تأملات. . إلى رجلٍ عرفته إسمه غـنـدور

 


 

 

 

1/ إعفاءٌ أم استقالة. .؟

خروج وزير في تشكيلة وزارية، من منصبه أو بقائه فيه، لا ينبغي أن يكون ذلك الحدث الداوي ، تتصدى له الأقلام الصحافية بالتحليل والتقصّي، وأقلام أخرى بإعمال الخيال الجامح، في بعض ما قرأنا وتابعنا. لكن طبيعة بعض الأنظمة، البعيدة عن الديمقراطية السوية والوضوح الشفاف، والأقرب إلى احتكار الصواب واعتماد الغموض وتبنى الشمولية ، لا تقبل إستقالة من منصب كبير ، إلا أن يكون قرار السلطة الحاكمة، هو الإعفاء. هو الإقالة، لا قبول الإستقالة. لنا تاريخ قديم في مثل هذه الممارسات.

تلك روح أقرب إلى روح القطيع الذي يسير إلى مراعيه وفق إرادة الراعي، حتى وإن أخذه الراعي إلى بيداء قاحلة، لا إلى مروجٍ خضراء . إن احتكار الصواب يريدنا أن نقتنع، أن الذي وقع لوزير الخارجية، هو إعفاء وليس استقالة، وإن كنا نعلم كما يعلم الراعي، ويعلم الوزير نفسه، أن خروجه جاء بناءاً على استقالة قدمها الرجل "للراعي الصالح". .


2/ احتكــارٌ وتمكيـــن :
خرج وزير الخارجية من التشكيلة الوزارية في يوم 19 أبريل 2018، وهو جزء أصيل في تركيبته الممتدة على مساحة زمنية، تصل إلى ثلث قرن كامل ، وفق حاكمية لتيار سياسي محدّد المعالم والأهداف. إن ذلك النظام- ومع اتضاح اخفاقاته وتراجع ما عده البعض مكتسبات- لن يبرأ القائمين على أمره، من اختلافات الرأي وتباينِ التوجّهات، وتعارُضِ الأصوات المُعبّرة عن ذلك التيار. يصف المحللون السياسيون تلك الظاهرة، بأنها التعبير الأوضح، للصراعات الداخلية، والتنافس على قصعة الحكم . زاد في أوار تلك الصراعات، تصاعد النزاعات المسلحة في دارفور وجبال النوبة ومنطقة النيل الأزرق. . تلك جراحات ظلت تنزف دماً منذ أكثر من ستين عاما.

ولترسيخ حاكمية النظام، واقتضاء احتكار مفاصل الدولة ، عبر اتباع أسلوب ترغيب المُشايعين، وترهيب المعارضين، كان سلاح "التمكين" هو الأداة الأولى لضبط مسيرة النظام. و"التمكين" ليس كلمة بريئة وإن استلفها مفكرو النظام الشمولي، من أعماق العقيدة الإسلامية، ومن كتاب الله الكريم. هي عندهم وسيلة لاحتكار الحكم بكامله وحرمان معارضي النظام، بل ومَن لم يكن منتمٍ بقلبه مع توجّهاته. انفتح الباب إلى ذلك، لثقافة النفاق ، مظهراً ومحتوىً، وصارت تلك مدخلاً لفسادٍ كبير. لم يكن ذلك البذل خالصاً لله ، ولكنه كان لدنيا أنكروها علانية في أناشيدهم، واعتمدوها سِــراراً، في سلوكيات أكثرهم. .


3 / نهاراتُ السكاكين الطويلة. .
لعلّ وزارة الخارجية هيَ بلا مراء، أكثر الوزارات التي طالتها أسياف التمكين، بالبتر القطعي، أوبالإقصاء المقنّع، لبعض منسوبيها من السفراء والدبلوماسيين والإداريين ، وبالتهميش لمن سـلِم منهم من تلك الأسياف . حدّث المتابعون عن نهارات السكاكين الطويلة في الإحالة للصالح العام في الأشهر الأولى للنظام الحالي، لأكثر من ثلاثين سفيراً بجرّة قلم واحدة من جملة سفراء، تجاوز عددهم المائة بقليل. توالت بعدها قوائم البتر والإقصاء. كانوا جلاوزة هتلريون وقساة بلا رحمة. .

