي، وفي بلادنا بالذَّات، حول استحقاقات النِّساء السِّياسيَّة. أمَّا على المستوى الشَّخصي، فرغم أنَّني غيَّرت خطَّتي الأولى، كما قلت في الرُّوزنامة السَّابقة، من الاحتفاء، في هذه المناسبة، برئيسة القضاء في السُّودان، إلا أنني تحوَّلت منها إلى التَّأمُّل في بعض أهمِّ أطروحات النِّساء المسلمات اللاتي تَّصدَّين لتلك الاستحقاقات، أو اللاتي ارتبطت سِيَرَهُنَّ بها.
في الإطار قضيت ليلة بأكملها أراجع مسعى فاطمة المرنيسي لصياغة الإشكاليَّة، في صدر مقدِّمة كتابها «الحريم السِّياسي ـ النَّبيُّ والنِّساء»، وإعادة طرحها، علناً، أمام بعض رجال بلادها المغاربة، ضمن السُّؤال المقلق: «هل يحقُّ لامرأة أن تقود المسلمين»؟! وعلى صدى صرخة أحدهم مذعوراً: «أعوذ بالله»، وتمتمة آخر خائفاً: «اللهمَّ قِنا كوارث الدَّهر»، وجَّه إليها ثالث حديثاً نبويَّاً، من صحيح البُخاري، كمن يوجِّه ضربة قاضية: «لم يفلح قوم ولُّوا أمرهم امرأة». وتصف الكاتبة ما حدث، بعد ذلك، حيث خَسِرَت الجَّولة، وخيَّم الصَّمت! غير أنها، لجسارتها، لم تعتبر الأمر منتهياً عند ذلك الحدِّ، إذ ما لبثت أن قرَّرت توثيق هذا الحديث، وتدقيقه، لكي تفهم سلطته على نحو أفضل مِمَّا يفعل «المُلَّا» و«الإمام»، وسائر مَن يطلقون على أنفسهم لقب «رجال الدِّين»!
تلك التَّجربة أخذت فاطمة إلى مكامن العُسر الحقيقي في تقليب المراجع الدِّينيَّة. فعدد المجلدات المذهل، عموماً، لحدِّ الإرباك، غالباً ما يجعل «رجل الدِّين» يباهي بأن علمه يفوق علم المسلم العادي، حتَّى المثقَّف. ومن ثمَّ يتعيَّن على الأخير، رجلاً كان أم إمرأة، أن يجالد أمَّهات المراجع، ويخوض في بطون الخزائن الجِّياد! فصحيح البخاري، وحده، يتألَّف من أربعة أجزاء، علَّق عليها السَّندي بما اعتبرته المرنيسي اقتضاباً وإبهاماً، الأمر الذي يضاعف من حجم الصُّعوبات أمام غير المتخصِّص، وغير المتخصِّصة، أثناء قراءة نصٍّ من القرن التَّاسع الميلادي، حيث توفي البخاري سنة 256 هـ. فإذن، ولأجل توثيق كلِّ حديث، على الباحث، والباحثة، الوقوف على هويَّة راويه، والرُّواة الذين تناقلوه، والظروف التي قيل فيها، والتي روي فيها، دَعْ أن ثمَّة من الأحاديث غير الصَّحيحة ما يفوق عدد الصَّحيحة، وأن ثمَّة عشرات من شرَّاح البُخاري، مثلاً، يشغلون عشرات المجلَّدات، وأن أيَّ تعيين لشارح، أو تعريف به، قد يستغرق أشهراً من البحث. ومع ذلك، مع ذلك .. مَن أراد الله به خيراً فقَّهه في الدِّين.
