حديث مستأنف حول إشكالات بقاء الدولة السودانية … بقلم: د. عبدالوهاب الأفندي
ضروب الإقصاء ومطالب المواطنة:
حديث مستأنف حول إشكالات بقاء الدولة السودانية
ابتدرنا في الأسبوع قبل الماضي الحديث عن إشكاليات المواطنة السودانية مقارنة مع الإشكالات المقاربة في الدول المتعددة الثقافات. وخلصنا إلى أن مفهوم المواطنة يرتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الديمقراطية باعتبارها حكم الشعب لنفسه. ففي كل النظم غير الديمقراطية، هناك طبقة حاكمة تمارس السيادة على بقية أهل البلاد الذين لا يرتفعون بهذا السبب عن مقام الرعية. ففي الدول الملكية، تنحصر السيادة في الأسرة المالكة، وفي النظم الاستبدادية تكون للحاكم الفرد، وفي الأوليغارشية، تكون السلطة للأقلية الحاكمة، وفي الأرستقراطية يكون الأمر لطبقة النبلاء، وهكذا. أما الديمقراطية فهي النظام الوحيد الذي يكون فيه كل المواطنين (نظرياً على الأقل) أعضاء في الطبقة الحاكمة، ومتساوين في المواطنة. وعليه فإن أي سلطة فعلية تنفيذية أو تشريعية تكون خاضعة لسلطان جماعة المواطنين، وخادمة لهم لا سيدة عليهم. ولا بد أن تبرر هذه السلطة كل أعمالها للشعب، وتكون خاضعة للمساءلة أمامه، وبالتالي للخلع والإبعاد إذا لم يرض عنها الشعب. وهذا هو مقتضى مقولة حكم الشعب لنفسه.
من هنا فإن مفهوم المواطنة لا قوام له خارج مفهوم الديمقراطية، ولا تعريف له إلا بالاستناد إلى الفكر الديمقراطي. إلا أن الإقصاء الاستبدادي ليس هو النوع الوحيد من أنواع الإقصاء. فقد ظلت الديمقراطيات تمارس الإقصاء في حق طائفة من رعاياها، بما في ذلك الولايات المتحدة التي تدعي أنها قامت على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان، إلا أنها ظلت تحرم جل سكانها من حقوق المواطنة حتى مراحل متأخرة من تاريخها، وخاصة النساء والسكان الأصليين والأفارقة الأمريكيين وبعض فئات الآسيويين، وعلى رأسهم الصينيون ومهاجري أمريكا اللاتينية. وقد أصدرت المحكمة العليا حكماً شهيراً عام 1857 في قضية المدعو دريد سكوت، جاء في نصه أن الأفارقة الذين جلبوا إلى أمريكا كأرقاء وذرياتهم غير مشمولين بالحماية الدستورية، ولا يمكن لهم أبداً أن يمنحوا المواطنة الأمريكية أو أن يلجأوا للمحاكم العليا طلباً للإنصاف.
ورغم أن التعديل الدستوري الرابع عشر الذي صدر في عام 1868 سعى بصورة غير مباشرة إلى تجاوز منطوق هذا الحكم عبر إلزام الولايات بمعاملة كل المقيمين فيها على قدم المساواة، إلا أن التمييز ضد السود، بما في ذلك التمييز المقنن عبر الفصل العنصري في المدارس والمكاتب والمرافق العامة، ظل حقيقة ماثلة حتى قيام حركة الحقوق المدنية في الستينات. ولعل الملفت في الأمر أن بعض القيادات الأمريكية التي اشتهرت بدفاعها عن الديمقراطية وحقوق الإنسان حول العالم، وعلى رأسهم الرئيس وودرو ويلسون، كانو من أبرز مؤيدي التمييز والفصل العنصري. بل إن الفصل العنصري بدأ يأخذ طابعه الرسمي في عهد ويلسون.
وفي بعض الأحيان، فإن العملية الديمقراطية نفسها قد تجنح نحو تأييد الإقصاء، خاصة إذا كانت هناك قطاعات مهمة من الناخبين ذات توجهات إقصائية. ففي الحالة الأمريكية، فإن الرئيس ويلسون كان أول رئيس أمريكي يأتي من الجنوب بعد هزيمة الجنوبيين في الحرب الأهلية. وكان الناخبون الجنوبيون في غالبيتهم ذوي توجهات عنصرية، فكان كسب أصواتهم يتطلب أن تستجيب الحكومة لتوجهاتهم. بنفس القدر فإن التحول الديمقراطي في بلدان مثل يوغسلافيا وساحل العاج وبلدان أخرى نتج عنه صعود تيارات قومية ذات توجه شوفيني إقصائي، مما أدى إلى تفجر حروب أهلية في تلك الدول. في إسرائيل أيضاً نجد أن النظام الانتخابي هناك يؤيد صعود الأحزاب المتطرفة التي تؤيد الإقصاء العنصري وتبث الكراهية ضد طائفة من موطني الدولة. ونشاهد تطوارت مماثلة في دول أوروبية مثل النمسا وهولندا والدنمارك، وحتى في الولايات المتحدة مؤخراً مع صعود التيار اليميني المتشدد المسمى بتيار "حفلات الشاي".
