تقرير أمبيكي ورطة أم مخرج؟

 


 

عادل الباز
15 November, 2009

 

 

تعاملت الحكومة بحكمة مع مخرجات تقرير لجنة أمبيكي وفي تقديري السبب فى ذلك كما يقول دكتور خالد التجاني فى إيلافه الغرّاء (إنها لن تستطيع المغامرة برفض توصياتها المتعلقة بمسألة العدالة الجنائية، لأن ذلك سيشكل تهديداً جدياً لتماسك الموقف الأفريقي الداعم الرئيسي للخرطوم في أزمتها مع المحكمة الجنائية الدولية، كما أنها لن تجد مبررات موضوعية قوية لرفض مقترحات تقدمت بها شخصيات أفريقية ذات وزن معتبر، بناءً على تحقيقات معمقة قامت بها على الأرض، فضلاً عن أن الحكومة السودانية رحبت بمهمة لجنة الحكماء وسهلتها، مما لا يستقيم بعد ذلك التشكيك في نتائجها). وأضيف سببا آخر وهو أن التقرير أضعف دور المحكمة الجنائية الدولية حين تركها إليه تابعة للآليات الأخرى وليست أساسا للعدالة فى دارفور ولهذا السبب تم رفض التقرير من قبل كافة الحركات المسلحة التي لاتبدل المحكمة الدولية بأي بديل آخر محلي أو افريقي أو حتى مختلط.

التوصيات ذات الحساسية التي اقترحتها لجنة امبيكي هي تلك التي تتعلق بالعدالة فى دارفور. ولكن لجنة امبيكي صاغت مطلوبات العدالة بطريقة ذكية، وفتحت للحكومة أبوابا واسعة تستطيع أن تتخارج بها، على عكس ما يرى محللون كثيرون أنها أحكمت الطوق على رقبة الحكومة كما سنوضح.

أقرّت التوصيات خارطة طريق للعدالة والمصالحة فى دارفور كحزمة واحدة ووصفة لاتقبل التجزئة وهذا جزء من إبداع التوصيات. أكدت اللجنة (أن تقديم العدالة وتعزيز المصالحة وتشجيع الانتعاش ومعالجة المعاناة التي تحملها أهل دارفور تتطلب مدخلاً شاملاً وموحداً ومنهجياً وإبداعياً راكزاً داخل النظام القانوني لجمهورية السودان، ومأخوذاً من تنوع الموروث القانوني للبلاد ومن قيمها وواجباتها الدستورية بموجب القانون الدولي. ويتطلب أيضاً دعم النظام الماثل بآليات جديدة تشمل ديواناً جنائياً خاصاً بحيث يكون محكمة مختلطة تعتمد على خبرة قضاة مؤهلين ولائقين من خارج السودان. وكما أسلفت الإشارة فإنه لم يكن سهلاً ولا مرغوباً أن تنشئ حاجزاً بين أهداف العدالة من ناحية والمصالحة من ناحية أخرى. فاللجنة بربطها العدالة بالمصالحة تضع مقترحات لتعزيز آفاق المصالحة لكيما تكمل المبادرات المتعلقة بالعدالة، وليس هذا عوضاً عن الإجراءات القانونية القادرة على الاستجابة للاحتياجات القانونية الملحَّة والمعقدة في دارفور. والمصالحة نفسها ليست ذات جدوى بدون الإرادة السياسية لخلق بيئة مساعدة للسلام والأمن والإنعاش الاقتصادي عاكسةً مرة أخرى الارتباطات المتداخلة بين السلام والعدالة والتنمية والمصالحة). قبل الاستمرار فى استعراض الصيغ التي طرحتها لجنة امبيكي لتحقيق العدالة نود أن نلفت الانتباه لنقطة حساسة (ويتطلب أيضاً دعم النظام الماثل بآليات جديدة تشمل ديواناً جنائياً خاصاً بحيث يكون محكمة مختلطة تعتمد على خبرة قضاة مؤهلين ولائقين من خارج السودان). مسألة المحكمة المختلطة رفضتها الحكومة من قبل باعتبار أنها تطعن فى نزاهة القضاء السوداني ولذا فإن لجنة امبيكي تعاملت بذكاء لتتخارج من هذه الورطة التي من الممكن أن تنسف جهودها تماما وسنرى.

