تنمية الجنوب بين الشعارات والتطبيق …. بقلم: د. حسن بشير محمد نور – الخرطوم
استفاقت النخب السياسية الشمالية في الحكومة والمعارضة علي استحقاق الاستفتاء الذي كانت تنظر اليه كخيال او كشبح لا وجود له وانما يستخدم فقط للتخويف. في هذا الواقع اصبحت الحكومة تتحدث عن تنمية للجنوب بمليارات الدولارات اما المعارضة فتنشط في التحضير لمؤتمر جامع (الأفضل تسميته مؤتمر العصا السحرية) يخرج بقرارات غير قابلة للتطبيق. عدم القابلية في تطبيق قرارات مؤتمر المعارضة ناتجة عن عدم قدرتها علي القيام باي فعل في الجنوب لعدم وجودها الطبيعي هناك، كما ان قرار الاستفتاء لا يقع تحت سيطرتها ولا سيطرة الحكومة حتي، اما مشكلة الغلاء وارتفاع الأسعار وتدهور مستويات المعيشة فأمرها بيد الحكومة ، التي غلبت المعارضة حيلة في التأثير عليها بأي شكل من الأشكال وفي النهاية اكتفت بالتفرج او الشجب والإدانة. عجز النخب الشمالية حيال ما يجري في الجنوب أسبابه قديمة. منذ فجر الاستقلال لم ترغب العديد من الأحزاب الشمالية، خاصة التقليدية في انتهاج سياسات جاذبة للجنوبيين لكي ينضموا اليها ويصبحوا شركاء. تم الاكتفاء بإشراك الجنوبيين في الحكومات المتعاقبة، عسكرية او مدنية بشكل رمزي وفي حقائب هامشية. اما السياسات والدساتير والقوانين فلم ترقي في يوم من الأيام الي مستوي دولة جامعة للأديان والثقافات والأعراق ، فظلت تفصل علي قياس الواقع الشمالي بتوجهاته العربية – الإسلامية. بعض المحاولات الجادة تمت من قبل الحزب الشيوعي السوداني لاختراق الواقع الجنوبي واستقطاب جزء من النخب الجنوبية لعضويته. نجح الحزب الي حد كبير في هذا الهدف عندما كان في عصره الذهبي، حتي بداية سبعينيات القرن الماضي، فانضمت شخصية فذة مثل رجل القانون والسياسي الضليع جوزيف قرنق الذي كانت له إسهامات مهمة ليس علي مستوي حزبه او الحكومة التي انضم إليها بعد انقلاب مايو 1969م و إنما أيضا علي مستوي حل مشكلة الجنوب بشكل مرضي وفعال. حال تراجع نظام نميري عن خطه التقدمي الي ضياع تلك الفرصة وكانت الضربة القاصمة للحزب الشيوعي اثر المحاولة الانقلابية الفاشلة (او الحركة التصحيحية كما سميت من منفذيها) التي تمت في يوليو 1971م والتي تم علي أثرها الغدر بجوزيف قرنق واغتياله بشكل مجرم دون ذنب له، بعد ذلك تراجع وجود الحزب الشيوعي ونفوذه في الجنوب الي أن امتصت الحركة الشعبية بقايا اليسار في الجنوب الا قليلا. بالنسبة للأحزاب اليسارية ذات التوجهات القومية العربية فقد كانت بعيدة تماما عن الواقع الجنوبي. فيما يتعلق بمكونات الحركة الإسلامية المختلفة وعلي رأسها الإخوان المسلمين بمختلف مسمياتهم فلم تكن تستطيع استقطاب أي جنوبي، قبل وصولها الي السلطة الا إذا كان مسلما ، وبالتالي فهي تسعي وبالضرورة لاسلمة الجنوب او اكبر قدر منه او ربما إخضاعه كتابع لسلطة الدستور الإسلامي الذي كانت تسعي لتحقيقه في الواقع السوداني المضطرب. عند وصول الإسلاميين الي السلطة تم إشراك الجنوبيين وفتح المجال لهم لعضوية المؤتمر الوطني الذي تم تأسيسه كحزب حاكم قوامه الأساسي وقلبه المحرك هو نفس التنظيم الخاص بغالبية الحركة الإسلامية السودانية.
