Midwifery Training and Female Circumcision in the Inter – War Anglo – Egyptian Sudan هيذر بيل Heather Bell
مقدمة: هذه ترجمة لبعض ما جاء في مقال عن تدريب القابلات وختان الإناث في السودان إبان العهد الاستعماري الإنجليزي - المصري، نُشر في عام 1998م بالمجلد التاسع والثلاثين لـ "مجلة التاريخ الإفريقي J. Afr. Hist". ولدت المؤلفة في كندا، ودرست في جامعة هارفارد الأمريكية وتخرجت فيها بدرجة في التاريخ والعلوم وهي في العشرين من العمر، ثم نالت درجة الدكتوراه في تاريخ الطب من جامعة أكسفورد البريطانية بأطروحة عن تاريخ الطب في السودان البريطاني - المصري (1899 – 1940م)، والتي نشرتها لاحقا ككتاب صدر في عام 1999م عن دار نشر جامعة أكسفورد، بعنوان " Frontiers of Medicine in the Anglo – Egyptian Sudan , 1899 – 1940 " . ولعل هذا المقال مستل من تلك الأطروحة. من المقالات الأخرى التي تطرقت لتدريب القابلات بالسودان مقال لهيذر شاركي ترجم بعنوان: "سجلات التقدم: نساء شمال السودان في عهد الإمبراطورية (الإمبريالية) البريطانية"، ومقال آخر عن تاريخ مدرسة تدريب القابلات نشرته عام 1952م الممرضة والقابلة أي. كندال في العدد الثالث والثلاثين من مجلة "السودان في رسائل ومدونات SNR". المترجم **** **** **** على الرغم من أن الصورة التقليدية للمُستعمِرين العاملين في الحقل الطبي بأفريقيا هي لأطباء أوربيين بيض يقومون على علاج مرضى سود البشرة، إلا أن الحقيقة هي أن غالب من كانوا يقدمون خدمات طبية غربية المنشأ بأفريقيا في غضون سنوات الاستعمار كانوا من غير الأوربيين. وكان الأطباء البريطانيون في السودان الإنجليزي - المصري يشكلون نسبة ضئيلة من الأطباء الغربيين، بينما كان معظم الأطباء بالبلاد آنئذ من سوريا أو مصر أو من السودانيين أنفسهم. وبالإضافة لهؤلاء، كان هنالك أيضا العديد من السودانيين الذين يعملون في المهن الطبية المساعدة ويؤدون، بالإنابة عن الدولة الاستعمارية، مختلف المهام الطبية والصحية مثل مساعدي الأطباء، والممرضين والممرضات، و"عمال الناموس" و"عمال الصحة" والقابِلات. ولفهم التبادلات الثقافية وعملية نقل التقانة وعلاقات السلطة المتداخلة في عملية "الطب الكولونيالي" ينبغي دراسة مسألة التدريب، والدور الذي أدته تجارب هؤلاء الممارسين للطب الغربي من غير الأوربيين بصورة متعمقة. ونتناول بالبحث في هذه الورقة واحدة من تلك المجموعات الطبية المساعدة عن طريق دراسة "مدرسة تدريب القابلات" التي افتتحت بأم درمان في أم درمان عام 1921م. وكانت تلك المدرسة تهدف لخلق طبقة حديثة من القابلات المدربات السودانيات من طبقة "الدايات" التقليديات. وسبق للمستعمر البريطاني من قبل تطبيق استراتيجية تدريب القابلات التقليديات على القبالة الحديثة في الهند والملايو وفي جنوب الولايات المتحدة. وكان التدريب البريطاني لقابلات السودان التقليديات يشابه بصورة كبيرة تدريبهن في الملايو. واعتمدنا في تحليلنا في هذا المقال على أوراق ميبل وولف، رَئيسَةُ المُمَرِّضات البريطانية التي قادت عملية إنشاء مدرسة تدريب القابلات (مع شقيقتها قيرترود وولف التي قدمت للسودان أولا)، وتم تعيينها بمصلحة الصحة في 