تفوق الصورة الشعرية في القصيدة العربية- قراءة مقارنة

 


 

 

مدخل:
"ما دمت أتجول كشاعر بين العرب والعبريين، فسوف أظل ارتعد كلما اسمع قائلا يقول: هوميروس أعظم حشد لكل ما تستطيع الروح الشعرية أن تحشده من قوى وإنه أعلى مثل للطبيعة الشعرية".
المستشرق والمؤرخ والشاعر الألماني "هردر" من كتابه (غابة نقدية).
*
المتأمل في الشعر الأوربي القديم (الكلاسيكي) والحديث، يلاحظ أنه ذو طابع سردي تغلب عليه لغة المنطق التقريري أكثر من المجاز التصويري. فأنت تقرأ القصيدة الأوربية وكأنك تقرأ قصة. الشاعر الأوربي مشغول بالفكرة أكثر من انشغاله بالتصوير البلاغي.
بكلمات أخرى يمكنّك القول إن القصيدة الأوربية ذات بناء تحليلي بينما القصيدة العربية ذات بناء تركيبي. لذلك نلاحظ قلة استعمال المجاز ومباشرته وبساطته في القصيدة الأوربية، إزاء كثرة استعمال المجاز واتساعه وعمقه في الشعر العربي.
إن الشعر العربي يوظف المجاز والأدوات البلاغية (علم البيان): التشبيه والتشبيه المركب (التشبيه التمثيلي والتشبيه الضمنى) والاستعارة التصريحية والمكنية، والكناية، على نحو أعمق وأخصب وأغني مما في الشعر الكلاسيكي الإغريقي واللاتيني حيث يلتمس الشاعر العربي وجوه الشبيه البعيدة بين الأشياء ويلبس المعنوي ثوب المحسوس أو ما يعرف بالتشخيص، كما يلبس المحسوس ثوب المعنوى.
فمثلا تنشأ بلاغة التشبيه كما يقول كتاب (البلاغة الواضحة) "من أنه ينتقل بك من الشيء نفسه إلى شيء طريف يشبهه، أو صورة بارعة تمثله، وكلما كان هذا الانتقال بعيدا لا يخطر على البال، كان التشبيه أروع للنفس وأدعى إلى إعجابها واهتزازها".
"بلاغة التشبية آتية من ابتكار مشبه به بعيد عن الأذهان لا يجول إلا في نفس أديب وهبه الله استعداداً سليماً في تعرف وجوه الشبه الدقيقة بين الأشياء، واودعه قدرة على ربط المعاني وتوليد بعضها من بعض إلى مدى بعيد لا يكاد ينتهي".
وأما بلاغة الكناية "فإنها تضع لك المعاني في صور المحسوسات وتجعلك ترى ما كنت تعجز عن التعبير عنه ملموساً". وهذا ما يعرف بالتشخيص البلاغي.
فامرؤ القيس مثلا يصور معاناته في الليل المدلهم بايجاد وجه شبه بين كثافة سدف الظلام وبين تلاطم وتراكم أمواج بحر هائج. والمتنبي يصور معاناته مع الحمى الراجعة بتلمس وجه شبه طريف بين الحمى والزائرة الثقيلة غير المرغوب فيها.
وقد لفت هذه الطريقة في استعمال المجاز شاعر ألمانيا الأكبر جوته فعلق عليها بقوله: "كل شيء عند الشرقي (العربي) مترابط بحيث لا يجد حرجاً، وقد تعود على الربط المرتجل بين أبعد الأشياء، وأن يشتق اللفظ الواحد من الآخر، بتعديلات خفيفة في الحروف والمقاطع. من هنا نرى كيف أن لغته منتجة بنفسها. وهذا على نحو خطابي لأنها تسبق الفكر، وعلى نحو شعري لأنها تتحدث إلى الخيال". بدوي ص 434
ويلخص جوته ما اسماه (الخصائص الجوهرية للشعر العربي) في "النظرة الشاملة إلى عالم الأشياء، والسهولة في النظم، ثم نوع من التلذذ، وميل فطري في الأمة إلى الألغاز والتورية". مومزن ص 53
وينتهي إلى القول: "الطابع الأسمى للشعر الشرقي هو ما نسميه نحن الألمان Geist أي الروح. فهؤلاء الشعراء "تحضرهم كل الأشياء ويربطون ببساطة بين أشد الأشياء بعداً وتبايناً، ولذلك يقتربون مما نسميه بالفطنة واللباقة wit أو روح الدعابة". مومزن ص 53،54
ويطلق الأوربيون على هذا الأسلوب في قرض الشعر أعني التوسع في المجاز باستخدام الصور البيانية على الطريقة العربية، لفظ conceit. ويعرِّف (معجم أكسفورد في الأدب الإنجليزي) هذا المصطلح بأنه "التوسع في استخدام المجاز للمقارنة بين شيئين مختلفين لإحدث أثر فني طريف ومثير للتعجب".
