ثقافة الموت والحقد والكراهية: الجنس مُحفِّزاً! (الجزء الثاني)

 


 

 

 

تقول المفكرة الألمانية كارولين إمكه (1967) في عملها الأخير (ضد الحقد) (منشورات س. فيشر، 2016) أن أخطر ما يهدد المجتمعات اليوم هو "أيديولوجية النقاء" التي لا تكره شئ مثل تجاور التقاليد والقناعات الدينية المختلفة. ونحن إذ نشهد استخدام الدولة لكرت العنصرية، وانتقاؤها لضحاياها من المدنيين الزرقة بعد أنْ قتلت ذويهم في القرى والأرياف ندرك خطورة هذا "الطهرانية المريضة" على السودانيين عامة، وعلى أهالينا خاصَّة في السودان الشمالي النيل وسطي؛ لأنّ الأخيريْن غير مُسلّحيْن وسيجدون أنفسهم ضحايا لآلية إعلامية عنصرية قد لا تتورّع في التضحية بهم، أو اتخاذهم كدروع بشرية حال دخول "القوات الباسلة" إلى الخرطوم (انظر حال المُجندين الذين عفستهم عربات الدفاع الرباعي في وادي سيدنا عند دخول خليل أمدرمان)، أو حال حدوث انفلات أمني (ذكرى شهداء سبتمبر الذين قتلتهم قوات أب طيرة، وأُلبس الدعم السريع الجُرم كي يتسنى للعصابة استخدام "الغرَّابة" كفزاعة). ليس من مصلحة أيّ جهة تكثيف العداوة بين المواطنين واستعداء آخرين، لأنّ العواطف المستعرة لا تعرف المنطق ولا تحسن التمييز بين مذنب وبرئ، فلنتخذ العبرة من رواندا ومن زنجبار، إذا عجزنا عن تفهُّم مأساة جنوب السودان. والحكمة ما زالت ماثلة: إنّ الجنرالات الذين جيشوا مشاعر القبليين لا يهمهم مطلقاً مصلحة القبيلة.


بافتعالها للحروب في الهامش واستهدافها للقيادات السياسية والمدنية لهذه الإثنيات، فإنّ العصابة تراهن على غيبوبة يمكن أن يستفيق صاحبها في أيّ لحظة. وها هو المريض قد بدأت أطرافه تتحرّك وضميره يصحو. لقد تحرّكت الجموع من كُلّ الأثنيات والمنظمات لمساندة الشاب عاصم عمر سوميت (جبال النوبة)، والوقوف معه في محنته التي أيقن الكُلّ أنها مِحنة الشعب السوداني. عاصم عمر شاب توافق سحنته وتقاطيع وجهه الوصف (Profile) الذي ظنّ جهاز الأمن الوطني أنّه آخر شخص يمكن تتعاطف معه الجماهير، بمعنى أنّه كان يمكن أنْ يكون أحد المتمردين الذين تخيف الدولة المواطنين من سطوتهم إنْ هم وصلوا العاصمة، أو حازوا القمّة، بل أنها تومئ أحياناً إلى أنّ أحد هؤلاء يمكن أن يكون مُندساً في البيوت كخدّام (نوباوي)، مكوجي (فوراوي)، أو غفير (بقاري)، لكنّ الجموع خيَّبت ظنّهم بوعيها القومي وحسّها الإنساني.
بهكذا طريقة ظلّ العقل الجمعي للسلطة المركزية يدير الأمور في البلاد لأكثر من 150عاماً، وسيستمرّ إذا لم نعمل على تفكيك سلطته الثقافية والسياسية والاجتماعية. أرجو ألا ينخدع أحد بأخلاقية المعارضة فهي لا تختلف مطلقاً مع الحكومة. ولذا فإنّ الحكومة عندما تختلف مع أحدهم فإنّها تسعى لإضعافه، لكنها لا تقوى على إفنائه لأنّها تستمدّ بقاءها من بقائه، يعني تبادل الأدوار. أمَا إذا اختلفت مع غرباوي فهي تسعى إلى إبادته. وإذا تفحّصنا مجال الاقتصاد فإنّنا نرى أنّها لم تسع إلى إفقار إبراهيم الشيخ، لكنها لم تتردّد في طرد الزغاوة من سوق ليبيا ومطاردتهم حَتَّى تمكّنت من مصادرة آخر درداقة. تحدّث اللواء الدخري – وهو من أخطر دعاة العنصرية وهندسي الإبادة العرقية في دارفور – لزميل لنا يوماً في نيالا عن "سوء الزغاوة وضرورة استئصالهم من دارفور." هو يحدثنا وكأننا جهلاء لا نعرف جغرافية دارفور، ولا نقدر على التقييم ومعرفة الأوزان التاريخية والاجتماعية للأفراد والجماعات. لكنه أيّ هذا "الإنسان الخيّر" يريد أنْ يحذرنا من مغبة حُسن الظنّ بهذا "الكائنات العجيبة". لولا أنّ حركة العدل والمساواة قطعت الفيافي وتحدَّت هؤلاء المستوطنين الجدد في عقر دارهم، لكانت جديرة بسوء الظنّ الذي روّج له سعادة اللواء الدخري، لكنها دحضت حجّة هؤلاء العنصريين بنقلها المعركة إلى قلب الخرطوم، واستخدامها الدم مداداً للتأكيد على قومية المُعترك.


