تحديات النظام التعليمي في السودان (الجزء الاول)

 


 

 



بروفيسور: عباس محجوب

الجامعة الإسلامية العالمية - إسلام آباد

1.    التحديات الثقافية :
تواجه المجتمعات الإسلامية والأسر المسلمة تحديات ثقافية وفكرية نتجت عن ثورة الاتصالات وسرعة المعلومات وتدفقها وهي تحديات خطيرة لأنها فتحت أفاقاً في الحياة جديدة وسببت أزمات مختلفة على جميع المستويات متحدية الوسائل الرقابية والخطر الرسمي .
وقد شهد العالم العربي والإسلامي في العقود الأخيرة تحولات كثيرة على قمتها هيمنة الفكر العلماني على الفكر العالمي بعد انهيار النظام الشيوعي ومحاولة فرض الثقافة الغربية لتكون ثقافة كونية عن طريق العولمة بالاضافة إلى الثورة التكنولوجية والعلمية التي يسيطر عليها الغرب وبخاصة في مجال المعلومات الأمر الذي يهدد الثقافات القومية بمسخها وازالتها .
كنا نتحدث دائماًعن الغزو الثقافي الذي يهدد العالم الاسلامي ، ويستهدف ثقافته وتراثه غير أن الأمور قد تغيرت في بدايات القرن الحادي والعشرين بعد ان احتلت أمريكا بمشاركة بريطانيا عاصمة الثقافةو الفكر الإسلامي وعاصمة الخلافة الإسلامية في العراق بحجج واهية اكتشف العالم زيفها وعلم أهدافها المتمثلة في الغزو الثقافي والسياسي والإقتصادي عن طريق الهيمنة العسكرية للعمل على تغيير معالم المنطقة العربية وطمس الهوية الإسلامية لها على كل المستويات الوطنية والعربية والإسلامية.
والثقافة العربية الإسلامية تواجه عمليات التفكك من خلال الهجوم المستمر عليها وعلى مدى صلاحيتها وتفاعلها مع متطلبات التنمية الحضارية ، وأبرز ما يمثل ذلك ما تواجهه عملية التعريب واستخدام اللغة العربية لغة رسمية وعلمية من مواجهات عنيفة في عدد من الدول وبخاصة في المغرب العربي بحجج لا تستند على قناعات علمية مثل صعوبة اللغة والتباين بين الفصحى والعاميات العربية وغير ذلك بالإضافة إلى الإكثار من استعمال الكلمات الأجنبية في الأحاديث العادية ومسميات المحلات التجارية والشركات والإعلانات التي تملأ شوارع المدن العربية والإسلامية  الأمر الذي يعكس هذا الغزو الثقافي ويعزز وجود إرادة أجنبية تعمل على تدمير الثقافات الإسلامية العربية وإخضاعها للهيمنة الأجنبية ودفعها لتبنى اتجاهات الثقافات الغربية والمنظومة الأمريكية بصورة محددة .
إن هدف أمريكا (صبغ العالم كله – وخاصة الدول والأمم التي تمتلك مقومات قادرة على التأثير والمنافسة والإنتشار الفاعل في حياة البشر بصبغتها الثقافية القائمة على إعلاء القيم المادية والمتمحورة حول الفرد والمصالح الخاصة والتحرر من كل المبادئ والقيم المرتبطة بالدين ، ويلعب الإعلام بوسائله وتقنياته المتطورة الدور الرئيسي في تعميم أنماظ الثقافية الأمريكية وكذا مؤسسات التعليم العالي)( ) وهذا ما يؤكده برهان غليلون في قوله (إن نـزع النخب من ثقافتها الوطنية لايعني إعدادها للأندماج في ثقافة النخبة العالمية الحاملة للعولمة فحسب ، ولكنه يعني أكثر من ذلك تخفيض الثقافات الوطنية إلى مستوى الثقافات الشعبية ، أي التواصلية وأبعادها عن حقول السلطة الناجعة السياسية والإقتصادية والعلمية ومن وراء ذلك نـزع السلطة السياسية والإقتصادية والرمزية عن المجتمعات ، واعدادها للدخول في فلك ما يمكن أن تسميه الإمبراطورية العالمية) ( )

