تشنوا أشيبي.. الأب الروحي للأدب الإفريقي … بقلم: د. عمر مصطفى شركيان
shurkiano@yahoo.co.uk
قلت كما أبنت في قول سابق إنَّ الأسماء لتعني الكثير المثير المندثر وغير المندثر. قال صاحبي وهو يحاورني: وما يدريك بذلك! قلت بعد أن طرقتني زائرتي، وهيَّأت خيالي لها، ولملمت أفكاري نحوها: خذ رجل في قامة ألبيرت تشنوا لوموقو أشيبي، أحد أفراد قوميَّة "الإيبو" بنيجيريا. إذ كان والده قد تنصَّر على أيدي المبشِّرين المسيحيين البيض بعد أن هجر عقيدة أجداده هجراً مليَّاً، وبعدئذٍ أصبح هو ذاته مبشِّراً مسيحيَّاً لا يُشق له غبار. ومن هنا جاء الاسم المسيحي البريطاني في اسم ابنه. وفي الجامعة أسقط الابن اسم ألبيرت، وتبنَّى الصيغة القصيرة من اسمه – تشنوا، حيث يعني الاسم الكامل "تشنوا لوموقو" "إن شاء الرَّب أن يحارب في سبيلي"؛ وتعني لفظة تشي "ربي" في لغة قوميَّة "الإيبو". وكان لدي تشنوا حفيداً يبلغ من العمر 4 سنوات، ويُدعى تشنوا كذلك. وهذا الحفيد، الذي ترعرع في الولايات المتحدة الأمريكيَّة، سأل والده يوماً ماذا يعني اسمي تشنوا، والذي يبدو شاذاً نوعاً ما؟ فأجاب الوالد: إنَّه ليعني "إن شاء الله أن يحارب من أجلي". فنظر الطفل وهو في حيرة من أمره، وقال: "إنَّ الله لطيِّب، ولا يحارب." فتبسَّم أشيبي ضاحكاً حتى انفرجت تجاعيد خديه الغائصة، والتي تحيط بفمه.
والقصة، وما تحويه من تداعيات الهُويَّة والارتباك الديني، والإصرار على إلباسه على الأجيال تكفيه فخراً. وهنا يقول أشيبي: "ليست هناك قصة يمكن أن تنتهي أبداً، وهذه القصة هي الأخرى لا تدنو إلى النهاية، وأنا سعيد بذلك." ويستطرد قائلاً: "أنا لست بهؤلاء الذين يريدون أن يروا نهاية السجالات حول الدِّين." هكذا سرت كلمات أشيبي في عقل الصحافي الذي أجرى حواراً مع هذا العملاق الأسطوري، والذي قال عنه فيما بعد إنَّه قد جعلني ارتجف كل خمس دقائق. واعترف الصحافي أنَّه لا ينبغي إجراء مقابلة مع هذا الرَّجل، ولكن عليك أن تجلس جوار قدميه وتستمع إليه. إنَّه لأحد عظماء زماننا هذا!
وفي العام 1958م أنتج أشيبي روايته "الأشياء تتداعى" (Things Fall Apart) ليمسي واحداً من أعظم الروايات في القرن العشرين. وقد تمَّ توزيع أكثر من 2 مليون نسخة منها، وتمَّت ترجمتها إلى 30 لغة. وإنَّ الرواية لتحكي عن قصة "أوكونكو" – مقاتلاً من قبيل "الإيبو"، بارعاً وقاسياً كان ثمَّ فخوراً لدرجة الموت، والذي لقي حتفه في المواجهة بينه وبين المبشِّرين المسيحيين البيض. وبالنسبة إلى تشنوا أشيبي كانت غايته من هذه الرواية أن يعبِّر عن المجتمع النيجيري قبل وأثناء وبعد مجيء الاستعمار الأوربي والتبشير المسيحي. ففي نهاية الأمر من الواضح أنَّ الصورة التي رسمها أشيبي لشخصيَّة "أوكونكو" إنَّما لهي صورة مليئة بالأبعاد السيكولوجيَّة والسمات الأخلاقيَّة والعادات الاجتماعيَّة، والتي حرص على إضفائها على تلك الشخصيَّة المحوريَّة. فقد سعى أشيبي عن طريق البحث "الجوَّاني" لإبراز الصراعات الداخليَّة للرَّجل في أعتى ما يتعرَّض له، بدلاً من الاكتفاء بتصوير الصراعات الخارجيَّة والأحاسيس "البرَّانيَّة" – الصِّراع داخلي بين طقوس القبيل المقدَّسة وبين الدِّين الجديد الذي أتى به الرَّجل الأبيض. وفي نهاية الأمر باتت الحياة بالنسبة له – ولا جدوى لكل ما يفعل – فراغاً