ولعل المستغرب هو أن بعض المعارضين للحكومة السودانية وعدد من مسؤولي حكومة الجنوب قد عبروا في الأونة الأخيرة عن استعدادهم للتعامل مع إسرائيل، حيث قال قائلهم: ما المشكلة في التعامل مع إسرائيل وهناك دول كثيرة تتعامل معها؟ والإجابة هي أنه لو كان البعض لا يرى مشكلة في التعاون مع دول تتبع سياسات عنصرية إقصائية مثل حكوة جنوب افريقيا العنصرية سابقاً وإسرائيل حالياً، فلماذا يثور هؤلاء على الحكومة السودانية لاتهامها بممارسات مماثلة؟ فالأقربون أولى بالمعروف.
هناك إشكالات أخرى واجهت الفكر الديمقراطي والممارسة المستندة إليه في تنزيل مبادئ الديمقراطية على أرض الواقع. فمن جهة افترض هذا الفكر أن المواطنين يدخلون ساحة العمل العام أفراداً مجردين من كل صفة مميزة سوى صفة المواطنة، وتغافل عمداً عن حقائق وجود التكتلات وواقع خلفيات المواطنين الثقافية والعرقية والدينية وخصوصياتهم المتفردة. ومن جهة أخرى اعتمدت معظم الديمقراطيات آلية الانتخاب وسيادة خيارات الاغلبية. وكلا هذين الأمرين يخلق إشكالات عدة.
فيما يتعلق بالهوية الفردية فإن الواقع يؤكد أن الأفراد يمارسون السياسة في كتل وجماعات، لا أفراداً. فمصالح أو رؤى طبقات أو فئات بعينها قد لا تتطابق مع رؤى ومصالح أخرى، بل قد تتضارب معها. وهذا بدوره أدى إلى خلق آليات للدفاع عن مصالح كل فئة. فهناك النقابات للدفاع عن حق العاملين، وتكتلات أصحاب العمل لغرض مماثل ومقابل، والأحزاب للتعبير عن آراء وتوجهات الفئات، والتكتلات العرقية والجهوية للدفاع عن مصالح كل فئة.
وفي العقود الأخيرة، سعت الديمقراطيات الكبرى إلى معالجة هذه القضايا، وذلك عبر انتهاج سياسة الاعتراف بالمجموعات المهمشة، وإعطاء اعتبار خاص للمرأة والأقليات الدينية والعرقية، وممارسة ما يسمى بالتمييز الإيجابي لصالح الفئات التي عانت من الإقصاء في السابق، وتعويض بعض الفئات، مثل سكان البلاد الاصليين في استراليا وكندا والأمريكتين، والاعتذار لهم عن الممارسات السابقة التي اقتربت من الإبادة الجماعية. والطريف أن هذه السياسات (التي اتخذت مسمى "التعددية الثقافية") أصبحت تتراجع في الآونة الأخيرة، وتواجه هجمة شرسة من القوى المحافظة، وحتى من بعض الليبراليين واليساريين، خاصة حين يتعلق الأمر بالجاليات المسلمة (أو السود في أمريكا). فيرى المحافظون أن سياسة التمييز الإيجابي قد ذهبت أبعد من اللازم، وأصبحت الآن تكرس عدم المساواة. أما اليساريون فيرفضون التعامل مع الهويات الثقافية من الأساس، ويرون فيها محاولات من القوى المهيمنة للتلبيس على مشكلة الاستقطاب الطبقي.
إذا طبقنا هذا على الحالة السودانية، فالثابت هو أن الدولة السودانية لم تمارس عملياً الإقصاء المقنن. فالقوانين السودانية ودساتير السودان ظلت تنص منذ البداية على المساواة التامة بين المواطنين في الحقوق والواجبات. ونظرياً فإن المؤسسات التعليمية ووظائف الدولة مفتوحة لكل المواطنين على قدم المساواة، مع عدم وضع أي اعتبار إلا للكفاءة والمؤهلات الفردية. ولكن هذه السياسة تحديداً هي المشكلة. فالمساواة النظرية قد تؤدي إلى تمييز عملي، كما حدث في أمريكا وغيرها حين استخدمت معايير متساوية للقبول في الجامعات والتوظيف للفئات التي تمتعت بامتيازات لقرون طويلة، وتلك التي حرمت من كل شيء.
