(1) كتبنا في مقالٍ سابق* عن التحوّل الكبير الذي طرأ على التغيُّر في زمن التأثير الثقافي وحدّته، وقد فصّلنا في باب التحرّك النسوي العالمي في قسمٍ منها تناولَ "قضيّة نورا"، ونقول أنّ التغيُّر في التأثير قد أنتج واحدة من أقوى الحركات العالميَّة المُتوحّدة، بوعيٍ أو بغيره، ضدَّ ما ظلَّ واضحاً للعيان: ظُلماً ممنهجاً، مدروساً، مُنظَّراً له، بل هو حقٌّ ومُقدَّس. وبغض النظر عن الاختلافات ما بين البشر في جميع بلدان العالم، إلا أن فئة النساء ظلَّت تعاني الأمرّين في عالم الرجال بكلّ جنونه وعبثه ولا معقوليّته في التعذيب، حدَّ أصبح جحيمُ الكتب المقدَّسة كقطعةٍ بائسةٍ من جنَّة.
(2) الوعي بكل هذه المظالم قديمٌ جدّاً، ابتدائي، والمقاومة النسائيّة، فرديّة وجماعية، لم تتوقّف إذ، بطبيعة الحال، لا مُعلِّمَ أعلى شأناً من الألم. ولكن مع "الاتصال الشعبي العالمي" الحادث بسبب الانتقال إلى مراحل الهاتف الذكي رخيص الثمن، مُتاح للكلّ تقريباً، والفرديّ؛ فإن التضامن الواسع ما بينهنَّ، في كلّ زمانٍ ومكان، أمرٌ بديهيٌّ كذلك، الأكثر معقوليّة وقبولاً للمنطق وسير التاريخ هو الهستيريا الجماعية الحادثة لأهل العالم القديم، وهم لا يزالون يعتقدون بتحقّق عالمهم في الواقع بمجرّد إيمانٍ ساذج بمؤسسات لم تعد تملك سلطةً أبداً، حتَّى أن أسلحتها الفتّاكة والعنيفة المتمثّلة في أقصى مؤسسات الرعب البائدة –الدولة- لم تعد تُجدي نفعاً أمام الوعي المُتصاعد في عروق الأجيال المتلاحقة في بحثها ومعرفتها بذات سرعة التغيّر في "الزمن الثقافي".
(3) بذلك، لا يمكن للحركة النسويّة العالميّة، بمختلف طبقاتها واختلافاتها الفكريّة والثقافيّة، إلا وأن تكون حركةً راديكاليَّة عنيفة، وفي العُنف أستبعد العنف الجسدي المادّي تماماً، إذ كما هي جميع الحركات النابعة من الوعي العالمي الجديد تُدركُ مدى قوَّة سلاح السِّلم والحريَّة بطبيعة تكوينها وفهمها لمدى فداحة جنون العالم الماضي/البائد، وأن مقاومته لا يمكن أن تكون بذات أسلحة مؤسساته، إذ أن الهدف هو تدميرها، وأثناء هذه الراديكاليّة العنيفة أنا شايف –كرجال- نَعمَل ساتر ونسَردِب.
(4) لماذا لم أقل نُقاوم معهنَّ؟ حسنٌ، لا خيار لي في كوني رجل، لذلك فإنني لم أشعر بأية إهانة عند قراءة ورؤية عارنا –كجنسٍ بغيضٍ إلى الآن- يُعَرَّى على الملأ. لماذا؟ لأننا لن نَفهم أبداً ما الذي يعنيه أن تكون امرأة في أي عالمٍ من عوالمنا، تماماً كما لن نفهم ما الذي يعنيه أن تُولد مُشرَّداً، مَجدوعاً وسط حروبٍ واغتصاباتٍ ونزوح، لكن يُمكننا أن نتضامن ونسير من خلفهنَّ، وأن ندعوا للاستماع إليهنَّ بإذاعة الصوت، مكتوباً مرسوماً ملوّناً مُغَنِّياً ومُسَجَّلاً مرئيّاً. في كتابتها "النضال ذكوري"**، تُشير نجلاء إلى غياب صوت العارف الأعمق بالحرب، صوت النساء الذي لم يُسمع من قبل إلا في حالاتٍ نادرة وفرديّة تُستعاد في عالمنا اليوم من خلال الكتب والأفلام والآداب والأعمال الفنيّة، وعندما وَجَدت جميع الأصوات المُخمدة في الماضي فرصةً للالتحام عمَّ الفزعُ العالم القديم المُتهاوي، وتدافع منقذوه السُذَّج للدخول كالخراف في حربٍ خاسرةٍ سلفاً. وأشارت إلا أن معركة الوعي في نضالنا الوطني هي معركة وعي يخوضها الجسد، كذلك فهو حال النضال العالمي، إذ أن العالم القديم يُؤمن بقوّته وسلطته فقط بتهديد الجسد واستخدامه للألم والقتل كأسلحة أساسيّة لضمان ديمومته، لذلك فالجسد هو أول من سيخوض المعركة.