الثُّلاثاء
عرض صديقي عبد الله علي إبراهيم، مؤخَّراً، لموقف الشَّهيد عبد الخالق محجوب، المفكِّر والسِّكرتير الأسبق للحزب الشِّيوعي السُّوداني، من عشق البرجوازيَّة الصَّغيرة للتَّكتيك الانقلابي، بمختلف ألوانها السِّياسيَّة، والأيديولوجيَّة، والمهنيَّة، خصوصاً خلال الصِّراع الذي دار في الحزب، قبل وبعد انقلاب النِّميري عام 1969م، بين الماركسيَّة وبين أيديولوجيَّة تلك الطَّبقة الغفيرة في الحزب، حيث الحزب في بلاء شديد معها، فمتى خرج من ذلك الابتلاء برؤية للتَّغيير كنشاط جماهيري، صار حزباً للكادحين حقاً، لا شعاراً فحسب. وفي كتابه «لمحات ..، 1960م ـ طبعة 1987م» نبَّه عبد الخالق إلى أن الحزب لا يخلو من خصوم للطبَّقة العاملة، لذا فإن المواجهة بين أيديولوجيَّتها وبين أيديولوجيَّة البرجوازيَّة الصَّغيرة تُنقِّي معدنه البروليتاري، وترسم الخطَّ الطَّبقي الفاصل بين المنهجين، وهو ما يمكن تسميته بقانون نموِّ الحزب.
أعادت تلخيصات عبد الله إلى ذاكرتي إحدى أهمِّ وأخطر تلك الجَّولات، متمثِّلة في وقائع الانقسام الشَّهير عام 1970م، عندما جرى التَّصويت، داخل اللجنة المركزيَّة، على وثيقة عبد الخالق «التَّمسُّك باستقلاليَّة الحزب»، ووثيقة معاوية سورج وأحمد سليمان «تبعيَّة الحزب لمايو»، وتمخَّضت النَّتيجة عن هزيمة التَّيَّار الثَّاني، بفارق غاية في الضَّآلة أمام التَّيَّار الأوَّل، فانتبه عبد الخالق لخطورة ذلك التَّصويت، لا من حيث كونه ينبي عن مجرَّد انقسام، فحسب، بل وعن انقسام ضار (!) فأعمل بصيرة شيوعيَّة تأتَّت له من خبرة طويلة في قيادة الحزب، حيث أصرَّ على عقد «مؤتمر تداولي» لحسم الأمر بشكل قاطع لا يخلف مجالاً لأيِّ التباس، مستقبلاً، على صعيد التَّفسير أو التَّأويل. وبالفعل، انعقد «المؤتمر» في أغسطس من ذلك العام، حيث شهد، كما أشرنا، إحدى أقوى جولات المواجهة بين الماركسيَّة وأيديولوجيَّة البرجوازيَّة الصَّغيرة، فوقَّى الحزب من مصير الضَّياع في تيه المغالطات!
بهرني، في تلك المواجهة، بشكل مخصوص، المنطق الطَّبقي الفصيح الذي استخدمه الكادر العُمَّالي، وقتها، ومسؤول الحزب التَّنظيمي الحالي، مختار عبد الله، إذ أبدى دهشته من كثرة استنكار زملائه في تيَّار عبد الخالق لحُجج ممثِّلي تيَّار معاوية وسليمان، متسائلاً: ماذا تظنُّون، وقد اكتظَّت اللجنة المركزيَّة بعناصر البرجوازيَّة الصَّغيرة، فهل تراهم، إذا أزف أوان سلطتها، يقفون ضدَّها؟!
أمَّا عبد الخالق فقد مثَّل، وقتها، حسب تقدير الكثيرين، دون أن يكونوا مخطئين، وأنا منهم، سيف الماركسيَّة البتَّار الذي مزَّق منطق البرجوازيَّة الصَّغيرة السِّياسي تمزيقاً، وذرَّه في رياح العدم. فمثلاً، حين راح احمد سليمان يتجرَّأ على القول، ظانَّاً أنه يلقم فريق عبد الخالق حجراً، إنه ليس من الشَّجاعة ترك أولئك الشَّباب الذين حملوا رؤوسهم على أكفِّهم (يقصد إنقلابيِّي مايو) يواجهون الرَّجعيَّة وحدهم، وبظهر مكشوف، إنبرى له عبد الخالق مذكِّراً:
ــ «سنة 1959م، عندما كنَّا، جميع أعضاء المكتب السِّياسي، ما عداك، رهن الاعتقال، وقع انقلاب مجموعة علي حامد الذين أعدم معظمهم. وكان من بين مَن حُكم عليهم بالسِّجن شقيقي محمَّد محجوب. وعندما جئ به إلى كوبر سألناه عن مبرِّرات انقلابهم، فقال: إسألوا أحمد سليمان، فهو من زعم لنا أن ذلك كان قرار الحزب! ولمَّا كتبت مجلة (آخر ساعة) المصريَّة أن الخرطوم تهمس بأن لأحمد سليمان دوراً في الانقلاب، سارعتَ أنت بالتَّلويح برفع دعوى (ردِّ شرف) ضدَّ المجلة! فأيُّ شجاعة هذي التي تدعونا إليها، فتجعلنا نقرن شرفنا بشرف المنتصر، ونفصله عن شرف المهزوم؟! وعموماً يا أحمد .. لم يحن الوقت، بعد، للحديث عن الشَّجاعة والجُّبن، لكنه، سيحين، حتماً، عمَّا قريب، حيث سيعرف الشَّعب، ساعتها، من سيثبت، ومن ستسوخ مفاصله في الرِّمال»!