لم ينظر "أهل الحلِّ والعقد" في العهد الإسلاموي السوداني، إلى المهنة الدبلوماسية، مثلما تنظر إليها بلدانٌ تشكّل قوام المجتمع الدولي ، تراها مهنة لها مقوّمات موضوعية مخصوصة ، يخضع منسوبوها لتدريب مستفيض ، وبعضهم يُبتعث لجامعات أوروبية وأمريكية عالية المستوى، في العلوم السياسية والإدارية والدبلوماسية والقانون الدولي وفنون التفاوض. كلا، لم يأبه ذلك النظام لخصوصية طبيعة المهنة .

بعد أن عمل النظام على إبعاد من ليس منتمٍ للتوجّهات الحاكمة، إلى أقصى الهوامش، جنح لملءِ الشواغر، فجيء ببعض الموالين ومَن يثق فيهم ذلك التوجّه الأوحد، وطعمهم بقليل ممّن احتاجوا لخبراتهم في مجالات محدّدة ، ليحلّوا محل المُبعدين. لم تكن المؤهلات ولا المزاج المناسب ولا المهارات، هي ممّا اعتمد معاييرَ للتعيين في الوظيفة الدبلوماسية في سنوات التسعينات تلك، بل كان الركون لأصحاب الولاء، لا لسواهم، هو المعيار الرئيس، يُضاف إليه معيار المحاباة الطائفية والمحاصصات القبلية، والاستمالة للمؤلفة قلوبهم أيضاً .


4/ على نفسها جنتْ براقـش. .
يطلّ سؤال هنا : هل سَـلِم الأمر لمن نفّذوا سياسات التمكين . . ؟ الإجابة: لا.

فما أن أطلت خلافات الرأي بين العصبة الحاكمة، حتى ارتفعت المطامع، وبرزت إلى العلن. نرى بعض الذين "تمكّنوا" في النظام ، وإن ظلوا مشايعين له ، يتقلبون بين المناصب ، أعلاها وأسفلها، لكن أكثرهم يبقى الرصيد الرئيس لذلك النظام، فلا يغيب الواحد منهم إلا في "استراحة محارب" مؤقتة، سرعان ما يعود غطرساً بعدها، وأشدّ منعة وشراسة. من كان وزيراً ، أو صار مساعداً "للحاكم العام"، يصير سفيراً يجلس على رأس سفارة خارجية. من كان مسئولاً في التنظيم الأوحد، يشارك في سياسات التمكين بجدٍّ واجتهاد ، يصير وزيراً للتجارة ثم للنفط ، ثم يتولى حقيبة المالية ، أو يصير وزير خارجية "في الظلّ"، يدير ملفات سفارات بعينها. . ومن يخرج من الجهاز التنفيذي يدخل إلى الجهاز التشريعي، أو العكس . من يستقيل من وزارة "سيادية" ويتجه "للمؤتمر الشعبي"- المناويء شكلاً "للمؤتمر" الآخر - يعود وزيراً اتحادياً، بالدخول عبر نوافذ المحاصصات السياسية والحزبية، أوالقبلية والطائفية. .

ليس تقلّب وجوه بعينها بين مناصب متعدّدة ، إلا وجهاً من وجوه الصراع والتنازع على القصعة الشهية. التمكين ليس نهاية المطاف، بل هو المدخل لصراعات جديدة ومتجددة، والتكالب على الامتيازات والوجاهات السياسية، لا كوابح له. .