2.    التحديات السياسية :
يشهد العالم الإسلامي تحولات سياسية وتغيرات محتملة نتيجة الهيمنة الأمريكية في إحتلال العراق ومحاولة فرض أجندتها على المنطقة العربية بخاصة والإسلامية بعامة من خلال التهديد للأنظمة بالضغط على الحكومات والمطالبة بأحداث تغيرات سياسية في هذه الدول بقصد إعادة تشكيل المجتمعات العربية والإسلامية وفق الرؤية الأمريكية والأهداف الصهيونية التي تتبناها الإدارة الأمريكية بصفة مباشرة والدول الغربية بصورة غير مباشرة .
ولا شك أن هذه المتغيرات سلباً أو إيجاباً تلقى بظلالها على النظم التعليمية في العالم الإسلامي في مجال إتخاذ القرارات وإقرار البرامج التعلمية وتحديد السياسات التربوية ، ويساعد على ذلك التدهور في الجوانب الإقتصادية وما يترتب عليها من التردي في تحقيق التنمية والتبعية للغير الأمر الذي يؤدي إلى تعثر في تحقيق الأهداف التعليمية والتربوية التي يعمل لها النظام التعليمي . ومما يساعد على تعميق التحديات السياسية وتاثيرها عقم التعليم الذي يُمارس في مدارسنا والذي لا ينتج إلا إنساناً مقهوراً محبطاً مغترباً يحمل هموم مستقبل مظلم .
إن جوهر العولمة السياسية هو وجود عالم بلا حدود سياسية ينتج عنه معطيات جديدة تعني (نقل السيادة من حيث القرارات والتشريعات والنشاط من المجال القومي الوطني إلى المجال العالمي) ( )
(3)
3.    التحديات الاجتماعية :
التربية هي العنصر الفعال في تطوير أي مجتمع كما أنها الوسيلة الفعالة التي يحافظ بها المجتمع على مبادئه وقيمه ، فإذا كان للمجتمع رؤية فلسفية وأصول عقائدية ، وأسس قيمية تحقق نظرة المجتمع للإنسان والكون والحياة ترجم ذلك في رؤية تربوية تستطيع بها مواجهة التحديات المتجددة والأفكار المنحرفة والمفاهيم المغلوطة ، وهذه الرؤية المتكاملة هي التي تمثل النظرية الإسلامية في التربية ولكن المجتمعات المسلمة تتفاوت في الأخذ بهذه النظرية وبالتالي تعاني من أأزمات مختلفة ومشكلات متعددة لأنها تأخذ بنظم تربوية مختلفة ، بعضها نظم مغلقة جامدة ، وبعضها نظم مفتوحة ، وبعضها يضطرب بين النظامين مما ينعكس على العملية التعليمية والمتعلمين .
ويظهر ذلك في نظام القبول للجامعات حيث المعيار هو النسبة المئوية للطلاب وليس الميول والإستعدادات والقدرات ، كما أن العامل الاجتماعي يجعل دولاً كثيرة لا تحسن توزيع الطلاب حسب حاجاتها من القوى البشرية الفاعلة والمستقبلية فدولة مثل بريطانيا تجعل 13% من مقاعد الدراسة في كليات الطب والهندسة للطالبات كما أخبرني أحد الأساتذة في مؤتمر ، بينما تحتل نسبة عالية من الطالبات في البلاد الإسلامية هذه المقاعد حيث المردود الاجتماعي والمظهري ثم تكون نسبة عالية من هذه التخصصات متعطلة في البيوت وكان الأفضل أن توجه هذه الطاقات لدراسة التربية واللغات والفنون التي تفيد المرأة في وظيفيتها الأساسية في الحياة .
إن البرامج الدراسية لا تواجه المشكلات الاجتماعية التي تهدد المجتمعات مثل : التفك الأسري والتلوث البيئي ، وانحراف الشباب ومشاكل الأقليات وقضايا التفرقة العنصرية وأسباب الحروب والمنازعات وألوان القهر الاجتماعي والظلم وهذا ما يعزز العلاقة بين النظام التعليمي والمجتمع لأن التربية تنشغل بالقضايا الحياتية وإعداد البشر للقيام بمسؤلياتهم في الحياة .
وتـهدف العولمة في جانبها الاجتماعي إلى تعميم السياسات المتعلقة بالطفل والمرأة والأسرة وكفالة حقوقهم في الظاهر ، إلا أن الواقع هو إفساد وتفكيك الأفراد واختراق وعيهم وإفساد المرأة ومواصلة المتاجرة بها واستغلالها في الإثارة والإشباع الجنسي وبالتالي إشاعة الفاحشة في المجتمع ، وبالمقابل تعميم فكرة تحديد النسل وتعقيم النساء ، وتأمين هذه السياسات وتقنيتها بواسطة المؤتمرات ذات العلاقة (مؤتمر حقوق الطفل) ، (مؤتمر المرأة في بكين) ، (مؤتمر السكان) وما تخرج به من قرارات وتوصيات واتفاقيات تأخذ صفة (الدولية) ومن ثم الالزامية في التنفيذ والتطبيق وإن أظهر البعض معارضتها ورفضها إلا أنها في الحقيقة تصبح سارية المفعول بشكل أو بآخر وما تلبث آثار ذلك أن تبدو للعيان في الواقع الاجتماعي استسلاماً وسلبية فردية وتفككاً أسرياً واجتماعياً .
(إن أوضاع العالم الاجتماعية اليوم قد أصبحت محكومة بطغيان يجسد قوانين كل من "دارون" و"فرويد" حيث تتلازم "القوة واللذة" تلازم الغاية والوسيلة وفق المنظور الميكافلي) ( ).

