تحسسوا مقاعدكم .. “واشنطن تريد إصلاح النظام”!! .. بقلم: خالد التيجاني النور
خالد التيجاني النور
10 December, 2011
10 December, 2011
tigani60@hotmail.com
من خارج سياق حالة التوتر الدائم السائدة في العلاقات بين الخرطوم وواشنطن, ومن غير سابق إنذار أو تمهيد, بدأ مسؤولون رفيعو المقام في إدارة الرئيس باراك أوباما في الإعلان عن مواقف سياسية تجاه تطورات الأوضاع في السودان من الواضح أنها بقدر ما أراحت أعصاب حزب المؤتمر الوطني وانعشت آماله في البقاء, فقد أثارت سخط ويأس خصوم الحزب الحاكم من رؤيته خارج لعبة السلطة في وقت قريب.
جاء الموقف الأول غداة زيارة دينس ماكدوناه نائب مستشار الرئيس الأمريكي للأمن القومي رفقة المبعوث برنستون ليمان للخرطوم وجوبا في مطلع الاسبوع الثالث من الشهر المنصرم, والذي طالب فيه بيان صادر عن البيت الأبيض حكومة جنوب السودان "بضرورة احترام سيادة السودان, بما في ذلك التوقف عن دعم الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال في جنوب كردفان والنيل الأزرق", في محاولة لتوفير السبل الكفيلة لإحراز تقدم في حل ما تبقى من مسائل عالقة في اتفاق السلام الشامل.
وما من شك أن هذا الموقف الامريكي سجل نقاطاً مهمة لصالح الخرطوم التي تحاول جاهدة حسم التمرد في "الجنوب الجديد" بأقل تكلفة ممكنة قبل ان تتورط في حرب شاملة تحقق أسوأ مخاوفها من الوقوع في براثن "السيناريو الاسوأ" وخسارة رهان "الانفصال مقابل السلام".
الموقف الآخر الذي أثار ارتياح النخبة الحاكمة, وأقض مضجع خصومها, تصريحات المبعوث الرئاسي الأمريكي برنستون ليمان في حواره مع صحيفة "الشرق الأوسط" السعودية, التي استعاذ فيها من أن تغشى ثورات الربيع العربي السودان قائلاً بلا مواربة " ليس هذا جزءً من أجندتنا في السودان. بصراحة، لا نريد إسقاط النظام، ولا تغيير النظام. نريد إصلاح النظام بإجراءات دستورية ديمقراطية".
الخبر الجيد الآخر للخرطوم في مواجهة تحالف الجبهة الثورية السودانية, إعادة ليمان للتأكيد بأن "حكومة الولايات المتحدة تعارض العمل العسكري ضد حكومة السودان، وتراه مثيراً لمزيد من الحروب والمشاكل، ومهدداً كيان ووحدة السودان، ويمكن أن ينتقل إلى الجنوب، ويهدد كيانه ووحدته. لهذا، نحن حريصون على وحدة السودان (الشمالي). وندعو كل الأطراف إلى العمل لتحقيق ذلك سلمياً"
وبعيداً عن ارتياح الطبقة الحاكمة, أو ابتئاس معارضتها, كيف يمكن قراءة ما وراء التصريحات الأمريكية المعلنة أخيراً تجاه الوضع في السودان بشقيه الشمالي والجنوبي, وهل تحمل تحولاً جديداً على صعيد المواقف السياسية لواشنطن بحيث نرى لها انعكاساً على الوضع في المستقبل المنظور, أم لا تعدو أن تكون مجرد لغة جديدة ناعمة تغلف مواقف سابقة معلومة؟.
في الأسبوع الماضي اجتمع دان سميث نائب المبعوث الامريكي والمسؤول عن ملف دارفور في واشنطن بممثلين لأحزاب وجماعات المعارضة السودانية المقيمين في الولايات المتحدة, وهو اجتماع حسب وصف أحد السودانيين المعنيين به أنه غير مسبوق, وكان لافتاً بجانب تأكيده للمواقف الأمريكية السابقة بشأن رفضها للعمل العسكري المعارض ورفضها التدخل على غرار النموذج الليبي والمطالبة بفرض حظر جوي على الرغم من إلحاح بعض أطراف الاجتماع السودانية, استمزاجه لرأي المجتمعين في إمكانية لعب الولايات المتحدة دوراً مؤثراً في تشكيل دستور جديد للسودان.
ويبدو من سياق ما سبق أن سياسة الولايات المتحدة ليست في وارد القبول بتكريس سلطة الأمر الواقع في السودان, كما ذهب إلى ذلك المسؤول السياسي في حزب المؤتمر الوطني الذي صرح في تعليق له على حوار المبعوث الأمريكي بأن "واشنطن فشلت طوال اثنتين وعشرين عاماً على إسقاط الحكومة الحالية, وربما توصلوا الآن إلى قناعة بالأمر الواقع".
