جلد النساء … ما بين رفاه الكسرة و(أذية) البنطلون!! … بقلم: حليمة عبد الرحمن

 


 

 

بـغــم


Halimam2001@yahoo.com

من عجب نحن في بلد الكسرة عُدَت من الرفاهية ولبس الفتاة البنطلون يسبب الأذية.
لم أجد سوى التأوه ليعبر عما يجيش في داخلي مذ لحظة رؤيتي للفيديو الذي بتثه الراكوبة نقلا عن اليوتوب للفتاة التي استصرخت ضمير العالم لينقذها من بين جلاديها من اخوان واخوال (فاطنة) الذين وقفوا يتضاحكون و يكبرون كوم (الفِرِّيجة) ليشهدوا عذابها في وسط حوش احد السجون الذي تم تعريفه بأنه سجن الكبجاب بامدرمان المواجه لمنطقة القماير التي كانت منطقة عشوائية الى وقت قريب..

صورة الفتاة وهي تنادي أمها لتنقذها من براثن الذئاب التي زادها الكاكي (وَحاشة)، تأبى أن تفارق مخيلتي أو مخيلة أبنائي الصغار الذين قدر لهم مشاهدة الفيديو معي ومازالوا مستغربين ويتساءلون في ماهية الجلد..
"يا أمي هي جلدوها عشان لابسة بنطلون ولا عشان قلعتو"؟ وقبل أن أجد الإجابة على السؤال الأول ، يردفون بسؤال آخر.."طيب فيها شنو كان لبست بنطلون"؟

أسئلتهم  الحائرة الذي عجزت عن أجد أنا ذات نفسي إجابة مقنعة له ناهيك عن إقناعهم بأن ذلك جرم سوداني شنيع يستوجب (دقها دق العيش)... كما وأن لبس البنطلون مرفوع له شعار: لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى تراق له الدماء..رفعت الأقلام وجفت صحف المغالطة والكلام..
علما بأنني حتى هذه اللحظة لا أدري ما الجرم الذي ارتكبته وأستوجب عقابها بتلك الكيفية المهينة، التي تتقاصر عن حد الزنا وتتطاول على حد البنطلون (الإنقاذي) بعشرة جلدات كما ذكر احد العساكر في شريط الفيديو بأنها (50) جلدة واستقر بها آخرون عند حد الـ(22) جلدة..لذا فالمرجح أنه حد يشابه عقاب التشفي الذي أقامه احد الأزواج على امرأته بأنها (كان قامت طلقانة وكان قعدت طلقانة)، فما كان منها إلا أن نكبها حظها بان جعلت تنطط طوال الليل.

علمنا أهلنا في قرانا وفراقنا وحلالنا أن الرجل ستر وغطاء على المرأة وإن ارتكبت جرما فادحا، وان ليس من الرجولة رفع اليد أو الكرباج أو العصا على المرأة، ترسيخا خالد لمبدأ (أب طاقية كلو ود عم الولية).. حملنا بعض منه الخاص بالشراكة والرعاية اللطيفة المحببة التي لا تقعد بنا..وحمل الرجل مسئولية العناية بالمرأة فهي الأم والأخت والعمة والخالة والجدة ثم الزوجة الحبيبة، حتى هَل علينا ليل الإنقاذ فقادنا إلى جحر الضب ونفق كلما (توكرنا) فيه، قام بـ(تربسة) خط الرجعة...

(واااي يا أمي..)!!

نداء أطلقته (المجلودة) امام تتر هولاكو "المؤمنين" الذين حسبوا أنهم بلغوا من الإيمان مبلغا رفعهم إلى مصاف عدم المساءلة فضجوا بالضحك ورفعوا عقيرتهم بدعوة طائفة المؤمنين ليشهدوا عذابها فضلا عن توثيق الذي حسبوه إنجازا إخباريا آخر لرواد السايبر يسجل لهم في ميزان حسناتهم في ذلك النهار البائس وأمام السابلة (الفريجة) عند حائط مبكى القسم المنكوب.

(واااي يا أمي..)!!

نداء العاجز لمن هو أعجز منه.. العجز الذي تفصله ألوف الفراسخ من الحواجز الجغرافية والنفسية..عجزت المرأة الدفاع عن نفسها حينما تناثرت السياط على بدنها فلم تترك وجها أو ظهرا أو أثداء أو إلية أو كلية أو فخذا، لم تترك بصماتها عليه..وعجزنا نحن عن مد يد العون بأبسط أنواع المساعدة..وتضاعف عجزنا حينما لم تتجاوز مساندتنا الدمع السخين وقد سحته مآقينا..فبتنا ليلتنا على الطَوَى لا حول ولا طول لنا..

