تعقيب علي مداخلة البروفيسر مهدي بشرى حول قصص ابراهيم اسحق (جائزة الطيب صالح دورة 2014)

 


 

د. صديق أمبده
20 January, 2021

 

 

(أنشر هذه المداخلة القديمة بمناسبة سفر المبدع الكبير الروائي والقاص الاستاذ ابراهيم اسحق للاستشفاء بالولايات المتحدة-تكساس مع أمنياتنا له بالشفاء العاجل والعودة لنشاطه الثقافي والابداعي الجم الذي افتقده الوسط الثقافي في السنوات الأخيرة. النص قدم في إحدي جلسات المؤتمر وكان يرأسها الشاعر السفير عمر عبد الماجد ولم ينشر علي حد علمي).

تقديم
الروائي والقاص ابراهيم اسحق له في مجال الرواية: حدث في القرية 1969؛ أعمال الليل والبلدة 1971؛ مهرجان المدرسة القديمة 1976؛ أخبار البنت مياكايا 1980؛ وبال في كليمندو1999 و فضيحة آل نورين؛ وفي مجال القصة القصيرة له عدة مجموعات منها: ناس من كافا 2006؛ عرضحالات كباشية 2011 وحكايات من الحلالات 2013 ؛ وله في مجال الدراسات "هجرات الهلاليين من الجزيرة العربية" 1996 والحكاية الشعبية في أفريقيا 1977 بالاضافة الي مقالات عديدة بالصحف السودانية والعربية. وربما أفضل ما وقع في يدي من تقديم للكاتب والروائي ابراهيم اسحق هومقال بعنوان "شوقار الخريف اللِّين" كتبه الشاعرعالم عباس عنه منذ أن كان في المدرسة الأهلية الوسطي بالفاشر( وكان معاصرا له في المدرسة). تناول المقال ،الذي نشر في جزئين في سودانايل في ديسمبر 2018، شخصية ابراهيم اسحق وقراءاته وكتاباته بافاضة.
ومما جاء فيه قول عالم "سألته عن أعماله قبل (حدث في القرية)، قال لم تكن لديه أعمال قبلها وذلك لأنه أحرق كل ما سبقها! قال إنه كتب روايته "حدث في القرية" " و هو في سنته الجامعية الثالثة وبعد أن قرأ أكثر من ثمانين رواية في ذلك الوقت لوليم فولكنر وهمنجواي و ديكنز و جراهام قرين و تولستوي وكل أعمال جيمس جويس وغيرهم من رواد الرواية الحديثة ونقادهم!". وفي رأي ربما ذلك هو ما قاده الي إختيار اسلوبه وإدخاله اللهجة الدارجة الهجين في الحوار لإقليم طرفي مثل دارفور ليغامر بقبول كتاباته في فضاء ثقافة الوسط السائدة ولو بعد عقود، وليكون رائدا في القيام بما لم يقم به الإعلام الرسمي في التعريف بلهجات اطراف السودان المختلفة.

النص
يستحق البروفسير محمد المهدي بشرى الإشادة على مثابرته في إضاءة الجوانب المختلفة للتجربة الإبداعية لعدد من الروائيين ومن بينهم الروائي والقاص ابراهيم اسحق ، والذي يقول عنه الأستاذ مهدي "انه بموهبته الإبداعية الضخمة، وبمنتجاته الثقافية من الروايات والقصص القصيرة والاوراق البحثية والتنقيب عن التراث ، قد كان احد الذين تسيَّدو المشهد الثقافى السودانى فى الخمسة عقود الماضية" .
اكرر شكري للاخ الدكتور مهدي و ساكتفى بالتتبع المنهجي لورقتة المقدمة بعنوان "تمثيلات الآخر فى قصص إبراهيم اسحق القصيرة" ولاننى لست بناقد ربما يجد الحضور لي العذر فى خلو هذه الملاحظات من المصطلحات والمفاهيم السائدة فى النقد الادبي.