وجوديَّاً تاماً، وإنَّها قد صارت عبئاً لا خلاص منه إلا بالموت. والحال أنَّ هذه الرواية أثارت دائماً دهشة وإعجاباً ينضويان تماماً ضمن عقلانيَّة أشيبي، التي جعلته يستخدم الأقوال المأثورة عند أهل "الإيبو" للتعبير عن عقله الأدبي والاجتماعي الخلاق في آن معاً، وذلك في أسلوب يخلو من الإفراط في الذاتيَّة، ويتَّسم بنزعة موضوعيَّة ثقافيَّة مع أنَّه يتلوَّن بقيم تقليديَّة منبثة بكل قوة هنا أو هناك. وفي الحق، جعل الكتاب من الكاتب أشيبي أباً روحيَّاً للأدب الإفريقي الحديث. مهما يكن من أمر الرواية، فقد حاول والد أشيبي أن ينصِّر عمه ضد رغبته في تبجيل ديانة "الإيبو" المتعدِّدة الأرباب. وكان العم ذا سلطان عظيم، وهو كان حاملاً ثلاثة من ألقاب تمنحها العشيرة لأسمى أعضائها. وعندما تودَّد أشيبي إلى عمه ليعتنق الدِّيانة المسيحيَّة، أومأ العم مشيراً إلى الامتيازات والشعارات والأوسمة التي تسير جنباً إلى جنب مع اللَّقب، وقال لحفيده: "أنظر إلى هذه الشعارات المتقنة والرموز الدَّالة على الملكيَّة والإبُّهة، ماذا أنا فاعل بها إذا صبوت - أي بدَّلت ديني؟" وانهزم والد تشنوا ولم يحاول إقناع أخيه أبداً، ولكن ظلَّ السؤال يحترق في مخيَّلة ابنه تشنوا، الذي ألقى بذلك التسآل على نفسه من خلال حياته. "ماذا أنا فاعل بامتيازاتي وتأريخي؟ ماذا أنا فاعل بمَنْ أنا؟" وشرع يردِّد: "في الحق، ليست هناك نهاية لأيَّة قصة أبداً."
إذ تمَّ الحوار الصحافي إيَّاه في غرفة متعددة الأغراض بكليَّة بارد، التي تبعد حوالي 90 ميلاً شمال مدينة نيويورك، حيث يعمل أشيبي في مهنة التدريس منذ العام 1990م. والمدهش في الأمر أنَّه كان بصدد الانتقال إلى وظيفة جديدة في جامعة براون في جزيرة رود. ومع ذلك، لم يكد أشيبي يفارق الكرسي المُدولَب (كرسي المقعدين). ففي العام 1990م انقلبت سيارته في نيجيريا، وكان يجلس في المقعد الخلفي مع ابنه، الذي خرج منها وأوقف الحركة حين صرخ في النَّاس: "تشنوا أشيبي هنا." فسرعان ما اندفع النَّاس وتدافعوا نحو السيَّارة ورفعوها حتى حرَّروا أشيبي من السيَّارة المنكوبة. إذ كسر ظهره، وأُرسل إلى المستشفى في بريطانيا. وهنا يقول أشيبي: "وإذا أنا في المستشفى، حيث تمَّ إسعافي بواسطة الأطباء، جاءني صديق لي وسأل مستنكراً: لماذا يحدث لك هذا؟" وقلت له: "هل لك شخص آخر في مخيَّلتك؟" واستطرد أشيبي قائلاً: "إذ لم يكن الحين نفسه وقت الطرفات، ولكنني لم أستطع مقاومة هذه الطرفة." إذ يقرّ أشيبي: "وكانت طرفة الصديق ترن في أذني وها هو ذا مضطر أن يصدِّق أنَّ الحادث كان قضاءاً وقدراً، وربما – في أسوأ الأحوال – بشكل ما. فمن يدري ربما كل الأشياء الإلهيَّة التي حولنا مخطَّطة لتنحو هذا الاتجاه." وأضاف أشيبي: "إذا اخترنا أن نتجاهل ساحة الرَّب، فإنَّنا سندفع الثمن غالياً. إذ وصَّاه الأطباء البريطانيُّون أن يذهب إلى الولايات المتحدة الأمريكيَّة في سبيل العناية الطبيَّة الفائقة. وهناك يصف أشيبي حاله حينئذٍ وقبلئذٍ بالقول: "وها أنذا في أمريكا منفيَّاً بواسطة الآلهة؛ حتى في نيجيريا فقد كنت منفيَّاً في وطني لأنَّه كان مستعمرة بريطانيَّة، أو – في وقت ما - قبع تحت مضطهدي قوميَّة "الإيبو" في الحرب الأهليَّة النيجيريَّة (1966-1967م)، ثمَّ أخيراً رزح تحت وطأة الديكتاتوريَّة الباردة الفاسدة."