و .. صدقت نبوءة الشَّهيد، إذ ما كاد ينقضي أقلُّ من عام على ذلك، حتَّى كان يصعد، بثباته الأسطوري، إلى مشنقته، على رأس كوكبة من أجمل وأنبل رموز الحزب والدِّيموقراطيِّين المدنيِّين والعسكريِّين!
الأربعاء
الموتُ حقٌّ. وما يفضي إلى الموت، أيضاً، حقٌّ، سواءً بـ «كورونا» أو بغيرها. هنا يجتمع الدِّين والعلم، حيث لا سبيل للتَّقليل، لا من حقيقة الموت، ولا من حقيقة المرض الذي قد يفضي إليه، اللهمَّ إلا أن يتجمَّل المرء بالشَّجاعة وقوَّة الشَّكيمة، حين يتحتَّم عليه الابتلاء بالمرض أو الموت. وما ذلك، في الحقيقة، بتقليل أو استخفاف، إنَّما هي قيمة يحبُّها الله ويحبُّها رسوله، فيضحى المؤمن موعوداً بأن يُكتبَ له هذا الابتلاءُ في ميزان حسناته، بقدر ما يتكبَّد أثناء هذا التَّجمُّل. ومن هذا الباب، بالذَّات، تصحُّ مقاومة الموت، إذ لم يأمرنا الله بالاستسلام له صاغرين «ولا تُلقُوا بأيديكُم إلى التَّهلُكة»، تماماً كما تصحُّ مقاومة المرض، بدءاً من الوقاية ضدَّه، وانتهاءً بأخذ كلِّ أسباب العلم للبرء منه.
جالت بذهني هذه الخواطر، مؤخَّراً، في مناسبتين. أولاهما يوم شاهدت، في التِّلفزيون، من يزعم أنه رجل دين، وكلُّ عدَّته لحية سجَّاديَّة وزبيبة صلاة، بينما كان يستخفُّ بتحذيرات الأطباء، وإرشاداتهم، في مواجهة جائحة «كورونا»، مطالباً المصلين، وهو يفحُّ فحيحاً من أعلى المنبر، كمن يحاول استدراجهم للتَّواطؤ معه ضدَّ العلم، بألا ينشغلوا بهذه «الخزعبلات العلمانيَّة»، وأن يكتفوا بالصَّلاة والأدعية، ففيها، وحدها، الشِّفاء بإذن الله. أمَّا المناسبة الأخرى فقد كانت يوم شاهدت، أيضاً، في بعض الوسائط، إمرأة ترغي وتزبد، وصُويحبات لها يشددن من أزرها، في ذمِّ وزير الصَّحة، د. أكرم التُّوم، كونه، بزعمهنَّ، افترى على الله الكذب قائلاً إن قريباً لتلك المرأة توفي بـ «الكورونا» بعد عودته، للتَّوِّ، من بعض نواحي الخليج، حيث كان في ضيافة أسرة سودانيَّة هناك! لكن ما كاد ينقضي يومان على ذلك «الرَّدحي» المتشنِّج، حتَّى ضجَّت الوسائط بخبر وفاة ربَّة الأسرة التي كان المرحوم في ضيافتها بالمدينة الخليجيَّة، ففرضت السُّلطات العزل على باقي الأسرة!
و .. هأنذا ما زلت أنتظر سماع كلام جديد من «شاتمات الوزير» يفيد رجوعَهُنَّ إلى الحقِّ، دَعْ اعتذارهنَّ عن الباطل!
