جيل الاستقلال.. البدايات والمآلات (2 من 10)
الدكتور عمر مصطفى شركيان
14 January, 2023
14 January, 2023
shurkiano@yahoo.co.uk
مهما يكن من شيء، ففي سبيل استقرائنا للماضي السُّوداني عكفنا على قراءة ما سطَّرته أقلام بعض قادة السُّودان الذين أفنوا أعمارهم في العمل السياسي في بواكير الحركة الوطنيَّة، والنضال في سبيل الاستقلال، وكانت لهم أدوار ثاقبة أو سالبة في المشهد السياسي. نذكر منهم على سبيل المثال بابكر بدري في "تاريخ حياتي" (1959م)، وأحمد سليمان المحامي في "ومشيناها خطى: صفحات من ذكريات شيوعي اهتدى"، وقد كتب في كتابه ذاك في يوم 25 أيلول (سبتمبر) 1970م أنَّه فكَّر، ثم بعد تموز (يوليو) 1971م، لكنه لم يحققه إلا في نيسان (أبريل) 1983م، ومحمد أحمد محجوب في "الديمقراطيَّة في الميزان: تأمُّلات في السياسات العربيَّة والإفريقيَّة" (1989م)، والأستاذ أحمد خير في "كفاح جيل: تاريخ حركة الخريجين وتطوُّرها في السُّودان" (2002م)، و"مذكرات عبد الماجد أبو حسبو: جانب من تاريخ الحركة الوطنيَّة في السُّودان" (2018م)، ومحمد خير البدوي في "قطار العمر في أدب المؤانسة والمجالسة" (2003م)، والبروفيسور محمد عمر بشير في "تاريخ الحركة الوطنيَّة في السُّودان (1900-1969م)" (1980م)، و"مذكرات إبراهيم منعم منصور" (2018م)، وأخيراً درة المذكرات التي دوَّنها يراع الدكتور منصور خالد في "شذرات من، وهوامش على سيرة ذاتيَّة" (2018م)، وهو الذي لم يترك شاردة أو واردة إلا وقد ذكرها في هذه الشذرات التي جاءت في أربع مجلدات. إذ وصف دكتورنا الجليل ذلكم الجيل الذي أورد السُّودان مهالك الخيبة والخراب ب"جيل البطولات وجيل التضحيات أين وكيف تنكَّبوا الطريق" تارة، ثمَّ "كيف قاد الإخوة الأعداء إلى تمزُّق الوطن" تارة أخرى.
أما من رجال الخدمة المدنيَّة والأكاديميين البريطانيين الذين عملوا في السُّودان أيَّام الاستعمار البريطاني-المصري فيمكن تصنيفهم إلى فئتين: الفئة الأولى كانوا مهنيين، وركَّزوا اهتماماتهم في المهن الحرفيَّة والمجالات الأكاديميَّة التي من أجلها ابتعثوا إلى السُّودان، وقد خدم أولئك وهؤلاء في الحاضرة والرِّيف السُّوداني على حد سواء. وكان مبتغاهم في الأمر ألا يتَّخذ من تتلمذ على أيديهم، وأدركوا صنعة من صنايعهم، السياسة مهنة، بل عليهم أن يتقنوا العلم المهني بفروع الحياة الوطنيَّة المختلفة كالزراعة والصناعة والتجارة. نذكر منهم – على سبيل المثال لا حصريَّاً – مذكِّرات جون هيسلوب في كتاب "قصَّة السُّودان" الصادر العام 1952م، وأهم ما جاء في الكتاب الاقتراحات التي قدَّمها المدير الزراعي الدكتور جي دي توتيل العام 1943م لإنشاء مشروع اقتصادي للاكتفاء الذاتي في منطقة الزاندي في المديرية الاستوائيَّة في جنوب السُّودان. إذ رأى الدكتور توتيل أنَّ المنطقة تُحظى بأمطار غزيرة وأكثر استقراراً من أيَّة منطقة أخرى في السُّودان، والمواطنون يبعدون عن الموانئ البحريَّة (1.500 ميلاً) والسكك الحديديَّة، وأي مشروع زراعي يُقام فيها قد يفشل نسبة لبعد المسافات في استيراد المواد الخام وتصدير المحاصيل المنتجة. إزاء ذلك ارتأى الدكتور توتيل أنَّ أهل الزاندي يمكن تعليمهم التصنيع، وبيع البضائع المصنَّعة من مواردهم الطبيعيَّة، ومن ثمَّ يستطيعوا أن يخلقوا لأنفسهم مجتمعاً سعيداً وناجحاً ومتعلِّماً. وقد سمَّى الدكتور توتيل هذا المشروع "تجربة في الصعود الاجتماعي لمنطقة نائية". وبعد إجراء بعض التعديلات تبنَّت الحكومة المشروع، ورصد مبلغ 1,000.000 جنيه تكلفة التنفيذ، وبعد ثمان سنوات شرع المشروع في العمل.
