تاريخ مختصر عن تدريب القابلات في السودان (1 -2) .. ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

 


 

 

 

A Short History of the Training of Midwives in the Sudan (1 -2)

أي. ام. كندال E. M. Kendall
ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي

تقديم: هذا هو الجزء الأول من ترجمة وتلخيص لبعض ما ورد في مقال ورد في العدد الثالث والثلاثين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات" الصادرة عام 1952م.
وكاتبة المقال هي الآنسة أي. أم. كندال رئيسة الممرضات (مترون) في مدرسة تدريب القابلات في أم درمان منذ عام 1946 إلى 1955م. وكانت الكاتبة قد قدمت ذات المقال كمحاضرة أمام الجمعية الفلسفية السودانية في اجتماعها الدوري رقم 45 يوم 24 أبريل 1951م.
وسبق لنا أن ترجمنا عددا من المقالات عن القابلات منها مقال بعنوان " قابلتان سودانيتان"، ومقال آخر بعنوان "حياة وعمل قابلة (داية) حبل في دارفور"، و"تدريب القابلات وختان الإناث في السودان الإنجليزي – المصري". ولا بد هنا من الإشارة لكتاب دكتور حسن بلة الأمين المعنون "أطباء السودان الحُفاة: قصة نجاح بهرت العالم" عن ذات الموضوع.
المترجم
******* ****** ******** ****
وصلت الآنسة مابيل أي. وولف إلى السودان قادمة من الفيوم بمصر في نوفمبر من عام 1920م. وكان من ضمن ما جلبته للسودان لبدء التدريب في مدرسة القابلات بأم درمان دمية / موديل لطفل حديث الولادة لغرض التدريب العملي، مع بعض العينات الطبية المتعلقة بالتوليد، وعينات محفوظة في مادة الفورمالين لمواليد ولدوا بتشوهات خلقية. ومع مرور السنوات، وبعد التغلب على الكثير من العراقيل الضخمة التي لا تكاد تصدق، انتشرت مراكز تدريب القابلات في أرجاء السودان المختلفة بفضل مابيل وولف وأختها. وغدا ما بدأتا عمله في تلك السنوات البعيدة يعرف الآن بـ "خدمات القبالة بالسودان".
وكانت للأنسة وولف معرفة عملية كافية باللغة العربية الدارجة (باللهجة المصرية)، ومعرفة عميقة بعادات وطرق النساء (والقابلات) المصريات. إلا أنها كانت تجهل اللغة الدارجة السودانية، وطرق وعادات النساء السودانيات، وظلت لمدة ثلاثة أشهر لا تفهم ما تنطق به السودانيات، رغم أن السودانيات اللواتي تعاملن معها كن يفهمن تماما ما تنطق به هي بعربيتها المصرية اللهجة.
وكان مقر مدرسة القابلات التي أنشأتها الآنسة وولف هو بيت طيني (سوداني الطابع) قرب قسم النساء بمستشفى أم درمان الحالي، يتكون من غرفتين، وحمام (ليس فيه مكان للاستحمام!)، وحوش داخلي صغير ومطبخ صغير وغرفة صغيرة للخادم. وكان الحوش الصغير يقود إلى حوش خارجي أكبر منه، حوله غرفتين من الطوب الأحمر، خصصت إحداهما لسكن الطالبات، والأخرى لاستخدامها كمكتب وقاعة محاضرات، ومكان للكشف على النساء الحمل / المريضات. وكان هنالك أيضا غرفة طينية تستخدم كمخزن، حولت فيما بعد إلى عنبر لحالات النساء المريضات اللواتي يرفضن الذهاب إلى المستشفى (الملكي)، الذي لا تختلف إليه من المريضات إلا العاهرات أو الإماء.
وكان الماء في الأيام الأولى يجلب يوميا للمدرسة بواسطة مجموعة من السجناء، بينما كان أحد الشيوخ يقوم بحفر بئر في حوش البيت. والطريف أن الآنسة وولف دأبت على سؤال ذلك الشيخ إن كان قد بلغ في حفره مستوى الماء، وظلت تتلقى منه ذات الإجابة الغامضة التي لم تتعد صوتا مؤديا من دون حروف منطوقة. واستغرقها الأمر عدة أسابيع إلى أن أدركت أنه إجابته كانت بالنفي!