ملاحظاتي على الورقة
يقول البروفسر مهدي أن الدراسة تحاول رصد صناعة الآخر فى قصص ابراهيم اسحق القصيرة. ويشير الى أن دراسة الاخر علم تطور وازدهر كثمرة من ثمار الاهتمام بالهوية او الذاتية . و اشار تحديدا الى دراسة "الإستشراق" لادوارد سعيد والى ندوة الجمعية العربية لعلم الاجتماع ، ولكن للأسف لم يتعرض الأستاذ مهدي لما ورد فى الدراستين من أفكار أساسية حول الآخر بالتلخيص ، وكان الأوفق ان يتم ذلك، علما بان توضيح المصطلحات هو شئٌّ مهم للنقاش .
تعتمد ملاحظاتي على مراجعة قناعات الأستاذ مهدي الأساسية المتمثلة في الاتي:
(أ) آل كباشي (رواة أغلب القصص) بحكم وجودهم منذ أزمان بعيدة فى الرقعة الجغرافية ذاتها جعل منهم هوية متماسكة صارت هى الذات ، بينما صارت الهويات المتعددة التي تساكن آل كباشي هى الآخر . (ب) تتعدد صور الآخر فى قصص ابراهيم اسحق ، فالآخر هو الغريب الحكيم وهو الميت أى الجثة ، وهو اللص وهو المجرم القادم من المدينة ليغوى فتاة القرية البريئة ....الخ وهكذا عادة ما تكون صورة الآخر سلبية وفى مرات نادرة تكون العكس "

أمثلة الآخر الإيجابي
الغريب ذو الصفات الحميدة والنادر الوجود في تمثيلات الاخر في قصص ابراهيم اسحق ، يمثله عند الأستاذ مهدي بشرى الفكي عبد المولى في قصة " الفجوه في حوش كلتومة" الذي زوَّجه آل كباشي أرملة النعمان ود كباشي ، وما كان له ان يُقبل في مجتمع الدِّكه لولا ورعه وعلمه ، ولولا "أنه أصفر مربوع القامة وسيم القسمات " . ويقول الاستاذ مهدي ان مثل هذه الصورة (الغريب الحكيم) لا تتكرر كثيرا فى نصوص إبراهيم اسحق.

لكننا بعكس ما يرى الأستاذ مهدي نرى أنها تتكرر وهنالك أمثلة ليست قليلة للاخر الايجابي/المشكور. ففى قصة "راعيات عنز كردفاليات " نجد مسعود ود كباشي يقول عن علِى ود صويلح –أحذ سائقي اللَّواري الذين زاملوه فى طريق الغرب يقول " كم أحببته يا عبد الغفار ... عمرى كله ما شاهدت سائقين من هذا الطراز، . لا يسف ولا يسب الناس ، ولا يرضع السيجارة ، ولا يسكر ولا يجرى ورا النسوان . أهو دا والله الفحل ياتٌم (من هم) اولاد الحلال البمسكوا تيرابو " (ناس من كافا ص : 209) . وهناك أيضا عبد الصادق ود نور الدائم في قصة "الرجال السلاحف" الذي تقدم ووضع ألأساس لبناء المسجد ، لأن شرط ذلك أن يكون الرجل كامل العفة لم يزنى فى حياته قط . وهناك شمسين ود ناكور البلالاوى الذي صمد أمام حمودة ود بسوس من أبناء أحد أعيان الدِّكه فى "البطان" فى الصفقة (اللعب) أمام الجميع في قصة "تسعيرة قارورة بلالاوية " وحتى سمير ود الفيزانية "اللص" تمت الإشادة بمناقبه المستحقة . وهناك الكاجاوي الحكيم والخبير بأمراض العيون الذي عالج العمده ود عنقلو في " وبال فى كليمندو " . واذن فليس دقيقا القول بنُدرة الآخر الذي يتم الثناء عليه وعلى صفاته.