أما هنري سيسل جاكسون فقد نشر تجاربه في السُّودان العام 1955م باسم "ما وراء السُّودان الحديث"، وجيه أس دنكان في كتاب "طريق السُّودان نحو الاستقلال" المنشور العام 1957م، وجاءت مذكِّرات ريغنالد ديفيز في كتاب "على ظهر البعير" المنشور العام 1957م، والذي فيه سرد تجاربه في الخدمة المدنيَّة في أرياف السُّودان، وبخاصة في دار الحمر وإقليم دارفور، وفي هذا السفر أيضاً سرد ديفيز – فيما سرد – أحداث الحملة العسكريَّة ضد السلطان علي دينار، واستبسال أهل المساليت ضد تمدُّد الاستعمار الفرنسي من تشاد نحو دارفور.
أما إيَّان مكي الذي كان خبيراً زراعيَّاً، فقد عمل في مشروع الباقير، وقضى أعظم سنواته في جبال النُّوبة معتنياً بإصلاح الأراضي، واحتفار الحفائر لتحسين تربية الحيوانات والوسائل الزراعيَّة، ومحاربة الجفاف والتعرية، ثمَّ ساهم في إنشاء مشروع قرية دم جمد على بعد ستة أميال من مدينة تلودي، وذلك لتوطين الجنود العائدين في قوَّة دفاع السُّودان (نواة قوَّات الشعب المسلَّحة حاليَّاً). إذ سرد السيِّد مكي سيرته ومسيرته في السُّودان في كتاب بعنوان "مرور في (جبال) النُّوبة" الصادر العام 1994م، وقد تكرَّم السيِّد مكي بوضع صورة لكاتب هذه الصفحات مع كتابة تعليق مختصر عنه في صفحة 387 من الكتاب إيَّاه.
هناك أيضاً آرثر ستانيفورث الذي حاول الاستفادة من مياه خور أبو حبل في إنشاء مشروع الري بالفيضانات لاستغلالها في الإنتاج الزراعي في القطاع الواسع للأراضي الخصبة في كردفان التي تقع جنوب-شرق مدينة الأُبيِّض. وقد استعانت حكومة السُّودان وقتئذٍ بالمهندس المجري الذائع الصيت على المستوى العالمي أندرو دي فاجدا في تأسيس هذا المشروع الذي استهدف زراعة 10.000 فدان من هذه الأراضي. هنا تجدر الإشارة إلى أنَّه في نهاية العام 1945م كانت المجاعة المهلكة تهدِّد البلاد، التي تسبب فيها الجراد، مما دفع الحكومة إلى الإسراع في الشروع في هذا المشرع، وبخاصة أنَّ الحكومة كانت لديها ميزانية ضخمة بعد سنوات من ارتفاع أسعار القطن. وقد أشار ستانيفورث إلى تجربته في السُّودان في كتاب "أصداء إمبراطوريَّة: السُّودان، الشعب، التاريخ والزراعة" المنشور العام 2000م.
أما البروفيسور أليك بوتر وزوجه مارجريت فقد كان لهما الشرف في إنشاء كليَّة الهندسة المعماريَّة في جامعة الخرطوم، وساهمت زوجه التي كانت متخصصة في فن الرسم في تزيين قاعة الامتحانات الرئيسة التي شيَّدوها. وفي أمر بناء هذه القاعة يتجلى العقل المعماري ومواد البناء السُّودانيَّة من خشب الجنوب والتجربة الإنجليزيَّة في بناء الكنائس القديمة في بريطانيا والخط العربي في المساجد التركيَّة. ومن ثم جاءت ذكريات حياتهما في كتاب موسوم "كله ممكن: سنواتنا في السُّودان" الصادر العام 1984م.
