لا أجد أية متعة في الكتابة عن القضاة الفاسدين في السودان. بل إن الكتابة عنهم مؤلمة بدرجة لا تطاق. يرتفع ضغط الدم أشعر بالشرايين أنهرا متدفقة في الدماغ. تختلط حروف الكلمات تتسابق في عملية الرقن على الحاسوب. يبدو أنه لا نهاية للغوص في عميق هذا المستنقع. سدنته نساء شريرات ورجال أشرار موتورون، لا أمل يرجى من أي منهم.
أتلكأ بدون سبب موجب في إكمال إجراءات نشر كتبي الخمسة عنهم. أترك الكتابة عنهم، أحيانا. لكن التفكر والتأمل يعيداني يجراني جرا إلى متابعة هذا المشروع . يتجاوزني إلى الهم العام بالسودان. مشروع لا يكتمل إلا بتضحيات جسام. أتجاهل تاريخ القضاء الإسلامي. لأعيش لحظةً وهمَ مشروعية التسآل كيف يمكن أن يكون القاضي فاسدا؟
بينما التاريخ يسجل بالاستحضار وبالتغييب أن أغلبية قضاة الإسلام عبر التاريخ والأمكنة كانوا فاسدين. كتبت عنه في سودانايل 2014، وسأعود إليه. التسآل المدفوع بالوهم، لأني أجد صعوبة بالغة في تصديق أن هؤلاء قضاة الإسلام الفاسدين في السودان على هذي درجة الانحطاط الأخلاقي المُخلَّط بالإجرام. مما يتبين لي يوميا وأنا أدقق في نصوص القرارات القضائية أُخضعُها للتحليل.
لا أتحدث في هذه المقالات بلغة الغمز. ولا بادعاءات من نوع "القاضي ظلمْني". بل بالبينات المادية من التجربة الشخصية في المحاكم. وبالأسماء، لقضاة في مقدورهم الدفاع عن أنفسهم. علما أنه لا جديد في ما أكتبه. قلته كله وأكثر منه عن القضاة حين كنت في السودان.
وجهتْ المحكمة العليا في قرار قضائي القضاة الذين أسندت إليهم الفساد بملاحقتي في المحكمة الجنائية. فولى هؤلاء القضاة فرارا من مقاربة باب المحكمة الجنائية. وكنت موجودا في السودان. كوثر عوض عبد الرحمن. فادية أحمد عبد القادر كريم الدين. آسيا بابكر مختار. آدم محمد أحمد إبراهيم.
كتب القاضي صلاح التيجاني الأمين في رأيه القضائي المنفصل مؤيدا رأي الأغلبية لصالحي، كتب منتقدا مذكرتي فيها بينات فساد القضاة: "تكفي مذكرته الطويلة التي لم اطلع على مثلها في عشرات السنين التي بارك الله لي فيها بالجلوس على منصة القضاء".
(قرار المراجعة 130/2008 بتاريخ 10/9/2008 عشاري أحمد محمود خليل ضد نفيسة حسن زلفو).
(2)
فالقاضي البشري عثمان صالح.
موضوع هذا المقال. لم أكن أعده بين القضاة الفاسدين الذين لدي بينات فسادهم، وكنت حددت أسماءهم جميعهم. لم يحدث أن أشرت إليه في السابق كقاض فاسد. خاصة وأن رأيه المخالف في قضية السفر بالمحضون لم يكن له من أثر ضدي. كان الرأيُ الأغلبية، من زميليه النزيهين محمد إبراهيم محمد ومحمد أبو زيد عثمان، لصالحي.
إلى أن قررتُ بتداعي الأمور أن أُخضِع نصَّ رأيه القضائي المخالف للقراءة اللصيقة بعدسات متعددة. قبل شهر تقريبا. أعدت كتابة المقال عنه عدة مرات. من ثلاثين صفحة إلى ست ثم إلى عشرين وإلى أقل منها، وهكذا.
مع عذاب عملية التفكيك، لم أتكمن إلا بصعوبة بالغة من الربط بين خيوط الأكاذيب والخدع الشيطانية التي حاكها في نص رأيه القضائي.
(3)
كلما حسبت أني قبضت على هذا القاضي البشري متلبسا بالجريمة الكاملة، وكلما أوشكت على اكتشاف سر برنامجه للخبث القضائي، كان يفلت مني بأعجوبة. بواقعة صغيرة أَزلقَها خلسة في النص، بكلمة غيَّر معناها، بكذبة سحبها جزئيا، بنقطة فاصلة غيَّبَها، بفاء عطف أم هي استئنافية أتي بها، بخطأ مني في القراءة الأولية، بمعلومة غائبة محلها في نص خارجي، بتاريخ لابد من التحقق منه، بلزوم توخي الدقة والحذر، وبسعيي إلى الكرم إزاء القاضي أنه ربما كان مثلي يسهو أحيانا.
ظل هذا القاضي يفلت من الإمساك به. بالرغم من أن رأيه القضائي كان من صفحة واحدة. والقضية ليست معقدة.
لكني قررت أن أصبر عليه. لأنه كان تبين لي مبكرا بصورة نهائية أن القاضي تعمد الكذب في نص رأيه المخالف، عن واقعة جوهرية محددة. حين زور تاريخا بطريقة تتيح له تسبيب نتيجة رأيه القضائي المخالف.
(4)
أدرك أن القاضي الذي يكذب مرة واحدة في نص الرأي القضائي لابد يكون فاسدا بصورة نهائية وحاسمة لا يبق إلا إثبات فساده الكامل. لكن الكذبة الوحيدة، لوحدها، على استقلال، ليست كافية لتكييفه قاضيا فاسدا، وفق تعريفي للفساد القضائي، أو في محكمة الرأي العام لدى القراء. لابد من إثبات أفعال الانحراف عن القانون، وأفعال خداعية إضافية للتزوير، ولابد من بينات التدليس.
"قاض فاسد"، عبارة ليس بعدها ما يمكن قوله. هي الوصمة بأن القاضي رجلا أكان أم امرأة مجرم شرير إلعنة فاجر. يلزم تخليص المواطنين من شره.
(5)
القاضية الفاسدة، مثيلة القاضي الرجل، يجب طردها من العمل العام وملاحقتها. ومثله يجب حبسها مدى الحياة. ليس فقط بسبب جشعها، ونهمها للرشوة، وإجرامها، أو بسبب فظيع الضرر الذي سببته للمتقاضين. وإنما أيضا بسبب خداعها الإضافي. تستغل اختلافيتها كامرأة غطاء لإجرام لا يقل عن إجرام القضاة الذكور. موضوع طرقته من قبل في مقال "القاضية الفاسدة" سودانايل 2014. سأعود إليه مجددا بعد أن تبوأتْ ثلةُ من القاضيات المعروفات والمعرَّفات بفسادهن مواقع في دوائر المحكمة العليا.
(6)
في جميع الأحوال، تبقى الحقيقة الثابتة أن القضائية السودانية تعمل كمؤسسة تجارية لصناعة الفساد. لا يجدي معها إصلاح. لا أرى حلا غير إلغائها وتسريح قضاتها. بمن فيهم الشياطين الخرس الساكتين على الفساد. ومن بعد، إنشاء قضائية جديدة، على أسس مختلفة.