ويعرف الناقد الإنجليزي المعروف دكتور جونسون مصطلح conceit بأنه "الجمع بين صورتين مختلفتين أو اكتشاف وجوده شبه بين أشياء لا تبدو في الظاهر أنه يوجد ما يجمع بينها".
وذلك في سياق هجومه على شعراء القرن التاسع عشر الإنجليز الذين توسعوا في استخدام المجاز على مذهب القصيدة العربية بتأثير من شعراء إيطاليا دانتي وترارك كما سبقت الإشارة.
وسبب ذلك أن المزاج الأوربي الملتزم بالتقاليد الكلاسيكية (اليونانية والرومانية) في تذوق الشعر لا تروقه هذه الطريقة "العربية" في التعبير الشعري، ويراها مجرد تزويق زائد عن الحاجة وبفضل عوضا عنها التعبير الشعري المباشر الذي لا يستعمل المجاز البلاغي إلا في حده الأدني المباشر والقريب، كأن يشبه الشاعر مثلاً سيلان الدموع بقطرات الماء، وسفك الدماء بجريان النهر!
وكان جوته قد تنبه إلى هذا الفرق بين الشعر الأوربي القديم والشعر العربي وشدد على عدم محاكمة الشعر العربي بالذوق الكلاسيكي، وانتقد بعض المستشرقين الذين يفعلون ذلك، فالأمر كما يقول "لا يتعلق بما نسميه الذوق، أعني التمييز بما هو مناسب وما هو غير مناسب، فميزات هذا الشعر لا يمكن فصلها عن عيوبه، ولابد من قبولها كما هي دون قشرها أو المساومة فيها. ولا شيء أثقل على النفس عندما تجد رايسكه وميكائيلي يرفعان من شأن هؤلاء الشعراء إلى عنان السماء مرةً، ومرة أخرى يعاملونهم كأنهم تلاميذ بليدون. بدوي ص 433-434
ويرفض جوته "الموقف الاستبعادي الذي لا يريد أن يقر إلا بما ورثناه عن روما وأثينا. ثم يضيف "فنحن نعرف كيف نقدر الشعر الشرقي. ونقر بأن له أكبر المزايا، لكننا نريد أن نقارنه بنفسه، وأن يقدر في داخل نطاقه، وأن ننسى أنه وجد يونانيون ورمانيون. ولن نسخط على أحد إن هو قارن بين حافظ الشيرازي وهوراس". بدوي ص 438.
ويتضح لنا الفارق في استخدام المجاز والصور البلاغية بين الشعر الأوربي الكلاسيكي والشعر العربي من خلال الدفاع القوي الذي دافع به الشاعر والناقد الحداثي المعروف ت. س. إليوت عن أسلوب دانتي وأتباعه من ناحية، وعن شعراء القرن السابع عشر الإنجليز الذين تخصصوا في كتابة قصيدة السونيت، من ناحية أخرى، والذين هاجمهم دكتور جونسون.
وإليوت شديد الإعجاب بشاعرية دانتي وذلك إلى الحد الذي يعتقد فيه أن أسلوب "دانتي يمثل مدرسة عالمية في كتابة الشعر، فليس هناك شاعر غيره في أي لغة ولا حتى في الإغريقية واللاتينية قدم نموذجا متينا في كتابة الشعر صالح لكل شعراء العالم".
والسبب كما يرى "وضوح الصورة الشعرية" في شعره. ويعزو إليوت وضوح الصورة الشعرية عند دانتي إلى استخدام المجاز التمثيلي allegory وهذا من مترادفات لفظ conceit. إذ يرى أن "المجاز التميثلي يتيح للكاتب الجمع بين السهولة والعمق معاً". (انظر: مقاله تحت عنوان "دانتي" 1929).
ومما يدل على أن هذه الطريقة في قرض الشعر غير مألوفة للذوق الكلاسيكي الأوربي، النصيحة التي يوجهها إليوت للقارىء الأوربي بأن "يخلي ذهنه من أي تحيز مسبق ضد استخدام التمثيل المجازي في الشعر وأن يتقبل حقيقة أن هذه الطريقة "ليست حيلة يلجأ إليها الشعراء العاطلون عن الموهبة لكتابة الشعر ولكنها سجية عقلية من شأنها إذا استخدمت استخداما عبقريا، أن ترفع الشاعر العظيم إلى مكانة الصوفي أو القديس العظيم". 209
ويدلل إليوت على بلاغة أسلوب دانتي ووضوحه بصورة شعرية وردت بالكوميديا الإلهية (الجحيم، النشيد الخامس عشر) حيث يصف دانتي الحشود المحشورة في النار أثناء طوافه هو ودليله بقوله:

وقد قطّبوا حواجبهم
وأحدوا نظراتهم محدقين فينا
مثل حائك عجوز
يحدق في سم إبرة.

وهذه الصورة التي استدل بها على عبقرية دانتي في التصوير الشعري، مألوفة جدا للقارىء العربي ولشيوعها في الشعر العربي وتسمى في البلاغة العربية "تشبيه التمثيل" او التشبيه التمثيلي وهو ما يطلق عليه الأوربيون في لغة الشعر allegory.
وأما دفاع إليوت شعراء القرن السابع عشر الإنجليز في استخدام الصور البلاغية على هذا المذهب، فقد جاء في مقال له معنون: (الشعراء الميتافيزيقون). ويعدون من بينهم: جون دون، وجورج هربرت، وهنري كنج، وتوماس كراو، وكاولي، واندرو مارفيل، وشكسبير (في سونيتاته) وميلتون وبن جونسون وغيرهم.
ولما كان هؤلاء الشعراء يستخدمون الرمز الأنثوي على طريقة الشعراء المتصوفة المسلمين للتعبير عن المعاني والمفاهيم المجردة مثل الحب والموت والخلود والخطيئة والمصير الإنساني إلخ.، أطلق النقاد الإنجليز على هؤلاء الشعراء: (الشعراء الميتافيزيقيون) Metaphysical Poets
ويعود أصل المصطلح إلى الشاعر الإيطالي فولفيو تيستي (1593-1646) والذي استعمل تعبير الشعر concetti metafisici (التخييل الرمزي الميتافيزيقي) لوصف أسلوب مدرسة (الأسلوب العذب الجديد) بزعامة دانتي بالمقارنة مع "بساطة الصورة الشعرية ومباشرتها في آداب اليونان والرومان الكلاسيكية". المقدمة ص v
ومن الخصائص التي يشير إليها النقاد لدى هؤلاء الشعراء توظيف الحكمة وضرب المثل الممزوج بروح الدعابة wit والتعابير اللاذعة والمفاجئة.
وأبرز ما يميز هؤلاء الشعراء، كما يقول إليوت، في مقاله هو "التوسع في استخدام المجاز لأقصى مدى". ويسوق مثالاً على ذلك بتشبيه الشاعر "كاولي" للعالم بقطعة شطرنج، وتشبيه الشاعر جون دون لعاشقين بشوكتي البوصلة، وتشبييه في قصيدة أخرى تكوير الدمعة في المآقي بالكرة الأرضية.
وكان الناقد الإنجليزي المعروف دكتور جونسون (1709-1784م) قد حاكم هؤلاء الشعراء بمعايير الأدب الكلاسيكي ووصف توسعهم في استخدام المجاز والصور البلاغية بأنه لا يعدو "أن يكون ربطا للأفكار المتنافرة عن طريق التلفيق المجازي". ص 60
فيرد إليوت على دكتور جونسون بالقول "إن التوحيد بين العناصر المتنافرة بإعمال مخيلة الشاعر من أولويات الصنعة الشعرية وشروطها المسبقة". ص60-61
بل أن إليوت يذهب إلى أن هذا الأسلوب هو الذي جعل لغة هولاء الشعراء تتسم بـ"البساطة الشديدة والنقاء، وهي بساطة حاول غيرهم من الشعراء تقليدها دون طائل". ص 65.
وهنا يقيم إليوت الوشائج بين الشعراء الميتافيزيقون وبين الشعراء التروبادور والشعراء الإيطاليين الأوائل ويقول إنهم "ليسوا أقل قامة من دانتي وجيدو وجينتشيلي وكافالانتي وتشينو". ص64