بيد أنَّ الفئة الثانية من البريطانيين الذين خدموا في السُّودان فهم أولئك الذين – بجانب أعمالهم المهنيَّة – اختلطوا بصفوة الخرطوم، ونشأت بينهم علائق اجتماعيَّة، ثمَّ أورثوهم السلطة بعد عمليَّة السودنة. كان من بين هؤلاء غراهام توماس وبعلته إزمي. أما زوجه إزمي فقد نشرت مذكراتها في كتاب بعنوان "مدوَّنة السُّودان" الصادر العام 2000م، وقد قمنا باستعراض جزء شائن منه في كتابنا الصادر العام 2021م الموسوم "مداد القلم". لقد قرأنا مذكرات السيِّد توماس التي نشرها العام 1990م بالإنجليزيَّة بعنوان (Sudan: Death of Dream: 1950-1985)، وقام عمران أبو حجلة بترجمته إلى العربيَّة بعنوان "السُّودان.. موت حلم" العام 1994م. غير أنَّنا عدنا لقراءة النسخة العربيَّة لنستذكر ما جاء في الكتاب مما قد نسيناه، أو أنستنا له الأزمان؛ فهناك من الكتاب ما قد تقرأه مرة، وهناك مما تقرأه مرتين، ثم هناك مما تقرأه أكثر من مرة. هكذا قرأنا ذلكم الكتاب مرتين لسببين: أولهما طول الفترة بين القراءة الأولى والثانية، فقد أقدمنا على قراءته القراءة الهادئة المطمئنة المستأنية، وقد تقدَّم بنا العمر، وصحبنا الدنيا بأمورها الجسام وخطوبها العظام، واضطرَّينا إلى التفكير والتروية؛ وثانيهما إنَّ الترجمة العربيَّة قد لا تكون صورة طبق الأصل للنسخة الأصليَّة الإنجليزيَّة، لأنَّ الترجمات قد لا تكون صورة صادقة حين يتم نقل المادة من لغة إلى أخرى.
للمقال بقيَّة،،،
مهما يكن من شيء، ففي سبيل استقرائنا للماضي السُّوداني عكفنا على قراءة ما سطَّرته أقلام بعض قادة السُّودان الذين أفنوا أعمارهم في العمل السياسي في بواكير الحركة الوطنيَّة، والنضال في سبيل الاستقلال، وكانت لهم أدوار ثاقبة أو سالبة في المشهد السياسي. نذكر منهم على سبيل المثال بابكر بدري في "تاريخ حياتي" (1959م)، وأحمد سليمان المحامي في "ومشيناها خطى: صفحات من ذكريات شيوعي اهتدى"، وقد كتب في كتابه ذاك في يوم 25 أيلول (سبتمبر) 1970م أنَّه فكَّر، ثم بعد تموز (يوليو) 1971م، لكنه لم يحققه إلا في نيسان (أبريل) 1983م، ومحمد أحمد محجوب في "الديمقراطيَّة في الميزان: تأمُّلات في السياسات العربيَّة والإفريقيَّة" (1989م)، والأستاذ أحمد خير في "كفاح جيل: تاريخ حركة الخريجين وتطوُّرها في السُّودان" (2002م)، و"مذكرات عبد الماجد أبو حسبو: جانب من تاريخ الحركة الوطنيَّة في السُّودان" (2018م)، ومحمد خير البدوي في "قطار العمر في أدب المؤانسة والمجالسة" (2003م)، والبروفيسور محمد عمر بشير في "تاريخ الحركة الوطنيَّة في السُّودان (1900-1969م)" (1980م)، و"مذكرات إبراهيم منعم منصور" (2018م)، وأخيراً درة المذكرات التي دوَّنها يراع الدكتور منصور خالد في "شذرات من، وهوامش على سيرة ذاتيَّة" (2018م)، وهو الذي لم يترك شاردة أو واردة إلا وقد ذكرها في هذه الشذرات التي جاءت في أربع مجلدات. إذ وصف دكتورنا الجليل ذلكم الجيل الذي أورد السُّودان مهالك الخيبة والخراب ب"جيل البطولات وجيل التضحيات أين وكيف تنكَّبوا الطريق" تارة، ثمَّ "كيف قاد الإخوة الأعداء إلى تمزُّق الوطن" تارة أخرى.