أمثلة الآخر السالب
يستشهد الأستاذ مهدي باللص سمير ود الفيزانيه فى قصه "الرجل فى سوق ام دفسو" كمثال على صورة الآخر السالبة فى قصص ابراهيم اسحق. ويدعم ذلك بقول مستور الخفير "ليس لدينا فى البلد نشَّالين .. كيف يعنى نشَّالين من الضواحى . ياهارون ده كلام عقل ؟( ص5). أي أن الآخر الغريب هو فقط الذى يمكن ان يكون لصا. في اعتقادي مثل هذا الوصف فى الريف له ما يبرره، ليس لان الاخر لص بطبعه أوأنه ليس هنالك لص من الضواحي ولكن هناك فى أعراف الهمبتة او اللصوصية ان لايرتكب السارق الجريمة فى بلده وثانيا هذه الضواحى صغيرة ومن السهولة التعرف على آخر من شوهد فى المكان .
وللصدف فى مساء الخميس 13/2/2014 الماضى استمعت لبرنامج فى قناة الشروق عن محلية "اللِّيري" فى جنوب كردفان، وقد ذكر أحد الأعيان ان البلد آمنه وان الدكاكين فى السوق تقفل فقط بتثبيت الحجارة على المشمعات فى الابواب إذ ليس من لص فى البلد ، إلا أن يكون أتى من الخارج ". على كل وحتى فى حالة هذا الآخر، سمير الفيزانى ، فان الكاتب أثبت له على لسان جلقام المكلف بسجنه فى منزله ، "حياتى يا الامين ما رأيت حلبيا صبورا كما شهدت فى ذلك الولد ... قسما لا أذكر انه اشتكي من القيد... لم يطلب منى قط طعاما ولا شرابا " . أي انه رجل صبور وله عزة نفس . ليس ذلك فقط وانما هذا الاخر سمير قد تاب عن السرقة وافتتح دكانا لبيع الزيت الذى تعلم صنعته فى سجنه واصبح مواطنا صالحا محققا اعتقاد الفكي محمود ان "يدرأوا الحدود بالشُبهات ". قال: " هذا الرجل لا سوابق له عندنا .. ولا نعرف عنه الا انه غريب وربما اضطرته الى ما جني ظروف لا نعلمها ففعل ما فعل " (نفسه 191) .
يورد الاستاذ مهدي كذلك كمثال للآخر السالب عشيرة البلالاوين فى قصة "تسعيرة قارورة بلالاوية" ويقول " فقد ظلوا منغلقين على أنفسهم بسبب العزلة التى فرضها عليهم اهل الدِّكه" لأنهم ينتمون الى قبيلة في الأصل تشادية ، وثانيا لأنهم يتخذون من ذبح الخراف والثيران مهنة . ويورد على لسان الرَّاوى "البلالاويون لم يزوجو لأحد من الدكه قط ، لأن أحدا من كافا كلها لم يزوجهم طوال هذه الأجيال الخمسة "(ص 6 ) . وأرى أن الأرجح هو أن أهل الدِّكه لم يفرضوا أي عزلة على البلالاوين وإنما عامل البلالاويون أهل الدِّكه بالمثل فى الزواج ، مما يعنى أنهم ربما يرون أنفسهم اعز نفرا من أهل الدكه . وهناك أمثلة اخرى فى دارفور (المعمور السلطاني فى لغة قصص إبراهيم اسحق ) ومنها قبيلة الكِنّين التى تعيش بالقرب من تندلتى السلاطين (الاسم التاريخي لمدينة الفاشر ) ويمتهنون صناعة الفحم وجلب الحطب الى المدينة ، ولا يتزاوجون مع بقية من يجاورهم من الاثنيات .
ويشير الأستاذ مهدي إلى قول إحدى نساء آل كباشي من أن " بلاوى البلالاوين وشبايكم كتار" كرأي سالب ، ويرى أنه نبوءة تحققت بمقتل شمسين البلالاوى على يد ثلاثة من القُرعان . لكن القصة لا تقول ذلك ، لان شمسين قتله القرعان الثلاثة الذين استأجرهم حمودة ود بسوس "ابن احد أعيان الدِّكه" إذ ذبحو شمسين وقسمو أشلاءه على "المخالي" (ج مخلاية وهي من الجلد كبديل للشنطة) (ناس من كافا:105 ) . يقول الرَّاوى " مساء الثلاثاء أخرجوا حمودة ود بسوس والقرعان الثلاثة من بيت الأمباشي تحت الحراسة المشددة مقيدي الأيدي والأرجل " (نفسه :105). المتهمون استأجرهم حمودة ود بسوس لان شمسين هزمه بصموده امامه في "البُطان" علما بان (الصفقة ="اللِّعب") تشارك فيها نساء الدكه من كل المجموعات (مما يدحض موضوع عُزلة البلالاوين) . فمن نُصدِّق فى وصف الآخر، رأى ستنا الكباشية السالب فى البلالاوين أم الكاتب الذي وزَّع بلوى التحريض على القتل على احد أبناء الدٍّكه .