26/11/1920م، ثم انتقلت لأم درمان بعد شهور لتدريب الممرضات. وفي السياق الكولونيالي كان التفاعل والتداخل بين الطب التقليدي والطب الغربي، وبين الثقافتين البريطانية والسودانية الذي تولد عن تدريب القابلات وممارستهن أمرا شديد التعقيد، ولكنه كان قادرا دوما على التغلب على الصعاب. وحتى إن بدا أن "الطب الكولونيالي" مبني على التعليم (didactic)، إلا أن قيام ممثلة للبريطانيين (في شخص ميبل وولف) بإلقاء محاضرة أمام نساء سودانيات أميات لم يكن يعني أنها كانت تفرض الآراء الطبية والثقافية البريطانية على مجتمع محلي. وتوضح أوراق الآنسة ميبل أنها كان مستوعبة تماما لأهمية القيام ببعض التكيَّفات الثقافية (cultural accommodations) للتؤام مع العادات والتقاليد المحلية. لقد كانت مدرسة تدريب القابلات هي أولى المحاولات الناجحة لتدريب النساء السودانيات على العمل في الحقل الطبي المساعد، وانضمت لمجالي تعليم البنات والتمريض، حيث أدت النساء البريطانيات والسودانيات أدورا قيادية في سنوات الحكم الكولونيالي. غير أنهن، رغم ذلك، كن قد همشن إلى حد ما في تلك الدولة الكولونيالية، وحرمن من السلطة والمكانة والمكافآت المالية اللائقة. وهذا ما حدث أيضا للمدرسات والممرضات والموظفات السياسيات الأوربيات العاملات بنيجيريا في سنوات الاستعمار. وفي بريطانيا نفسها واجهت القابلات في بدايات القرن العشرين العديد من الصعوبات. وكان منشأ تلك الصعاب في السودان وأسبابه هو الوضع (الاجتماعي) المتدني لمهنة القبالة في أعين السودانيين والبريطانيين معا، وهذا بالطبع انعكاس للنظرة لنوع / جِنْس وطبقة العاملات في هذه المهنة، وطبيعة ومكان عملهن. ويتناول هذا المقال أيضا إنشاء مدرسة تدريب القابلات، واختيار وتدريب الطالبات فيه، والعمل الذي كان ينتظرهن في مجال رعاية الأطفال فيما قبل وبعد الولادة. ويتطرق المقال كذلك للطريقة التي تعاملت بها الحكومة مع تلك القضية الخلافية الشائكة: "ختان البنات". ولم يحدث قط أن تبنت ميبل وقيرترود وولف الدعوة لمنع ختان البنات بالكلية، بل آثرتا "التكيف" مع الأوضاع السائدة ودربتا القابلات على عمل ختان "مخفف" يُجرى تحت ظروف خالية من التلوث، وعلى تقديم رعاية صحية ملائمة بُعَيْدَ الختان (جاء في مقال "سجلات التقدم" الذي تقدم ذكره أن ميبل وولف كانت تدرك أن قابلات شمال السودان كن يقمن بتوليد السيدات، وممارسة الختان الفرعوني أيضا، فحرصت على تعليم المتدربات على إجراء عمليات ختان أخف وطأة مما كان يمارس في كافة أنحاء شمال السودان. المترجم). غير أن ختان البنات كان يعد دوما قضية سياسية وليس أمرا طبيا محضا. وكان فشل الحكومة في الاهتمام بجدية بمسألة ختان الإناث وعدم وضع استراتيجيات لمواجهة هذه الممارسة يمثل أحد أوجه التهميش الذي تعرضت له ميبل وولف من قبل النظام الكولونيالي. *** *** *** لقد كانت "الداية" عنصرا ثابتا في مجتمعات شمال السودان بسبب شيوع ممارسة الختان الفرعوني. ورغم أن تلك الممارسة كانت منتشرة قبل دخول الإسلام للسودان، إلا أنها غدت – مع مرور السنوات – تُعرف وكأنها عادة دينية. ووصفت جانيس بوودي الختان الفرعوني بأنه "عادة متجذرة في ثقافات مختلف أعراق السودانيين الشماليين، لها