الخميس
دَرَجَ الإسلامويُّون على تزوير روايتهم للتَّاريخ. ففي عقابيل مصالحتهم، مثلاً، مع نظام النِّميري عام 1977م، إنقلبوا، بلا أدنى حياء، «يبرِّرون» عمليَّات «التَّنكيل» التي كان ذلك النِّظام يشنُّها، خلال الحقبة التي سبقت تلك المصالحة، ضدَّ المعارضة، عموماً، وضدَّ الطائفيَّة السِّياسيَّة، خصوصاً، متناسين، تماماً، أنهم كانوا، خلال نفس تلك الحقبة، متحالفين مع نفس الطائفيَّة، الأمر الذي لا يمكن المكابرة في حقيقته التَّاريخيَّة.
والقصَّة أنَّهم كانوا قد جابهوا، مع الأنصار والختميَّة، انقلاب النِّميري، في 25 مايو 1969م، منذ ساعاته الأولى، بعداء دموي لا توسُّط فيه، وذلك عبر العديد من الجَّولات. ولعلَّ أولى تلك الجَّولات كانت أحداث الجزيرة أبا، تخطيطاً، وتسليحاً، وتدريباً، والتي قُتل خلالها المرحوم محمد صالح عمر، أحد كبار قادتهم وقتها. وفي بعض وجوه التَّوثيق أورد كتاب «المتآمرون»، الصادر عن «شركة الأيَّام للطباعة»، في يوليو 1970م، اعتراف المتَّهم الإسلاموي بابكر العوض عبد الله، في 13 أبريل 1970م، حول اتِّصال محمد صالح عمر بهم، كإسلامويِّين يعملون، آنذاك، في السُّعودية، لتجهيزهم للتَّسلل إلى السُّودان عن طريق أثيوبيا، باتِّجاه الجزيرة أبا، حيث نقطة تجميعهم .. و«وصلنا معسكراً فيه أسلحة، أنا، وعبد المطلب، ومحمد صالح عمر، ومهدي إبراهيم، وهناك وجدنا الشَّريف حسين الهندي، ومحمد الفضل المدرِّس بجدَّة، وبعض الأحباش، وكانت الاسلحة الموجودة بسيطة .. وتدربنا على السِّلاح على يد إثيوبي، ومحمد صالح عمر ومهدي إبراهيم كانا يدرِّبان الأنصار في الجزيرة أبا».
ومن الوثائق، أيضاً، الخطاب المرسل من محمد صالح عمر إلى الإمام الهادي يقول له فيه: «الموعد المتَّفق عليه مع الجَّماعة لوصول العربة وبها مجموعة (الأخوان) الذَّاهبين ليهم هو يوم الخميس السَّاعة الثانية عشر ظهراً، فلا بُدَّ من قيام العربة غدا حوالي العاشرة صباحاً، لتبيت في الطريق، وتصل في الموعد المحدَّد، ويقابل الاخ عثمان (الأخوان) الذاهبين من هنا، وعددهم خمسة، لاستبدال (الأخوان) العائدين من هناك، وهم ستة، ونرجو ان يكون الشِّيخ بشرى قد حمَّل الجِّمال بإذن الله. ولكن احتياطاً من أن الشَّريف ربَّما لم يصل حتى الآن، ولم تحمَّل الجِمال، فرأيي ان نشدِّد عليهم في إحضار العدد الموجود من قذائف البازوكا بقدر ما يستطيع الاثنين حمله لأن الحاجة إليها شديدة ويمكن حمل عدد منها، كما أحضر الإخوة الآتون في الأسبوع الماضي مجموعة من اقسام الـ R. B. G».
هكذا، وبرغم مشاركة الأخوان المسلمين المثبتة مع الطائفيَّة في صدامات الجَّزيرة أبا الدَّمويَّة، فقد عاد التُّرابي، بعد «المصالحة»، ليقول: «مهما كان من سياسات اتَّخذتها مايو إزاء الطائفيَّة فقد انكسرت اليوم شوكتها!» (الأيَّام؛ 23 ديسمبر 1977م). أي أن التٌّرابي يبدو مبتهجاً، هنا، لكسر مايو لشوكة الطائفيَّة، رغم عمله مع هذه الطائفيَّة، طوال السَّبعينات، لكسر شوكة مايو!