4.    التحديات الاقتصادية :
يواجه العالم العربي والإسلامي تحديات إقتصادية ناتجة من التغييرات الإقتصادية في العالم وإقتصاد العولمة الذي يزيد من حدة المنافسة  وحرية التجارة وإختراق الحدود دون حواجز أو رسوم جمركية لأن القوة المتحكمة في التجارة هي عامل التفوق والجودة فنظام الإقتصاد الحر العالمي وما يتعلق به من شركات إقتصادية احتكارية لا يهمها سوى الربح وعدم الالتـزام بأي ضوابط وظيفية أو خلقية أو اجتماعية إلا الإلتـزام بقوانين السوق .
هذا التحدي العالمي يمس النظم التعليمية باعتبار التعليم من أهم عوامل الإنتاج وتحقيق الجودة والمنافسة فيما ينتج البشر صناعة أو زراعة أو غير ذلك باعتبار التعليم وسيلة المعرفة والخبرات التي يكتسبها المتعلم وباعتباره الوسيلة التي توفر الصيغ التعليمية التي تحقق المعايير الإقتصادية والعالمية وفق توجهات التنمية المعاصرة لأن المقياس الحقيقي للتقدم الإقتصادي يرتبط بالإنتاجية التي يحققها الأفراد وهي يكتسبها ويوظفها لأحداث التنمية الإقتصادية والمجتمعية .
وتتمثل التحديات التي تواجه النظم التعليمية في عالمنا العربي والإسلامي في التحولات التي طرأت على قاعدة النشاط الإقتصادي من الزراعة إلى الصناعة فالإحصاءات الإقتصادية التي أوردتـها منظمة التنمية والتعاون الإقتصادي والثقافي في أروبا أنه (في عام 1940م بلغ عدد العاملين في الزراعة 30% وفي الصناعة 50% وفي الخدمات 20% وفي عام 1990م بلغ عدد العاملين في الزراعة 40% وفي الصناعة 25% وفي قطاع الخدمات 70% ومن المتوقع أن يصل عدد العاملين في الزراعة 4% وفي الصناعة 5% بحلول عام 2010م)( ) .
وهذه التحولات بلا شك تؤثر على الأنظمة التعليمية التي تحتاج إلى إعادة صياغة مناهجها وأنشطتها التعليمية بما يتواءم مع الدافع الإقتصادي لإعداد الطالب في ضوء هذه المستجدات دون إملاء من الخارج .
إن النقص الملحوظ في الإمكانات المادية والمدرس المدرب الكفء والمباني والوسائل التعليمية والإدارة الكفؤة والنظام التعليمي الصحيح ، كل ذلك جعل التعليم باهظ التكاليف لا يحقق الطموحات في كثير من الدول مما جعل كثيراً من التربويين ينادون بتوجيه التعليم نحو خدمة الإقتصاد ليصبح التعليم قطع غيار والآت بشرية في خدمة الإقتصاد العالمي دون النظر إلى تعطيل المواهب وقتل العقول وتعطيل الملكات.
إن من أزمات التعليم التي نعيشها أن الطلاب لا يتجهون للتخصصات التي تحتاج إليها مجتمعاتهم في تحقيق التطور وبناء المستقبل لأن غالبيتهم يدرسون على غير هدى ودون توجيه إلا توجيه المعدلات الدراسية مما يجعل المجتمع متخماً بتخصصات زائدة عن حاجة المجتمع ، ومتخماً بحملة الشهادات العاطلين الذين يعانوون من مشكلات نفسية واجتماعية متعددة لأنهم لم يؤهلوا لتعليم يستجيب لحاجات النمو الإقتصادي من القوى البشرية المدربة المتخصصة .
المجتمعات في حاجة إلى البعد المادي في التعليم ولكن ليس على حساب بناء الإنسان الذي يمثّـل أساس التعليم ، الإنسان الذي يُزكي نفسه قبل جسده ، ويعزز قدراته في الإلتزام بالقيم الخلقية والمثل العليا والمبادئ التي تحدد سلوكه وتمنحه قدرة التحكم في نفسه وتصرفاته .
إن التقنيات الحديثة ضرورية للمتعلم لأنها توفر الشروط الموضوعية لنظام تعليم يقوم على أسس علمية ويستفيد من التتقدم التقدم التقني الذي وصل إليه الإنسان في مختلف المجالات دون التغول على حق كل فرد في الإبداع والتجديد والتنوع والإبتكار لأن الهدف هذا هو الذي يخلص الإنسان المعاصر من العقلانية المحضة ، والعبودية للآلة والقيود التي تسلب الإنسان مشاعره وعواطفه الإنسانية وحريته في التطور والإبتكار والإبداع .
Dr Abbas Mahjoob [ammm1944@gmail.com]

 

آراء