إنّ العصابة تتعامل مع أهل دافور خاصَّة بقسوة؛ ليست لأنّها ترى فيهم خطراً عسكرياً، وهذا كائن، لكنها أيضاً تستشعر المُهدّد السياسي لها؛ إذا تحسّ أنّ دارفور خاصَّة بعد أنْ انعتقت من الخرافة بشقيْها الطائفي والأيديولوجي، تشكِّل خطراً ديمقراطياً لها وللمنظومة.. لكنها لن تيأس من محاولتها لاحتواء دارفور، وها هو الشعبي يوكل ولايته لشخص منتهية صلاحيته، وها هو الكهنوت يأتي منكسراً لاستقبال النفر الذين اتهمهم بالعنصرية (عُشر ورفاقة) عشية دخول البطل خليل إلى الخرطوم.


إنّ ندوة "نداء السودان" التي أُقيمت احتفالاً بخروج الأسرى (أبريل من هذا العام) من السجن دلّت على هناك أنّ وعياً جديداً يتبلور، وأنّ قيماً ظننا أنّها قد اندثرت هي في طريقها إلى الانبعاث، فالهتافات ولأول مرّة كانت لصالح القوى الثورية والمطالبة بالديمقراطية ورفض العنصرية، ولم تكن لصالح الخلود للزعيم أو التمجيد للطائفة. أمَّا الأسرى والذين خرجوا لتوّهم من سجن دام عشر سنوات أو زهاها؛ فلم يبدوا منكسرين أو ممتنين، لكنهم كانوا عازمين ومصممين على المضي قُدماً في المسيرة حَتَّى يتحقّق النصر.. علماً بأنّ المستوطنين قد مارسوا كافة أنواع الابتزاز على السجناء، والتي شملت التسريح في شكل التصفية الجسدية لبعض أفراد المجموعة، واقتياد البعض الآخر إلى الخلاء، أو الوصول بهم إلى حدّ الدروة ثمّ إعفائهم في محاولة للنيل من عزائمهم، أو بذل الوعود بالتوظيف والاستوزار لبعض المحكومين بالإعدام، بل الموزونين (من وزن كي لا يتجاوز وزنه وزن المشنقة فتنقطع الرأس)، فباءت كُلّ المحاولات بالفشل؛ وها هو التوم حامد توتو (جبال النوبة) عضو العدل والمساواة، يوزن أربع مرّات، يودع فيها رفاقه ويوصيهم بالقضية، فلا يلبث أنْ يرد إلى الزنزانة والحديد ملحوم بين رجليه، فالسجان لم يشأ أن يكتفي بطبلة الحديد على غرار ما يفعل بالآخرين.