أهمية معنوية أعمق من الارتباطات الدينية أو غيرها من المسوغات والمبررات العقلانية". وتمارس تلك العادة على البنات عادة وهن في سن 5 إلى 10 أعوام. وتقوم "الداية" في عملية الختان الفرعوني بإزالة كل الأعضاء التناسلية الخارجية (البظر والشفرين الصغيرين والكبيرين) وبعملية تَبْتيك (infibulation) حيث يخاط الشفران الظاهران معا، مما يؤدي إلى انسداد مهبلي شبه كامل بسبب النسيج الندبي المتكون الذي لا يترك سوى فتحة صغيرة لإخراج البول ودم الحيض. وتقوم الداية بعملية الختان الابتدائية للطفلة، وتقوم أيضا بعملية بضع (وربة) للمرأة عند الولادة، ثم إعادة للتَبْتيك عقب الولادة مباشرة. وجعل الختان الفرعوني من "الدايات" نساء لا يمكن الاستغناء عنهن اجتماعيا، ولكنه خلق منهن، بسبب عملهن أيضا، مشكلة اجتماعية. وتطابق وصف الباحثة سوزان كينيون في ثمانينات القرن العشرين للقبالة بالسودان في كتباها المعنون " Five women from Sennar خمس نساء من سنار" مع ما ورد في الأدبيات الكولونيالية قبل الاستقلال. وزعمت سوزان كينيون في كتابها بأن سمعة القابلات قد تكون قد تعرضت لبعض التشويه لأن عملهن يتيح لهن بالضرورة الحصول على معلومات بالغة الخصوصة، وحرية (غير معهودة عند النساء) وتحرر من العوائق الاجتماعية المعتادة التي تواجه النساء (خاصة إن كانت صغيرة السن وغير متزوجة). ومن ذلك مثلا حرية الحركة بمفردها في أي وقت بالليل. وذهبت سوزان كينيون إلى أن الخلاف حول القابلات كان يفوق مما أثير حول أي فئة أخرى من فئات المجتمع. وكانت الانتقادات التي توجه للقابلات لا تتعلق بأدائهن لمهنتهن، أو المقابل المادي الذي يتقاضينه، بقدر ما كانت تتعلق بطبيعة مهنتهن نفسها. ولعل طبيعة عملهن التي تقتضي – بالضرورة - معرفة بأمور جنسانية (sexuality) عن النساء، كانت تمثل تهديدا من نوع ما للرجال (سبق لنا في عام 2015م نشر عرض لكتاب سوزان كينيون المذكور. المترجم). وزعمت جانيس بوودي أن تقويم السكان للقابلة كان ملتبسا، بسبب موقفهن (المزدوج) كحارسات للفضيلة (بقيامهن بعملية التَبْتيك)، وكمتعديات (breachers) بقيامهن بإعادة فتح الندبة المهبلية عند الوِلادَة. وزعمت بوودي أيضا أن "الفتحات الجسدية" هي "بؤرة توتر شديد" في ثقافة الشماليين بمناطق السودان الريفية. ففتحة المهبل مرتبطة بشدة بالخصوبة والأطفال، وفي ذات الوقت هي فتحة قد يدخل عبرها "الجن" المغرم بدماء المناطق الجنسية، والذي قد يتلبس المرأة، وربما يجعلها عقيما. وقد تتعرض القابلة بسبب عملها لمختلف أنواع الدماء، وهذا أمر قد تكون له آثارا إيجابية أو سلبية بحسب السياق. وخلافا لكل مستعمرات بريطانيا في أفريقيا التي بادرت فيها المنظمات والإرساليات التبشيرية المسيحية بإنشاء وإدارة "صحة الطفولة والأمومة"، كان السودان هو المستعمرة الوحيدة التي أقامت فيها الحكومة مدرسة لتدريب القابلات. وربما كان أحد أسباب ذلك هو وجود نخبة صفوية صغيرة من المثقفين البريطانيين بالسودان في تلك السنوات. وكان الفضل الأكبر في إنشاء تلك المدرسة يعود لمبادرة من السيدة مولي كروفورت، زوجة مدير مصلحة التعليم. فقد رأت تلك المرأة البريطانية بنفسها عمليات ختان البنات والتوليد (بالحبل)، وروعت من هول فظائع تلك العمليات، فبذلت جهدا كبيرا كي تقنع الدكتور كريسبن، مدير مصلحة الصحة بفتح تلك المدرسة، ورشحت وولف لتولي تلك المهمة. وكانت حكومة السودان منذ بدء الحكم الثنائي (في 1899م) منشغلة بمشكلة قلة السكان في البلاد، وبمعدل الوفيات المرتفع الذي نجم عن وباء الانفلونزا الذي عم البلاد عامي 1918 و1919م. وكان مشروع الجزيرة (الذي كان مقررا افتتاحه في منتصف العشرينيات) والنهضة التنموية الشاملة بالبلاد تتطلب أيادي عاملة كثيرة تنعم بصحة جيدة. وكان كل ذلك يعتمد على مستوى خصوبة مرتفعة عند السكان وولادات آمنة. وهذا ما دفع مدير مصلحة الصحة للإسراع بإنشاء تلك المدرسة، خاصة بعد أن تحولت إدارة الصحة من أيدي ضباط الجيش للمدنيين، وصارت تولي اهتماما أكبر بالأهالي المدنيين (خاصة النساء والأطفال) بأكثر مما كانت تفعل من قبل. ويبدو أن إنشاء مدرسة لتدريب القابلات كان جزءً من مبادرة أوسع وأشمل للاهتمام بشؤون النساء السودانيات. وكان ذلك انعكاسا للتنمية والتطور الذي حدث في السودان وسائر بلاد العالم وصاحبه اهتمام بصحة الطفولة والأمومة. وافتتحت كلية تدريب المعلمات بأم درمان في نفس السنوات التي أنشأت فيها مدرسة تدريب القابلات وذلك لتطوير التعليم وتخريج سودانيات ليعملن مدرسات في مختلف أرجاء البلاد. *** *** *** *** كانت ميبل وقيرترود وولف تنحدران من أسرة رقيقة الحال، فقد كان والدهما كاتبا بسيطا في بور توفيق بمصر بين عامي 1885 و1891م تقريبا. وولدت الأختان في تلك المدينة المصرية وتعلمتا فيها الحديث بالعربية بطلاقة. ثم سافرتا لإنجلترا للدراسة والتدريب على مهنة القابلة. وبعد ذلك عادتا لمصر للعمل (في الفيوم والإسكندرية) كممرضات، حيث كانتا تديران مستوصفا صغيرا لمساعدة الأطفال الفقراء، وعملتا بعد ذلك في مدرسة لتدريب القابلات. وكانت من أولى العقبات التي واجهت ميبل وولف هو أن لغتها العربية (المصرية) لم تكن بذات نفع مع السودانيات، فأخفقت في إقناع "الدايات" بالالتحاق بمدرستها الجديدة. فقد ارتبن في أمر تلك الشابة الإنجليزية التي لم تجرب الزواج أو الولادة من قبل وهي "ترطن" باللهجة المصرية، وتساءلن عما يمكن أن تقدمه لهن تلك " العَزْبَاءُ البيضاء" عن توليد السودانيات. وأخيرا أفلحت ميبل في إقناع أربع نساء لبدء التدريب في مدرستها في يناير من عام 1921م. وكانت تلك هي بداية نجاحها في إقناع السودانيات بجدوى عملها الهادف لخلق الظروف المناسبة لولادات آمنة وأطفال أصحاء، وللحفاظ على الأمهات بصحة جيدة في الأسابيع التي تعقب الولادة. وأفلحت ميبل بنهاية عام 1921م في تدريب عشر قابلات، وبدأت في تدريب ثمان طالبات أخريات. وعينت ميبل في ذلك العام أرملة سودانية سبق أن تدربت معها (اسمها جندية صالح، وعمرها 38 عاما)، للعمل كمساعدة لها، خاصة في مجال إقناع مزيد من نساء أم درمان للالتحاق بمدرسة القابلات. وفي غضون سنوات العشرينيات قامت ميبل وولف بتوسيع مشروعها في شمال السودان أولا، ثم في بعض المناطق الريفية. وبدءً من عام 1923م انتقلت لمجال التفتيش السنوي على ما أقامته من مراكز لتدريب القابلات. واستغلت جولاتها التفتيشية لمعاينة الطالبات اللواتي كن يرغب في الالتحاق بمدرسة