حرمان مريم المنصورة.. بين عنف الدولة وعنف العولمة

 


 

 

كتب الأستاذ الجامعي د.محمد عبد الحميد

ربما لا يشتط المرء في الزعم أن التيار السياسي الإسلامي في السودان عميٌّ عن حقيقتين يشكل عليه فهمهما برغم طول تجاربه في الخصومات السياسية وصراعاته المستفلحة مع المجتمع الدولي، هما حدود إستخدام عنف الدولة في مواجهة الخصوم السياسيين، و مواجهة المجتمع الدولي بما تفرضه العولمة من حقائق تجعل سيادة الدولة أشبه بخرقة مهترئة لا تكاد تحجب ضوءاً ولا تستر عرياً.
وتتأكد هذه الحقيقة في الطريقة والأسلوب الكلاسيكي في محاولة استغلال عنف الدولة بما يوفره من أطر قانونية مقابل تجاهل أو جهل تام حيال ما يترتب على ذلك من عواقب. وحتى لا يكون الحديث تجريدياً، يمكن الزعم أن خلاصة حكم الاسلاميين زهاء ثلاثة عقود إبان ما عرف بعهد الإنقاذ، كانت تجسيد لحالة رعونة مستحكمة وعدم استبصار لمقتضيات ما تفرضه العلاقات الدولية من ضرورة مراجعة فهم معنى السيادة وأين تنتهي حدودها مقابل التزامات الدولة تجاه العديد من القضايا خاصة تلك المرتبطة بحقوق الإنسان.
ترتبط المقدمة أعلاه بالرسالة التي بثتها السيدة مريم المنصورة والتي أعادت نشرها أختها رباح الصادق بصحيفة سودانايل بتاريخ 7 اكتوبر بعنوان(رسالة من الحبيبة مريم المنصورة للأحباب والحبيبات) حكت فيها مظلمة حاقت بها من قبل السفارة السودانية في القاهرة. حيث أكدت أنها وأبناء أخيها قد حُرموا من بعض حقوقهم المدنية نتيجة لأن أسماءهم ضمن "لستة" إتهام. وهذا فعل يندرج فيما يمكن أن يُسمى بعنف الدولة، وقد يفهم الكثير من الناس أن عنف الدولة مرتبط فقط بإحتكار وسائل العنف والقهر في شكلها المادي (السلاح ومَن يحملونه)، بينما احتكار الجهاز البيروقراطي للدولة واستخدامه في المنع والحرمان هو أيضا ضرب من ضروب عنف الدولة.
عموماً ومهما يكن من أمر، هنالك قضايا مقررة سلفاً في اتفاقات دولية ومعاهدات تعمل على تحجيم عنف الدولة أو كبحها من إستخدام ذلك العنف بدرجات متفاوتة يمكن أن تصل لمستوى تتقلص معه سيادة الدولة في واقع العولمة.. إن القضية التي تثيرها حرمان السيدة مريم وأبناء أخيها من الخدمات المتعلقة بالجوازات تحكمها قوانين ومعاهدات دولية تحمي الأفراد من هذا العنف غير المبرر من الدولة، فإتفاقية 1961 المعنية بخفض حالات عديمي الجنسية
1961 Convention on the Reduction of Statelessness
على سبيل المثال تحمي الأفراد من هذه الممارسات التي تتجسد فيما يعرف ب (الحرمان) من الجنسية وما يترتب عليها من الحصول على جواز سفر من الدولة.. وهو أيضاً أمر مرتبط بأحد أهم أدوات العولمة وهي المحاكم الدولية، والتقارير السنوية لمجلس حقوق الإنسان الذي تعده المفوضية السامية لحقوق الإنسان والذي ترصد فيه مثل هذه التجاوزات.
إن الدول الحصيفة تتجنب ان تأتي بمثل هذه الأساليب "ممارسة العنف البيروقراطي" الذي يُفضي لخرق القواعد والمعايبر المرتبطة بحقوق الإنسان بما في ذلك حق الحصول على الجنسية وخدمات جواز السفر (إستخراجا وتجديدا) وكل الإجراءات والمعاملات التي أقرتها المواثيق الدولية بما في ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948م خاصة المادة 15 وما تقتضيه اتفاقية 1961 حتى لو لم يكن السودان طرفا فيها.. ذلك لأن مثل هذه الاتفاقات تعمل على تحجيم عنف الدولة تجاه الأفراد خاصة وأن الحالة الراهنة - حالة مريم المنصورة - لا يدعمها أي حكم قضائي يثبت جنحة أو جرم أو جريرة تقتضي هذا العنف والحرمان.
أن إستخدام عنف الدولة البيروقراطي بهذه الكيفية الإعتباطية Arbitrary سوف تجر على الدولة عنفا من نوع مختلف هو عنف العولمة المصمم على نسق يتناسب طردياً مع اعتباط الدولة وإيغالها وولوغها في حالات عدم الرشد السياسي. وهذه هي الحقيقة التي لم يستطع الاسلاميون - الذين تسللوا لمواقع السلطة في ظرف الحرب الراهنة - إستيعابها وعادوا ليمارسوا بذات الإرث الذي خلفته الإنقاذ وبذات العقلية فتح المواجهات مع الخصوم السياسيين اعتماداً على عنف الدولة، بينما في الوقت نفسه يضيقون الخناق على مجموعة العساكر (المتنفذة) التي تقاتل في الميدان والتي قد تتحمل أوزار تلك المواجهات دون أن تكون على وعي كافٍ بأبعاد وشروط لعبة السياسة في ميدان محتدم سياسياً كما تحتدم معركتهم في الميدان العسكري.. غير أنهم وبلا أدنى شك سيكونوا هم الخاسر الأكبر ولات ساعة مندم. عندما تفتح محاكم العولمة ذات يوم قاعاتها وهم وراء القضبان مجردين من بذاتهم العسكرية، وذاهلين حتى عن طبيعة التُهم الموجهة إليهم ولسان حال قضاة تلك المحاكم المُعولمة القول المأثور (إن القانون لا يحمي المغفلين).

د. محمد عبد الحميد

wadrajab222@gmail.com

 

آراء