أما الآن، فقدرُنا أن نستمر في مقاومة العصابات القضائية الإجرامية. وأن نخرب مشروعات القضاة الفاسدين. بمثل هذا العمل لتفكيك نصوص الآراء القضائية المكتوبة بالاحتيال.
(7)
أُدرِجُ الرأيَ القضائي المخالف من قبل القاضي البشري تحت ذات تعريف الفساد القضائي. كالكتابة الاحتيالية المتدبرة للقرار القضائي. بأفعال الانحراف عن القانون والخداع والتدليس. و"الرأي" القضائي قد يصبح "قرارا" قضائيا قابلا للتنفيذ حين يكون رأي الأغلبية في المحكمة ذات المجالس المتعددة القضاة.
ثانيا،
عدم أهمية رأي القاضي البشري
(1)
كان القاضي البشري أوشك أن ينجح في خدع زميليه النزيهين، محمد إبراهيم محمد ومحمد أبو زيد عثمان. ليغيرا موقفهما وليقبلا رأيه القضائي المخالف. فرأيه كان يبدو بالقراءة الأولية قبل التحليل معقولا. لكنه فشل.
الذي يحدث في المحكمة العليا هو أن الطعن للنقض يتم الفصل فيه من قبل دائرة مكونة من ثلاثة قضاة. إما أن يتفقوا جميعهم عند المداولة على رأي قضائي موحد يكتبه أحدهم. أو يخالف أحدهم زميليه فيكتب رأيا يخالف رأي الأغلبية، في النتيجة أو التسبيب. مثلما فعل القاضي البشري. وهنالك تركيبات أخرى لا تهمنا الآن.
(2)
هذا الرأي المخالف الذي كتبه القاضي البشري غير ذي أهمية في هذه القضية عن السفر بالمحضون. فهو رأي الأقلية الفاشل دون أثر. ولا يضيف شيئا للقانون أو الفقه أو السياسة الاجتماعية في مجال الأحوال الشخصية.
إنه رأي مصبوغ بالفساد غرضه الاحتيال لصالح نجلاء الرفاعي وممثلها المحامي الثابت فساده علي أحمد السيد.
لكني أحلل هذا الرأي القضائي المخالف. بسبب أهميته في تطوير نظريتي عن الفساد القضائي. هو رأي قضائي. فمتعلق بالوظيفة القضائية للقاضي. الوظيفة ذات الخطر الأكبر. مقارنة بوظائف القاضي الأخرى مثل الإدارية والإجرائية أو وظيفته السلوكية العامة في المحكمة وخارجها.
(3)
في هذه الأخيرة، وظائف القاضي الإدارية والإجرائية والسلوكية، لا يكون الفساد فسادا "قضائيا". لأنه لا يتعلق بالرأي القضائي أو بالقرار القضائي النهائي. بل يكون فسادا عاما كفساد بقية اللصوص المرابطين في المؤسسات الحكومية.
فبشأن هذه الوظائف غير القضائية، نجد اقتراف القضاة السرقة من مخصصات المحاكم ومن الأموال المودعة فيها، ونجد إفسادهم عقود المنشآت، ونهبهم الشركات القضائية الاقتصادية، وقلة أدبهم في تسيير جلسات المحاكم، وبقية الأفعال غير الأخلاقية المتعلقة باستغلال القاضي مكتبه ووظيفته للأغراض الخاصة. مما يكتب عنه الأستاذ سيف الدولة حمدنا الله عبد القادر في سودانايل والراكوبة. لعله الوحيد الذي يكتب عن معرفة تجريبية داخلية.
...
فإلى حيثيات إثبات فساد الرأي المخالف الذي كتبه بالاحتيال القاضي البشري عثمان صالح، في ذات القضية. قبل أن أخلص في النهاية إلى ما يمكن أن نتعلمه من مقاومة فساد هذا القاضي وفساد القضاة زملائه في المحكمة العليا.
ثالثا،
الوقائع والخلفية 2008 في الخرطوم
(1)
تتلخص الوقائع في أن نجلاء عبد الحفيظ الرفاعي المقيمة تعمل في دولة الإمارات تحصلت، في سياق دعواها للزيارة والاستصحاب، على أمر بحظر ابنتنا في حضانتي القانونية من السفر معي من السودان حيث كنت أقيم وأعمل. قضيتها السابعة عشر من بين ثلاثين في الإمارات والسودان وأمريكا. بعضها مرفوعة نيابة عنها بواسطة أمها نفيسة وزوجها عبد الحفيظ.
طعنتُ في القرار لدى محكمة الاستئناف. فشطبت المحكمة طعني إيجازيا (عصابة الثلاثة آسيا وفادية وآدم).
تقدمتُ بطعن لدى المحكمة العليا. فكانت المفاجأة. وجود قاضيين نزيهين في هذي بؤرة الفساد، في المبنى الاستعراضي لا يعرف الحياء في شارع الجامعة.
كتب القاضي محمد إبراهيم محمد الرأي القضائي الأول في سبع صفحات (12/10/2008). أيده القاضي محمد أبو زيد عثمان (14/10/2008) . مما مثل الأغلبية التي ألغت لصالحي قرار محكمة الاستئناف، وقرار محكمة الموضوع، وأمر الحظر من السفر. فتمكنت من السفر بابنتي.
(قرار النقض 448/2008. عشاري أحمد محمود خليل ضد نجلاء عبد الحفيظ الرفاعي. 26/10/2008.)
(2)
كانت أهم نقطة في قرار الأغلبية من قبل القاضيين محمد ومحمد هي تلك الواقعة الجوهرية، أن نجلاء لم تكن أصلا تقيم في السودان. فحين رفَعتْ نجلاء دعوى الزيارة والاستصحاب في مارس 2008، كانت مقيمة تعمل في دولة الإمارات العربية المتحدة. منذ أكثر من ثمانية أعواما 2008.
وهي كانت كذلك مقيمة تعمل في الإمارات حين تم التقدم من قبل محاميتها إيمان المك، نيابة عنها، بطلب لأمر الحظر من السفر. بتاريخ 21/4/2008. في سياق دعوى الزيارة والاستصحاب.
كان هذا التوافق بين تاريخ التقدم بطلب أمر الحظر من السفر، من جهة، وواقعة إقامة نجلاء وعملها في الإمارات، من جهة أخرى، أقوى أسبابي للطعن لإلغاء أمر الحظر من السفر. وقد كان.
(3)
كتب القاضي محمد ابراهيم محمد في الرأي الأغلبية الصادر لصالحي ما يلي، عن نقطة النزاع المتعلقة بمحل إقامة نجلاء حين تقدمت بطلبها لأمر الحظر من السفر:
"إن محكمة الاستئناف لم تسأل نفسها أين توجد هذه الأم وهل هي في السودان؟ إن الأم المطعون ضدها تعمل بالإمارات وهذا ثابت في المحضر وبإقرار الطرف الآخر لأنه لم ينكر هذه الحقيقة. فإن كانت حقا تعيش خارج السودان لماذا تمنع الأب من الخروج من السودان ولمدة معينة ولعمل أكاديمي قد يعود بالعمل المفيد على أهل السودان؟ لو كانت تعيش في السودان لاختلف الأمر."