وكانت الآنسة وولف تتنقل على ظهر حمار أو على قدميها لتمارس عمليات التوليد في منازل المواطنين، بعد أن صاروا – بعد لأي – يثقون بها. وقضت شهورا عديدة وهي تحاول إقناع القابلات كبيرات السن بالقدوم إليها في مدرستها لتدريبهن على الطرق الصحية في عمليات التوليد. وكانت دعوتها لهن تقابل بالضحكات الساخرة من "جرأة" الفتاة البيضاء على دعوة قابلات في عمر جدتها. وكانت مهنة القبالة في تلك الأيام مهنة متوارثة، ومحتكرة في أيادي نساء مُسِنَّات (يمثلن طبقة شديدة المحافظة) غير مدربات، وجاهلات تماما، وشديدات القذارة أيضا. وكن في بعض الحالات ضعيفات البصر لحد يكاد يبلغ العمى.
وكان على الآنسة وولف في بدايات أيامها مواجهة الكثير من التحيزات والأفكار المسبقة. فالسودانيات في تلك السنوات كن أكثر محافظة من الرجال، ويأبين بشدة القبول بأي جديد غير مألوف يخالف عاداتهن البالية. وكانت القابلات يقفن ضد أي تغيير يتطلب منهم تحسين أدائهن أو الحصول على تدريب خاص.
وكانت أدوات أولئك القابلات القَدِيمَاتٌ لا تتعدى شفرة حلاقة مستقيمة (cut-throat razors)، كانت تلف في غالب الحالات (عدا طرفها الأمامي) بخرقة بالغة القذارة، وتوضع على طبق مليء بحبوب الدخن والبلح (الذي يقدم كـ "كرامة")، إضافة لبصلة مقطوعة لعلاج عيني المولود أو "لجعلهما براقتين" كما يزعمن.
وكانت القابلة تجلس على شملة موضوعة فوق "برش" له فتحة مستديرة في الوسط (يستعمل للتوليد أو الختان أو "الدخان") يفرش فوق حفرة محفورة في الأرض. وكانت القابلة تجلس وهي تمد رجليها العاريتين حول تلك الحفرة، بينما تقف المرأة الماخِض مستقيمة أو راكعة مقابلة لرجلي القابلة، وهي ممسكة بحبل متدلي من عوارض خشبية – وإن طال أمد المخاض وأنهكت المرأة لدرجة لا تستطيع فيها الوقوف بنفسها، فقد تساعدها قريباتها وبعض الرجال أيضا، ويتناوبون في تلك العملية إلى حين إكمال الولادة. وتسمى القابلة التي تقوم بعميلة التوليد بتلك الطريقة "داية الحبل".
(أوردت الكتابة بعد ذلك في مقالها مثالا لما سمي بـ "ورقة تفتيش القابلات" في دنقلا، والتقرير الذي كُتب عن قابلة غير مدربة ولكنها مرخصة، اسمها فاطمة علي إدريس (الكاركراب؟) يوم 3/3/1930م. وجاء فيه أيضا أنها تبلغ من العمر 80 عاما، وأنها شايقية من تنقسي الرويس. وعُدت في ذلك التقرير امرأة طاعنة في السن ولا تجيد عملها. ووصف التقرير بتفصيل مريع الأخطاء التي ارتكبتها تلك القابلة. وورد في ذلك التقرير أيضا أن رخصة تلك القابلة قد ألغيت في يوم 7/11/1932م، ولكنها رغم ذلك ظلت تعمل، وقامت بتوليد 72 حالة في ذلك العام، و49 حالة في عام 1933م. وظلت مفضلة عند نساء المنطقة رغم كبر سنها. وقامت في ذات العام بدفع 5 قروش لتجديد رخصتها، إذ أن رخصتها قد تعرضت للمطر. وجاء في تقرير أخير عنها صدر في 4/12/ 1935م بأنها قد توفيت قبل نحو نصف عام. المترجم).
وقد شهدت بنفسي بعض حالات فشلت فيها "داية الحبل" في إكمال عملية التوليد، مما استلزم استدعاء داية مدربة لتكمل العملية. وكانت "دايات الحبل" فيما بدا لي يقمن بالتنازل عن العمل للقابلات المدربات عن طيب خاطر.