في الواقع أعلاه لم تكن تنمية الجنوب من القضايا المهمة التي تستحق الاهتمام وإنما الانتصار في الحرب، التي كانت مشتعلة لسنوات طويلة ، شكل الأولوية القصوى لحكومات السودان المدنية والعسكرية. عندما تم توقيع اتفاقية أديس أبابا في أوائل سبعينيات القرن الماضي وبالتحديد علي اثر تداعيات انقلاب يوليو 1971م التي تبعها التوجه الغربي لنظام نميري قبل ان يصل الي قوانين سبتمبر1983م ، لم يكن من أهدافها قسمة عادلة للثروة والسلطة كما حدث في نيفاشا ولذلك السبب ضاعت فرص التنمية للجنوب وسط البحث عن امتيازات خاصة بين النخب الجنوبية المنتمية للجهات المشاركة في الاتفاقية. جل ما حصل عليه الجنوبيين كان مناصب رفيعة في حكومة نميري قبل ان تتملص من عهودها وترتد عن ما تعاقدت عليه مع الجنوبيين فكان ان اندلعت شرارة تمرد جديد. انضم بعد 1983م الدكتور الراحل جون قرنق فكان ان تطورت الحركة الشعبية والجيش الشعبي ووصلت الي ما هي عليه اليوم ، مسيطرة بشكل كبير علي الجنوب تاركة جزء منه لحركات ومليشيات مسلحة بعضها قبلي بحت وبعضها الأخر متمرد علي حركته إلام.
في هذا المشهد ظلت تنمية الجنوب مجرد شعارات ترفع ولكنها لم تطبق في الواقع والشواهد علي ذلك كثيرة. السبب الرئيسي لانحصار تنمية الجنوب في الشعارات هو غياب السياسات التنموية في السودان بشكل عام والموجهة نحو الجنوب بشكل خاص. المقصود بذلك الغياب هو عدم وجود سياسات اقتصادية كلية منهجية. غاب الجانب المعياري في التنمية وهو ذلك المعتمد علي كيفية تصرف متخذ القرار لمهامه. تلك المهام تشتمل في الفكر الاقتصادي علي عدة عناصر منها : تحديد الأهداف؛ تحديد أدوات السياسة المتاحة؛ ان يتم ربط الأدوات بالأهداف ؛ ومن أهم أهداف تلك السياسة في جانبها التطبيقي السيطرة علي معدلات التضخم وحصرها عند رقم صفري مما يساعد في تحقيق نمو حقيقي ويؤدي الي خلق فرص مستمرة للعمالة. هذا الهدف مهم في السيطرة علي ارتفاع معدلات الفقر وتدهور المستوي المعيشي لغالبية السكان. تاتي بعد ذلك السياسات الاقتصادية الواقعية التي تهتم بالسلوك الفعلي لمتخذي القرار ، وبما ان متخذي القرار علي درجة من التفاوت والاختلاف فلابد من وجود منهجية ما لتنسيق آليات اتخاذ القرارات الخاصة بالسياسة الاقتصادية. هذا الامر لم يحدث في السودان منذ الاستقلال والي يومنا هذا. السبب يكمن في عدم استقرار النظام السياسي في السودان ما بين حكومات ديمقراطية غير متجانسة وبين حكومات عسكرية وعسكرية -عقائدية تغير سياساتها بشكل مستمر وصولا الي النظام الذي أرسته نيفاشا بوجود شريكين متناحرين لم يتوافقا في شيء تقريبا.