بهذه العبارات الواضحة، كان أمر الحظر من السفر قد انتهى أمره. اشترته نجلاء أصلا بالرشوة. عبر الوسيط السمسار المحامي علي أحمد السيد. من القاضي أزهري شرشاب، فساده ثابت. ومن عصابة الثلاثة في محكمة الاستئناف الخرطوم (فادية، آسيا، آدم).
رابعا،
خطة القاضي البشري للاحتيال
(1)
اغتنم القاضي البشري عثمان صالح العبارة الافتراضية، غير الصحيحة قانونا، "لو كانت نجلاء تعيش في السودان لاختلف الأمر". وانطلق منها في مطالبته في رأيه القضائي المخالف بـ "إعادة الأوراق لمحكمة الموضوع للنظر في أمر الحظر". بحجة أن الأمر مختلف فعلا.
العبارة غير الصحيحة قانونا، لأن السفر بالمحضون تحكمه مواد قانونية وسوابق قضائية ووقائع إضافية. كلها كانت في صالحي بتأييد القاضيين محمد ومحمد. اللذين اتفقا معي في تسع حجج قانونية ووقائعية وإجرائية، من بين عشر نقاط (المقال 22). كانت النقطة العاشرة، كسبب الطعن، عن فساد قضاة محكمة الاستئناف. النقطة الوحيدة التي رفضها القاضي محمد إبراهيم محمد. وفق السياسة الداخلية السرية في المحكمة العليا، رفض أي إسناد فساد لقاض، مهما كان القاضي فاسدا متعهرا في فساده، مثلما هو كان حال الثلاثة.
(2)
كان القاضي البشري يريد أن يتم الحكم لصالح نجلاء، بالإبقاء على أمر الحظر من السفر. أي، بتأييد قرار محكمة الاستئناف المطعون فيه من جانبي. ولابد أن القاضي بذل جهدا مقدرا للدفاع عن موقفه في سياق المداولات بين القضاة الثلاثة. خاصة وأنه، عندما شكل زميلاه الأغلبية، رفض أن يقف معهما. بالرغم من الحجج القانونية والوقائعية والإجرائية المتكثرة في سبع صفحات المدعومة من قبل زميليه.
عندئذ، بقيت للقاضي البشري طريقة وحيدة، في مسعاه لمنع الإلغاء النهائي لأمر الحظر من السفر، وليتم الحكم لصالح نجلاء. أن يقبل برأي زميليه إلغاء قرار محكمة الاستئناف الواضح فساده الإجرامي، لقاء قبول زميليه "إعادة الأوراق إلى محكمة الموضوع". كحل وسط.
(3)
ذلك مقترح "إعادة الأوراق لمحكمة الموضوع" من نوع الحلول الوسط الفسادية. يلجأ إليها أحيانا القضاة الفاسدون في المحكمة العليا. خاصة حين يكون القضاة الثلاثة فاسدين متفاهمين كعصابة. مما لم يكن الوضع في هذه الحالة الاستثنائية. حالة وجود قاضيين نزيهين مُصرَّين على نزاهتهما، بالرغم من وجود المحامي علي أحمد السيد كطرف في القضية. المحامي المشروعة إفساد جميع القضاة. أقصر الطرق لكسب القضايا الخاسرة ولتجنب عناء دراسة القانون.
لم يكن القاضي البشري مكترثا إلى أن كتابة رأي قضائي مخالف، في مثل هذه الحالة، قد يضر بالمحكمة العليا. كان القاضي مدركا مثلي أن المحكمة العليا ليست إلا مؤسسة تجارية لبيع القرارات القضائية. بجانب عملها إنتاج بعض قرارات صحيحة من قبل القضاة الفاسدين ذاتهم، لوحدهم أو في معية النزيهين.
ولابد أن القاضي البشري كان يعرف من التجربة أن القول إن المحكمة العليا محكمة قانون ادعاء باطل أريد به باطل مرغوب لدى القضاة أكثر شرا. فحتى حين أشار القاضي البشري في نص رأيه القضائي المخالف إلى موضوعات هذا القانون، أعمل في بعضها التزوير. مثل ما جاء في قوله إن حق الأم في الزيارة يمكن أن يسقط! "فيكون حقها في الزيارة قد سقط، ولا سبب للحظر مطلقا". هكذا هتف القاضي بالمبالغة في المراء. مما هو تدليس أراد به القاضي أن يخادع بأنه يقف في صفي ضد نجلاء. لم يجد طريقة أخرى للتصنع إلا بتخليق هذا الهراء رغم علمه، أو هو جهله، أن حق الزيارة للأبوين لا يسقط إطلاقا، وإنما يتم تقييده.
(4)
كان القاضي البشري على علم قضائي سبقي، كذلك من الأوراق، أن محكمة الموضوع التي يريد إعادة الأوراق إليها فاسدة. ستحكم مجددا لصالح نجلاء. في حال تم تقديم التوجيهات الاحتيالية التسهيلية.
فالحكم بالفساد ليس متأتيا بالمجان. لابد له من مكونات وقائعية تجعله يبدو سائغا. هنا يأتي دور القاضي البشري في توفير هذه المكونات الاحتيالية. بتحديد موجِّهات وتوجيهات لمحكمة الموضوع بشأن الكيفية التي يتعين عليها أن تحكم بها.
(5)
تلخصت محاجة القاضي البشري لإعادة الأوراق لمحكمة الموضوع في النص التالي الذي ورد في رأيه القضائي المخالف:
"طَلبُ الحظر قُدِّمَ بتاريخ 7/5/2008. وفي ذات التاريخ صدر القرار. فكان على محكمة الموضوع أن تستوضح وتتحقق عما إذا كانت المدعية موجودة داخل السودان أم لا. خاصة وأن طلب الحظر تم بعد شرح الدعوى. حيث إن الدعوى تم شرحها بجلسة 13/4/2008."
يبدو النص في الظاهر بريئا. لكنه الاستراتيجية الاحتيالية الماكرة ركَّبها القاضي خلال الثمانية أياما قضاها ينسج خطته الإجرامية في صفحة واحدة. مما سيتم بيانه.
...
من هنا أَصطحبُ القارئ في سياحة في مصنع لتركيب الرأي القضائي الفاسد. ليعرف القارئ أن الفساد القضائي ذا الشأن، ذلك الذي يعذب ويشقي ويقتل، يدور بحركات لغوية صغيرة. ينتجها القاضي الفاسد بالكتابة الاحتيالية المتدبرة. حركة بحركة. في ذلك نص رأيه القضائي. النص مسرح جريمة القاضي. وسلاح الجريمة القضائية. للعدوان على المتقاضي الغافل.