تدريب القابلات في أم درمان، شريطة الالتزام بالعودة للعمل في مناطقهن بعد انتهاء فترة التدريب. والجدير بالذكر أن غالب هؤلاء الطالبات كن (وظللن) أميات. *** *** *** *** *** *** بدأ "تكيف" ميبل وولف مع الثقافة السودانية مع عملية تجنيد الطالبات. وكان الإصرار على أن يكون الشخص المتقدم للتدريب في هذه المهمة امرأة أمرا مفروغا منه (سمح للرجال في بريطانيا بممارسة القبالة منذ ثلاثة عقود فقط. المترجم). وكانت ميبل تحرص أشد الحرص على ألا تقبل في مدرستها إلا النساء "المحترمات"، إذ كانت ترغب في جعل المجتمع يقبل بعمل القابلات السودانيات، خاصة عندما يكملن تدريبهن وعودتهن لمناطقهن الأصلية. وكانت ترغب أيضا في رفع "الوضع الاجتماعي" والنظرة للقابلة عند السودانيين، والبريطانيين أيضا. وبما أن نظرة السودانيين تجاه السن والطبقة والنوع / الجنس والحالة الاجتماعية تختلف عن نظرة البريطانيين، فلم تكن فكرة ونظرة المجموعتين للجدارة بالاحترام (respectability) متطابقة دوما. وكانت الشروط والصفات المثالية الواجب توفرها في المتقدمات للتدريب في مدرسة القبالة هي بمثابة حل توفيقي بين اختيارات ميبل وولف واختيارات المجتمعات السودانية. وشملت تلك الشروط والصفات أن تكون المتقدمة متزوجة، ومحبوبة في قريتها، ومشهورة بالأخلاق العالية، وسنها بين العشرين والثلاثين. وكانت ميبل وولف ترغب في تجنيد فتيات صغيرات في السن، وغير متزوجات، و"رياضيات" في المظهر ليغدون قابلات مهنيات. ولكنها اكتشفت أن كثير من السودانيين يصفون الفتاة الرياضية المظهر والشديدة الاستقلال (عن العائلة والمجتمع) وتفضل مهنتها على القبول بتوددات الرجال بأنها "ضكرية dakarieh" (فهمت الكاتبة الكلمة على أنها تعني "منحرفة جنسيا" أو "مثلية". المترجم). وهذا دليل على اهتمام السودانيين البالغ بالجانب الجنسي من عمل القبالة، ودليل أيضا على الصراع بين الأجيال. فذلك التوصيف بكلمة "ضكرية" ربما جاء من "الدايات" كبار السن، اللواتي لم يرضين بفقدان نفوذهن فيما يتعلق بختان البنات وعملية التَبْتيك، والتوليد. وبسبب ذلك التفكير السوداني أصرت ميبل وولف على أن تكون المتدربات في مدرستها من المتزوجات. بل وكانت تؤثر أن تدرب "الدايات" العاملات وبناتهن، كلما كان ذلك ممكنا، حتى تتحاشى التنافس التقليدي، وأن تتوافق مع العادة السودانية القاضية بانتقال مهنة القبالة من الأم إلى ابنتها. وبين عامي 1921 و 1935م بلغت نسبة اللواتي كن يمارسن القبالة من قبل ثم تدربن مع ميبل وولف نحو نصف عدد المتدربات. وكانت السن من أهم عوامل الجدارة بالاحترام، فقد كانت ميبل تريد أن تكون المتدربات صغيرات السن بما يكفي، ولكنها كانت تدرك أيضا أهمية خبرة "الداية" التي تأتي مع سنوات الممارسة، وتدرك أن المجتمع يحترم كبيرات السن بأكثر مما يحترم صغارهن. ولهذا نقص متوسط عمر المتدربة مع وولف من 50.9 سنة في عام 1921م إلى 38.7 سنة في عام 1925م، ولكنه لم ينقص عن ثلاثين عاما بعد ذلك. ومع مرور السنوات بدأ الأزواج في التخلي قليلا قليلا عن معارضتهم لعمل زوجاتهم في مهنة القبالة، وبدأت مدرسة تدريب القبالة في استقبال المزيد من صغار المتزوجات. ولجلب المزيد من المتزوجات سمحت