اذا تم الاحتكام علي أي منهجية لتقييم السياسات الاقتصادية المتبعة في السودان سواء ان كانت في السياسات التقليدية للدول النامية والتي تتبع لمحددات صندوق النقد الدولي في الجوانب النقدية والبرمجة المالية او السياسات التي تفرضها شروط البنك الدولي ولاحقا منظمة التجارة العالمية او حتي سياسات الشراكة الإقليمية والدولية فسنجد ان حصيلة تلك السياسات فيما يتعلق بتحقيق التنمية الاقتصادية و الاجتماعية كان ضعيفا ولا يرتقي الي ما يتناسب مع الموارد المادية والبشرية المتوفرة للسودان. ينطبق ضعف الحصيلة التطبيقية للسياسات الاقتصادية علي مؤشرات التنمية البشرية والتنمية في قطاعي الزراعة والصناعة. انعكس ذلك الواقع علي الجنوب بشكل مأساوي فظل يعاني من انهيار البنيات التحتية والمقومات الحياتية الحديثة وغياب أساليب الإنتاج المتبعة حتي في الدول النامية علي المستوي الإقليمي وكذلك مقارنة بأساليب الإنتاج المتبعة في المشروعات المنظمة في شمال السودان. هذا الواقع كان يتطلب من شريكي نيفاشا إيجاد الصيغ المناسبة للتعاون بينهما لإحداث تنمية حقيقية في الجنوب حسب ما نصت عليه اتفاقية قسمة الثروة. كما كان يتطلب من أحزاب المعارضة الشمالية توفيق أوضاعها مع اتفاقيات السلام للمشاركة في تقرير مصير الوطن. يتطلب ذلك تغير عقائدها وبرامجها السياسية ووضع معايير جديدة للدولة السودانية تمكن من تحقيق الوحدة في واقع جديد، بحكم ان جميع الدلائل والمؤشرات قد أثبتت بما لا يدع مجالا للشك ان الواقع القديم لم يعد مقبولا ، ليس للجنوبيين فحسب و إنما لعدد كبير من المكونات السودانية في مختلف ربوع البلاد. لم يحدث شيء من ذلك لا علي مستوي الحكم بشريكيه ولا علي مستوي المعارضة التي ظلت مخنوقة عاجزة عن التنفس بشكل طبيعي الي حين موعد الاستفتاء الذي سيقرر مصير السودان. يبدو ان القطار قد تجاوز محطة التوافق علي سياسات اقتصادية تحقق مستوي من التنمية يسمح بتحقيق الوحدة المنشودة القائمة علي العدالة والمساواة وكفالة الحقوق. اذا استطاعت أي جهة ان تقوم بجهود خارقة لتحقيق أهداف تنموية جاذبة للوحدة، بشكل يحقق تنمية فعلية، بعيدا عن الشعارات ومنهجية مضيعة الوقت المتبعة في السودان في الوقت المتبقي للاستفتاء، فلتفعل ذلك باقصي سرعة ممكنة. لكن يبدو ان تلك الجهة تحتاج لسرعة مساوية لسرعة الضوء حتي تنجز المهام اللازمة للوحدة في المساحة الضوئية المتبقية. المحبط في الأمر ان التخلي عن شعارات الوحدة في الشمال والجنوب يقود مباشرة لقرع طبول الحرب وتجييش الجيوش الخاصة بالمؤتمر الوطني والحركة الشعبية وهذا امر بالغ الخطورة في الواقع السوداني الحالي الذي يشهد توترات وبؤر للصراع لا حصر لها. في مثل هذا الواقع الحكمة تتطلب استدعاء نماذج السياسات الاقتصادية الداعمة للتنمية والتي تصب فعليا وفي جانبها التطبيقي في مصلحة جميع الأطراف بما فيها مصلحة شريكي الحكم. المقابل لذلك في رأينا هو ضياع الحكم ، ان لم يكن لأسباب سياسية او عسكرية فلفداحة التكاليف، بمختلف أشكالها بما فيها التكاليف الاجتماعية، الناتجة عن الحرب في الواقع الجديد والتي لا يستطيع أي من الطرفين دفع فواتيرها.
Dr.Hassan.
hassan bashier [hassanbashier141@hotmail.com]