ووجهت محاولة إيجاد وسيلة أخرى للتوليد غير التي تمارسها "داية الحبل" بشكوك عظيمة. وكانت النساء يكرهن الجلوس على ملايات ماكنتوش البلاستيكية الناعمة، إذ كن يعتقدن بأنها مصنوعة من جلد الخنزير. ولم يقبلن باستخدامها إلا عندما تم توليد زوجة رجل من كبار رجال الدين بالطريقة الأوروبية، فصارت مقبولة عند غالب النساء السودانيات.
وأخيرا، بدأت الفصل الأول في المدرسة في 1/1/1921م بطالبتين فقط هما: نورة بت عمر، من فريق السوق، وهي "داية حبل" عمرها لا يقل عن 70 عاما، وزوجة بواب المدرسة (التي لم يسبق لها العمل في هذه المهنة من قبل). وما أن أتمت زوجة البواب فترة التدريب حتى غادرت هي وزوجها أم درمان دون إخبار أحد إلى جهة مجهولة.
وانضمت امرأتان للمدرسة في نهاية يناير من ذات العام، هما عزيزة برسي، وهي "داية حبل" عمرها لا يقل عن 68 عاما، وتعيش في منطقة تقع بعد حي "أب روف"، وشابة اسمها مستورة خضر لم تعمل في هذه المهنة من قبل. ويجدر بالذكر أن هذه المرأة (مستورة خضر) كانت هي الوحيدة التي بقيت على قيد الحياة عندما كرمها جلالة ملك بريطانيا في عام 1945م بميدالية بحسبانها أول قابلة سودانية تنال ذلك التكريم الملكي.
وكتبت الآنسة وولف في تقريرها الأول الذي صدر في عام 1921م أن الدايات لم يكن على استعداد للسكن في مبنى المدرسة، وكن يتوجسن خيفة مما قد يسببه ذلك التدريب الحديث على ممارستهن العملية، إذ كن في شك عظيم من مقدراتي وعلمي وخبرتي بالولادات السودانية. وكانت النساء الحوامل يشاركهن في ذلك الشك، ويبغضن تدخلي في عاداتهن الموروثة (التي كان من بينها أن تولد الداية المرأة وهي مغطاة بثوبها، مستخدمة إحساس اللمس وحده!)
وحكت الآنسة وولف عن حالة توليد متعسرة كانت تعالجها. وفي لحظة حرجة من عملها أتى أحد الناس وغطى الآنسة وولف والمرأة معا بثوب واحد، وبقيت الآنسة وولف لثوانٍ عاجزة تماما عن التصرف. ومما اشتكت منه الآنسة وولف هو جهل النساء الحوامل بآلام الولادة (الطَّلْق)، وبتوقيت بدء الولادة نفسها.
وبدأ الفصل الثاني بست طالبات، كانت واحدة منهن اسمها أم تميم شريف الهندي. وذات مرة قامت الآنسة وولف بالمرور على الطالبات وهن يقمن بأول عملية توليد فعلية دون مساعدة. وفوجئت بالطالبة المذكورة وهي تولد الحالة التي بين يديها وهي عارية تماما. وكان تفسيرها لخلعها ملابسها هو أنها لا تريد للزي الحكومي الذي صُرف لها أن يتسخ بالدم أو غيره! علما بأن الزي في ذلك الوقت كان مجرد مِئْزَر (ابرول overall) أبيض اللون!
أما أصغر الطالبات في الفصل الثاني فقد كانت هي جندية صالح، وهي ابنة عزيزة برسي (طالبة الفصل الأول) وكانت أرملة. كانت جندية (الجعفرية القبيلة) امرأة جميلة وبشوشة وفي غاية الذكاء. وبعد أن أكملت فترتها التدريبية أقنعتها إدارة المدرسة بالبقاء فيها لتساعد في تدريب الطالبات الجدد. وبقيت في المدرسة لخمسة عشر عاما إلى أن توفت في عام 1936م بسبب اصابتها بسرطان الثدي جراء ركلة قوية من فتاة هائجة أصابتها هيستريا بسبب القطع بالموسى في عملية ختان فرعوني كانت تقوم به جندية (لا يخفى أن زعم الآنسة كندال ليس عليه من دليل علمي. المترجم).