(6)
يريد القاضي البشري أن يقنع زميليه بالأسباب وراء مقترحه إعادة الأوراق لمحكمة الموضوع. ويريد أيضا أن يضمن أن محكمة الموضوع ستحكم وفق أطر يحددها لها، تضمن أن الحكم سيكون لصالح نجلاء.
يعلم القاضي أن محكمة الموضوع الفاسدة قد تقرر، إن تُركت لوحدها، أن تضحي بنجلاء. خاصة بعد أن تم كشف فسادها وأصبحت تحت المجهر. فالمحكمة مساحة للتكتيك والحركات. وليس لها ولاء إلا للفساد وللزوم حماية أعضاء العصابة.
لكن مقترح القاضي البشري بإعادة الأوراق إلى محكمة الموضوع وتحديد "الموجهات"، وهي التوجيهات، لم يكن مسنودا بالوقائع في المحضر. بل كانت الوقائع في المحضر كفيلة بأن تدمر المقترح. ما لم يتم التدخل الاحتيالي من قبل القاضي البشري.
(7)
عليه، قرر القاضي البشري أن يستخدم الكذب، والغش، والتزوير، وإغفال الوقائع الجوهرية، والإخفاء، وتصنع عدم العلم بالقانون، ونشر اللغو والهراء في نص رأيه القضائي.
هدفه الأساس خدع زميليه القاضيين في المحكمة العليا ليقبلا الحل الوسط بإعادة الأوراق إلى محكمة الموضوع. ومن بعد، يريد أن يضمن أن محكمة الموضوع ستحكم لصالح نجلاء. محض عملية تجارية عقلانية. في سياق صناعة الفساد في المحكمة القومية العليا.
خامسا،
عملية الاحتيال في الرأي القضائي المخالف
(1)
ينطوي الرأي المخالف الذي كتبه القاضي البشري على حركات خطابية خبيثة، من مكونات صناعة الفساد القضائي المعروفة يتم تعديلها لتلائم الوضعية المحلية للقضية المحددة:
(أ) يريد القاضي أن يقول إن إقامة نجلاء وعملها في الإمارات يمثلان واقعة قديمة من أيام زمان، حين كانت نجلاء تقدمت بدعواها للزيارة في مارس 2008، وحين كان تم شرح الدعوى بجلسة 13/4/2008. فلا يعتد بالوقائع القديمة كسبب للحكم ضد نجلاء (موقف القاضيين محمد ومحمد).
(ب) يريد القاضي أن يقول أيضا إن مستجدات كانت قد حدثت بشأن مكان إقامة نجلاء. تحديدا، عندما كانت نجلاء تقدمت بطلبها لأمر الحظر. تقدمها بالطلب في يوم حدده القاضي أنه 7/5/ 2008 [لكن التاريخ الصحيح هو 21/4/2008] وحصولها على القرار في ذات التاريخ 7/5/2008 [صحيح].
باختصار، يقول القاضي البشري إن نجلاء ربما كانت عادت لتقيم في السودان، عندما هي كانت تقدمت بطلب لأمر الحظر في 7/5/2008. وإن ذلك يلغي الواقعة القديمة عن إقامتها السابقة في الإمارات. الواقعة القديمة التي كان اعتمد عليها القاضيان محمد ومحمد في رأيهما بالإلغاء النهائي لأمر الحظر من السفر، على حد قول القاضي البشري.
(2)
ينبغي أن نتذكر أن الوقائع المعتمَدة للفصل في القضية هي التي تكون كانت ثابتة في المحضر عند تاريخ التقدم بطلب الأمر للحظر من السفر. ولا يعتد بوقائع تكون طرأت فيما بعد.
فنجلاء كانت فعلا عادت لاحقا بعد شهر أغسطس 2008 لتقيم في السودان. لكن، بعد أن كانت تقدمت قبلها بشهور بطلبها لأمر الحظر في أبريل 2008، وبعد حصولها على قرار لصالحها فيه بتاريخ 7/5/2008--حين هي كانت "مقيمة تعمل" في دولة الإمارات.
(3)
أراد القاضي البشري تجاوز هذه المفارقة المدمرة لقضية نجلاء.
فقرر القاضي أن يكذب بشأن الوقائع. وأن يزور الوقائع. لخدع زميليه القاضيين محمد ومحمد. بالقول لهما إن نجلاء بل كانت مقيمة في السودان، كـ "موجودة" في السودان. حين هي كانت تقدمت بطلبها لأمر الحظر من السفر. وهو سيزور تاريخ تقدمها بطلب الأمر للحظر.
(4)
عليه، حسبما يريد القاضي البشري، يجب إعادة الأوراق إلى محكمة الموضوع. لتستوضح محكمة الموضوع الأمر ولتتحقق عما إذا كانت نجلاء "موجودة" داخل السودان أم لا. في ذلك التاريخ المحدد بتقديم طلب أمر الحظر. ولا تكون الإجابة إلا بنعم أو بلا.
(5)
نفهم من طلب القاضي أعلاه أن محكمة الموضوع سيتعين عليها أن تحكم لصالح نجلاء في حال ثبت أن نجلاء كانت "موجودة" في السودان. موجودة تحديدا عند تاريخ التقدم بطلب أمر الحظر من السفر. وهو التاريخ الذي سنرى أن القاضي سيزوره. فبدون تزوير هذا التاريخ، لن تنجح الخطة الجوهرها تثبيت واقعة مفادها أن نجلاء كانت "موجودة" في السودان حين تم التقدم بطلب أمر الحظر.
خاصة وأن القاضي محمد إبراهيم محمد كان كتب في رأيه القضائي المؤيَّد من زميله محمد أبو زيد عثمان أنه "لو كانت نجلاء تعيش في السودان لاختلف الأمر".
...
فمشروع القاضي البشري هو أن يثبت بالاحتيال ما يجعل الأمر يكون مختلفا. بأن تكون نجلاء كانت "تعيش في السودان". بالقوة القضائية الإفسادية من قبل القاضي البشري. أي، بالرغم من أنها بل كانت مقيمة تعمل في الإمارات.
فهكذا تدور صناعة الفساد القضائي. بهذه الحركات المايكروسكوبية لتغيير المعاني، ولفرض المعاني المسروقة وتثبيتها كوقائع مادية تسري يستند عليها في تسبيب القرار القضائي.
(6)
لنتذكر أن استراتيجية القاضي البشري تتلخص في خطة ذات ثلاثة مكونات: إعادة الأوراق لمحكمة الموضوع.
أن تستوضح محكمة الموضوع وأن تتحقق عما إذا كانت نجلاء موجودة في السودان أم لا حين كانت تقدمت بطلبها لأمر الحظر من السفر.
أن تحكم المحكمة وفق نتيجة هذا الاستيضاح والتحقق.
(7)
لكن الخطة أعلاه، وخاصة عملية الاستيضاح والتحقق، كانت تعترضها مشكلات. على مستوى القاضيين في المحكمة العليا صاحبي الرأي الأغلبية، وعلى مستوى محكمة الموضوع. وتعلقت المشكلات بوقائع ثابتة مسجلة في محضر القضية. تعمل كلها ضد الخطة التي يريد تنفيذها القاضي البشري.