يتساءل المرء عن الإجراءات القانونية التي حُكِم بها هؤلاء الشباب، فيصعق عندما يعلم أنّهم حُكموا بموجب "اللائحة الإجرائية لمحاكم الإرهاب" والتي أعدّها رئيس القضاء مباشرة بعد حوادث أمدرمان 2008. كيف يُحاكم مواطنون ويساقون إلى المشنقة بموجب لائحة؟ لقد اعترف الصوارمي بأسر 400 شخص في معركة قوز دنقو، أُطلق سراح 181 منهم. فما هو مصير الآخرين؟ هل تمّ تصفية 219 شخصاً دون محاكمة؟ ما هو مصير المعتقلين في سجون سواكن وأمدرمان، 54 و41 على التوالي، بل ما هو مصير 330 من المجهولين والذين تمّ أسرهم في معارك شتّى؟ لغة الأسر نفسها لغة مقيتة لأنّها على أقلّ تقدير لا تشير إلى معترك بين أبناء وطن واحد، وعلى أعتى تصوّر هي لغة مُتعالية، ربّما أكّدت على أنّ لجهة ما القدرة المطلقة في التمييز بين الحقّ والباطل، تقسيم الثروة والسلطة، وتحديد معايير المواطنة، وهذا هو أُس المشكل. بيد أنه يبدو أنه لا محيص عن استخدام كلمة أسري لأنّ نقيضها هو قَتَلة، ممّا يضع الأخرين في عداد المجرمين وليس المناضلين. هل يا ترى ستثار قضايا الأسرى والمفقودين في التقرير الذي سيعرض قريباً أمام لجنة حقوق الإنسان بجنيف أم أنّ "المعارضة" ممثلة في قوي الإجماع الوطني ستظلّ تشكو من "المضايقات" التي يتعرّض لها سياسي ومثقفي المعارضة الوطنية؟


بالرغم من مرور 60 سنة إلّا أنّ عقلية النخب المركزية لم تتغير بشأن الديناميات التي من شأنها أنْ تُحدث التغيير. فهي مازالت تؤمن بحقّها القدسي في الأخذ بزمام الأمور، يساعدها في ذلك افتقار "الآخرين" إلى الإمكانيات المالية التي تحصل عليها المجموعة الأولى بحكم أسبقية - وليس أهلية - التواصل مع المجتمع الدولي، الذي لا يبذل جهداً مطلقاً في مراجعة القوائم التي ما زال يتمّ تداولها في الأوساط الدبلوماسية منذ أكثر من أربعة عقود. كما أنّها، أيّ منظمات المجتمع المدني، لا تكاد تميُّز بين منظمات مثل "شرارة" و"قرفنا" - لهما حضوراً إسفيرياً متميّزاً - وداسف (منظمات المجتمع المدني الدارفوري) التي لها تواجد حيوي وعضوي على أرض الواقع. بل قد لا يجد أحد ممثلي الكونفدرالية أو "مبادرة المجتمع المدني السوداني" حرج في المساواة بين عدد الممثلين لشهداء سبتمبر أو مذبحة رمضان، مثلاً، ومجموع النازحين واللاجئين في دارفور.


لعلّ الكُلّ لاحظ محاولات الاستقطاب التي تعرّض لها المجتمع المدني الدارفوري، الابتزاز، الترهيب، بل الترغيب الذي يشمل تغطية تكلفة السفريات والإقامات في العواصم الأوروبية والإفريقية لبعض الشخصيات الدارفورية والتي يرونها صلبة يجب ترويضها أو هشّة يجب الإبقاء عليها. وهم في ذلك لا يختلفون عن الإنقاذ؛ فالمال الذي تتجود به مجموعة الديمقراطية أولاً (Democracy First) إلى مبادرة المجتمع المدني لا يأتي للجمعية العمومية عبر المكتب التنفيذي كي يقنن صرفه، إنما يأتي عبر ممثلها في المبادرة، والذي قد يعلن عن مجمل الصرف ولا يحدّد بنوده، أو معايير صرفه. إنّ السِّرّية التي تشوب أوجه الصرف لدى كثير من منظمات المجتمع السوداني لها أسباب كثيرة، بعض منها أخلاقي يتعلّق بعدم أمانة القائمين على الأمر، والآخر سياسي له صلة بعدم رغبتهم في تفعيل المجتمع ودعمه قاعدياً كي يأتي بممثليه الحقيقين، إنما الاكتفاء بتمثيله متذرعين بافتقار "الآخرين" إلى إرث مؤسسي يساعدهم على تنظيم أنفسهم.