وعلى الرغم من أن ست جندية كانت امرأة أمية، إلا أنها غدت مدرسة رائعة للجزء التطبيقي (العملي) للمهنة. وكانت تتميز بالنزاهة والإخلاص والتفاني في العمل، وبشخصية ممتازة محببة، وبقدرتها على ترك أثر طيب على من كانت تتعامل معهم. وساهمت مساهمة كبيرة في جذب الكثيرات لمهنتي القبالة والتمريض. ويدين لها طلاب الدفعات الأولى من مدرسة كتشنر الطبية بالفضل، لمساعدتها لهم في كسر حاجز مقاومة النساء لدخول الأطباء وطلاب الطب لرؤية حالات الولادة. ولا شك عندي أن الأختين وولف يدينان بالعرفان لست جندية، وسيذكرانها لعونها اللامحدود الذي قدمته لهما في الأيام الأولى للمدرسة. وستأخذ ست جندية بلا ريب مكانها المستحق باعتبارها السودانية الطليعية (الأصلية) التي ساهمت في تأسيس أول مدرسة للقابلات.
وما أن حل عام 1925م حتى كانت كل القابلات العاملات في أم درمان والخرطوم قد أكملن تدريبهن في مدرسة القابلات. واتجه التفكير من بعد ذلك لتدريب قابلات الأقاليم. وتقرر إرسال ، الآنسة مبيل، أكبر مسؤولة في مدرسة تدريب القابلات، في جولات سنوية على مختلف الأقاليم لتلتقي بزوجات كبراء السودانيين لتشرح لهم ما قامت به في أم درمان من تدريب للقابلات، ولتطلب منهم المساعدة في ترشيح عدد من الفتيات (من ذوات السمعة الحسنة) للسفر لأم درمان لتلقي دورة تدريبية في مدرسة القابلات، ثم العودة لمدنهن وقراهن لممارسة المهنة.
ولتسهيل عملية استيعاب طالبات الأقاليم، قررت مدرسة القابلات تغيير نظام التدريب بها من دورة واحدة في العام (طول الواحدة ستة أشهر) إلى دورتين، طول الواحدة ثلاثة أشهر، وذلك للسماح للآنسة وولف للقيام بجولاتها في الأقاليم لاستقطاب الفتيات للتدريب في المدرسة.
ولاقى ذلك البرنامج الجديد نجاحا منقطع النظير. فقد استقبلت مدرسة أم درمان للقابلات أعدادا مقبولة من شابات أقاليم الشمالية ووسط السودان، وفتح ذلك أيضا أبوابا لنقاش وتوضيح طرق جديدة يمكن أن تتبناها القابلات المتدربات حديثا عندما يعدن لمناطقهن الأصلية. وقد كانت التحفظات والاعتراضات على عمل النساء – في الأقاليم كبيرا جدا. غير أن حدة تلك الاعتراضات بدأت تخف تدريجيا مع تخريج المزيد من القابلات المتدربات، وتطبيق طرق أحدث في العمل. وجعل ذلك عمل القابلات أكثر قبولا، وبل ومرغوبا بشدة في بعض الحالات.
وهنا أود أن أتوقف قليلا لأقدم لكم ست بتول محمد عيسى، كبيرة القابلات بمدرستنا في أم درمان. ولا أود أن أغضب أي فرد في الأقسام الأخرى، ولكني لا أتردد في القول بأنها أبرز وأهم امرأة سودانية الآن تحتل موقعا رسميا. إنها ستبقى بلا شك واحدة من أبرز النساء في تاريخ السودان. فهي امرأة طليعية، عاشت وتعلمت وتدربت على يدي امرأتين انجليزيتين باسلتين ومخلصتين لمبادئ سامية، وأخذت منهما الكثير من قواعد العمل والتفاني والإخلاص الذي تشتد حاجتنا له هذه الأيام. لقد كانت ست بتول مساعدة مخلصة ووفية للأختين وولف، ولكل من جاءت بعدهما في مدرسة القابلات. (يمكن مراجعة مقال الدكتورة ميري براون المترجم بعنوان "بيانو غردون ودراجة ست بتول"، والمستل من مقدمة رسالتها للدكتوراه التي قدمتها لجامعة بنسلفانيا عام 2012م. المترجم).