فقرر القاضي البشري حل هذه المشكلات. بالتزوير. وبالكذب. وبإغفال الوقائع في المحضر. وبتصنع عدم علمه بالقانون الواجب التطبيق. وبالتدليس.
أو هو ركَّب خطته، من البداية، بالمكونات الاحتيالية أعلاه. أي، إنه خلق الخطة وركبها من البداية لتكون بهذه الطريقة.
فعملية إفساد الرأي القضائي عملية كتابية إبداعية. تحكمها المواد الخام المتاحة للقاضي في سياق القضية ذاتها. وهي لا تسير بطريقة خطية. فيها فوضى وعمليات دائرية.
ومن ثم يكون صعبا للغاية كتابة قصة الاحتيال المركب. بسبب أن الكتابة السردية خطية.
أي، إن إنتاج الفساد القضائي محكوم بظروفه المحلية في إطار القضية المحددة، وهو ليس مجانيا. إلا عند قاض معتوه مثلا تسول له نفسه أن يفعل ما يريد غير مكترث.
أما هؤلاء القضاة مثل البشري فيخططون بدم بارد وبذكاء إجرامي وبإعمال عقولهم. وقد قضى القاضي البشري ثمانية أياما ينسج صفحة واحدة من المكر القضائي المنقع. لكي يبدو الرأي القضائي بريئا. ولكي تتاح للقاضي فرصة الإنكار والمغالطة إذا تم تحديه.
كان مجهوده لا بأس به. مشكلته الوحيدة هي أنه لم يدرك أن التفكيك سيفضحه قاضيا فاسدا بعد سبعة أعواما بالضبط من تلك فعلته الإجرامية في صفحة واحدة.
لا يقل القاضي الفاسد سوءا أو إجراما من المتهمين من قبل المحكمة الجنائية الدولية، مثل عمر البشير وعبد الرحيم محمد حسين. كذلك لا تنتهي جريمته بالتقادم، على المستوى الموضوعي المتعلق بكشفه. لابد من ملاحقته مدى حياته. خاصة وأن سجل فساده موجود في نصوص قراراته القضائية تتجاوز الألاف. فالبينات الضرورية الكافية ضده موجودة.
(8)
المشكلة الأولى المركبة وحلها من قبل القاضي
(أ)
تمثلت المشكلة الأولى أمام القاضي البشري، وهي دائما مشكلة مركبة، في أن نجلاء لم تكن "موجودة في السودان" حين تم التقدم بطلبها لأمر الحظر من السفر. بل كانت مقيمة تعمل في الإمارات. ولم تكن أصلا حضرت الجلسة بتاريخ 21/4/2008. هي الجلسة التي قدمت فيها المحامية، الفاسدة، إيمان المك، طلب أمر الحظر من السفر. نيابة عن نجلاء الغائبة عن الجلسة.
فقرر القاضي البشري الاحتيال. بطمس الواقعة الجوهرية المسجلة في المحضر بشأن عدم وجود نجلاء في السودان بتاريخ التقدم بطلب الأمر للحظر. بإغفالها، في نص رأيه القضائي.
ولأن الإغفال ليس كافيا لإنفاذ الجريمة الفسادية الكاملة، قرر القاضي البشري أيضا أن يقترف التزوير. لتثبيت ما كان يعلم أنه كذب. بأن كتب في رأيه القضائي أن تاريخ التقدم بطلب الأمر بالحظر من السفر كان يوم 7/5/2008. وهو كان يعلم من المحضر أن التاريخ الصحيح هو 21/4/2008. والفرق بين التاريخين جوهري، لتعلقه بوقائع أخرى جوهرية ولارتباطه الوثيق بخطة القاضي الاحتيالية لإعادة الأوراق إلى محكمة الموضوع، ولضمان حكم في صالح نجلاء.
(ب)
لا يكون التزوير إلا لغرض، ولا يمكن إثباته إلا بإثبات غرضه وملابساته، وبكشف مساعي القاضي المتهم بالتزوير إلى التغطية على جريمته.
كان القاضي البشري يعلم من المحضر، ولابد أيضا من محادثات جانبية مع المحامي علي أحمد السيد، أن نجلاء لم تكن "موجودة" في السودان بتاريخ تقديم طلب أمر الحظر من السفر، 21/4/2008. مما يدمر قضيتها. ومما أصلا كان يتمسك به القاضيان محمد ومحمد صاحبا الرأي الأول الأغلبية.
(ج)
لكن القاضي البشري وجد في المحضر واقعة أخرى. فقرر استغلالها. أن نجلاء كانت "موجودة" في السودان في تاريخ آخر، هو 4/5/2008. في جلسة أخرى في المحكمة.
ووجد القاضي البشري أن القاضي شرشاب كان أصدر القرار بأمر الحظر من السفر بتاريخ 7/5/2008.
مباشرة، سرق القاضي البشري هذا التاريخ الأخير. ليدعي بالكذب أن هذا التاريخ 7/5/2008 هو ذاته تاريخ تقدم نجلاء بطلب أمر الحظر من السفر! بينما كان القاضي يعلم من المحضر أن التاريخ الصحيح للتقدم بطلب أمر الحظر هو 21/4/2008. لم يكن للنسيان أو للخلط أو عدم معرفة القراءة أي دخل في هذه واقعة التبديل. محض احتيال قضائي.
فانظر السلاسة والسهولة التي أنتج بها القاضي التزوير:
"طلبُ الحظر قُدِّمَ بتاريخ 7/5/2008 وفي ذات التاريخ صدر القرار."
هكذا. حيث ينبني كل شيء على هذه الخدعة المزلقة خلسة في نص الرأي القضائي بين زحام الجمل.
(د)
ركَّب القاضي التزوير ليجعل وجود نجلاء في السودان قابلا للتصديق. فالمحضر يبين أن نجلاء كانت فعلا موجودة في جلسة 4/5/2008 وأيضا في جلسة 13/5/2008. إذن، هي "موجودة" بالتاريخ الوسطي المزور 7/5/2008.
لاحظ أن "وجودها" الذي يتمسك به القاضي البشري لم تكن له أية قيمة قانونية. لأنه وجود وقتي في السودان في سياق "إقامتها وعملها" في الإمارات. لكن القضاة المحتالين يتلاعبون باللغة لخلق معاني قانونية جديدة، ولفرض وقائع جديدة، بقوة الفساد بالكتابة الاحتيالية. سيمضي القاضي في مساره مثبتا أن "موجودة" معناها "مقيمة".
كان تاريخ التقدم بطلب أمر الحظر محوريا للفصل في القضية. بسبب علاقته بوجود نجلاء في السودان. فوجودها في السودان بتاريخ آخر، في سياق إقامتها في الإمارات، لا قيمة قانونية له كما أسلفت. المهم أن تكون كانت "موجودة" في السودان، لنقل جدلا بصورة مؤقتة، حين هي تقدمت بطلب أمر الحظر من السفر. لا حين هي تحصلت على قرار إيجابي لطلبها.