لقد نجح ممثلو مبادرة المجتمع الدارفوري في ضمِّ النازحين واللاجئين كمكوِّن سادس من المكوِّنات الأساسية في نداء السودان. بيد أنّ العراقيل ووسائل الهيمنة لم تزل تُبذل لإقصاء هذا المكوِّن الأصيل، صاحب القضية الملحّة والحارقة في تدجينه أو تجييره لصالحة جهة ما. علماً بأنهم في كل مرة يثبتون أنهم هم القادة وحملة القلادة. كم كانت مشرِّفة ومنعِشة للأمل مشاهِد الثائرين ضد زيارة البشير لمعسكر (كَلْمة)، بل كم كانت واعية كَلِمة شيخ شيوخ النازحين، الشيخ علي عبدالرحمن طاهر، ومعبرة عن اصوات الذين رفضوا زيارة (عمر البشير) الاسبوع المنصرم (سبتمبر 2017)، وصادعة بمعنى الكرامة الإنسانية التي لم تسلبها قسوة النزوح إرادة الرفض لجلادهم؟ ايُّ بشرٍ هؤلاء الذين لم تستطع سنين النزوح بكل أوجاعها وقمع الدولة بكافة ألياتها وخذلان النخبة بجميع مسمياتها أن تنال من عزائمهم؟ لا تعجب، إنهم أحفاد علي دينار وأدم رجال والسحيني ورفقاء مني وعبدالواحد. بوقفتهم الشامخة ولافتاتهم الخفاقة وحناجرهم الواثقة لم يستطع النازحون فقط تعكير صفو السفاح، إنمّا نصبوا له ولزمرته أيضاً علي الأرض مشانق حوت أشجانهم وأوجاعهم (عثمان شبونة، سودارس، 21/سبتمبر/2017)، وضعوا حداً للبراغمتية التي ظلت تمارسها النخب الدارفورية وححدوا مساراً واحداً لا ثاني له عبر عنه القائد الحلو "سودان مجدد أو مبدد"، فلم يعد من الممكن أو المقبول قبول العنصرية بأي مسمّي وتحت أي طائل.


إنّ مَن يتصدرون لقيادة العمل المدني في السودان يضطلعون بدور كبير ومهم مثل السيد/أمين مكي مدني، د. بابكر أحمد حسن، لكنهم يفعلون ذلك معتمدين على أوزانهم الشخصية، وإذا شئت التاريخية، وليس ارتكازا على تواجد حقيقي وحيوي. فالأمور قد تبدّلت، والخرطوم بحَلّالها "التلاتة" لم تعد هي العمدة الذي يأتمر بإمرته الآخرين، إنما عادت فرداً من أفراد الحِلة الكبيرة السودان. عليه، فلا بُدّ من توفّر رؤية استراتيجية تراعي تغيير المعطيات، وتستشرف مستقبلاً ديمقراطياً يقوم على أُسس مدنية ويحكمه عقد اجتماعي جديد.


إذا كان بولاد (مسواك الحديد) قد أوقد الشعلة، فإنّ أبطالاً أمثال السلطان إبراهيم أبكر هاشم (السلطان الحقيقي لشعب القِمر، وليس "الكتبلاص" الذي عيّنه المؤتمر الوطني) ودكتور عبد العزيز عُشر وأحمد آدم وادي (بعاشيم)، الذين ما فتئوا يرفدون الطليعة الثقافية في الجامعات بذخيرة معنوية وافرة لمواصلة النضال حَتَّى أوهنوا عزيمة العصابة العنصرية وأبطلوا مكرها. وها نحن نشاهد إدبار الجيل المتواطيء من الزرقة والعرب ونعاين إقدام جيلٍ واعٍ ومصادم، الأهمّ لا يقبل بأنصاف الحلول. وليهنأ "جيفارا" ورفاقه في رقدتهم، فالمسيرة هادرة والعبرة واصلة، ومن تأخّر عن الركب فلن يفوته الأجر، أمّا من بطل جوادہ وخلد إلى الأرض غير آبه بالمعرة، فله الخزي في الدنيا والآخرة (مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ) (التوبة: 120). من وقف إلى جانب الحقّ فهو على نهج الحسين، والحسين على نهج جدّه (صلى).