وست بتول سيدة عظيمة ذات شخصية مميزة. وسأحكي لكم الآن هذه القصة التي تؤكد ذلك:
أتت ست بتول، مثل كثير من الرائدات، من عائلة محترمة في رفاعة، وكانت واحدة من المحظوظات اللواتي ظفرن بتلقي التعليم الأولي في مدرسة محلية للبنات أنشأها الشيخ بابكر بدري (والد وزير الصحة الحالي). وكانت بتول تعين والدها في أعماله التجارية، وكان أبوها يحبها كثيرا، لأنها كانت تعينه بأكثر مما يفعل أولاده. ثم اقترنت بزوج غير صالح للأسف هجرها قبل أن تضع إدريس، مولودها الأول منه في عام 1925م. ولم تعان ست بتول نتيجة لما حدث من زوجها، إذ أنها كانت قد ورثت من أبيها ساقيتين، وأرضا زراعية، وماشية، ومالا يكفيها وطفلها، فعاشا في رفاعة عيشة رغدة نسبيا. وفي عام 1925م شهدت ولادتين (إحداهما لزوجة مدير مكتب بريد رفاعة) تمت على يدي قابلتين تخرجتا في مدرسة القابلات (إحداهما هي زينب محمد النصري). وأعجبت ست بتول أيما اعجاب بعمل القابلة وبمعطفها، وبنظافة غلاية الماء، وبملاية ماكنتوش البلاستيكية الناعمة، والصندوق اللامع الذي تحمله. وشاءت الأقدار أن تقوم ذات القابلة (زينب النصري) بتوليد شقيقة بتول الصغرى في الأشهر الثلاثة التي قضتها في رفاعة، بإصرار من بتول، ورغم معارضة بقية نساء العائلة.
وزاد ذلك من إعجاب بتول بمهنة القبالة، فقررت في العام التالي – رغم معارضة أفراد العائلة، وبعد تفكير عميق واسئلة كثيرة - أن تحذو حذو زينب النصري وأن ترتحل لأمدرمان مع ولدها لتلتحق بمدرسة القابلات الحكومية لتحصل على ذات التدريب الذي شاهدت آثاره النافعة في رفاعة. وأفلحت في إقناع عائلتها بأن مدرسة القابلات مكان مأمون ومحترم ونظيف وله سمعة جيدة. وبمساعدة من أحد المتعلمين برفاعة أرسلت خطابا للأنسة وولف تطلب فيه قبول طلبها للالتحاق بالمدرسة. وسرعان ما أتى لدارها ذات يوم شرطي وهو يحمل رد الآنسة وولف (الذي عنونته للمفتش الإنجليزي برفاعة). وأثار مجيء الشرطي لبيتها عند الجيران حالة من الفزع والجزع والفضول أيضا. وجاءت الآنسة وولف لرفاعة في أواخر ذلك العام في رفقة ست جندية في زيارة للبلدة تستغرق ثلاثة أيام للتفتيش على "دايات الحبل". ورغم تخوف بتول من مقابلة المرأة الإنجليزية، إلا أن وجود جندية معها طمأنها قليلا، فدعتهما معا لشرب "الجبنة" في حديقة بيتها.
ووصلت بتول وولدها إدريس لأم درمان في يناير 1926م للالتحاق بمدرسة القابلات. ونجحت في التدريب ونالت شهادة من تلك المدرسة، وتدربت أيضا للعمل ممرضة في مستشفى أمدرمان الملكي (الذي كان قد أفتتح حديثا في تلك الأيام). إلا أن سنوات عمل ست بتول الأولى كممرضة وقابلة كانت قد حفلت بكثير من المصاعب والمتاعب لدرجة أن عددا من رؤسائها في العمل شكوا في مقدرتها على الاستمرار في العمل، بل أوصى الحكيمباشي بفصلها من العمل. غير أن صعوبة الحصول على متطوعات مناسبات للعمل في مجال التمريض، وتفانيها واخلاصها الشديدين للآنستين وولف، جعلتا السلطات الصحية تستبقيها في العمل، فتم تعيينها كمعلمة في مدرسة القابلات، حيث برزت مواهبها الكامنة في التعليم.