نأتي الي كرومه ود شاخوت البرقاوى كمثال على الآخر السالب. يقول الاستاذ مهدي ( في قصة "النزول فى كريو" نرى معاناة كرومة الغريب أو الآخر ) . ويشير إلى أن كرومة عانى الأمرَّين من علاقته بمجتمع كافا ثم يستدرك بقوله " الا أنه هو نفسه لم يكن ليرغب فى الاندماج " (ص7) . والصحيح عندي هو هذا الاستدراك الأخير الذي ذكره الأستاذ مهدي عرضا .
ربما تعجَّل الأستاذ مهدي قليلا فى قراءة النص، إذ بإعادة قراءته نجد أولا ان كرومة ود شاخوت قد وصل حديثا؛ يقول الراوى " نزل علينا فى الخرُّوبات قبل ثلاث سنين او أربع " . ثانيا نرى ان غُربة كرومة ليس لها أى علاقة باهل الدِّكه ومعاملتهم له ولأسرته ، فقد صادقه حمدان (رغم تحذير بعض أهل الدكه له) وزوجته نفسها أحبت مجتمع الدِّكه إذ تقول لحمدان " لو يرضي كرومة لسكنا معكم وكفانا من الترحال " (حكايات من الحلالات :15 ) . ثم تضيف معلومة هامة بقولها لحمدان " قبال خمسة أعوام قام فى بال كرومة انه لن يرتاح حتى يعود بأولاده الى أبَّشي( فى تشاد ) ولَملَم العِدَّة وأركبهم الحديدة (نفسه :16 ). مصدر المعلومة هو زوجة كرومة وليست هواجس الراوي كما ذهب الى ذلك الأستاذ مهدي . ومن المعلومة المذكورة نرى ان كرومة قبل ان يأتي الى "كافا" بسنتين كان قد قرَّر العودة الى أبًّشي ، وبالنسبة له فان الدِّكه هي فقط محطة يستريح فيها ريثما يوفر بعض المدخرات التى تمكنه من العودة الى "ابَّشي" والبحث عن جذوره . وعليه فان سلوكه القلق وتعطشه لمغادرة الدِّكه ليس مرده الى معاملة سيئة من أهلها له وإنما هو سلوك طبيعي لمن هو فى لهفة لتحقيق هدف يرى انه يستحق ان يترك فى سبيله أى بلد " وأى صديق مهما كانت المودة التى بينهما ".
آخر أمثلة الآخر السالب يمثله المستر ماكنِيل فى قصه " عشاء المستر ماكنِيل" ، ويرى البروفسير مهدي أنه أي ماكنيل ونقيضه الفقيه الصالح عبد المولى " كلاهما وافد غريب على القرية ، لكن عبد المولى يأتي بالإسلام بينما يأتي ماكنيل بالنصرانية أى الكفر" (ص 4) . وتقابلنا هنا إشكالية وهي ان الفكي عبد المولى وفد كغريب على القرية فعلا لكنه لم يأت بالإسلام فأهل الدكه مسلمون ومنهم حفظة قران ، أما المستر ماكنيل فانه لم يأت وافدا الى القرية المُسمَّاه (الدِّكه ) فى الاساس ، وربما لم يرها فى حياته ، كما انه لم يأت بالنصرانية ، وذلك لأنه وفد على تندلتى السلاطين (الفاشر) ليس كداعية لانتشار المسيحية وإنما كمفتش مركز يمثل السلطة الاستعمارية .
وعليه فان آخرية المستر ماكنيل مختلفة نوعيا عن كل آخر فى القصص ، لأنه الأخر المستعمِر ، العدو، المغتصب للأرض ، ويصبح تصوير سلوك حيدر الحلفاوى طباخ المستر ماكنيل ، لتجهيز وجبة من البرسيم للمستر ماكنيل كمُلوخِيَّة ، او طبخ لحم الذئاب بدلا عن لحم الغزلان التى يصطادها المستر ماكنيل ، وإعداد وجبه عشاء من لحمة مفرومة هى فى الحقيقة حذاء المستر ماكنيل الذي قذف به فى وجه الامباشي حيدر ، يصبح كل ذلك نوعا من النضال علي المستوي الشخصي ضد المستعمر ، وهو من باب تقويم المنكر باللسان وهو (أضعف الإيمان ) . كما أن تنميط الآخر المستعمر باى شكل من الاشكال هو أحد وظائف الإبداع الذي يعيد كتابة التاريخ الشعبي للنضال ضد المستعمر.