سرق القاضي البشري تاريخ حصول نجلاء على القرار. وثبت معه في جملة واحدة التزوير أن تاريخ التقدم بطلب الأمر للحظر كان بذات تاريخ الحصول عليه، وهذا الأخير لا شك فيه.
...
انظر مرة أخرى الجملة البسيطة التي نفذ بها القاضي البشري جريمته القضائية البشعة:
"طلبُ الحظر قُدِّمَ بتاريخ 7/5/2008 وفي ذات التاريخ صدر القرار."
لا يهم أن المحضر يسجل بوضوح أن طلب أمر الحظر من السفر كان تم التقدم به في غياب نجلاء، وفي جلسة للمحكمة يوم 21/4/2008.
فتزوير التاريخ من الخدع التي يستخدمها القضاة لإنتاج الفساد القضائي.
(هـ)
بلغة أخرى، زوَّر القاضي البشري تاريخ تقدم نجلاء بطلب الحظر من السفر من اليوم الصحيح 21/4/2008 حين لم تكن نجلاء موجودة في السودان. إلى يوم 7/5/2008. حين هي كانت موجودة في السودان. ووجودها في السودان هو ما كان القاضي يسعى إلى إثباته، ولو اضطر إلى التزوير والكذب والغش.
(و)
بعد فعلته التزويرية، سيمضي هذا القاضي يخادع بأنه لا يعرف ما إذا هي كانت نجلاء "موجودة" في السودان أم لا، في التاريخ الذي زوره هو ذاته خصيصا لكي يثبت أنها موجودة في السودان. وهي كانت فعلا موجودة في السودان في ذلك التاريخ الذي زوره القاضي.
وهذا ما أعنيه بالذكاء الإجرامي لدى القضاة الفاسدين. فمع الذهول أمام هذا الإجرام غير الأخلاقي، لا بد من أن نشيد أحيانا بذكاء القضاة الفاسدين.
(ز)
كان غرض القاضي من هذا التزوير أن يحتال على زميليه القاضيين ليقبلا إعادة الأوراق لمحكمة الموضوع. للاستيضاح والتحقق عما إذا كانت نجلاء "موجودة في السودان أم لا "، تحديدا حين كان تم التقدم بطلب الأمر للحظر من السفر.
وهو كان يريد إقناع زميليه القاضيين بأن هذا التاريخ 7/5/2008، وهو زوره بوقاح انحطاطي، هو التاريخ المهم للنظر في موضوع مكان "إقامة" نجلاء. كان غرض القاضي أن ينفذ مخططا احتياليا ضدي. بأدوات الكذب والتزوير والخداع والتدليس.
فإذا ما تم التحقق أن نجلاء كانت "موجودة في السودان" بالتاريخ 7/5/2008 الذي زوره القاضي البشري خصيصا لهذا الغرض، يتم الحكم لصالحها. لأنها فعلا كانت "موجودة" في السودان في ذلك التاريخ المزور.
كانت الخدعة أيضا للاحتيال على القاضيين محمد ومحمد. فلربما كانا صدقا القاضي البشري بشأن الواقعة والتاريخ. ولربما كانا قررا أن لا يراجعا المحضر للاستيثاق من ادعاء زميلهما. وربما كانا وافقا على تغيير موقفهما لتتم إعادة القضية إلى محكمة الموضوع، مراد القاضي.
لكن ذلك لم يحدث، لسوء حظ القاضي رغم جهوده الجبارة في الاحتيال.
(ح)
غطى القاضي الفاسد على علمه بالتاريخ الصحيح المكتوب في المحضر عن يوم التقدم بطلب أمر الحظر. بأن تجنب بحرص شديد إيراد أي ذكر لقراءته المحضر.
لم يأت القاضي البشري بسيرة لمحضر القضية من بين مصادره. إلا بهفوة تفلتت رغما عنه حين ذكر "جلسة يوم 13/4/2008". لتثبت الهفوة، أيضا بالرغم عن أنف القاضي، أنه كان قرأ المحضر الذي لا يذكره كمصدر من مصادره.
ذكر القاضي البشري جميع مصادره الأربعة لرأيه القضائي، ذكرها في الجملة الأولى: "بعد الاطلاع على قرار محكمة الموضوع، وقرار محكمة الاستئناف، وعريضة الطعن، ومذكرة الرد وما جاء فيهما ..."
ذكرها جميعها. لكنه استثنى من الذكر أهم مصدر. محضر التحقيق القضائي. أغفل متعمدا المصدر الذي كان اعتمد عليه لكتابة نص رأيه القضائي المخالف.
لكن النص يفضحه. لأن أغلبية الوقائع التي تحجج بها القاضي كان مصدرها الوحيد هو ذاته المحضر الذي غيبه القاضي.
(8)
المشكلة المركبة الثانية وكيف حلها القاضي البشري
(أ)
اقترف القاضي البشري التزوير والكذب أعلاه أصلا ليختلق واقعة توحي بقوة أن نجلاء كانت "مقيمة" في السودان حين هي تقدمت بطلبها لأمر الحظر من السفر وحين تحصلت عليه.
لم يقل القاضي البشري بالواضح إن نجلاء كانت "مقيمة" في السودان. ترك ذلك ليفهمه من يقرأ رأيه القضائي دون تمعن.
كان القصد الخفي لدى القاضي البشري أن يمسح الفرق بين المعنيين، "مقيمة" و"موجودة". لتكون نجلاء التي كانت فعلا "موجودة" في السودان بحضورها من مكان إقامتها في الإمارات لحضور بعض جلسات المحكمة كذلك "مقيمة" أيضا في السودان. ومن ثم، يتم الحكم لصالحها في محكمة الموضوع المعادة إليها الأوراق. في تصورات القاضي ومساعيه الدؤوبة.
(ب)
على القارئ أن يعرف أن القضاة يفسدون بهذه الطريقة الشيطانية التي ق تستعصي على الكشف بصورة مباشرة. ولا يوجد محام يقبل أن يُخضع نص رأي القاضي للتفكيك. لأن المحامي يخاف القاضي الفاسد كما يخاف الفأر كديسة مستأسدة.
فلا يتجرأ المحامي على مقاربة اتهام القاضي بسوء السلوك إلا نادرا، وأحيانا بالدس في الونسات الجانبية مع محامين آخرين. يعرف كل محام، بما في ذلك الفاسدون منهم، أن عددا مقدرا من القضاة أعضاء في عصابات إجرامية. ويعرف أيضا أن القضاة يمكن أن يقتلوك إن أنت تجاوزت الحدود المسوح بها. فحماية صناعة الفساد القضائي ليست لعبة.
(ج)
لم يجرؤ القاضي البشري على القول مباشرة إن نجلاء كانت "مقيمة" في السودان. لأنه كان قرأ في المحضر واقعة مناقضة ستدمر مشروعه الاحتيالي. وإن الواقعة كانت ستحكم عليه بأنه قاض كذاب يأتي بالكذبة تلو الكذبة إن هو قال أيضا إن نجلاء كانت "مقيمة" في السودان. تكفيه الأكاذيب التي أنتجها حتى هذه اللحظة.