هناك أسئلة مهمّة يجب طرحها: لمصلحة مَن يتمّ هدر كُلّ هذہ الطاقات (المقاتل والمقاوم سواء)؟ أما كان من الأجدى الاحتفاظ بكُلِّ هذہ الخامات لدعم التنمية والاستقرار في البلاد؟ هل هناك تجربة ناجحة في التاريخ نجح فيها مستوطن في استئصال مجموعة عرقية معيّنة؟ هل نجح نظام سياسي في العالم في استبقاء مجموعة من البشر في خانة العبودية باسم الدين؟ أيُّ خطر يمكن أنْ يشكله انفضاح الطاغوت واندحاره على المجموعة الأثنية أو الدينية التي يدَّعي تمثيلها؟ ما هو مستقبل الكتلة الاجتماعية الكبيرة -المجموعات العربيات مثلاً- التي يتمّ تمثيلها بمجموعات غير أصيلة؟ هل من سبيل لكسر حلقة العنف هذہ قبل انفراط العقد؟ هل توجد قيادة أمينة وواعية يمكن أنْ تمثّل مصالح المواطنين وتتوافق على مشروع قومي؟ أيُّ سمات وملامح ينبغي أنْ تعكسها هذہ التسوية؟


إنّ الإجابة عن هذہ الأسئلة المتشابكة والمعقدة تستلزم إعطاء أولوية للتحليل الاجتماعي العميق (وعدم الاكتفاء بالسياسي)، الذي لا يهمل الصراعات والتوترات المحيطة بحياة الأفراد. إنّ الفرد (السوداني) يعاني من توترات متعلّقة بحياته الجنسية والعاطفية، معتقده الديني الذي يقنِّن لدونيته العرقية (إذا لم يكن نظرياً فعملياً)، وعدوانيته المبرمجة في دماغه ضدّ الضحية وليس الجلَّاد. قد تكون هناك حيثيات مختلفة للجنس والعبودية والعنف، وقد تكون هنالك تمثلات لكائن واحد هو المرأة.


وُفق حيدر إبراهيم إذ يقول "إنّ دونية المرأة المقنّنة والممنهجة هي السبب الحقيقي في التخلف الشامل لمجتمعاتنا في كُلّ المجالات" (حيدر إبراهيم، أزمنة الريح والقلق والحرية، ص: 239). إنّ الذات المقموعة (عنفوياً)، والمكبوتة (جنسياً)، والمحتقرة (عرقياً)، هي ذات غير مُبدعة ولا يمكنها أنْ تسهم في نهضة، بل إنّها تصير مؤهلة ومتهيأة دوماً لفعل الدمار والقتل والحرق والاغتصاب والتشريد. إنّ الرجل الذي تعطّلت "آلته" (بمعني أنه يعاني من عجز جنسي) لن يتوانى في حمل بندقيته لقتل أكبر عدد من البشر الذين يقطنون الأدغال أو الجبال، عله يتشافى من دونية أصابته حال التواصل مع "الآخر." الآخر هذا قد يكون الغرباوي، الشمالي، النوبي، أو المصري أو التركي، لأنّ العقدة تتأصّل، كما يقول مولانا مجدي يعقوب، كلما اتجهنا شمالاً.