طاف على ذهني مشهد السوداني بالأمس حينما تغنت الشاعرات الشعبيات تمجيدا لرجولته وقوته في مجابهة الشدائد ولينه وحنوه أمام المرأة أين كان تصنيفها القبلي نسبا أو عرقا أو جيرةً..
حلال المَضِيق وكت الخيول إنْشَبْكَن
رَباي للضعيف قَشَّاش دموع البَبْكَن
عجبوني تيلاني (رجالي)
يا قاصدين لِمَاي أنا طَرِقوا لساني

(نحن لا نولد نساء ولكننا نصبح كذلك)، ما اصدق عبارة الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار.. واعدل ترجمتها لتوافق مزاجي الحالي.."نحن لا نولد نساء ولكن المجتمع هو الذي يدفعنا إلى أن نصبح كذلك"، أي مصدراً للعار والشنار.. في هذه الحسبة المرأة عورة كاملة الدسم...!!فجسمها عورة وصوتها عورة وبنطلونها عورة العورات..وجلدها امام الملأ والتشهير بها من المسلمات في دولة المد الرسالي والتوجه الحضاري في الألفية الثالثة.

المؤسف أن حكومتنا بجلالة قدرها، هي الحكم والجلاد والمتفرجين والمصورين والموثقين لجرائمهم... وحسنا فعلوا.. فسياسة (اكتلوا الدعتة قُُبـَّال ما تعتى)-أي اشكموا هذه المرأة قبل أن يقوى عودها ويشتد- ارتدت إليها وستخنقها، إن الآن أو لاحقا.. فبكاء هذه المرأة واستصراخها الأحجار والأشجار التي وقف القاضي يستظل بظلها ويساومها بين الثبات والانتهاء سريعا من الجلد أو السجن سنتين، ذكرني امرأة أخرى، أو بالأحرى فتاة وقفت في نفس موقفها العام الماضي وجلدت رغم أنها قاصر لم تتجاوز السادسة عشرة من العمر ولا تنتمي للديانة الإسلامية التي باسمها سيسعى كثير من الناس إلى ( سيرتهم الأولى) كما يدعون... أنها سيلفيا كاشف الجنوبية المسيحية التي تسكن الكلاكلة والتي ذهبت لتقضي بعض حوائجها من السوق، لتعود إلى أهلها (مجلودة) بحد إسلامي.. تمت إدانتها ومحاكمتها في غياب ذويها أو محاميها أو السماح لها باستئناف الحكم..حدث ذلك رغما عن اتفاقية السلام التي كفلت لها اجتناب ذلك.

أكثر من أربعين ألف امرأة تم جلدهن باعتراف مدير الشرطة لصحيفة الشرق الأوسط قبل عامين.. فإذا قصرنا عدد المجلودات على أربعين ألف امرأة فقط وضاعفنا الرقم أربعين مرة هي عدد الجلدات، يقفز الرقم إلى (1600000)، أي مليون وستمائة ألف جلدة.. أكثر من مليون ونصف المليون.. ! وكل ذلك في عام واحد فقط.. فتأمل معي كم سوطا استهلك بعد أن ترك بصماته الثابتة على ظهور وأفخاذ وأثداء واليات وسيقان وسواعد من صرخن واستصرخن طوب الأرض لينقذهن من بين براثن جلادي القرن الحادي والعشرين والتنميط المجتمعي ولا مجيب..
كانت الحيطان وعساكر النظام العام وربما بعض المارة، الذين جبنوا هنيهة،  الشاهد الوحيد الصامت، حتى رفعت الصحافية لبنى احمد حسين الغطاء عن ذلك ووضعته على الكيفية التي تعامل بها النساء في السودان، فشكرا عزيزتي لبني وشكرا لهذا العالم الفسيح الذي أتاح لنا أن نكون شهودا على فظائع الإنقاذ وجلدها للشعب الواقف عند الضفة الأخرى أو الشعب (الفَضَّل) وحقوق الملكية الفكرية محفوظة للكاتب الفاتح جبرا..