وقد تفجرت أول أزمة سياسية كبرى في السودان تحديداً حين وزعت الوظائف الكبرى في الدولة في الفترة الانتقالية بين الاستعمار والاستقلال بالنظر فقط إلى المؤهلات الأكاديمية والخبرة، بدون مراعاة لواقع أن توزيع المدارس والمؤسسات التعليمية لم يكن عادلاً. ورغم أن هذه لم تكن مسؤولية النخبة السودانية التي قادت البلاد إلى الاستقلال، إلا أن تعاملها مع ذلك الواقع أدى إلى تفاقم المشكلة. فمن جهة كانت تلك النخبة تشارك مثيلاتها في جل دول افريقيا توجسها من مطالب الأقليات، وتؤمن بأن التقسيمات العرقية والإقليمية صنيعة الاستعمار. وقد كان كل قادة افريقيا يفضلون النموذج الفرنسي في أحادية الدولة، وعد الاعتراف بالتعددية أو مطالب الحكم الذاتي للإقليمي، خشية من أي يؤدي ذلك إلى تفتت الدولة وضياع الهوية القومية.
النتيجة المنطقية لهذه التوجهات كان تبني سياسة الحزب الواحد وقمع التعددية الحزبية بدعوى محاربة الاستقطاب الديني والعرقي، وهو ما حدث في كل دول افريقيا تقريباً في الحقبة بين الاستقلال في الخمسينات والستينات وبداية التسعينات. وكان نتاج ذلك بنفس الدرجة تعميق الانقسامات وتفجر الحروب الأهلية، ومزيد من تدهور الأوضاع في القارة. وفي الحالة السودانية فإن النخبة تعاملت مع مطالب الأقاليم بنفس التوجس والفوقية، حيث رفضت المطلب الجنوبي لتأسيس نظام فدرالي، وتجاهلت مطالب الشرق والغرب حول التنمية المتوازنة. وعندما اندلعت الاحتجاجات العنيفة والسلمية في الأقاليم، زاد التوجس تجاه مواطني هذه المناطق، وبالتالي التمييز ضدهم. على سبيل المثال أصبح المواطن الجنوبي متهماً بالتعاطف مع التمرد، وأصبح من الصعب أن يحصل على وظيفة في المستويات العليا من الجيش والشرطة أو الإدارات الحكومية. وبنفس القدر فإن اندلاع الحرب في الجنوب (ثم بعد ذلك في الشرق ودارفور) أدى إلى تعثر التنمية وإغلاق المدارس ونزوح مئات الآلاف، مما ترتب عليه حرمان من الخدمات الأساسية، وضياع فرص أجيال بكاملها في التقدم الاجتماعي.
من هنا يتضح أنه في التعامل مع الأزمة السودانية الحالية فإن مجرد التحول الديمقراطي بصورته التقليدية لن يكون كافياً. وقد أثبتت التجربة ذلك، حيث اندلعت الحرب الأهلية في بدايات الديمقراطية الأولى، واستمرت بغير توقف وزادت حدتها في العهد الديمقراطي الثاني. وقد شهد العهد الديمقراطي الثالث استمرار الحرب الأهلية التي اندلعت في العهد الدكتاتوري السابق، وزاد اشتعالها أيضاً. ولا ينبغي أن يعتبر هذا قدحاً في الديمقراطية، لأنه في واقع الأمر ليس هناك بديل عن الديمقراطية، وإنما المطلوب هو تطوير الممارسة الديمقراطية والتنظير الديمقراطي حتى تستجيب لطبيعة المطالب الشعبية وتتعامل بعدالة وواقعية مع الأوضاع السائدة.
لقد تطور الفكر الديمقراطي والممارسة الديمقراطية معاً، استفادة من تجارب الماضي واتعاظاً بالممارسات الخاطئة، وتوسعاً في أفق البشر. فالديمقراطية لا تقوم اليوم على مجرد إثبات الغلبة العددية للأكثرية، وإنما تحدد رغبة الأغلبية بضوابط أخلاقية ومبادئ مشتركة عبر آليات دستورية تضمن حقوق الأفراد والأقليات بدون إجحاف بخيارات الأغلبية. ومثل هذه التوازنات تتحقق عبر الحورا كما تتحقق عبر الصراع. وأهمية الديمقراطية هي أنها تتيح المجال للصراع السلمي وتغني بذلك عن تفجر النزاعات المسلحة. أما الأسلوب الذي اتبع في السودان كثير من دول المنطقة فقد سعى إلى التعامي عن الخلافات، لا حلها، وكبت المطالب لا الاستجابة لها، وخلق الوهم بعدم وجود خلافات، مع استغلال هذه الخلافات كأداة لحسم الصراعات.
ولكن هذا الأمر لن يتحقق إلا بتوافق بين القيادات السياسية على اعتماد الديمقراطية منهجاً، والتعهد بعدم استخدام العنف أو القهر أداة لتحقيق الأغراض السياسية، مع توافق على الاحترام المتبادل لكل الخيارات السياسية وكل الهويات السياسية التي يتشكل منها الوطن. إذن لا بد من الدخول بدون تأخير في مثل هذا الحوار، وإذا كان هناك قدر من النضال السلمي المطلوب للضغط على كل الأطراف للسماح به والمشاركة فيه، فعلى القوى الحية في المجتمع أن تتبدر مثل هذا النضال.
Abdelwahab El-Affendi [awahab40@hotmail.com]