كذلك كان الأخوان المسلمون يمثلون رأس الرمح في أحداث شعبان1973م التي كانت تهدف لافتعال حراك كأكتوبر يطيح بمايو! إلا أن مخططهم اصطدم بنأي الشَّعب عنه، ففشل، لا لحبِّ النَّاس في مايو، لكن لكراهيَّتهم في الأخوان المسلمين!
ثمَّ إن الإسلامويِّين اشتركوا مع الطائفيَّة في محاولة استلام السُّلطة في البلاد عن طريق غزوها عسكريَّاً من الأراضي الليبيَّة في 2 يوليو 1976م. وضمن المصادر المهمَّة في هذا الإطار، تبرز الحقائق التي ساقتها الصُّحف، مؤيَّدة بما أورد، مثلاً، الجُّمهوريِّون، في بعض مدوَّناتهم، نقلاً من وقائع بعض المحاكمات، كتلك التي انعقدت لقائد الغزوة، محمَّد نور سعد، وآخرين، حيث كشف المتحرِّي عن واقعة اشتراك الإسلامويِّين، في تلك الغزوة، مع الحزبين الطائفيَّين، تحت لافتة «الجَّبهة الوطنيَّة» (الصَّحافة؛ 31 يوليو 1976م). كما أوردت الصُّحف من اعترافات محمَّد نور سعد نفسه أنه «كان ينوي اذاعة بيان حول تكوين مجلس رئاسي من الصَّادق المهدي، والتُّرابي، ورئيس الوطني الاتِّحادي، وممثلين للأقاليم، وأنه كان سيقوم بأعباء الحكم لحين وصول قيادات الجَّبهة الوطنيَّة .. وأن أحد قادة الأخوان المسلمين، ويدعى عبد العظيم عبد الله، كان على اتصال به، وأنه استلم بواسطة أحمد سعد 300 بندقيَّة كلاشنكوف لتسليح جماعة الأخوان المسلمين الذين احتلوا دار الهاتف والمطار» (الصَّحافة؛ 31 يوليو 1976م). وقدَّم الاتِّهام للمحكمة وثائق خطيَّة، وتسجيلات مهَّمة، كميثاق «الجَّبهة الوطنيَّة»، الذي عُثر عليه داخل جدول مهجور بالجِّريف، وكان عناصر الغزوة، وفيهم الإسلامويُّون، يعتزمون بثه عبر إذاعة أم درمان، شاملاً الكشف عن اتِّفاقهم، مع «الأمَّة» و«الاتِّحادي» على فترة انتقاليَّة مدَّتها خمس سنوات، وجمعيَّة تأسيسيَّة من 110 عضواً، بحيث يكون لكلٍّ من الأحزاب الثَّلاثة 25 نائباً، وللإقليم الجَّنوبي 25 نائباً، ولبقيَّة القوى، مجتمعة، 10 نوَّاب (الصَّحافة؛ 29 أغسطس 1976م). واستمعت المحكمة، كذلك، لاعترافات المتَّهم يس الحاج عابدين التي أضاءت «دور الأخوان المسلمين في المؤامرة، واستعداداتهم التي سبقت التَّنفيذ، حيث أن مجموعة منهم كانت تقيم، كجزء من الحركة العسكريَّة، قبل تنفيذ المؤامرة، في منزل باللاماب، بعد ان تم تدريبهم خارج البلاد، وإنه كان يشارك في إعاشتهم» (الصَّحافة؛ 30 أغسطس 1976م). كما استمعت المحكمة لاعترافات المتَّهم عبد الرسول النور، القيادي الطلابي في حزب الأمَّة، بأنه توجَّه في 22 ديسمبر 1975م، من لندن إلى طرابلس، حيث «علم هناك أن أمر تحريك الطلاب متروك للإخوان المسلمين» (الصَّحافة؛ 31 أغسطس 1976م).