5/ نزع ملفات الدبلوماسية. .
مَن يرى أن وزير الخارجية الذي أخرجوه أو خرج مستقيلا من منصبه، لأن الأجهزة المالية لم تعنه مالياً لإدارة وزارته وسفاراتها، فإن سياسيا حصيفاً مثل ذلك الوزير لابدّ أن يمتعض من سلب ملفات وزارته وتشتيتها على مسئولين بعيدين عنها، وذلك هو الأقرب أن يكون السبب الحقيقي الأدعى للاستقالة، وليس الحرص على مرتبات موظفي سفاراته في الخارج، مهما بلغت درجة أهميتها عنده.
ولمن لا يعرف، فإن وزارة إتحادية كاملة المعالم ، قد خرجت من خاصرة وزارة الخارجية، والتي على رأسها حاليا سفير سابق كان ذات يوم في وزارة الخارجية، وخرج منها منها باستقالة غير واضحة مسبباتها. وكأنّ ذلك ليس كافياً، فإنّ ملفات مهمّة، ومن صلب مسئوليات وزير الخارجية، جرى تسريبها إلى جهات خارج وزارته ، مثل ملف "حلايب" وملفات دول بعينها ، مثل الصين وتركيا وبعض دول الخليج الخليج وشرق آسيا والبرازيل. بقي لوزير الخارجية أن يشارك في المؤتمرات الإقليمية والدولية، مثل فعاليات الجامعة الأفريقية أو الاتحاد الأفريقي، وأكثرها مشاركات مراسمية ، لا تغني ولا تسمن. حيث أن "الدبلوماسية الرئاسية" التي يقولون عنها، يتعثر حراكها أحياناً لأسباب تتصل بالحظر والملاحقة. برغم وضوح ذلك ، فقد أسهب خطاب الرئاسة في مؤتمر سفراء السودان الذي انعقد أواخر فبراير 2018 ، في الحديث عن فعالية "الدبلوماسية الرئاسية"، وكأنها البديل الموضوعي للدبلوماسية المهنية التي رسخت عبر ممارسات وأعراف وتقاليد مرعية، عزّزت مصداقيتها اتفاقيات دولية، التزم بها المجتمع الدولي واعتمدها، منذ أكثر من نصف قرن. "الدبلوماسية الرئاسية" هي التي أخرج مسئول إسمه"طه " عبرها قراراً بقطع علاقات السودان الدبلوماسية مع الجمهورية الإسلامية في إيران، سمع به وزير الخارجية من أجهزة الإعلام، فيما علمت. .


6/ دبلوماسيو الدرجات الوسيطة. .
إعتمد النظام السوداني في سنوات التسعينات الوسيطة من القرن العشرين، طبيعة جديدة لمهنة دبلوماسية ذات مواصفات، اختصّ بها الحاكمون، دون كل "البلوماسيات" في العالم من حولنا. تجاوزتْ بدعة "الدبلوماسية الرسالية: أو هي "الإسلاموية"، مداخل التعيين في الخدمة العامة ، فجيء ببعض موظفين جدد في مختلف درجاتها، من السكرتير الثالث وإلى ما قبل درجة السفير، دون التأكد عند أكثرهم، من امتلاك تلك الخبرات المهنية اللازمة، لمن يتبوأ تلك الوظائف. في التقليد المتبع دولياً ، لا يصل إلى وظيفة المستشار الدبلوماسي، إلا من تقلّب في عدد من الإدارات السياسية في ديوان وزارة الخارجية وفي عدد من البعثات الدبلوماسية، ونال تدريباً أو درجة دراسية عليا في المجالات المتصلة بالمهنة الدبلوماسية. بعض من جرى تعيينهم على هذا النحو ، نقلوا بعد أسابيع قليلة كمستشارين وسكرتيرين أوائل، في عدد من السفارات الخارجية.

إن تم ذلك التعيين الجزافي، بذريعة "تطعيم" الوظيفة الدبلوماسية، فإنه في أكثره تسويفٌ، فصد منه تعزيز وجود الموالين للتوجّهات الرسمية للدولة. ذلك الابتداع لا يبتعد عن تنفيذ سياسة التمكين عبر إحلال الولاء الخالي من التجريب، محل المهنية الغنية بالتجارب الحصيفة. أغلب سفراء اليوم في خارجية السودان ، هم ممّن كانوا في الدرجات الوسيطة أو دونها، في سنوات التسعينات. ليتني اسمع صوتاً منهم، يؤازرون به وزيرهم الذي أخرج بمزاعم الدفاع عنهم. .