وما أعلنه المبعوث الرئاسي الأمريكي صراحة لا يؤكد على هذه الفرضية, أي القبول بالنظام الحاكم بوضعه الراهن, بل يدعو إلى إلى إصلاحه وهي درجة من درجات التغيير ولكن لا تصل بالطبع إلى حد القبول بالأمر الواقع أو الإطاحة الكاملة بالنظام. والخيار الذي تحدثه عنه ليمان هو المفاضلة في اسلوب التغيير وليس عن الحاجة إليه من ناحية مبدئية, فواشنطن لا ترغب في تغيير عنيف يخلط الأوراق, بل تريد تغييراً سياسياً سلساً يضمن لها السيطرة على مجريات الأمور في بلد لا تنقصه الازمات ولا التعقيدات.
وليس صعباً تحليل دوافع واشنطن في عدم تحبيذها لحدوث تغيير خارج السيطرة, فمن جهة لا تريد لنموذج الربيع العربي أن يكون وسيلة التغيير في السودان لأنها ببساطة لا تريد تكرار تجربة تلك البلدان العربية التي فوجئت بإندلاع الثورات فيها ووجدت نفسها مضطرة للتعامل مع مخرجاتها ولم تملك إلا خيار التعاطي معها والقبول بها على مضض, وهو ما أفقدها بالطبع القدرة على التأثير على مجريات الأحداث وتوجيه أجندتها والتحكم في مصائرها. وكان ليمان صريحاً وهو يقول إن تكرار نموذج الربيع العربي "بصراحة ليس من أجندتنا في السودان". والمشكلة هنا بالطبع أنه فات على واشنطن أن الثورات عندما تندلع فإنها لا تأخذ إذناً من أحد, فالثورة لا تصنع من عدم, فالمعارضة لا تستحدثها كما أن الحكومة لا تفنيها, والخارج لا يمنعها.
والمسألة الأخرى أن رفض واشنطن للخيار العسكري للإطاحة بالنظام, والذي بلا شك أثلج صدر الخرطوم وأوغر قلوب حلفاء الجبهة الثورية, لا يعني بأي حال رأفة أو حرصاً أمريكياً على النظام بقدر ما يشير إلى أن الأمر متعلق بخشيتها من تبعات وتداعيات هذا النهج العنيف على أجندتها في السودان, وثمة سبب صريح هنا لذلك أورده ليمان حين أعرب عن خشيته من أن العمل العسكري المعارض سيولد المزيد من الحروب والمشاكل التي سيتم بالضرورة تصديرها إلى دولة الجنوب الوليدة, وبهذا المعنى فإن محاولة التغيير العنيف ستكون تداعياتها أكثر إضراراً بجوبا, من ضررها على الخرطوم على الأقل من واقع خبرتها في التعايش مع التمردات المتعددة, ورسوخها في مقاليد السلطة وفارق الإمكانيات, في حين يتعين على الحركة الشعبية أن تبدأ عملية بناء دولة من الصفر.
ولذلك فإن أية محاولة من واشنطن لتشجيع العمل العسكري المعارض ستدفع ثمنه جوبا قبل الخرطوم, فضلاً عن احتمال انزلاق السودان, بشماله وجنوبه, في أتون حالة تمزق وحروب أهلية وفوضى لا يسلم من شرورها حلفاء واشنطن الكثيرون في المنطقة.
بيد أن الدافع المهم في معارضة واشنطن للعمل المسلح ضد النظام ربما يعود في الأساس إلى أنه يتقاطع مع حساباتها ويخلط أوراق ترتيبات أعدتها ل"إصلاح النظام بإجراءات دستورية ديمقراطية" وفق الخيار الذي افصح عنه ليمان. من المهم هنا الإشارة إلى أن المبعوث الأمريكي لم يحدد طبيعة هذا الإصلاح وحدوده وكيفيته وإن مضى إلى تحديد وسائله عبر إجراءات دستورية ديمقراطية, وإن بقي السؤال كيف سيتم ذلك أو بواسطة من؟.
عند هذه النقطة بالتحديد تبدو الأمور في أجندة واشنطن بشأن "إصلاح النظام" الذي تقصده غامضة إلى حد كبير, ويحيط بها الكثير من الإلتباس, ولكن يمكن تلمس بعض جوانبها من ثنايا إجابة ليمان عند سؤاله عن توقع الحركة الشعبية الشمالية المعارضة لدعم أمريكي لإسقاط النظام, وكان جوابه "كما قلت، ليس في مصلحتنا إسقاط النظام في السودان وزيادة المشاكل. تكفينا المشاكل الحالية، مصلحتنا هي تطوير النظام ديمقراطياً. نعم، ساعدناهم(أي الحركة الشعبية) في الماضي بما فيه مصلحتنا. ومصلحتنا الآن هي الاستقرار في السودان وفي جنوب السودان".