أمَّا معارضة الإسلامويِّين، أصلاً، لمايو، قبل المصالحة، فإن راعي الضَّأن في الخلاء يعلم أن سببها كان الصِّراع على السُّلطة، بدليل تخليهم عنها بمجرَّد مصالحتهم، وتحالفهم مع النِّميري، حيث مضوا، بعدها، يسوِّقون تبريراً جديداً لتلك المعارضة الدَّمويَّة، هو «شِّيوعيَّة نظام مايو» (!) لكن، حتَّى لو سلَّمنا جدلاً بوجود «علاقة» بين الشِّيوعيِّين ومايو، في بداية النِّظام، وأنها هي التي كانت وراء معارضة الإسلامويِّين، كما يدَّعون، فإن تلك «العلاقة» المزعومة لم تدُم أكثر من عامين، فلماذا، إذن، دامت عداوة الإسلامويِّين للنِّظام، بعدها، زهاء الخمس سنوات حتَّى المصالحة في 1977م؟! يصعب الإمساك بإجابة مستقيمة على هذا التَّساؤل، طيَّ تصريحات التُّرابي الصَّحفيَّة عقب المصالحة. فحتَّى عندما احتاج لـ «اختراع» مبرِّرات جديدة لاستمرار عداوتهم لمايو بعد وقوع المواجهة «الدَّمويَّة» بينها و بين الشِّيوعيِّين في 1971م، راح يصوِّر الأمر، بارتباك شديد، كما لو أن الصِّراع، أصلاً، كان دائراً بينهم وبين الشِّيوعيِّين، على «ثورة مايو» نفسها، قائلاً: «ولمَّا استعسر على الشِّيوعيَّة مغالبة القوى الوطنيَّة على مسرح الليبراليَّة حـاولوا تسـلق ثورة مايو (!) لســرقة ثمارهـا (!) وتطويق العناصـر الوطنية فيها (!)، ليضعوا على الشَّعب الطَّاغوت الأحمر، ولكن تدابيرهم انهارت في يوليو بالخسران المبين!» (الأيَّام؛ 23 ديسمبر 1977م).
الجُّمعة
في مذكِّراته بعنوان «من أوراق قاضٍ سابق» روى مولانا حمزة محمَّد نور أنه، في أبريل 1973م، بعد أقلِّ من عام على اتفاقيَّة أديس أبابا التي أوقفت حرباً أهليَّة استمرَّت منذ 1955م، ذهب، رفقة بعض زملائه، في مأموريَّة من ملكال إلى أكوبو، في أقصى شرق أعالي النيل، على الحدود مع إثيوبيا، دون حراسة، رغم هشاشة الوضع الأمني! وفي الطريق فوجئوا برجل شماليٍّ من أهالي الجِّريف إسمه عبد الماجد، يعيش في كوخ مع ابنته، وحدهما، بلا جار ولا أنيس، في غابة يسمِّيها الأهالي «غابة عبد الماجد»، ويستخدمان أفراد قبيلة «النُّوير» في إنتاج فحم الوقود من أشجار تلك الغابة، حيث يتجمَّعون من القرى المجاورة، جالبين معهم «مريسة» يظلون يحتسونها، تحت هجليجة ظليلة، أثناء فترات الرَّاحة من العمل، ريثما ينصرفون في المساء، بعد أن يشتروا من دكان عبد الماجد، القائم في كوخ آخر إلى الجِّوار، الخرز، والملح، وزيت الطعام، وقماش الدَّمُّوريَّة! وعندما سألوه، متعجِّبين، عن مدى اطمئنانه لذلك الحال، أجابهم بأنَّ «النوير»، إنْ سالموك، لا يغدرون!
نفس المشهد تكرَّر لدى العودة، رغم أنهم سلكوا، هذه المرَّة، طريقاً مغايراً يمرُّ بغابة أخرى كانت موئلاً مشهوراً للأفيال. وكانت المفاجأة أن وجدوا هناك، أيضاً، كوخاً معزولاً، في قلب تلك الغابة، يسكنه، وحيداً، رجل شماليٌّ آخر يبيع نفس سلع عبد الماجد! ولمَّا سألوه عن مدى اطمئنانه للحياة، وحيداً، وسط «النُّوير»، أجابهم بأنه ظلَّ سعيداً بتلك الحياة حتى خلال سنوات التَّمرُّد!
وختم مولانا قصَّته بأن الدَّرس المستفاد منها هو الدَّلالة الواضحة على قيم «النُّوير» الأخلاقيَّة السَّامية. ونضيف، من جانبنا، أنه كان يجدر التَّعويل، في صناعة السَّلام عام 2005م، على القيم السَّامية لدى كبريات المجموعات الإثنيَّة في بلادنا، كونها كفيلة بتوفير الضَّمانات المطلوبة لتحقيق ما اتُّفق عليه، تماماً مثلما ينبغي التَّعويل عليها في أيِّ مفاوضات سلام قادمة.