7/ من يُلغِـي تاريخ الدبلوماسية السودانية؟
على صعيد النصحِ لمن يفترض أن يتولّي في الأيام القادمة حقيبة الخارجية ، بعد خروج وزيرها، هنالك من يروّجون لمعايير جديدة، ومتطلبات متجدّدة، ومعايير مبتكرة، يقترحون من الوزير الجديد، إدخالها على الدبلوماسية السودانية الحالية. بلغ إلقاء الحديث على هواهنه، مبلغاً بانت معه الإستهانة بأبجديات المهنة الدبلوماسية، حدّاً يثير السخرية، أكثر مما يثير الامتعاض. لكأنهم لا يعلمون أن الدبلوماسية، وإن كانت فنا وموهبة ومَقدرات تكتسب عبر تجريب وتدريب طويلين، إلا أنها صارت علماً يدرّس في الجامعات المحترمة، وكسباً أكاديميا تنال عبره شهادات عليا.

يقترح بعض الأذكياء من الكتّاب، أن يتولى المهنة الدبلوماسية، مهندسون وأطباء وزراعيون ورجال أعمال ومهن فنية أخرى. لا تثريب في تطعيم" المهنة ، ولكن أن يمضي هؤلاء الأذكياء إلى الزعم، أن الدبلوماسية لم تعد في حاجة لخبرات واسعة ولمهارات أدبية ولغوية وخطابية، وقدرات في إعمال الخيال، إضافة إلى قدرات البحث والتحليل، فذلك من خطل القول بما قد يفضي إلى إلغاء إرث الدبلوماسية السودانية. من مهام السفراء والدبلوماسيين تقديم الاستشارة الدبلوماسية لبلدانهم ، عبر تقييم المواقف السياسية، وبلورة مواقف تهم البلاد، ويعبّر عنها بحصافة و"دبلوماسية" . لربما هي رغبة تلاقي تبديل طبيعة المهنة ، فيكون "التمكيــن" إضافة لازمة لتعريف جديد، وتحوير في مفاهيم الدبلوماسية. . .

درجت وزارة الخارجية على فتح أبوابها – لا نوافذها- لبعض التخصّصات التي تناسب ما استجد من اهتمامات دولية، كمثل قضايا البيئة، والتنمية المستدامة، وقضايا المياه، وقضايا التلوث، ومخاطر ثقب الأوزون، وقضايا الإرهاب الدولي . يتم ذلك الاستيعاب بقدر محسوب وبانسيابية لا بزلزلةٍ تفرغ الدبلوماسية من معانيها في التفاعل مع الآخر. عادة يكتمل الاستيعاب بعد إخضاع هؤلاء لتدريب في فنيات العمل الدبلوماسي، في التحرير والصياغات، كما في المراسم وفي الخطابة والنطق الرسمي، وما يلحق به من إجادة اللغات بفصاحة مكتوبة ومنطوقة. . ذلك أمر محمود تتبعه حالياً وزارة الخارجية.

يزعم من كتبوا بحماس فيه شطط ومبالغات، أن تاريخ الدبلوماسية السودانية ، وبكل إرثه في الخطاب السياسي، وفي الخطابة في المحافل الدولية، وفي مهارات التفاوض مع الآخر لفضّ النزاعات وحماية المصالح، والتدقيق في الصياغة السياسية والقانونية للاتفاقيات ومذكرات التفاهم، كل ذلك في نظرهم حريّ بنا أن نشطبه ونلقيه إلى سلة مهملات التاريخ. أنْ تقترح التجديد والتطوير شيء ، وأن تعمد على مهاجمة تاريخ الدبلوماسية السودانية الناصع، شيءٌ آخر. تلك دبلوماسية سودانية لها تاريخها الناصع، وينبغي على الجيل الماثل أن يلمّ بطبيعتها. إن إعمار الدبلوماسية السودانية واستشراف مستقبلها، لن يتحقق إذا جنح الجيل الدبلوماسي الحالي لإهمال رصيدها وإرثها وتاريخها منذ سنوات التأسيس، وأنّ من نسي قديمه - كما نقول في المثل- تاه. . .