وهنا يضع إليوت يده على الحلقة التي تربط الشعر الأوربي الحديث بالشعر العربي، فهولاء الطليان الأوائل الذين ذكرهم، هم جماعة (الأسلوب العذب الجديد) والذين تأثروا بشعر الموشح والزجل الأندلسي، وبذلك يكون دفاعه عن أسلوب هؤلاء الشعراء هو دفاع غير مباشر عن مذهب العرب في الشعر.
بل يذهب إليوت في تفضيل هؤلاء الشعراء إلى حد الربط بين مذهبهم في الشعر ومذهب شعراء الرمزية في فرنسا: كوبيير ولافورج وبودلير وغيرهم، والذين أفاد هو شخصيا منهم في تجربته الحداثية في كتابة الشعر كما ذكر أكثر من مرة في مقالاته النقدية.
هذا، ويذكر (معجم أكسفورد في الأدب الإنجليزي) أن أسلوب الشعراء الميتافيزقيين قد هُجر بعد فترة إستعادة الملكية في بريطانيا (1660م) إذ ظهر شعراء وكتّاب من أمثال جون درايدن، وجون لوك، يفضلون الأسلوب المباشر في الكتابة ولا يحبذون التوسع استخدام المجاز والصور البلاغية.
غير أنه في أعقاب الحرب العالمية الأولى أعيد الاعتبار، كما يقول المعجم المذكور، إلى أولئك الشعراء ولطريقتهم في كتابة الشعر. وكان على رأس المنادين برد الاعتبار لهم الشاعر والناقد الشهير ت س إليوت. ويخلص معجم أكسفورد في الأدب الإنجليزي إلى أن اسلوب الشعراء الميتافيزيقيين، لما له من خصائص كالجدة المفرطة وصعوبة الفهم، وثيق الصلة بمذهب شعراء الحداثة من أمثال: عزرا باوند، وييتس، وإليوت نفسه". ص 318
هذا وكانت قصيدة To His Coy Mistress(إلى معشوقته الصدود) لأندرو مارفيل (أحد الشعراء الإنجليز) قد حظيت أكثر من غيرها باهتمام النقّاد. وقد شدّ انتباهم استخدام الشاعر لتشبيهات يرونها طريفة وغير مألوفة في الشعر الكلاسيكي (الإغريقي واللاتيني) ومن ذلك مثلاً وصفه نمو حبِّه لمعشوقته بـ"نـمو النبات" وازدهاره، وتشبيهه سرعة مرور الوقت بـ"العربة المجنّحة"، ووصفه للأبدية "برمال صحراء ممتدة بلا نهاية".
وكل هذه التشبيهات والمجازات البلاغية التي يرونها جديدة وطريفة مألوفة جدا لقارىء الشعر العربي، وربما لا يرى فيها جدة ولا طرافة تستحق الذكر. يقول أندرو مارفيل في قصيدة (إلى معشوقته الصدود):

Had we but World enough, and time,
This coyness, Lady, were no crime.
We would sit down, and think which way
To walk, and pass our long loves day.

But at my back I always hear
Times winged Chariot hurrying near;
And yonder all before us lie
Deserts of vast Eternity.

Your beauty shall no more be found;
Nor, in your marble vault, shall sound
My echoing song; then worms shall try
That long-preserved Virginity;
And your quaint Honour turn to dust;
And into ashes all my lust.
The grave is a fine place,
But none, I think, do there embrace.