المدرسة للمتدربات بجلب ما لا يزيد عن ثلاثة من أطفالها (في عمر أقل من 12 سنة) للعيش معها في السكن الداخلي للمدرسة، وتكفلت بنفقات ترحيلهم من مناطقهم إلى أم درمان. وغدت رعاية هؤلاء الأطفال من ضمن البرنامج التدريبي للطالبات، وصارت المدرسة تختار اسبوعيا من بين كل المتدربات "أما" لكل الأطفال تكون مسؤولة عن إطعامهم واستحمامهم وترفيهم. وكانت الخلفية الاجتماعية للمتقدمة من العوامل المحددة للجدارة بالاحترام. فقد كانت مدرسة تدريب القابلات تتحاشى اختيار ذوات الأصول الجنوبية اللواتي كن يقطن بشمال السودان (وهن من أصلاب مسترقين، أو كما سمتهم الكاتبة " slave type". المترجم) بسبب تدني طبقتهم الاجتماعية. ورغم عدم توفر قوائم بأسماء وأصول كل المتدربات في تلك المدرسة، إلا أنه من المؤكد أن ميبل وولف كانت قد جندت لمدرستها عددا (غير محدد) من نساء يمتن بصلة القرابة لرجال في مواقع مهمة، أو من زعماء القبائل، أو من العاملين في المهن الطبية المساعدة. واستعانت مبيل بكثير من هؤلاء الرجال (المهمين) في تجنيد المزيد من الطالبات (المحترمات) لمدرستها، لضمان قبول المجتمعات المحلية لهؤلاء المتدربات عند أوبتهن لمناطقهن الأصلية. ومنذ عام 1932م بدأت المدرسة تطلب من اللواتي يرغبن في الالتحاق بها تقديم شهادة "حسن سير وسلوك" من عمدة أو شيخ منطقة الطالبة، وبأنها ستلقى الترحيب عند عودتها من التدريب من نساء ورجال القرية أو المنطقة للعمل قابلة. *** *** *** *** وكان التعليم في مدرسة تدريب القابلات يتم باللغة العربية، وفيه تتلقى الطالبة دروسا في التشريح وأسباب الأمراض. ويمنحن أيضا الأجهزة والأدوية التي سيستخدمنها في عملهن لاحقا. وكان وضع تلك المدرسة شاذا وسط المدارس المشابهة في أفريقيا وغيرها، حيث كانت القدرة على الكتابة والقراءة أحد شروط القبول، ولم يكن الأمر كذلك في مدرسة ميبل وواف، حيث كان يجب على الطالبات الأميات أن يحفظن الدروس التي تلقى عليهن غيباً، وأن يتعرفن على الأدوية عن طريق قوامها ورائحتها ولونها. وكان التدريب يجرى على دُمْيات، وعلى نماذج كاملة لحوض المرأة والجنين وهو على وشك الخروج، وأيضا على الحالات التي ترد للمدرسة بأم درمان. وكانت ميبل وولف تستخدم أي وسيلة محلية تراها مناسبة لتعليم وتدريب طالباتها. فقد كانت تدرب الطالبات مثلا على عملية بَضَّع / شق الفرج (episiotomy) مستخدمة قطعا مطاطية مأخوذة من إطارات السيارات، قبل أن يجرين العملية على النساء اللواتي وضعن للتو. وكان النجاح في مقررات المدرسة تتطلب جهدا واجتهادا كبيرا من الطالبات ومهارة فنية عالية. وكان على طالبة أن تدرس عشرين حالة مختلفة، وأن تقوم بتوليد عشرين امرأة (تحت اشراف قابلة معتمدة)، وأن تنجح في الاختبارات الشفهية والعملية التي يجريها أطباء بريطانيون متخصصون. ومن أمثلة الأسئلة العملية التي تسأل لها الطالبة اسئلة عن كيفية أخذ درجة الحرارة وإدخال قسطرة، وما هي الحالات التي تجب على القابلة فيها طلب مساعدة شخص آخر، أو إرسال المريضة للمستشفى (والأجوبة المعيارية لتلك الأسئلة هي تدلي الحبل السري، والتصاق المشيمة، وأي "مجيء" غير عادي للجنين، والاختلاجات). *** *** *** *** الخلاصة - يصعب تقويم