القضاة الفاسدون يجدون أنفسهم دائما أمام ذات المحنة. لابد لهم من الكذب. ولا بد لهم من تجنب الظهور بأنهم يكذبون. مما ينتج ما أسميه "الكذبة المسترجعة". يحذق إنتاجها الإبداعي القاضي عبد الباسط عبد الله حامد.
الواقعة المدمرة في المحضر هي أن نجلاء المقيمة أصلا في الإمارات قالت على لسان محاميها إنها لن تعود من الإمارات لتقيم في السودان إلا في شهر أغسطس 2008. جاء ذلك مسجلا في محضر القضية، على لسان محاميها علي أحمد السيد.
مما يعني تعضيدا أنها حين تقدمت بطلب الأمر للحظر في أبريل، أو حتى في تاريخ شهر مايو المزور من قبل القاضي، كانت ستكون مقيمة في الإمارات حتى أغسطس 2008.
(د)
أوقع في يد القاضي البشري. فقرر أن يعتم على هذه المعلومة اللعينة. لأنها تناقض بصورة مباشرة وحاسمة ما كان يسعى إلى تثبيته. وهو عتم عليها.
التعتيم في هذه الحالة فعل غير أخلاقي من قبل القاضي. أن يخفي الوقائع التي تعرقل مسار قراره المحدد سلفا.
وهو أيضا أراد تجنب الكذب بوقاح، ففضل أن يقول "موجودة" بدلا من "مقيمة". أمله أن لا يميز القاضيان قانونا بين الدلالتين. وأن يجد له مخرجا بالإصرار على المعنى الدلالي البسيط لـ "موجودة" بعيدا عن علاقته التضادية مع المعنى القانوني لـ "مقيمة".
يكون القاضي البشري مندرجا بهذا الفعل الاحتيالي في تعويق سير العدالة. حين تعمد إغفال هذه الواقعة المسجلة في المحضر عن إقامة نجلاء في الإمارات حتى أغسطس 2008.
لأن الأمانة القضائية، يفتقدها هذا القاضي، كانت تقتضي أن يقر بتلك الواقعة الجوهرية كما قرأها في المحضر.
وهي واقعة كانت في ذاتها كافية لإيقافه عند حده ليتخلى عن مشروعه الإفسادي الشرير. مشروعه لإعادة الأوراق. بالحجة الكاذبة أنه لا يعرف ما إذا كانت نجلاء "موجودة"، وهو يقصد "مقيمة"، في السودان أم لا.
(هـ)
تثبت المعلومة المسجلة في المحضر عن إقامة نجلاء في الإمارات حتى أغسطس أن القاضي البشري محتال كذاب مخادع.
لا يوجد أي فرق تمييزي بين الرأي القضائي وكاتبه. فلا يكون الرأي القضائي فاسدا إلا وكاتبه فاسد، ليس فقط كقاض وإنما بالدرجة الأولى فاسد كشخص.
ادعى القاضي البشري أنه لابد من إعادة الأوراق إلى محكمة الموضوع. تحديدا بحجة ضرورة الاستيضاح والتحقق مما إذا كانت نجلاء موجودة في السودان أم لا، في التاريخ الذي زوره.
(و)
فالقاضي يأتي هنا بخدعة شيطانية مركبة من عدة خدع.
يقول لزميليه القاضيين إن واقعة "وجود" نجلاء في السودان بتاريخ محدد، زوره هو ذاته، غير معروفة. "موجودة أم لا". بينما هو كان يعرف أن نجلاء كانت موجودة في السودان. في ذلك التاريخ الذي زوره. أي، إنه كان يتصنع أنه لا يعرف.
وكان القاضي يتصنع أنه يريد أن يعرف. بينما هو كان أصلا يعرف. كان يعلم علم اليقين ما يدعي عدم معرفته به. أن نجلاء مقيمة في الإمارات حتى أغسطس، حتى بعد ثلاثة أشهرا على الأقل من تاريخ تقدمها بطلب الأمر بالحظر في 21/4/2008.
... ثم أخفى هذا القاضي الواقعة التي تفضح خداعه. التسجيل في المحضر أن نجلاء مقيمة في الإمارات حتى أغسطس. بإغفاله ذكرها بينما كان يتعين عليه أن يذكرها. بل هو قرر إعدامها بمجرد قوله إنه غير معروف ما إذا كانت نجلاء موجودة، بمعنى "مقيمة"، أم لا في التاريخ المزور.
ثم هو أخفى المصدر الذي كان سيفضح احتياله، المحضر. بعدم إيراد أي ذكر له من بين مصادره التي ذكر منها أربعة وكلها لم تكن مهمة أهمية المحضر.
(ز)
باختصار، كان القاضي البشري ينفذ مشروعا احتياليا في نص رأيه القضائي. كان يريد بأية طريقة، بما في ذلك بأفعال الانحراف عن القانون وبأفعال الخداع والتدليس، إعادة الأوراق إلى محكمة الموضوع.
كان يعلم أن القضاة الخمسة في محكمة الموضوع خاضعون جميعهم لإمرة المحامي علي أحمد السيد. ذاته المحامي شريك القاضي البشري في تنفيذ هذا المخطط الاحتيالي. مما ألتفت إليه الآن وأعود إليه في مقالات لاحقة عن المحامي علي أحمد السيد.
...
سادسا،
نظرية الجريمة القضائية
(1)
لم تكن للرأي المخالف من قبل القاضي البشري أية قيمة قضائية، أو قانونية، أو فقهية على مستوى تفسير الشريعة أو بشأن نظرية القانون. وكذا لم تكن له أية قيمة اجتماعية أو سياسية أو حتى أيديولوجية. وهو رأي لن يكون له موقع بين الآراء المخالفة التي قد يأتي يومها في المستقبل فيجد الناس أنها كانت آراء مخالفة صحيحة.
فالرأي المخالف من قبل هذا القاضي خاطئ ممعن في الخطأ القانوني. تجاهل المواد القانونية الحاكمة لموضوع السفر بالمحضون. مما كنت قدمت بيانه في مذكرتي للطعن، وأيدني فيه بالكامل القاضيان محمد ومحمد. في قضية في غاية السهولة لم تكن معقدة.
وكذا هو رأي القاضي البشري فاسد على المستوى الأخلاقي، وعلى مستوى الجريمة. لأن القاضي، كقاض، اقترف في كتابة رأيه الكذب والغش والتزوير. غرضه تنفيذ مخطط شرير لإعادة الأوراق إلى محكمة الموضوع. ليتم فيها الحكم لصالح نجلاء ولصالح محاميها الفاسد علي أحمد السيد.
(2)
إن مخالفة القاضي البشري لزميليه، بارتكابه جرائم الاحتيال وتعويق سير العدالة في نص رأيه القضائي، تبين أن هذا القاضي لابد كان يتلقى التوجيهات من خارج المحكمة، تحديدا من المحامي علي أحمد السيد. وهو بل كان يخاطب هذا المحامي، برأيه المخالف. يقول له إنه القاضي البشري على عهد الإفساد باق لا يخون.