8/ دبلوماسية التضحيات. . لا الامتيازات
لعلّ النظر القاصر، هو ما يرى في العمل الدبلوماسي السوداني، فرصة لتحسين الحال ، وامتلاك المنازل والشقق الاستثمارية، ومضاعفة الزيجات، مثنىً وثلاثاً ورباعا. . لا ، ليس الأمر كذلك . لم تكن الدبلوماسية السودانية، ومنذ عهد إنشائها في خمسينات القرن العشرين، يُنظر إليها كجائزة تنالها صفوة من المتعلمين، أو هيَ سانحة لتحسين الحال، أو فرصة لاستراحة محارب، بل كانت تضحيات مثقلة بمسئوليات جسام، يحتاج لمعرفتها من ينظر في التاريخ القريب، فيدرك كيف شارك سفير أديب شامخ القلم، هو "جمال محمد أحمد" ودبلوماسيوه، في صياغة ميثاق منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963م حين كان سفيراً في أديس. .

على الجيل الماثل، أن يدرك، كيف شارك سفيرىهو "فضل عبيد"، في جهود السلام في الكونغو، على أيام باتريس لوممبا. .
على الجيل الماثل، أن يدرك كيف أبلى السفير "الشريف الحبيب" في نزع فتيل الإقتتال بين الأشقاء في العراق والكويت ، عند نيل الأخيرة استقلالها عام 1961 . .
على الجيل الماثل، أن يدرك كيف كانت مجاهدة السفير "جلال عتباني" ودبلوماسييه في لبنان، والحرب ضروسٌ بين طوائفه، أواسط سبعينات القرن الماضي. .
تلك نماذج لا أعدّد إلا بعضها، حتى لا أثقل على للقاريء .
لعلّ النظر الثاقب إلى أداء دبلوماسية السودان على أيدي رعيلها الأول ، لا يدركه ويا للأسف، أذكياء يكتبون ما شاء القلم الذي يمسكون أن يكتب، فيتجاوز عن أداء رجال كبار، حملوا السودان في الحدقات في ردهات الأمم المتحدة، في ستينات وسبعينات القرن العشرين. قدرات مثل هؤلاء السفراء التفاوضية والخطابية واللغوية في السياسة، سخّروها للحفاظ على مصالح بلادنا، ومصالح القارة الأفريقية، مثلما مثلت مفخرة من مفاخر دبلوماسية العالم الثالث.
بعض مذكرات مندوبي السودان الدائمين في الأمم المتحدة، وجدتْ طريقها إلى أن تضمن في كتب مرجعية في أوروبا وأمريكا ، في الأداء الدبلوماسي الراقي، وتدرّس لطلبة السياسة والدبلوماسية. في أوائل سبعينات القرن ، ترأس السودان مجلس الأمن ووزير خارجية السودان، رجل إسمه منصور خالد وسفير متمكن إسمه رحمة عبدالله. .
هؤلاء الرجال ممن ورد ذكرهم هنا، هم بعض سفراء ودبلوماسيين سودانيين رفعوا - وعبر أداء دبلوماسي مميّز، في سنوات الحرب الباردة، والمواجهات محتدمة مع "العالم الأول"- إسم السودان عاليا . في بذلهم ذاك، ما كانت عيونهم تلاحق صبايا يُتخـذن زوجات، ولا إلى بنايات تستثمر لاكتناز الذهب والدولار. كان الأداء الدبلوماسي "تكليف" وتضحيات، وليس منحة أو "جائزة". .
للدبلوماسية السودانية، بذل متصل يخيب من يعمد إلى إنكاره ، والخزي يلاحق من يمحوه من كتاب التاريخ. . أخجل أن أقرأ أو اسمع ما يقال قدحاً في ذلك الجيل الذي أسّس الدبلوماسية السودانية، وكنا – من حظنا- شهوداً على أكثره، نحن الجيل الذي جاء لاحقا . رحم الله من رحل من ذلك الجيل المؤسّس، وألهم الصبر من بقي منهم لتحمّل مثل هذا الغثاء الذي يكال لتاريخهم. . كبار مثل أمير الصاوي ومنصور خالد وأبوبكر عثمان وعز الدين حامد. . وأضرابهم ينبغي أن نرفع إليهم إعتذاراً لازماً، لما لحق ببذلهم من رشاش، ومن مذمّة لا تليق بأقدارهم السامية. .
يأتي الوزراء ويذهبون، ولكن يبقى الإرث والتاريخ والإنجاز. .