 لجنة امبيكي فصلت واجبات ومهام وكيفية تشكل المحكمة المختلطة بقولها (يجب على حكومة السودان لكيما تقوم بتسهيل تأسيس محكمة مختلطة أن تتخذ خطوات فورية لإدخال تشريع يسمح قانونياً للمؤهلين من غير القوميين بالخدمة بالجهاز القضائي السوداني (راجع الجزء 23 من قانون الجهاز القضائي القومي لعام 1986م). ففي هذا الصدد تلاحظ اللجنة أن دستور السودان لا يمنع غير السودانيين من التعيين في الجهاز القضائي السوداني، ولذا فهو ليس في حاجة للتعديل. وتتكون المحكمة المختلطة المقترحة من نيابة جنائية مختلطة تتكون من لجان أفرادها مؤهلون تأهيلاً رفيعاً، ولائقون بدرجة عالية من السودانيين والقوميات الأخرى. وسيقترح الاتحاد الإفريقي صيغة تعيين غير السودانيين وصيغة إنشاء اللجان القضائية للمحكمة المختلطة وكذلك نشر الدعم القضائي ودعم التحقيقات. ويجب أن تؤيد المحكمة المختلطة بوظائف ادّعاء وتحقيق وتسجيل مكرسة، وتضم إلى الأفراد السودانيين المؤهلين، هيئة قضائية متشابهة في الأقدمية والأدوار يقوم بتعيينها الاتحاد الإفريقي لتعمل في الوظائف الرئيسة للمحكمة. وكما أشير أدناه فإن الاتحاد الإفريقي سيتشاور في إجراء هذه التعيينات للحصول على توصيات بشأن المرشحين. ويجب أن تعمل المحكمة المختلطة في إطار نظام العدالة الجنائي القومي للسودان ونظام الاستجابة للعدالة والمصالحة لدارفور على وجه الخصوص، وتكون وظائفه إضافية ومرتبطة بنظام المحاكم الخاصة التي نوقشت في هذا التقرير. ويجب على حكومة السودان لكيما تدعم عمل المحاكم الخاصة عبر ولايات دارفور الثلاث أن تنشئ جهازاً للإشراف على التحقيقات الشاملة المرتبطة بمجمل الصراع في دارفور وتنسيق هذه التحقيقات. وهذه الوظيفة ضرورية لتجنب ازدواج التحقيقات ولإقرار هيكل يمكن به اتخاذ قرارات حول العمليات والإجراءات التي يمكن أن يخضع لها الفرد ولضمان تنسيق التقاليد الجارية. ويجب أن تعكس التحقيقات الشكل الكامل للجرائم والانتهاكات التي ارتُكبت أثناء الصراع في دارفور، ويجب أن تولي اهتماماً بالجرائم الجنسية. ويجب أن ينتدب الاتحاد الإفريقي لجهاز التحقيقات أشخاصاً يعملون بجانب السودانيين لتقديم المهارات الضرورية للتحقيق في الجرائم الدولية، ومقاضاتها وخاصة بالنسبة للجرائم الجنسية. ويجب على الاتحاد الإفريقي بالتعاون مع حكومة السودان أن ينتدب القانونيين أو القضاة ليجلسوا على المحاكم الخاصة، إما باعتبارهم مراقبين أو أعضاء في المقعد القضائي حسب مقتضى الحال. ويجب أن يكون الاتحاد الإفريقي مسؤولاً عن تدشين هذه العملية والإشراف عليها. ويجب أن تحدد الوظائف المعينة للمراقبين والموظفين المنتدبين لدعم المحاكم الخاصة من خلال التشاور بين الاتحاد الإفريقي وحكومة السودان. ويجب أن يطلب من المراقبين والموظفين أن يقدموا تقارير منتظمة للاتحاد الإفريقي وحكومة السودان)

هنا بيت القصيد والمخرج للحكومة السودانية من ورطتها. فبإمكانها أن تقبل قضاة غير سودانيين يعملون كمراقبين في المحاكم الخاصة، وهو ما لايحرمه دستور السودان، كما لاحظت اللجنة. بمعنى آخر ان لجنة امبيكي لم تصر على محاكمة المتهمين السودانيين على أيدي قضاة من خارج السودان. ويمكن بعد تكوين الآلية الخاصة بتنفيذ توصيات لجنة امبيكي أن يتم الاتفاق على ذلك وهو ماقصده الأستاذ علي عثمان فى خطابه أمس الأول إذ أشار فى معرض تعليقه على تقرير امبيكي (إن مارود فى التقرير من آلية عدلية جديدة تتمثل في المحاكم المختلطة يقتضي تعريفا دقيقا وشافيا لمدى توافق مبدأ تكوينها مع الدستور ومع استقلالية القضاء ولاختصاصاتها ولمعرفة طرائق عملها، وهذا يتطلب تعاونا وثيقا بيننا وبين الآلية التي نوصي بأن ينشئها الاتحاد الافريقي).