وفي عام 1929م أصاب الآنسة مابيل وولف مرض خطير أضطرها للاستقالة، ونقلت أختها لمستشفى أم درمان، فقررت ست بتول الاستقالة من العمل والعودة لرفاعة حتى لا تضطر للعمل تحت إمرة رئيسة غير الأختين وولف. غير أن دكتور هيل أقنعها بالبقاء في مدرسة القابلات كواحدة من طاقم التدريب بها.
وأفلحت ست بتول في نقل كل ما كانت الأختان وولف تقومان بعمله، وأضافت من عندها وسائل عملية (من واقع الحياة اليومية) لتسهيل عمليات الشرح للنساء المتدربات (الأميات في الغالب). بل كانت تقلد الأختين وولف في لغتهما الحادة مع المتدربات! غير أن حماسها الطاغي للمادة التي كانت تقدمها كان يحبب المتدربات على إجادة التعلم والتدرب. ولم يكن هنالك من يفوقها حماسا واخلاصا في تعداد مضار الختان الفرعوني وإقناع المتدربات بضرورة الامتناع عن ممارسته في مناطقهن.
وكانت ست بتول تقوم برحلات تعليمية وتفتيشية وارشادية في كل أرجاء السودان مع الأختين وولف، وتساهم في حث الطالبات على الالتحاق بمدرسة القابلات. ولم يكن سفر النساء السودانيات في تلك السنوات أمرا سهلا أو مرحبا به، خاصة في غياب زوج أو ولي يقوم مقام "المحرم". غير أن تعيين ست بتول في مدرسة القابلات أتاح لها وضعا اجتماعيا سمح لها بقدر من الحركة لم يكن مسموحا لغيرها من السودانيات. وفي عام 1950م قامت ست بتول بأطول رحلة تسافرها في حياتها، فطارت إلى لندن لتتلقى ميدالية تكريمية في احتفالات "يوم الملك". لا شك عندي في أنها أجدر الناس بنيل تلك الميدالية.
دعوني أقرأ عليكم - مرة أخرى - بعض المقتطفات من تقارير الآنسة وولف:
"صارت القابلات المتدربات – بصورة من الصور – مبشّرات بالنظافة والصحة العامة في البيوت. يجب أن نهتم بزيادة عدد الأطفال وبرعايتهم رعاية صحية ملائمة. ويجب كذلك أن نحارب عادة الإزالة الكلية لأعضاء الإناث التناسلية، فهي عادة بربرية متوحشة، ومؤلمة عند أجرائها، ومضرة للطفلة في صغرها، وحين تغدو أما".
"ستمر سنوات طويلة قبل أن تختفي تلك العادة البربرية. غير أننا يجب أن نكافحها ببذر بذور ثورة صامتة تبدأ بتعليم النساء مبادئ النظافة والصحة العامة، وغرس تلك القواعد البسيطة في بيوت الناس".
"لا شك أن هنالك مؤشرات مشجعة تدل على نجاح عملنا. فهنالك أعداد متزايدة من المتقدمات المناسبات للتدريب في مدرستنا. وحدث الكثير من التقدم في دورات نصف العام التي نقدمها. ويجد هذا العمل التقدير في أم درمان والأقاليم".
"لقد ارتفع مستوى القبالة كثيرا في أم درمان والخرطوم. ولكن لا زالت الأقاليم تحتاج لوقت طويل لتصل القبالة فيها لمستوى العاصمة".
"في الوقت الراهن لا زالت القابلات المتدربات لستة أشهر معزولات في وسط لجة من التحفظ والعادات البالية. ولكن مع مرور الوقت وزيادة أعدادهن سيساعدن بعضهن في تقديم خدمات أفضل وأكثر صحية. ومن المهم أن يتم كل ذلك بواسطة السودانيات أنفسهن، وفي أوساط أكثر العناصر النسائية محافظة في البلاد. لا نريد تغيرات ثورية سريعة (عجولة)، بل تنوير تدريجي وإصلاح يشمل كل مناطق البلاد، يبدأ من الأساس: من بيوت عامة الناس".


alibadreldin@hotmail.com

 

آراء