9/ المال فعلٌ والدبلوماسية كلام. .
من الإنصاف أن لا ننظر لموقف الوزير الذي أعلن عن تهاون الدولة في توفير اعتمادات تسيير سفارات بلاده في الخارج، نظرة عجلي، وهو وزير الدبلوماسية المسئول عن حسن أدائها. لا يتصل الأمر بما أشاع البعض، من كون الرجل مولع بالمطالب النقابية، بحكم إهتماماته وخبراته السابقة. لننظر إلى أبعد من ذلك، فلا يظلم الرجل. إن رأى ملفاته وقد سلبها آخرون فإن المؤسسات المالية عملت على إضعاف وزارته بحجب مال تسييرها على نحوٍ محرج.
في تقديري وتقدير أكثر المدققين في علاقات وزارة الخارجية مع وزارة المالية، أن حساسية تشوبها ، وأن تلك العلاقة تحتاج لمن يسبر أغوارها، بموضوعية وجدية لازمتين .
ثمّة نظرة من قبل المؤسّسات المالية في الدولة، سواءً وزارة المالية أو المصرف المركزي، لا تقيّم تقييماً إيجابياً، أداء موظفي الدولة من السفراء والدبلوماسيين العاملين في سفارات السودان بالخارج. ترى تلك المؤسسات ، أن هولاء الموظفين يهدرون أموالها فيما لا طائل وراءه، وأن السفير هو محض رجل مولع بالسفر وبالتأنق والحفلات المسائية . شكّل هذا الانطباع المُعجل وغير الحقيقي، بداية لصراع "بنيوي"، تجاوز الأشخاص، وطال المهام والمسئوليات، بين وزارة الخارجية ووزارة المالية، تعلو وتهبط بدرجات متفاوتة، طيلة عقود عديدة.
إتخذ هذا "الصراع البنيـوي" أشكالا متصاعدة ، وقاد في مرحلة خلال الحكم المايوي" إلى قرارات عجلى. في نظرة غير عميقة، طرحتْ وزارة المالية على قيادة الدولة، أوائل ثمانينات القرن الماضي، خطة لخفض الانفاق الحكومي ، شملت إغلاق أكثر من عشرين سفارة للسودان في الخارج، دفعة واحدة . انحنت وزارة الخارجية وإن قصم ظهرها. بعد أن تم تنفيذ ذلك على عجل، ودون الاستماع لصوت الجهاز الدبلوماسي، وضح بعد عامٍ واحد، خطل ذلك المنطق الذي قاد لإغلاق السفارات، وتراجعت الدولة- وإن قالت إنها تراجع ولا تتراجع- وأعادت فتح أغلب تلك السفارات، بتكلفة فاقت تكلفة أغلاقها بمرات مضاعفة .
في تقديري أن التنافس بين الوزارتين أمرٌ واضحٌ للعيان ، ويدرك كبار السفراء المُمسكين بلمفات الوزارة الإدارية والمالية، هذه الحساسيات في التعامل مع وزارة المالية، التي لا تضعهم ضمن أولويات الصرف الحكومي. لا يجب دفن الرؤوس في رمال الحساسيات هذه، بل الأوجب أن يجلس القائمون هنا وهناك، للتدارس الجدّي حول هذا الأمر. .