أما من رجال الخدمة المدنيَّة والأكاديميين البريطانيين الذين عملوا في السُّودان أيَّام الاستعمار البريطاني-المصري فيمكن تصنيفهم إلى فئتين: الفئة الأولى كانوا مهنيين، وركَّزوا اهتماماتهم في المهن الحرفيَّة والمجالات الأكاديميَّة التي من أجلها ابتعثوا إلى السُّودان، وقد خدم أولئك وهؤلاء في الحاضرة والرِّيف السُّوداني على حد سواء. وكان مبتغاهم في الأمر ألا يتَّخذ من تتلمذ على أيديهم، وأدركوا صنعة من صنايعهم، السياسة مهنة، بل عليهم أن يتقنوا العلم المهني بفروع الحياة الوطنيَّة المختلفة كالزراعة والصناعة والتجارة. نذكر منهم – على سبيل المثال لا حصريَّاً – مذكِّرات جون هيسلوب في كتاب "قصَّة السُّودان" الصادر العام 1952م، وأهم ما جاء في الكتاب الاقتراحات التي قدَّمها المدير الزراعي الدكتور جي دي توتيل العام 1943م لإنشاء مشروع اقتصادي للاكتفاء الذاتي في منطقة الزاندي في المديرية الاستوائيَّة في جنوب السُّودان. إذ رأى الدكتور توتيل أنَّ المنطقة تُحظى بأمطار غزيرة وأكثر استقراراً من أيَّة منطقة أخرى في السُّودان، والمواطنون يبعدون عن الموانئ البحريَّة (1.500 ميلاً) والسكك الحديديَّة، وأي مشروع زراعي يُقام فيها قد يفشل نسبة لبعد المسافات في استيراد المواد الخام وتصدير المحاصيل المنتجة. إزاء ذلك ارتأى الدكتور توتيل أنَّ أهل الزاندي يمكن تعليمهم التصنيع، وبيع البضائع المصنَّعة من مواردهم الطبيعيَّة، ومن ثمَّ يستطيعوا أن يخلقوا لأنفسهم مجتمعاً سعيداً وناجحاً ومتعلِّماً. وقد سمَّى الدكتور توتيل هذا المشروع "تجربة في الصعود الاجتماعي لمنطقة نائية". وبعد إجراء بعض التعديلات تبنَّت الحكومة المشروع، ورصد مبلغ 1,000.000 جنيه تكلفة التنفيذ، وبعد ثمان سنوات شرع المشروع في العمل.
أما هنري سيسل جاكسون فقد نشر تجاربه في السُّودان العام 1955م باسم "ما وراء السُّودان الحديث"، وجيه أس دنكان في كتاب "طريق السُّودان نحو الاستقلال" المنشور العام 1957م، وجاءت مذكِّرات ريغنالد ديفيز في كتاب "على ظهر البعير" المنشور العام 1957م، والذي فيه سرد تجاربه في الخدمة المدنيَّة في أرياف السُّودان، وبخاصة في دار الحمر وإقليم دارفور، وفي هذا السفر أيضاً سرد ديفيز – فيما سرد – أحداث الحملة العسكريَّة ضد السلطان علي دينار، واستبسال أهل المساليت ضد تمدُّد الاستعمار الفرنسي من تشاد نحو دارفور.
أما إيَّان مكي الذي كان خبيراً زراعيَّاً، فقد عمل في مشروع الباقير، وقضى أعظم سنواته في جبال النُّوبة معتنياً بإصلاح الأراضي، واحتفار الحفائر لتحسين تربية الحيوانات والوسائل الزراعيَّة، ومحاربة الجفاف والتعرية، ثمَّ ساهم في إنشاء مشروع قرية دم جمد على بعد ستة أميال من مدينة تلودي، وذلك لتوطين الجنود العائدين في قوَّة دفاع السُّودان (نواة قوَّات الشعب المسلَّحة حاليَّاً). إذ سرد السيِّد مكي سيرته ومسيرته في السُّودان في كتاب بعنوان "مرور في (جبال) النُّوبة" الصادر العام 1994م، وقد تكرَّم السيِّد مكي بوضع صورة لكاتب هذه الصفحات مع كتابة تعليق مختصر عنه في صفحة 387 من الكتاب إيَّاه.