(5) تقول نجلاء: [النضال الوطني معركة وعي يخوضها الجسد. علمتنا المشانق هذه الحكمة. لن تجدها مكتوبة على شاهد قبر الأستاذ محمود محمد طه، الذي لا قبر له. إنها معرفة تسطع على الشيوع من أعين الشهداء. من وسامتهم التي لا تصدق، كل شيء يثرثر بالألم، لكن ما كل هذا الصمود؟ في معركة العدالة الاجتماعية تزاحمت وجوه الرجال، بعضها مكشوف وبعضها ملثم، وفي احتدام الصدام تقطرت خلاصات ظلت تتراكم جيلاً بعد آخر. ميزان النضال فيه تدرجات لكنه يبدأ من الوعي ويمر بالجسد الذي ينتهي بنا دائماً إلى درجة سديدة من الفحولة. وفي مفرزة دقيقة خطرة تم إسقاط الكدح لصالح المصادمة في بناء قيم النضال، حتى كاد طلب العدل فيها يتطابق مع الرجولة. بينما أُسقطت المقاومة الصامتة الرهيبة التي قادتها النساء، أُسقط الكدح المتلهوج الفتان الذي سعت به أقدام النساء في كل مكان في السودان، من أجل حياة يجب أن تستمر بأي ثمن. مقاومة لا تمنح النساء خيار التنازل أو الخيانة أو التراجع. إنه قدر لا فكاك منه. قد يقول قائل بالفرق بين المقاومة والمعاناة، ويشترط الوعي في الأولى ويسقطه في الثانية. لكن من يستطيع الركون إلى افتقار النساء إلى الوعي السياسي؟ في أكثر من مكان وفي غير مرة يتفق المحللون السياسيون أن المرأة هي الأكثر تأثراً، هي الضحية الأولى للنزاعات بأشكالها المختلفة. لكن لا أحد يذهب إلى النتيجة المنطقية التي تنطوي عليها هذه الملاحظة العامة: الأكثر تأثراً هو الأكثر إدراكاً لوضعه. فمكان الضحية مكان عمرته المعرفة المباشرة والاقتراب الأخطر من الخطر. ربما نحاول تصور الألم الذي تتعرض له الضحية، لكن، لأننا في مكان الامتياز، يعز علينا التفكير أن الضحية تفكر، تتعلم من آلامها، وأن تلك المعرفة ليست متاحة لنا إلا عبر الضحية نفسها. ما الذي تعلمته النساء المغتصبات في دارفور حول كونهن نساء ينتمين إلى جماعة همشها العقل الإسلاموي العروبي وتوالت عليها نكبات الطبيعة؟ ما هي الحوارات والتساؤلات والخلاصات التي تناهبت عقولهن؟ كيف يفكرن الآن في الأنوثة وفي الذكورة؟ هل يتعاطفن مع بعضهن وهل يحمل ذلك التعاطف أي معنى سياسي؟ لقد تغيرت الضحية بفعل المجرم، وهذه هي نقطة تفوقها عليه، لأن المجرم حين يستطيع اغتصاب امرأة يمكنه اغتصاب العشرات دون أن يحدث ذلك تراكماً معرفياً أو تحولاً وجودياً لديه، والإشراق الوحيد الذي قد يحظى به هو انعتاق جزئي شرير من احتقار النفس حين ينغمس كلياً في فعل إجرامي آخر. لكن، تغيرت الضحية، من امرأة إلى امرأة مغتصبة، يا إلهي! ما الذي يعنيه ذلك حقاً؟ ماذا تفعل رائحة المغتصب الدائمة في وعي المرأة السياسي؟ هذه هي المعرفة التي تحتكرها الضحية، وما يتوجب على السياسيين فعله هو التنحي قليلاً والإصغاء لأن الضحية ستقول الأشياء التي لا نعرفها وستقولها بطريقة لا نعرفها. ينطبق ذلك على كل الظلامات الأخرى التي تتعرض لها النساء لأنهن نساء. وحين نفكر فعلياً في مقدار جهلنا بواقع الأمور يجب أن نفكر في ما يحتجب طي صمت نساء السودان].