قد أعجبإليوت بقول مارفيل:
"ولكني اسمع من ورائي دائما
عربة الزمن المجنحة تسرع في الإقتراب".
But at my back I always hear
Times winged Chariot hurrying near;
حتى أنه اقتبسه وتناصص معه في قصيدته الشهيرة (الأرض الخرب). وفي مقال نقدي عنوانه (أندرو مارفيل) يتوقف إليوت عند تشبيه "مارفيل" سرعة مرور الوقت بـ"العربة المجنّحة" ويعقد مقارنة نقدية بينه وبين أقوال لشاعرين من كبار شعراء الرومان "اللاتين" هما كاتولوس وهوراس. يقول هوراس في هذا المعنى:

"الموت يساوي بين الجميع
فهو يدق أبواب الفقراء
وقصور الأباطرة على السواء"

ويقول كاتولوس:
"إن ضياء الشيخوخة يخبو سريعا/ فالحياة ليل طويل كتب علينا أن ننامه".
ثم يخلص إليوت من هذه المقارنات إلى أنه مع أن قول "مارفيل" يقصر عن بلوغ الذبذبات الشعرية اللاتينية لقول كاتولوس غير أنه من المؤكد أن الصورة التي يرسمها أشمل وأنفذ من الصورة التي يرسمها هوراس" للموت. ت الجزء الأول ص 501
ولكن أين أقوال هؤلاء الشعراء اللاتين الثلاثة: هوارس وكاتلوس ومارفيل، في تصوير سلطان الزمن وسطوته وسرعة انقضاء العمر ولحظات اللذة من أقوال الشعراء العرب في هذه المعاني؟ خذ مثلاً أبي العلاء المعرىء:

وتأكلنـــا أيامُنـــا فكأنمــا تمرُ بنا الساعاتُ وهي أسودُ

وقوله:
صاح هذي قبورنا تملأ الرحبَ فأين القبــور مـــــن عهـد عاد
خــفف الوطء مـــــــا أظن أديم الأ رض مــــــن هـــــذه الأجــســاد
رب لحد قــد صــار لحداً مرارا ضاحــــــك مـــــــن تزاحم الأضداد
ودفيــن علـــــــى بــقايـــــــا دفيـــن مـــــن طـــــــويل الأزمـــان والآباد

وأين منه قول المتنبي:
ما دمتَ من أربِ الحسان فإنما رَوْقَ الشبابِ عليك ظلٌ زائلُ
للهــــوِ آونــــــــةٌ تـمــــــــــرُ كـأنــــــــها قُبــــــــــَلٌ يزِّودُها حـــــــبيبٌ راحـــلُ
جَمحَ الزمانُ فلا لذيذٌ خالصٌ مما يشــــــوبُ ولا سـرورٌ كاملُ

وقوله:
زودينا من حسنِ وجهِك ما دا مَ فحسنُ الوجوه حالٌ تحولُ
وصــلينا نصلك فــــي هذا الدَّنـ يــــــا فإنَّ المقـــامَ فيهـــــا قليــــــلُ
وقوله:
نصيبُك في حياتِك مِن حبيبٍ نصيبُك في منامِك مِن خيالِ
يــدفـنُ بعضنا بعضاً ويمشـــــي أواخــــرُنا علــــــى هامِ الأوالـــــي