المؤسف أن بعض المتأسلمين ممن يستخدمون الانترنت، لم يهن عليهم أن تمر هذه المناسبة دون أن يدلوا بدلوهم في فتوى الجلد وشروطه التي تزيد طين أوضاعهم بلة.. فقد نشر احدهم في أحد المواقع الالكترونية شروط جلد المرأة التي اختصرها في أربعة، حسب صاحب أسهل المسالك الشيخ محمد البشار ، حيث أورد فتواه- أي الشيخ محمد البشار- شعرا ليسهل حفظها ويصعب تطبيقها دون مراعاة لمستجدات الأحوال..فاختلط الأمر علينا واشتكل في هذه الأبيات الثلاثة التالية، فلا علمنا أهي أنثى تجلد أم شيخاً يعتمر..وفتوى ان تم تطبيقها في مثل هذه الأحوال والسُعار، تحتاج إلى طرح عطاء (قلابات رملة) و(قُفاف) وارد منواشي لمتانتها وكذلك سياط (عنج) من ذوي الاختصاص دون المساس بثروتنا الحيوانية، رغما عن جانبها الايجابي من تدوير للرماد أو (الهبود)، ولعل الأمر يفسر لاحقا بدبغ جلود المجلودات....
تقول شروط الفتوى المنظومة:
والحد بالأكتاف والظهر اضرب من غير ربط عند أمْن الهَرَب
والضرب معتدل بسوط معتدل وجالس مجرد مما يحِل
وهكذا الأنثى وزد سترا وَجَبْ في قـُفَّة على رماد مُسْتـَكَبْ.
واستغرب هل كانت قفتنا هذه معروف مذاك الحين، أم أن الفتوى طالتها يد السودنة والتأصيل ؟
ثم قدم صاحب الخيط المفترع في ذلك الموقع السايبري المعروف،  تفاصيل الفتوى كالآتي تسهيلا للقراء، ولهم الحق بالنظر اليها بالكيفية التي يرونها:
- تجلس الأنثى وتجرد مما يقيها من الضرب مثل غليظ الثياب
- يستر جميع جسد المرأة ما عدا وجهها وكفيها
- تكسى ثوبا رقيقا يستر جسدها لعدم جواز النظر اليها ولا يقيها ألم الضرب
- تجلس الأنثى في قفة فيها رمل وبها ماء مسكوب و رماد أو رمل
لم يكلف صاحب هذا الخيط نفسه بان ينيرنا ماذا ستفعل هذه المجلودة وقد حضرت لها (عدة البول) والأسوأ منه، هل تحتفظ بملابسها الداخلية أم تنزعها عنها. كما لم يكلف نفسه عناء التدبر في استخدام البدائل الحديثة في مثل هذه الحالات..علما بأن صاحبنا هذا قد استخدم السايبر الواسع للبحث في سراديبه المظلمة عن شاكلة هذه الفتاوى.
ويحق لنا أن نتساءل هنا.. كيف تأكد صاحب الفتوى ان المجلودة ستظل ثابتة في مكان واحد وكأنما التي تنزل على جسدها لمسات (مساج) حانية وليست كرابيج "عنج" يسمع لها أزيز وصرير صعودا وهبوطا، وتترك ضرباتها غالبا فتحات دامية على كل المناطق التي تنزل عليها، اللهم إلا أن يكون هناك من يتطوع بتثبيتها-أي المجلودة- في مكانها، حتى نهاية المشهد العاصف...؟؟!! يا شيخ قول كلام غير ده..! ماذا لو مزق السوط ملابسها الموصوفة بذات الكيفية الواردة أعلاه؟؟
لماذا الجلد من أساسه وبهذه الكيفية ؟

عقول في إجازة دائمة، تمسك بدفة قيادة بلد عظيم كالسودان منذ عشرين عاما وتسوق لبضاعتها من شاكلة المتردية والنطيحة وما أكل السبع. أجيال تتوارى وأجيال تتالى  في مثل هذه الحالة التعيسة ولسان حالي: "الخالق البيك البها... تنجينا من ها اللَهْلَهة)، ويضيف عليها من كلمات الشاعر الملهم والصديق مولانا عبد الإله زمراوي المموسقات..
ماذا أقول لطفلةِ الصَّبار
زنبقةَ الكنار؟
أأقولُ للأرضِ القِفار
هذا زمانُك يا تتار ؟؟!
 

 

آراء