10/ أينَ "سيادية" وزارة الخارجية ؟
من متابعتي في سنوات التسعينات، ساد اتجاه لتحديد "وزارات سيادية"، والذي كنا نعرفه عن وزارة الخارجية، أنها وفق التعريف والتقليد السائد، هي وزارة السيادة الأولى. أسقط التوجّه الجديد وزارة الخارجية من تلك القائمة. ورسخ لدى الأجهزة والمؤسسات المالية في الدولة، أن السفارات السودانية في الخارج، محض إدارات للصرف البذخي. جرى إلى ذلك، وعلى فترات متفاوتة، سحب أو تقليص الكثير من الامتيازات والاعفاءات التي تجيزها الأعراف الدبلوماسية الدولية لكلّ الدبلوماسيين في مختلف دول العالم، قصد تيسير أداء مهامهم وهم يقيمون في بلدان أجنبية . والطريف أن هذه الامتيازات والاعفاءات، وبما فيها الحصانات وجوازات السفر الدبلوماسية ، تم تحويلها عندنا في السودان، لفائدة فئات لم تطبق عليها من قبل، مثل الوزراء ووكلاء الوزارات ونواب البرلمان وقيادات مؤسسات وجهات كثيرة، بل شكلت تلك الممارسة استثناءا لم تعرفه البلدان الرصينة.

في مؤتمر السفراء عام 2016 ، وفي ختام فعالياته ، وجّه رئيس البلاد أن يُرد الاعتبار لوزارة الخارجية، فتعود وزارة "سيادية"، مثل بقية الوزارات السيادية"، وأن تعديلات كبيرة ستلحق بالقانون الجديد المقترح للسلك الدبلوماسي السوداني .
مرّ عامان ولم يسمع أحد عن معنى "سيادية" وزارة الخارجية، أو عن قانون جديد للسلك الدبلوماسي السوداني.


11/ تُهمـة التجنيـب باطـلـة. .
وزارة الخارجية التي عرفتها حتى يوم تقاعدي عنها ، تلتزم التزاماً صارماً ، ومنذ فترة تجاوزت العشرة أعوام وأكثر ، بتوريد عائداتها القنصلية من سفاراتها بالخارج، ولا يتم تجنيب دولار واحد بخزينة أيٍّ من السفارات ، كبيرها أوصغيرها، بل يتم توريدها لخزينة الدولة، أي حساب الايرادات المرصود بين وزارة المالية والمصرف المركزي. تحدد لجنة مشكلة من ممثلي المصرف المركزي ووزارة المالية ووزارة الخارجية التحويلات الشهرية، ويسمونها "الأمر المستديم" لكل سفارة بالخارج وفق معايير محددة موضوعيا . تراقب هذا الأداء المالي فرق معتمدة من وزارة المالية ، وديوان المراجعة العامة، مقيمة في مكاتب الوزارة.
أنظر إلى مؤتمرٍ للسفراء عقدته وزارة الخارجية قبل شهرين، وأعجب أن لا ينصح المصرف المركزي ، ووزارة المالية، بضرورة تأجيل ذلك المؤتمر للظروف المالية القاهرة التي تمرّ بها البلاد. وإني أعجب أيضا أن تصرّ وزارة الخارجية على عقد ذلك المؤتمر، للتكلفة العالية في مشاركة سفراء الخارج في ذلك المؤتمر. لقد كان من الممكن اللجوء لبدائل أخرى، كعقده عبر شبكة عنكبوتية آمنة، خاصة وقد دشـنتْ وزارة الخارجية تفعيل اتصالها إلكترونياً بسفاراتها بالخارج، في حفل كبير قبل أسابيع، مما يؤكد قدراتها المناسبة والمتوافقة مع أساليب "الحكومة الإلكترونية". إننا في حاجة لمراجعة أوجه الصرف، وابتداع أساليب جديدة تساعد على خفض الانفاق، ولكن مع الحرص على إحسان الفعالية وتعزيز التجويد. .

الخرطوم – أبريل 2018

 

آراء