الخلاصة
يخلص الاستاذ مهدى الي أن " جماعة آل كباشى تصور نفسها كجماعة عربية اسلامية تتميز بالعلو والرفعة على الجماعات الاخرى ، ولهذا لم يكن غريبا ان تُلصِق بالاخرين كل الرذائل " ، كما يري أن "استعلاء آل كباشى يتمثل فى انهم يعملون على تأديب الآخرين متى حادوا عن الصراط" وهى خلاصة فيها نظر في رأي.
اولا صحيح أنه يترسخ فى ذهن أي قارى لقصص إبراهيم اسحق أن آل كباشى اهل تدين ، ففيهم من حفظ القران منذ عشرينات القرن الماضى (برهوم فى "مسطرة القليب " ومنهم الداعية كما فى حالة بابكر فى "حلحلة اللواحق من رأس القناديل " . ولاتخلو قصة من القصص من قيام الراوي للصلاة او الذهاب الى للمسجد او شراء كتب التفسير وقراءة القران .اما القول بانها تصور نفسها كجماعة عربية تتميز بالعلو والرفعة على الجماعات الاخرى فهذا مما لايثبت بدليل يمكن استنباطه من القصص موضوع الدراسة،اذا لم نشهد فى كل القصص إى نوع من الإستعلاء على الاخرين . أما عن عروبتهم فكل الذى ورد ان لهم جدة بَقَّارية وأن أحد اجدادهم قد تزوج بابنة أحد الجعلين ربما قبل (ظهور مهدينا) مما يعنى أنهم كغالبية أهل السودان او أهل (المعمور السلطانى) مجموعة هجين اختلطت فيها الدماء العربية والإفريقية ، تعتنق الإسلام وتتحدث العربية بلهجة اهل دارفور.
ثانيا: القول بانه "لم يكن غريبا ان تلصق بالآخرين كل الرذائل " هو قول غير دقيق على اقل تقدير،إذ أننا نجد ان الكاتب قد قسم على آل كباشى نواقص ليست قليلة . انظر مثلا الي قصة "عائلات" في مجموعة "حكايات من الحلالات" . هنا نجد الراوى سعد الدين (من آل كباشى) عندما تزوج واتضح له ان زوجته لها حبوبة مخبُولة واخذ على والدته اختيا ر زوجه له من سلالة بها خَبَل (وهو شئ غير محمود) ، تذكَّر ان في عائلته هو ايضا شىء شبيه (لاتحمد عقباه) إذ يقول" خالتى مريومة يوما ما اختلَّت وأمست على المزارع فقتلت ضرَّتها بفاس على حلالات دوماى " ، ويقول فى مناجاته لنفسه "لم أقل لها انها لو ترانى سلالة ناس قتَّالين فانا أراها سلالة ناس مخابيل" . وفى نفس المعنى يعترف حمدان فى قصه "محاربة المؤذن العجوز "بعد أخذه للحربة التى اصاب بها المؤذن شخص آخر من آل كباشى هو عبد الكريم ، بان "دخيلتى ترعبنى ربما بسبب ذلك الشىء المكدِّر الذى يرمون به آل كباشى عن هوجتهم وربما صدقو" وتكرر نفس المعني في قصة " عنتريات المقداد ود جليلة" . وفى قصة "سفر سِت النَّفر بت شِيل فُوت "يعترف الراوي عثمان بأن "جدتى خالة أُمى ست النفر ابوها وعمها هبَّارين (لصوص).. ولثلاثين سنة هذا ديدنهما حتى نسى اهل كافا اسميهما الأصليين فعرفا الطويل المتمسكن ب(شيل فوت ) وذاك القصير المصيبه بـ "طٌق شِيل"
اما فيما يختص بالعِفَّه والطهارة فنرى حالة الحرج التى انتابت عدد من آل كباشى بعد الصلاة فى مسجد قديم فى قصة "الرجال السلاحف" . فبعد تجهيز الحجارة والطوب لوضع حجر الاساس للمسجد يقول الراوى حازم " الفكى تيراب نفض ملفحته ووضع عليها المصحف ثم قال بهدوءبارد (واحد يجى يضع لينا الاساس يا أمة محمد ... صبيا طاهر يوم من الأيام ما قعد على حرام "(ناس من كافا :134)