(6) أقول إن الرعب يكمن في مشاركة المرأة الفعَّالة في القضايا العامّة قبل أن تبدأ معركتها أصلاً، ففي الثورات التي عمَّت العالم مع الاتصال المريع الذي تحدّثنا عنه، كانت النساء دائماً في المقدّمة، تماماً كما حدث لدينا في ثورة ديسمبر المجيدة، وبإزالتهنَّ للظلم العام، وبروزهنّ كأيقونة ثوريّة باهرة الشجاعة والإقدام بأشدّ من الرجال، أصبحت المطالبة اللاحقة بحقوقهنّ مُقلقةً ومُرعبة، إذ يستند العالم القديم عامّةً على عبوديّات مُنظَّمة، وبانهيار أعمدتها ينهار هو ذاته، ومن هذه العبوديّات، بأكثر من الإفقار واستغلال الإنسان بجنسيه، عبوديّة النساء داخل الجحيم؛ فبينما يتشاركنَ الفقر مع الرجال، يُواجهنَ، لوحدهنّ، آثاره الجذريّة حتّى في حريّتهنّ. من الطبيعي أن تتزايد معدّلات العنف ضدَّ النساء والشباب، الفئات الأعلى صوتاً في الثورات، وفرفرات العالم القديم الذبيحة المُتجسِّدة في المُطالبة اليائسة -حدَّ العنف- باستعادة وجود سلطات المؤسسات المُنهارة داخليّاً، والمُزركشة خارجيَّاً بيونيفورمات لم تعد تُرهب أحداً، وتراتبيّات إداريّة واجتماعيّة وطبقيّة لن تمنع تضامن المسحوقين.
(7) ما الذي أتى بنا هنا سوى قضيَّة الطفلة سماح؟. أريد أن أقول أن هيستيريا وصراخ العالم القديم هو دليلُ عافية، وأختم بتعليقي على القانون السوداني وقتها (2018م) إبّان حدوث قضيّة نورا: [لقد أصبح القانون الآن ضدَّ الثقافة العالميّة السائدة، ثقافة عاصفة اكتسحت ومحقت الفروقات الثقافيّة التي تُبرِّر مثل هذه الأفعال: الاغتصاب. فهل نحن أمام "ثورة فكريّة" ذات طابع راديكالي عنيف؟ ولكن أين العنف؟ داخل اللغة كثيراً، والتعاضد العالمي، ونقل المعركة إلى المجتمع بدلاً عن الحكومة. الآن نورا لا تواجه سلطةً ولا نخبة، إنها تواجه مجتمعاً كاملاً. وبما أن معاناة المرأة عالميّة بامتياز، لذلك كان بروز زمنها الثقافي الجديد أسرع من بقيّة الفئات المضطهدة في الحروب والمجاعات التي تتحكم فيها السياسات الدوليّة وتحالفات الحروب ومصانع الأسلحة، ولا يملكون من أمرهم شيئاً. فرغم معاناتها في الحروب، استطاعت النساء من حول العالم أن يبدأنَ المعارك في كل مكان وبشجاعةٍ فائقة، إذ إن فئة النساء، وبنهضتها وتحرّرها، تعتبر الخطوة الأهم والأجدر في أي عمليّة تثويرٍ فكريٍّ اجتماعيٍّ عام، متوحّدٍ عالمياً]. يظلّ عنف الحركة النسويَّة لغويّاً دائماً، ومواجهة سلاحٍ فتّاكٍ كاللغة –بكلّ مستوياتها- وبأحقيّة مطالباتها لا يُجدي إلا من خلال العنف الجسدي، لذلك فمن الطبيعي أن يتّجه الجبان إلى الجلد بالسوط والهروب، كما تتكشّف أجهزة الدولة عن حقيقة عجزها في المواجهة من خلال الحنين لأزمنة الرعب والعنف. ---- هوامش: * الزمن الثقافي والأعين المُشعّة: ديباجة خياليَّة حول الثورة، مأمون التلب، مجلة الحداثة السودانية مايو 2018: http://teenia.blogspot.com/2021/03/blog-post_25.html ** النضال ذكوري، نجلاء عثمان التوم