وإذ ذاك هو الحال، فإنّه يلزمنا دراسة الديناميات الاجتماعية والسياسية والتعقيدات التي اعترت "درب الأربعين" لمدّة تجاوزت الثمانية قرون. هذا الدرب كان يحمل بضاعة أقيم ما فيها العبيد الذين يتمّ اصطيادهم من أعماق إفريقيا. إنّ القافلة في طريقها إلى مصر تستبقي الموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، إلاّ من حظيت بعشق تاجر مقتدر لم يستغل عليها الثمن؛ فهذہ ستدخل في منافسة عنيفة مع عمّتها زبيدة. رغم أنّ هذا التاجر ليس له أيّ صلة أثنية بهارون الرشيد أو حضارية بالدولة العباسية، إلاّ أنّه يستدعي من ذاكرته، ويتصوّر في مخيلته منظر الجواري وهنّ يسترضينَ زبيدة امرأة هارون الرشيد ويخطبنَ ودّها كي ترشحهنّ لقضاء ولو ليلة واحدة في حضن الخليفة الراشد. سعيدة تلك التي يحالفها الحظ بولادة ذكر مثل الأمين أو المأمون، فهي ستنتقل من خانة "السِّرِّية" (التي يمارس معها الجنس سرّاً) إلى خانة "المحظية" (التي حُظيت بولادة الخليفة المرتقب) وسينتهي بها المطاف إلى خانة "الضحية" (التي يقتل أبناؤها بعضهم بعضاً في سبيل الوصول إلى الحكم).
بيد أنّ المالك (مشتري الخادم بقرش أو تعريفة) قد لا يكون معنياً بهذہ المآلات في خضم الجلبة والدلوكة والزغرودة، وفي ظل استعار الشهوة، وتلبسه بحالة من التشنج، واستحضاره لصورة الفقيه وهو يقرأ عليهم في المسجد الكبير فقرات من كتب العشق، أو الجنس الفضائحي التي كتبها الفقهاء الدينيون أو القضاة الشرعيون أمثال السيوطي، النفزواي والتيفاشي والتجاني وإبن حزم.


بمحاولتهم إحكام السيطرة على الفكر مستخدمين أدوات أيدولوجية، ضحى المتأخرون من الفقهاء بالموروث اللغوي والثقافي العظيم للإنسان العربي الذي عشق الحرية والمرأة والطبيعة، فلم يلبث أنْ تمرّد على هذہ التعاليم الدينية الصارمة (رغم التمييز الذي حازہ الرجل) مؤثراً المشاعية على التضحية بثرائه الوجداني أو الاستهانة بدوافعه الفطرية. هل التمرّد على الأخلاق هي خصلة من خصال الإنسان العربي أم أنّ الثراء المادي قد حفّزه في الخروج على قواعد الإسلام في ممارسة الجنس، خاصَّة بعد القرن الأول للهجرة؟ للإجابة على مثل هذہ الأسئلة - دحض أو تثبيت هذہ الفرضيات - لا بُدّ من دراسة الدوافع الاجتماعية والتاريخية والنفسية والاقتصادية والصحية والبيئية والمناخية والثقافية لممارسة الجنس في هذہ الحقبة (شاكر النابلسي، الجنسانية العربية/الجنس والحضارة، ص: 27). بل المطلوب من النخب كتابة تاريخ الجنس عند السودانيين، وتحليله في إطار منهجي علمي صارم ومتميّز. من غير الممكن فهم الشخصية السودانية دون التعرُّض أو التعرف على توتراتها الجنسية، كما لا يمكن فهم هذہ الظاهرة بمعزل عن تاريخها الذي هو تاريخ الإنسانية.


وإذا تهيّب علماء الاجتماع - العلمانيون منهم خاصَّة - الولوج إلى هذہ الخانة، خشية أنْ يوسموا بالانحلال، ومن دخل منهم آثر الضوضاء على التحقيق المضني والمفيد، أمثال نوال السعداوي التي واجهتها تهمة العلمانية فلم تفعل أكثر من المحاولة لدرئها بطريقة فيها نوعاً من التوفيق إذا لم نقل التلفيق. هنالك من ولجوا بجدية إلى الساحة الفكرية أمثال: فاطمة المرنيسي (رحمها الله) ورجاء بنت سلامة، بيد أنّ أبحاثهم لم تجد سبيلها بعد إلى المنهج التربوي الذي مازال يؤثر التعمية على التربية، وإذا جاد فإنّه يؤثر التربية الدينية على التربية العلمية (شاكر النابلسي، الجنسانية العربية/الجنس والحضارة الغلمان، ص: 201).