هناك أيضاً آرثر ستانيفورث الذي حاول الاستفادة من مياه خور أبو حبل في إنشاء مشروع الري بالفيضانات لاستغلالها في الإنتاج الزراعي في القطاع الواسع للأراضي الخصبة في كردفان التي تقع جنوب-شرق مدينة الأُبيِّض. وقد استعانت حكومة السُّودان وقتئذٍ بالمهندس المجري الذائع الصيت على المستوى العالمي أندرو دي فاجدا في تأسيس هذا المشروع الذي استهدف زراعة 10.000 فدان من هذه الأراضي. هنا تجدر الإشارة إلى أنَّه في نهاية العام 1945م كانت المجاعة المهلكة تهدِّد البلاد، التي تسبب فيها الجراد، مما دفع الحكومة إلى الإسراع في الشروع في هذا المشرع، وبخاصة أنَّ الحكومة كانت لديها ميزانية ضخمة بعد سنوات من ارتفاع أسعار القطن. وقد أشار ستانيفورث إلى تجربته في السُّودان في كتاب "أصداء إمبراطوريَّة: السُّودان، الشعب، التاريخ والزراعة" المنشور العام 2000م.
أما البروفيسور أليك بوتر وزوجه مارجريت فقد كان لهما الشرف في إنشاء كليَّة الهندسة المعماريَّة في جامعة الخرطوم، وساهمت زوجه التي كانت متخصصة في فن الرسم في تزيين قاعة الامتحانات الرئيسة التي شيَّدوها. وفي أمر بناء هذه القاعة يتجلى العقل المعماري ومواد البناء السُّودانيَّة من خشب الجنوب والتجربة الإنجليزيَّة في بناء الكنائس القديمة في بريطانيا والخط العربي في المساجد التركيَّة. ومن ثم جاءت ذكريات حياتهما في كتاب موسوم "كله ممكن: سنواتنا في السُّودان" الصادر العام 1984م.
بيد أنَّ الفئة الثانية من البريطانيين الذين خدموا في السُّودان فهم أولئك الذين – بجانب أعمالهم المهنيَّة – اختلطوا بصفوة الخرطوم، ونشأت بينهم علائق اجتماعيَّة، ثمَّ أورثوهم السلطة بعد عمليَّة السودنة. كان من بين هؤلاء غراهام توماس وبعلته إزمي. أما زوجه إزمي فقد نشرت مذكراتها في كتاب بعنوان "مدوَّنة السُّودان" الصادر العام 2000م، وقد قمنا باستعراض جزء شائن منه في كتابنا الصادر العام 2021م الموسوم "مداد القلم". لقد قرأنا مذكرات السيِّد توماس التي نشرها العام 1990م بالإنجليزيَّة بعنوان (Sudan: Death of Dream: 1950-1985)، وقام عمران أبو حجلة بترجمته إلى العربيَّة بعنوان "السُّودان.. موت حلم" العام 1994م. غير أنَّنا عدنا لقراءة النسخة العربيَّة لنستذكر ما جاء في الكتاب مما قد نسيناه، أو أنستنا له الأزمان؛ فهناك من الكتاب ما قد تقرأه مرة، وهناك مما تقرأه مرتين، ثم هناك مما تقرأه أكثر من مرة. هكذا قرأنا ذلكم الكتاب مرتين لسببين: أولهما طول الفترة بين القراءة الأولى والثانية، فقد أقدمنا على قراءته القراءة الهادئة المطمئنة المستأنية، وقد تقدَّم بنا العمر، وصحبنا الدنيا بأمورها الجسام وخطوبها العظام، واضطرَّينا إلى التفكير والتروية؛ وثانيهما إنَّ الترجمة العربيَّة قد لا تكون صورة طبق الأصل للنسخة الأصليَّة الإنجليزيَّة، لأنَّ الترجمات قد لا تكون صورة صادقة حين يتم نقل المادة من لغة إلى أخرى.
للمقال بقيَّة،،،