ويثور السؤال هنا كيف تتحقق مصلحة لواشنطن بتطوير النظام ديمقراطياً عبر إجراءات دستورية؟. من المفترض حسب هذا السيناريو أن تقبل الإدارة الأمريكية بشرعية النظام الحالي كما هو بتركيبته وتوازناته الحالية, وأن تحظى بموافقته للمساعدة في عملية سياسية للحوار تفضي إلى دستور جديد حتى يحين موعد الانتخابات القادمة, أو يتم الاتفاق على وضع انتقالي, وأن تجرى انتخابات مبكرة مثلاً.
ولكن تطوير النظام ديمقراطياً حسب هذا السيناريو بتوافق واتفاق معه يصطدم ب"الفيتو" الأمريكي الذي تضعه واشنطن على المشير عمر البشير الذي أعلنه المبعوث ليمان صراحة بقوله "نحن لا نتعامل مع البشير مباشرة، خاصة بسبب اتهامات المحكمة الجنائية الدولية له بخرق حقوق الإنسان وجرائم الحرب والإبادة في دارفور". وعند سؤاله كيف تتعاملون مع حكومة البشير، ثم ترفضون التعامل معه معه, اجاب برد مراوغ " موقفنا واضح من اتهامات المحكمة الجنائية الدولية، لكننا نركز الآن على الاستقرار في كل من السودان وجنوب السودان، وعلى تأسيس علاقات ودية بينهما بعد سنوات الحروب الطويلة".
وبالنظر إلى طبيعة السياسة الأمريكية وتوازناتها وتعدد مراكز صناعة القرار, ثم صعوبة الركون إلى قراءة التصريحات العلنية كمحدد صريح بالضرورة لحقيقة مواقفها, فثمة احتمالان هنا, استمرار الاتفاق الضمني في التواصل بين الخرطوم وواشنطن شريطة أن يغض الحزب الحاكم الطرف عن "الفيتو" الأمريكي على البشير ورفض التعامل معه وتفادي الاجتماع به من كما ظل يحدث من قبل كل المسؤولين الأمركيين والغربيين الذين ظلوا يزورون السودان منذ صدور قرار التوقيف, وهو ما ظل سارياً من دون إعلان أمريكي صريح برفض التعامل مع البشير والاكتفاء بتفاديه, وسكتت عنه الخرطوم رجاء أن يتم تجاوز ذلك بتمرير عملية الاستفتاء وفصل الجنوب, وأن يكون عائد تسهيل تمرير الأجندة الأمريكية بشأن الجنوب, هو التطبيع الكامل بما في ذلك معالجة مسألة البشير. وهو م لم يحدث, والمطلوب أمريكياً الآن إكمال الاتفاق مع الجنوب حول القضايا العالقة وعدم تهديد استقراره, وتحصل الخرطوم في مقابل ذلك على عدم تشجيع أو دعم واشنطن للجماعات المسلحة الراغبة في الإطاحة بالنظام.
الاحتمال الآخر قد يشير إلى تبلور "صفقة ما" مع أطراف فاعلة للمضي قدماً بإتجاه تطوير النظام ديمقراطياً, وهو ما يعني إعادة تركيبه على توازنات جديدة برعاية أمريكية على غرار تسوية نيفاشا تضع في الاعتبار مطالب الأحزاب والحركات المسلحة المعارضة وتؤسس لوضع دستوري جديد, وهو ما يحتاج طبخه على نار هادئة لأنه يقتضي بالضرورة خروج أو عزل بعض مراكز القوة الحالية بأقل الخسائر الممكنة.
ما من شك أن النفوذ الطاغي ل"المكون العسكري" في نظام الحكم يمثل العائق الأساسي أمام تطلع واشنطن ل"إصلاح النظام وتعديله" ب "إجراءات دستورية ديمقراطية", ولعل ذلك هو ما دعا ليمان لمغادرة مربع التحفظ الأمريكي عند التعاطي مع شرعية البشير ليصرح بلا مواربة في سابقة نادرة ب"الفيتو" الذي تضعه واشنطن بعدم التعامل معه على خلفية مسالة المحكمة الجنائية, وهو ما يشير إلى أن الأمر يتعد مجرد عدم التعامل إلى اعتباره أيضاً خارج أطراف سيناريو "إصلاح النظام", وما يؤكد التوجه الأمريكي لعزل "المكون العسكري" الإنقاذي استدعاء المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية ملف وزير الدفاع, أحد أضلاع هذا المكون, في توقيت خارج السياق ولا يمكن إلا أن يفهم في إطار الترتيبات الجديدة ومحاصرة البعد العسكري في اللعبة.
وما يعزز هذا الاحتمال أن معارضة واشنطن للعمل العسكري المعارض ضد الخرطوم يهدف أيضاً إلى التقليل من "عسكرة السياسة" السودانية لأن تشجيع تصعيد التمرد عسكرياً من شأن ردة الفعل عليه أن يقوي من نفوذ المؤسسة العسكرية ويعزز دورها, وهو ما سيكون بالضرورة خصماً على سيناريو التغيير تحت عنوان الإصلاح الدستوري الديمقراطي.
عن صحيفة "إيلاف" السودانية
الأربعاء 7 ديسمبر 2011