وكان "جِبّ" قد وضع يده على هذه الحقيقة البعيدة المغزى والعميقة الدلالات، في سياق تمييزه بين الأدب الكلاسيكي (اليوناني والروماني) والأدب العربي من هذه الناحية.
فهو يرى أنه "إذا كان الأدب الكلاسيكي (اليوناني والروماني) قد حقق عظمته بالبساطة في التعبير والإيجاز وكبح جماح القلم. فإن الأدب الشرقي، نسيج محبوك باتقان من لغة بديعة ومن صور وأخيلة بعيدة المنال. وإذا كان الأدب الإغريقي يستميل العقول بجماله، فإن الأدب العربي والفارسي يروع الحواس بأخليته الغنية بظلالها وألوانها البلاغية الفاتنة"(24).
باختصار أراد جِبّ أن يقول إن الشعر العربي غني من حيث الصور الشعرية والأخيلة مقابل فقر شعر اليونان والرومان في هذه الناحية. ولكن المسألة في رأينا لا علاقة لها بـ"استمالة العقول" على حد تعبير جِبّ، بقدر ما لها علاقة بالفرق بين الذاتية والموضوعية في الأدب.
فالشعر العربي شعر ذاتي غنائي subjective من هنا كان تفوقه في التصوير البلاغي والأخيلة. وشعر اليونان والرومان شعر موضوعي objective (بحسب تصنيف الغربيين أنفسهم) لأن معالجة الأحداث والوقائع في الملحمة القصصية أو المسرحية الشعرية يتطلب النظرة الموضوعية واستخدام اللغة التقريرية والميل إلى المباشرة في التعبير.
هذا الفرق الذي أشار إليه "جب" هو في الحقيقة كان الدافع وراء إحداث الانقلاب في المزاج الأوربي الذي حدث في أواخر العصور الوسطى عند اتصاله بالأدب العربي. وكان هذا الإنقلاب كما يقول جب "مظهراً من مظاهر حركة فكرية عامة شملت تلك العصور".
فقد ضاق الناس، كما يقول، بالعقلية الدينية الضيقة التي فرضها عليهم رجال الكنيسة، "ولما لم يجدوا متسعاً فيما لديهم من الآداب اللاتينية لضيقها وجدبها وافتقارها إلى قوة الإبداع، كان لا بد لهم من أن يولوا وجوههم شطر جهة أخرى لعلهم أن يظفروا بما كانوا يرغبون فيه. ولقد كانوا إلى ذلك الحين يعترفون على مضض بتفوق العالم الإسلامي في الناحية الحربية فقط، ولكنهم ما لبثوا يومئذ أن لاحظوا في شيء من الخجل أنه يبزهم في الحياة العقلية أيضاً، بعد أن غمرهم فيض العلوم العربية مصحوبة بفيض الآثار الأدبية التي تغلغلت في جميع الآداب الأوربية الناهضة، فتمهد بذلك طريق الانقلاب الفكري الذي تمثل في عصر النهضة"(25).
واستمر هذا التغلغل حتى انبثاق الرومانتيكية التي انتظمت أوربا في أواخر القرن الثامن عشر. ولم تكن هذه الرومانتيكة الأوربية سوى استلهام وإحياء لروح الأدب العربي الغنائية الذاتية، وانقلاب وتمرد على الآداب الكلاسيكية (اليونانية والرومانية).
وكانت البداية ظهور شعراء التروبادور في أسبانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا بتأثير من شعر الموشح والزجل، ومن إرث التروبادور انبثقت قصيدة "السونيت" في إيطاليا وتحديداً في الجنوب الإيطالي في مدرسة صقلية الشعرية ثم مدرسة نابولي في الشعر، واللتين أفرزتا حركة شعرية سيكون لها أعظم الأثر في الشعر االأوربي الحديث، وهي عرفت في إيطاليا بشعراء (الأسلوب العذب الجديد) والتي تزعمها دانتي وبترارك.

مصادر ومراجع:
1- جِبّ، الأدب، من كتاب: تراث الإسلام، ترجمة لجنة الجامعيين، القاهرة، طبعة 1983، (صدر الكتاب بالإنجليزية سنة 1931 عن جامعة أكسفورد: Legacy of Islam، وشارك فيه عدد من المستشرقين، ونُقل إلى العربية في الطبعة الأولى سنة 1936 عن اللجنة الجامعية للتأليف والترجمة والنشر بالقاهرة. وأعاد المركز القومي للترجمة بالقاهرة طباعته سنة 2007).
2- كاتارينا مومزن، جوته والعالم العربي، ترجمة عدنان عباس، مراجعة د. عبد الغفار مكاوي، سلسلة عالم المعرفة، رقم 194، الكويت، فبراير 1995
3- عبد الغفار مكاوي، جوته: النور والفراشة- مع النص الكامل للديوان الشرقي للشاعر الغربي، ترجمة وتقديم، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2006.
4- المختار من نقد ت. س. إليوت، الجزء الثاني، اختيار وترجمة وتقديم: ماهر شفيق فريد، تصدير جابر عصفور، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000
5- Selected Prose of T.S.E, Edited by Frank Kermode, New York, 1975
6- The Metaphysical Poets, Wordsworth Poetry Library, 1995
7- Oxford Concise Companion to English Literature, 1990

abusara21@gmail.com

 

 

آراء