وفي العام 1966م هيَّجت روايته "رجل الشعب" (A Man of the People) الفساد في دولة إفريقيَّة مستقلَّة حديثاً، وبلغ الكتاب شأواً عظيماً في الانقلاب العسكري الذي وقع في نيجيريا بعد الاستقلال. وبمحض الصدفة المدهشة كانت هناك محاولة انقلابيَّة في نيجيريا في يوم نشر الرواية وإذاعتها في الناس، ومن ثمَّ ظنَّ عملاء الحكومة أنَّ أشيبي له أيادي في المؤامرة الانقلابيَّة، وخرجوا يبحثون عنه من كل حدب ينسلون، وهم فيما هم فاعلون ظلَّوا يقولون إنَّهم بصدد تجريب بنادقهم على كتبه. وفازت كتبه، وهرب أشيبي. ثمَّ كمؤازر ل"جمهوريَّة الإيبو" في بيافرا، والتي انتوت الانفصال عن نيجيريا، بات أشيبي هدفاً لمستأجري الحكومة لترويع الخصوم، واضطرَّ إلى الهجرة إلى الخارج. وكان الرَّجل، ثانياً، رجل فكر في الأساس ذا نظرة فلسفيَّة إلى الأمور، وبالتَّالي فمواقفه كانت مبدئيَّة وإستراتيجيَّة، ولم تكن مجرَّد مواقف تكتيكيَّة فعلاً وقولاً.
فإنَّ التأريخ لكالح مثير للاشمئزاز، وقد صيَّرته بغيضاً سلسلة الآمال المحبطة. فقد تذكَّر أشيبي ليلة في العام 1957م حين نالت غانا استقلالها وقال: "لقد احتفلنا بهذا الاستقلال الغاني في لاغوس (حاضرة نيجيريا حينذاك) طيلة الليلة." ولكن تحطَّمت الآمال خلال الأعوام التي تلت، والتي اتَّصفت بالنِّزاع السياسي تارة، والمسلَّح تارة أخرى، والفساد المالي تارة ثالثة على طول وعرض القارة الإفريقيَّة. فلماذا فشلت إفريقيا ما بعد الاستعمار؟ ولماذا أنجبت القارة – باستثناء نيلسون مانديلا – هؤلاء القادة الضعفاء؟
لم يكن أشيبي يملك أجوبة لأسئلته، ولكن – بشكل غير نهائي – اقترح أنَّ الحرب الباردة قد دارت رحاها في إفريقيا، وهي ذات صلة وثقى بالأسئلة إيَّاها، ولكن يبدو أنَّ تحليله – أو لنقل تعليله - لهذه الأسئلة ظلَّ عميقاً، ويحتاج إلى تفكيك حذر، لأنَّه يقع في بؤرة حياته ومركز عمله. فهناك كتابان كتبهما الرجل الأبيض عن إفريقيا – أي "السيِّد جونسون" (Mister Johnson) للكاتب لويس كارتي، و"قلب الظلام" (Heart of Darkness) للكاتب جوزيف كونراد – يجسِّدان الأفارقة كفشلة أغبياء، في حال الكتاب الأول، وكمخلوقات في مرتبة دون الآدميَّة (Sub-humans) في التأليف الثاني. ومع ذلك – وبخاصة كونراد – اُعتبر الكاتبان ممن كشفوا عن سوءات وسيئات الاستعمار. إذ تبدو إفريقيا – حتى في مخيَّلة البيض الأكثر ليبراليَّة – نقصاً عظيماً، ثمَّ فارغاً من الثقافة والحضارة. بيد أنَّ رواية "الأشياء تتداعى"، وما تظهره من تعقيدات ثقافة وديانة قبيل "الإيبو"، تبدِّد سخافة الفكرة التي يروِّجها الرَّجل الأبيض عن إفريقيا بأنَّها لا تملك حظاً من الثقافة والحضارة. ومن جانب آخر، كان المجتمع في أرض "الإيبو" قاهراً يضطهد النساء، ويقدِّم البشر قرباناً للآلهة، ويهجر التوأم اللذان يولدان حديثاً لاعتقادهم بأنَّهما نوع من الشر. وبالطبع، حدثت وحشيَّة، ولكن عليَّ أن أقر – والحديث هنا لأشيبي – بأنَّ الوحشيَّة طبيعة كانت موجودة في كل المجتمعات. فحينما تنظر إلى "الإيبو" وترى شيئاً سيئاً هل تقول إنَّهم لمجتمع قاسٍ لا يملك من الحق في سبيل الاستماع إليه؟ إنَّ إجابتي بالنَّفي، لأنَّه بالنَّظر إلى أي مجتمع كليَّاً فلسوف لا تجد مجتمعاً واحداً نستطيع استثناءه من هذه القضايا، التي تتنزَّل على الأرض باسم الشر. ومع ذلك، يمتاز قبيل "الإيبو" بذخيرة واسعة من الحكم والأقوال المأثورة، والحكمة الرئيسة فيما تقول: "الحين الذي فيه يقف شيء ما، يقف شيء آخر بجانبه". بمعنى آخر، ليس هناك شيء نهائي أو مطلق، فهناك خيارات أخرى للاعتبار. هكذا حين نحكم على مجتمع ما من منظور أخلاقي، انطلاقاً من وجهة نظرنا ينبغي أن نعي أنَّ هذا الحكم منظور أحادي فقط، وهناك شيء آخر يقف بجانبه. وهذا القول المأثور يقبع في قلب أخلاق وأعمال أشيبي. وإذ يقول أشيبي: "فكل ما أطلبه شيئاً شاقاً تماماً، وإذا أطلقنا الحكم على الأغيار فإنَّه لينبغي علينا أن نكون حازمين على أنفسنا. حتى لا ننشر رعباً غير متساوٍ في المجتمعات المختلفة."
ومع ذلك، أشار أشيبي إلى الرُّعب في المجتمع الأمريكي المعاصر. إذ يراه في الشعوبيَّة الضارة التي تبدو بائنة في يمين الحزب الجمهوري. وفي سارة بيلين، مرشحة الحزب في منصب نائب الرئيس الأمريكي في الانتخابات الرئاسيَّة العام 2008م، وفي البرنامج الإذاعي لراديو "رش ليمبا"، والذي تفه المعونة الأمريكيَّة لإغاثة منكوبي الزلزال في هاييتي في 12 كانون الثاني (يناير) 2010م بأنَّها مناورة ثانويَّة من الرئيس الأمريكي باراك أوباما لتحسين مركزه، أو هناك القس بات روبرتسون، المبشِّر التلفزيوني، الذي قال إنَّ الزلزال قد حدث "لأنَّ الهاييتيين قد باعوا أرواحهم إلى الشر." قد لا يكون هذا قذف التوأم وهجرهما هجراً مليَّاً، ولكن إلى أي مدي ذهب هذا التصرُّف؟ إنَّ هذا الأمر لخطير للغاية، والشيء الذي لا يمكن احتماله هو وجود كثر من هذا النمط في شكل مغلَّف، حتى الأصدقاء من حولك لا يدركون ماذا يجري. فهناك دائماً الافتراض المكتوم بأنَّ ثمة شيئاً ما خطأ ما في النَّاس السود، والأسوأ من ذلك كله وجود ما يقارب الاكتفاء الشافي عند أهل الغرب في تأملهم لإفريقيا. ومن هنا يبدو أنَّ الغرب يعاني من قلق عميق تجاه عدم استقرار حضارته، ولذلك له من الحاجة الماسة في التأكيد الدَّائم بالمقارنة مع إفريقيا. فبعد ابتلاءات سنوات ما بعد الاستعمار شرع بعض الأفارقة حاليَّاً يحاولون - بالطبع – المضي إلى الأمام، وترك الاتِّهام القائل بأنَّ المستعمرين هم سبب الأزمة، وباتوا يلومون الأفارقة أنفسهم. ولكن بتطبيق حكمة "الإيبو" على هذه الأزمة الإفريقيَّة نجد أنَّ كلاً من المستعمرين والقادة الوطنيين يقفون بجانب بعضهم بعضاً في تعميق الأزمة واستفحالها. ألم تر كيف فعل الاستعمار بالتأريخ، فهناك التأريخ الذي كتبه المنتصر، وهناك التأريخ الآخر الذي يقف بجانبه ولم يدوِّنه أحد، وفي انتظار التدوين الصَّادق. إذ يبدو الأمر منطقيَّاً أن تقول: "دعنا لا نلوم الآخرين، بل علينا أن نأخذ المسؤوليَّة."