إنّ التربية الدينية فقط لا تجدي في شأن الجنس لأنّ الفقيه - خاصَّة السلفي - لم يفهم بعد البُعد الصوفي في الجنس، ولا أهّلته طبيعته الدغمائية - المتواطئة عبر التاريخ مع الأنظمة الرجعية والشمولية - التي ترى في الجنس مُهدّداً لها من الناحية السياسية، إذ يفتح المجال واسعاً أمام الاحتفاء بالفردية. طالما الرعايا ممتثلين وخانعين، فإنّه لا يهمه التعامل مع الجنس والجنسانية إلّا في نطاق الوعي الجراحي الذي لا يساعد في الانتقال من كوزمولوجيا التناسل إلى روحانية التواصل، ولا يهيئ على تفهُّم أنّ "ممارسة الجنس تجلٍّ من تجليّات الخلق، ونظام احتفالي، تتأصل فيها علاقة الحضور بالغياب، الميتافيزيقيا بالفيزيقيا" (شاكر النابلسي، الجنسانية العربية/الجنس والحضارة، ص: 106).


إنّ مهمّة المؤسسات، التربوية منها والاجتماعية والاقتصادية إحداث الزحزحة التي من شأنها أنْ تحدث تماهياً نسبياً بين روحيْن وليس فقط جسديْن، حينها يتهيأ الذكر والأنثى للاتصال وينفعلان بالجنس فيتوخيان النسبي (رعشة الجماع) كوسيلة لنشدان المطلق (نشوة الروح). لا يمكن أنْ تحدث هذہ الزحزحة أو ذاك التماهي في مناخ لا يعترف بالحب، أو لا يقره أو يعتبرہ رذيلة، علماً بأنّه الفضيلة الوحيدة، أو إحدى الفضائل المتبقية في حياتنا كما يقول نزار قباني، الذي يرى أنّ الحب لا يزدهر في مناخ تُحرّم فيه مباهج الحياة، ويؤثر فيه الحرمان على الاستمتاع بملذاتها، ويذم فيه صحبة "المبدع" لأنّه قرين "المبتدع"، الذي هو عون الشيطان على الإنسان .


بالرغم من ادعائها الحرص على الفضيلة، فإنّ الأنظمة الثيوقراطية تفعل كُلّ ما من شأنه أنْ يوقظ الغرائز الجنسية، ويساعد على خلق الجو النفسي الملائم لمولد الرذيلة. فالدلالة الحيوية للانجذاب ليس في التحرير من العزلة النفسية بالتواصل مع المعشوقة، ولكنه في التناسل والتفريغ وإتيان المرأة في دبرها إذا اشتدت ضبعتها ولم يوجد سبيل لتحاشي حيضتها. من هنا كان التماثل بين الذكر والأنثى وكانت كافة الانحرافات الفطرية. فعدم التكافؤ في العلاقة بين الذكر والأنثى، حَتَّى على الصعيد الميداني الحياتي قبل السريري الجنسي، ينفي البُعد المعنوي والحيوي اللازم لإنفاذ التكامل وإحداث التواصل.


بمحاولتها إحكام قبضتها على الفضاء العمومي أيضاً، فإنّ الأنظمة الاستبدادية - الدينية منها خاصَّة - تحرم الإنسان فرصة التسامي برغباته الجنسية من خلال التوظيف لطاقاته في الأنشطة السياسية والمدنية والنقابية (شاكر النابلسي، الجنسانية العربية/الجنس والحضارة، ص: 320). متى ما أحبطت محاولاته لنشدان غاية عُليا أو تلبية نداء أسمى، فإنّه يقع ضحية الرغبة الجنسية التي تُعتبر بمثابة المُحرك الخفي وراء كُلّ حركاتنا وسكناتنا. هذه هي اللحظة الفارقة بين الإنسان ككائن متسامي والإنسان كمخلوق عدواني. لا أدري إنْ كانت مُجرّد صدفة أم أنّ فتحي الضو كان يعلم أنّ الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمارس الاغتصاب الجنسي، ويشاركه في ذلك نوع من العناكب فقط (شاكر النابلسي، الجنسانية العربية/متعة الولدان وحب الغلمان، ص:34).


auwaab@gmail.com

 

آراء