وإلا، فما الذي يجعل هذا القاضي يرتكب الجريمة المركبة في نص رأيه القضائي؟
قد تبدو قفزةً استدلالية من جانبي عن القاضي وعلاقته الفسادية بالمحامي علي أحمد السيد. وهي كذلك قفزة استدلالية. لكنها تأتي مدعومة ببيناتها القوية. فلا يمكن ردها إلا برد مقدماتها في البينات المادية الثابتة التالية:
(3)
المقدمات في أنه ثابت الآن، على استقلال، بالبينة المستندية المادية، أفضل أنواع البنية، أن القاضي البشري تعمد الانحراف عن القانون، واستخدم الخداع والتدليس، في كتابة نص رأيه القضائي المخالف.
تصنع عدم العلم بالقانون. زور تاريخ واقعة جوهرية. كذب مرارا. غير وقائع. طمس وقائع. وعمل على إخفاء جرائمه وأفعاله غير الأخلاقية. لم يترك لغوا ولا هراء إلى وشحن به نص رأيه القضائي من صفحة واحدة، بغية طرح غشاء للتعمية ولصرف الأنظار عن انحرافه وخداعه وتدليسه.
كله في سياق تنفيذه مخططا احتياليا لخدع زميليه، ليتخذا قرارا يريده هو. إعادة الأوراق لمحكمة الموضوع.
(4)
كذلك ترتكز المقدمات التي أَستدِلُّ بها عن وجود اتفاقية جنائية بين القاضي البشري والمحامي علي أحمد السيد على حقيقة معروفة. أن المحامي علي أحمد السيد فاسد. فلكأني أفسر الماء بالماء. لأن هذا المحامي والفساد وجهان لعملة واحدة. ويمكن في سياق السودان أن أكتب كلمة "الفساد"، فتستدعي الكلمة مباشرة، من بين الوقائع المشار إليها، "المحامي علي أحمد السيد".
على القارئ أن يقرأ مقالي عن المحامي في سودانايل 2014. وأن ينتظر المزيد عن هذا المحامي وشريكته إيمان المك. فسادهما أحد أقوى محركات التجارة في القرارات القضائية في محاكم الخرطوم. خاصة في مجال الأحوال الشخصية.
فمجرد وجود المحامي علي أحمد السيد في هذه القضية، وبعد أن تم إثبات فساد القاضي البشري في نص رأيه القضائي، نعرف أن هذا القاضي مستأجر لدى هذا المحامي.
ذلك، بسبب الاستحالة الوقائعية والمنطقية أن القاضي كان سيتجشم كل هذه الصعاب الاجتهادية، ليكتب رأيا قضائيا ينسجه بالكذب والخداع والتزوير، دون أن يكون مدفوعا برشوة مقدمة من ذات هذا المحامي.
(5)
هذه القضية التي كتب فيها القاضي البشري رأيه المخالف الثابت الآن فساده، كانت أصلا خالطها الفساد منذ البداية. من محكمة الموضوع، حيث القاضي أزهري شرشاب الفساده ثابت. يعمل أجيرا لدى المحامي علي أحمد السيد. مرورا بمحكمة الاستئناف، حيث الفاسدة آسيا والفاسدة فادية والفاسد آدم. ثلاثتهم مرتشون. لا يفسد القاضي قراره لأجل التسلية الفارغة. فمجرد إثبات فساد نص القرار القضائي، يثبت أيضا أن القاضي أخذ رشوته.
مرتشون، أيضا لأنه من العلم العام أن المتقاضي لا يدفع رشوة لقاضي محكمة الموضوع إلا ويكون المتقاضي ومحاميه تحصلا على تعهد أكيد أو قريب من التأكيد بأن القرار الفاسد المشترى بالرشوة لن يتم إلغاؤه في المحاكم الأعلى.
المحامي الفاسد هو ذاته الذي يتلقى التأكيدات بضمان تأييد قضاة المحاكم الأعلى للقرار الفاسد، أو هو يستعصرها من القضاة عبر درجات المحاكم.
وإلا كان المتقاضي الراشي غبيا يبدد ماله يدفعه لقاض في محكمة الموضوع يرضيه مؤقتا قبل أن يسلبه القضاة في المحاكم الأعلى ذات البضاعة مدفوعة الثمن.
(7)
بالضرورة المفاهيمية، يدور الفساد القضائي بهذه الطريقة. طريقة العصابات القضائية عبر المحاكم، أفقيا في ذات المحكمة، ورأسيا عبر درجات المحاكم. لأنه بدون هذه الحلقات العصاباتية الإجرامية المتشابكة، لا يمكن أن تقوم لصناعة الفساد قائمة في القضائية السودانية.
(6)
لهذا السبب، قلت إن الرشوة ليست مهمة في ذاتها. وإنه يتعين علينا أن لا نضيع وقتنا نلاحق إثبات رشوة القضاة. لأنا سنفشل مع هؤلاء اللصوص الأذكياء.
علينا أن نركز على تفكيك القرارات القضائية لإثبات الفساد في نصوصها. وما أن يتم هذا الإثبات، نكون متأكدين أن القاضي الفاسد مرتشي. ولا يكون ذلك تفكيك القرارات القضائية إلا في سياق قصد تخريب معامير الفساد في القضائية. باستهداف المجموعات العصابية الإجرامية المكونة من القضاة والمحامين وموظفي المحاكم.
(8)
راعني أن القاضي البشري محتال على هذي درجة المكر العظيم. يكذب في نص الرأي القضائي، يزور، يختلق، يتصنع عدم العلم بالقانون، ينشر الهراء، ويدلس. لم يترك فعلا إجراميا أو غير أخلاقي إلا واقترفه في نص رأيه القضائي المشحون بالاحتيال. في صفحة واحدة.
لكل ذلك أعلاه في هذا المقال، أخلص إلى الاستنتاج السائغ أن القاضي البشري عضو في عصابة المحامي علي أحمد السيد. اجتهد بالكتابة الاحتيالية المتدبرة ليمنع إلغاء الأمر بحظر البنت من السفر. الأمر الفاسد الذي كان القضاة في المحكمة العامة وفي محكمة الاستئناف استلموا ثمنه. وقد ألغته المحكمة العليا. بمحض صدفة وجود قاضيين نزيهين، محمد إبراهيم محمد ومحمد أبو زيد عثمان. في تلك اللحظة الاستثنائية.
...
في المقال القادم (24) أتناول انحياز القاضي النزيه محمد إبراهيم محمد للأب ضد الأم، في ذات هذه القضية. انحيازه من منطلق إسلامي كتبه بصراحة في نص الرأي القضائي.
وقد أتناول بعدها موضوع المحامي علي أحمد السيد بتفصيل أوفى. أو أعرض لفساد القاضي يحيى أحمد محمد خير. أو الموضوع هو القاضي عبد الباسط عبد الله حامد. أو وهبي أحمد دهب. أو عثمان عطا المنان. أو عن ضياع الأمل في جندرة القضاء، على أيدي القاضيات الفاسدات في المحكمة العليا.