إنجازات مدرسة تدريب الدايات تقويما كميا نسبة لقلة أو عدم وجود بيانات عن نسبة وفاة الأمهات في الفترة بين الحربين. - أفادت ميبل وولف في عام 1928م بأن الأمهات كن بعد الولادة أكثر صحة وخصوبة بعد إنشاء مدرسة تدريب الدايات. ولكن يجب قراءة غالب تقارير ميبل وولف ببعض الحذر. - لعل أهم إنجاز لمدرسة تدريب القابلات هو إنشاء عيادات رعاية ما قبل الولادة، وإقناع النساء السودانيات باستخدام المؤسسات الصحية الحكومية. فقد زاد استخدام النساء غير الأوربيات للمستشفيات من 1,796 امرأة (9.1%) في عام 1925م إلى 28,975 (30.2%) من جملة من دخلن المستشفيات في عام 1936م. - قدمت القابلات المدربات خدمات جليلة للنظام الطبي الكولونيالي، غير أنهن ظللن مهمشات في ظل ذلك النظام. فقد ظلت القابلات يعانين من العديد من صور التنميط (stereotyping) التي كانت شائعة في بريطانيا، والتي تزعم أن القبالة مهنة ذات وضع اجتماعي متدني (في منافسات الكليات بجامعة الخرطوم في كرة القدم كان بعض طلاب الكليات في سنوات السبعينيات يصفون – على سبيل السخرية والدعابة لاعبي فريق كلية الطب بأنهم "دايات". وأخبرني أحد خريجي خور طقت الثانوية بأن طلاب الفصول الأدبية كانوا يطلقون تلك الكلمة (الدايات) على طلاب الفصول العلمية باعتبارهم "أطباء محتملين". المترجم). - كانت السلطات الصحية تتوقع من القابلات أداء مهامهن على أعلى مستوى، رغم إبقاءهن في أسفل التراتيبية الطبية، وبأقل معينات العمل، وبأدنى المرتبات والوضع الاجتماعي. - رغم أن الأختين وولف كانتا تقودان العمل المهني في مدرسة تدريب الدايات، إلا أن السلطة الفعلية في تلك المدرسة كانت في يد رجال، خاصة فيما يتعلق بالأمور السياسية والإدارية. وظهر ذلك في قضية "ختان الإناث" التي استبعدت منها الأختان وولف تماما. - أثبتت الخطوات التي سبقت وأعقبت إنشاء مدرسة تدريب الدايات بالسودان أهمية التكيَّف والتوفيق بين ثقافتي المُستعمِر والمُستعمَر. وكانت مبيل وقيرترود وولف تبديان الكثير من التفهم للثقافة والعادات السودانية، وتؤثران أن يتم التغيير ببطء عن طريق التعاون والتفاهم، وتدركان أنه ليس بمقدور الدولة فرض أشياء على الأهالي لا يرغبون فيها. وبالفعل، أفلحت الأختان البريطانيتان، ببطء وتدرج، في إدخال تغييرات مهمة في الممارسات التقليدية. غير أن بعض تلك الممارسات ظلت عصية على التغيير. - كان تصور السودانيين لعمل القابلة كعمل تطوعي ذي طبيعة جنسية إشكالية قد أعاق قدرة مبيل وقيرترود وولف على تصميم نمط معين للأهلية للاحترام (respectability) وللتجنيد، ولشروط العمل المالية. - حوَّلَ الربط بين ختان الإناث والدين مسألة الختان إلى قضية سياسية بالغة الحساسية، خاصة بالنسبة لحكومة كولونيالية ما تأسست إلا بهزيمة نظام الخليفة الأصولي. ولم يحاول المسؤولون البريطانيون عند نقاشهم لمسألة الختان فهم موقف أو رأي القابلات في مسألة ختان الإناث، ولم يأخذوا بجدية فكرة أن الأختين وولف يمكن أن يكون لهما أي مساهمة في المسألة سوى تقديم المعلومات. بل اتخذت السلطات السياسة من الطب والقبالة ستارا ملائما تخفي وراءه عدم قدرتها على فعل شيء إزاء تلك المشكلة، أو تأجيل حلها إلى أجل غير مسمى.