ويستمر فى وصف المشهد المهيب فيقول "دسًّ الناس وجوههم فى صدورهم كالسلاحف .. بعضهم بدأ يرفع راسه يبحث عن المشهود لهم بحفظ القران، بكثرة الخُطى الى المسجد، بالتًّصَدُّق ...لا أحد . لم تسعنى أظافري ولا دريت متى دسست راسى فى صدرى كبقية الرجال السلاحف ... أخنست رأسى مثلهم واستسلمت "( نفسه:135 )
وعندما شقَّ الصفوف عبد الصادق ود نور الدين ووضع يده على المصحف وقال بصوت سمعه كل من فى المسجد "اقسم بكتاب الله العظيم . أنا عبد الصادق ود نور الدين أنى مما خلقنى ربى ماحلَّيت سروالى على حرام " قال الراوى وإحساسا منه بانه قد رسب فى امتحان العِفَّة " اقول لنفسي ياحازم ياود عبد التواب أيها النملة ، ماذا تساوى أمام قامات الرجال لولا ان تحسن الظن بربك " (نفسه :136). وعليه فليس من الممكن الاتفاق مع الأستاذ مهدي فى قناعته بأنه " ليس غريبا ان يلصق آل كباشى (الذات ) بالآخرين كل الرذائل ، " فقد كال لهم الكاتب منها قدرا لا باس به.
ثالثا: القول باستعلاء آل كباشى و انهم يعملون على تأديب الآخرين متى حادوا عن الصراط " يستدل عليه الاستاذ مهدي بما فعله المقداد ود الكباشى فى قصة "عنتريات المقداد ولد جليلة" بالرجل الغريب الذى تحرَّش بنساء من الدكة كُنَّ معه فى أحد اللوارى. يقول البروفيسر مهدى بشري "ما كان منه الا ان صارع الرجل الغريب وسقط به من على ظهر العربة "(ص7). وفى تقديرى هذه رواية غير صحيحة للحدث. تقول القصة عن الغريب انه رجل غريب وسفيه تحرش بالنساء ( نساء الدكة ) وعندما زجرته إحداهن "ارتفع من الرجل ذراع كالمخباط ونزل عليها " فوثب الفتى عليه. يقول الراوي "أهوي الفتى بالرجل وشده من رجليه ... ثم ادركناهما, فجذبنا الرجل ،اهوينا به الى داخل الصندوق وابعدنا الفتى عنه "(حكايات :147 ) . الملاحظة الاولى هي أنهما لم يتصارعا ولم يسقطا من على ظهر اللوري . اما الملاحظة الثانية والأهم فهي هل نسمى هذا تأديبا (بمعنى تسلط) ام شهامة فتى فى حماية نساء فريقه /حِلَّتِه من مثل هذا الوحش الذى ظل يزحف عليهن دون ان يكترث باحتجاجهن واكمل سفاهته بالعنف الجسدي على إحدى الضحايا . أليس هذا رد فعل طبيعى من أى رجل شهم فى مثل هذا الموقف ؟ علما بان الكاتب لم يوقف الشهامة على الذات (آل كباشى ) فقط اذ اننا نجد موقفا شبيها فى قصة "راعيات عنز كردفاليات" . إذ عندما رأى سائق اللورى على ود صويلح ماظن انه ذئب يطارد فتاة ، اوقف اللورى وتناول "المنَفِلَّة " وتوجه جاريا لتخليص الفتاة .
خلاصة القول ان موضوع الآخر في قصص ابراهيم اسحق أشد تعقيدا ربما من حصره فى نُدرة أمثلة الاخر الموجب او المشكور (او الذات البديل) . وعلى الأرجح فان الأريحية التى عامل بها ابراهيم اسحق الآخر فى قصصه باسباغ الصفات الحميده عليه وأنسنته وفى توازن توزيع المخازي وحلو الخصال بين الذات والاخر تستدعي معالجة أكثر تأنيا . وكما فى رأى القاص ضياء الدين عثمان فان " قصص ابراهيم اسحق تقدم ببراعة وجهة نظر فنية عن طاقات المجتمع السوداني في استيعاب الاخر .. " ( صحيفة الخرطوم 28/1/2014).

صديق امبده
فبراير 2014



sumbadda@gmail.com

 

آراء