 كيف تعاملت لجنة امبيكي مع موضوع المحكمة الجنائية الدولية؟ تقرير اللجنة أضعف دور المحكمة الجنائية الدولية حين عرفها (هي محكمة اللجوء الأخير وهي تكمِّل الأنظمة القضائية القومية، وهي أيضاً محكمة ذات أهلية محدودة. وهذا يعني أنها حتى عندما تنشر مصادرها الكاملة فهي يمكن أن تتعامل فقط مع أشخاص قليلين خارج أي وضعٍ تفهم منه. ويترتب على ذلك أنه حيثما تم ارتكاب جرائم واسعة النطاق فإن الأغلبية الغالبة من القضايا الجنائية يجب أن يتم التعامل معها بواسطة النظام القضائي القومي. وهذا ببساطة انعكاس للتقييدات الوظيفية للمحكمة الجنائية الدولية. ومن المهم أن يدرك كل ذوي الشأن المعنيين هذه الحقيقة، وأن يركِّزوا بالتالي على أهمية تعزيز الأنظمة القانونية القومية، فمبدأ النظام التكميلي تحت قانون روما يعطي في أية حالة الأسبقية للأنظمة القومية، حتى ولو أحيلت القضية بواسطة مجلس الأمن. وهذا يعني أن المحكمة الجنائية الدولية مرغمة على أن تأخذ في الاعتبار أن الدولة المعنية قد اتخذت ــ أو تتخذ ــ الإجراءات العدلية الفاعلة للتعامل مع الجرائم ذات الصلة. وتكون أية إجراءاتٍ موثوقة تم تبنيها في نظامٍ قضائي قومي محلَّ اهتمامٍ لمجلس الأمن في التوصل إلى أي قرارات تتعلق بالوضع في دارفور وفي السودان بصورة عامة. ويجب أن يكون دور العدالة الدولية بشكلٍ أعم حول جدول أعمال الاتفاقية السياسية الشاملة.)

ببساطة هذا الحديث يعني أن المتهمين بإمكانهم الإفلات من حبل المحكمة الجنائية الدولية والخضوع للمحاكم المختلطة داخل السودان وهي المطالب التي ظلت الحكومة ترددها، ولكن لم تتقدم خطوة باتجاه إنفاذ تحقيق العدالة بالداخل.

 

أمس الأول كان الاستاذ علي عثمان موفقاً وهو يعرض موقفاً متماسكاً وذكياً للحكومة السودانية التي عودتنا الهياج وتوتير الأعصاب دونما داعي. من ذكاء خطاب علي عثمان هي محاولته وصف مخرجات التقرير بتأكيده أن مخرجاته توصيات وليست قرارت (شتان بين الاثنين) واللمحة الذكية الثانية هي إشادته بتوصيات اللجنة لانها استندت على تشخيص فاحص ودقيق لتاريخ المشكلة وأن الحكومة تتفق تماماً مع ذلك التشخيص. الشئ الذي يعطي مؤشراً للتعامل المستقبلي مع تقرير اللجنة ويطمئن الاتحاد الافريقي. واللمحة الثالثة انه اقترح آلية وجمل حيثياتها وأشار من طرف خفي ما يكمن ان يحدث في القارة اذا ما حدث مثل ما حدث في السودان قائلاً (لا بد أن نتذكر أن إنشاء مثل هذه المحاكم يهمنا جميعاً كأفارقة لأنه يؤسس سابقة يبنى عليها في المستقبل في حالات أخرى في افريقيا).

على الحكومة الآن وقد هيأ لها الله مخرجاً كريماً ما كانت لتجده بالهين أن تسعى بجد للتعامل مع توصيات لجنة امبيكي وخاصة أن أمامها شهر واحد يصعد بعده اوكامبو مرة أخرى لمنصة مجلس الأمن ليطلب تنفيذ قراراته. إذا جدت الحكومة في التفاعل والتعامل مع اللجنة أو الآلية التي سينشئها الاتحاد الافريقي فإن الأفارقة سيكونون اكثر جراءة في الدفاع عن موقف السودان وسيضعف منطق اوكامبو والدول التي من خلفه ولن يستطيع أن يتقدم خطوة واحدة باتجاه دعوة مجلس الأمن لمعاقبة السودان بسبب عدم تعاونه لانفاذ قرارات المحكمة الجنائية. ولحسن حظ السودان فبجانب وقوف الكتلة الافريقية الى جانبه سيحظى بدعم روسيا والصين ثم الكتلة العربية والإسلامية وخاصة اذا ما تم الدفع بتقرير غولدستون لمنصة مجلس الأمن فستجد امريكا نفسها في ورطة إذ لن تستطع محاصرة السودان والدفاع عن إسرائيل في ذات الوقت بسبب تطابق التهم الموجهة لكليهما جرائم حرب!!.

 

آراء