وإذا نحن ندرك أنَّ على إفريقيا أن تسأل نفسها بنفسها بعضاً من الأسئلة الصعبة، ثمَّ وإذا نحن نعلم أنَّ الأفارقة لا يرغبون في إثارة هذه الأسئلة. وفي استرجاع للذاكرة في مجموعة مقالاته بعنوان "تعليم طفل تحت الحماية البريطانيَّة" (The Education of a British-Protected Child). قال أشيبي: "إنَّ نيجيريا ليست بالأرض الأم، ولا الأرض الأب، بل إنَّها الأرض الطفل." نيجيريا تحتاج إلى التربية والتعليم، وإنَّها لطفل موهوب، ذو مؤهلات عالية، واهب بغزارة، صعب المراس، وكنيجيري فإنَّ الأمر لمهبط للغاية، ومثير للغاية أيضاً. وهذه المقالات الحديثة – وبالطبع، رواياته – تعتبر نماذج للإيضاح والاهتمام والتدبُّر. وهي منتوج عقل التعليم الغربي، لكنها مخضبة بحساسيَّة "الإيبو" المتمثِّلة في أقوالها المأثورة الشائعة، وكذلك الشعور الدِّيني المحيط بهم، مما يعني أنَّنا هنا أولاً أمام عمل ينتمي إلى أدب السيرة الذاتيَّة، وأخيراً ما يمكن اعتباره وصفاً روائيَّا لحياة قوميَّة بعينها، والجذور الثقافيَّة والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة لهذه الحياة التي يحيونها. وإذ اختتم أشيبي حديثه بحكمة أهل "البانتو" القائلة: "الإنسان إنسان بسبب الأنسنة الأخرى."
ولعلَّ في إمكاني هنا أن أقول أخيراً إنَّ تشنوا أشيبي، الذي ولد العام 1930م في قرية أوقيدي بنيجيريا، قد درس الطب والآداب في جامعة إبادان، وذهب بعد تخرُّجه في الجامعة للعمل في شركة الإذاعة النيجيريَّة في لاغوس. وبعد نشره لرواية "الأشياء تتداعى" أتبعها برواية "لم يعد الأمر سهلاً" (No Longer at Ease)، و"سهم الإله" (Arrow of God)، التي نالت أول جائزة نيوستيتمان جوك كامبل، ثم "رجل الشعب"، وهي رواية – كما أسلفنا الذكر – تحكي عن نيجيريا ما بعد الاستقلال. وبالمقارنة بين "لم يعد الأمر سهلاً" و"موسم الهجرة إلى الشمال" للروائي السُّوداني الطيب صالح، نجد أنَّ الأولى أكثر موضوعيَّة ووضوحاً، حتى ولئن تمَّ التعامل مع الثانية دائماً بوصفها رواية. وكذلك كتب أشيبي قصصاً قصيراً، وكتب الأطفال، و"احتذر يا شقيق الرُّوح" (Beware Soul Brother)، وهو كتاب فيه جمع أشعاره، وقد حاز على جائزة الكومنولث للشعر العام 1972م. وقد أمسى أشيبي أستاذاً زائراً لجامعات نيجيريا، ماستشوسيتس وكونيكتيكيت؛ ومن ضمن درجات الشرف التي نالها درجة الزَّمالة من جمعيَّة اللغات الحديثة الأمريكيَّة، وإجازات الدكتوراه من جامعات ستيرلينج، ساوثهامتون وكينت. وقد أتبع أشيبي هينريتش بول – الحائز على جازة نوبل للآداب – كثاني فائز بزمالة نيل قن لمجلس الآداب الإسكوتلاندي. وهنا يمكن القول إنَّ هذا كله يعكس مدى غزارة الرَّجل علماً وأدباً وفلسفة، حتى أمسى أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء. حقاً، لقد تعلَّم أشيبي ويستطيع أن يعلِّمنا.
المصادر والإحالات
(1) The Sunday Times, January 24, 2010.
(2) Achebe, C, The African Trilogy; Pan Books Limited: London, 1988.