حسن الجزولي: حينما ادعيت كاذبا أنني صاحب العربة وليس جمال محمد احمد

 


 

 

إعداد : عبد المنعم عجب الفَيا

فى بداية الثمانينات كنت راجلا، امشىي، من عند دار النشر بجامعة الخرطوم بعد ان اديت وجبة افطار الصباح مع كل من الصديق د. محمد المهدى بشرى واستاذنا الراحل على المك الذي كان وقتها على رأس تلك المؤسسة.
وبينما كنت سائرا بشارع الجمهورية وأنا امنى النفس بعربة صديق او (فضل ظهر) يرحم (فلسى) ويتفضل بتوصيى، وأنا الغادى والرائح من امدرمان الى هذه المنطقة ايابا وذهابا دون فلس حتى للركوب، وقبالة مكاتب ادارة سودانير، ان كنت ما ازال مستحضرا خريطة عاصمة الترك، طرقت احدى اذني كركبة حادث مرورى خلفى مباشرة.
وعندما التفت مذعورا اتضح لى بأن سائق عربة ملاكية اندفع بعربته من موقفها وهو يود الاسراع بها الى مشواره الذى يبدو فى غاية الاهمية لتصطدم مؤخرة عربته بعربة تاكسى جديده لنج كانت مقرشة بالقرب منه، فدشدشها دشدشة احدثت كثير خراب فى واجهتها.. حديدة التصادم والكشافات والزينة، وأظن من ضمنها (البوبينا) هذا ان كنت ملما بمعرفة اين يكمن موقع الآخيرة فى هيكل أى سيارة تمشى على الارض!
المهم خرجت من حالة الخلعة خوفا على بدنى الى حالة التعاطف مع سائق العربة التى صدمت للتو، ثم توقفت العربة الصادمة بفعل دخاخين مشعللة. ركضت ومعى نفر من المارة لنجدة السائق، والذى ترجل من العربة نحو ( السيارة ) الاخرى لفحص ما الم بها من خراب، وهو يتسائل عن صاحبها الذى ظنه انه من بين حشد المارة الذين تجمعوا، وبينما أنا مشغول بفحص عربة الآخر المدشدشه فأذا بنظرى يقع على السائق (الطائش) لأكتشف أنه استاذنا جمال محمد أحمد بشحمه ولحمه !
كانت هذه هى المرة الأولى التى اراه فيها عن قرب واحادثه ويحادثنى – المرة التى قبل ذلك كانت فى مأتم شيخ شعرائنا المغفور له محمد المهدى المجذوب، من بعيد، وكنت أجلس فى صيوان العزاء بقرب اشقائى كمال وعبد المنعم الجزولى يتوسطنا الاستاذ فاروق أبو عيسى، وأظن ان خامسنا كان استاذنا عبدالله بولا ولست بالمتأكد.
المهم فى اللحظة التى كان فيها الراحل جمال يسأل عن صاحب العربة، فإذا بى ودون اى لجلجة اقول له، وانا مازلت مبهورا بتلك القامة والابتسامة الودودة والتواضع الجم ووقار الشعر الناصع البياض وهيبة الديبلوماسية السودانية ( وسالى فو حمر) وحكايات مجلة الصبيان عندما كنا (يفعا)، (وروح افريقيا)، (ومطالعات الشئون الافريقة)، وملامح ابنته الأنيقة التى كنت أراها بين وقت وآخر تسير فى ردهات القانون بجامعة الخرطوم وفى النشاط سنوات النشاط وهى تحمل بعضا من ملامح وجهه البشوش( وسرة شرق) ! خرج صوتى من بين كل ذلك وانا اجاوب بتماسك اقنع من هب معى من المارة المتجمعين:
انا صاحب العربة.
فابتسم ثانية (استاذى) بكل جلال السودانيين الذين يودون فض المنازعات بالتى هى أحسن وهو يدخل احدى يديه ربما الى حافظة نقودة من جيبه الخلفى، حينها قلت له وبكل عفويه سودانية ما يعنى:
- حصل خير يا استاذ ومافى عوجه وانشاء الله جات سليمه، ونحوه من طيب الحديث فى سماحة السودانيين !
قلت كل ذلك وانا لا صاحب العربة المدشدشه ولا اى حاجة ! فقط موقف بتاع سلبطه اتخذت فيه موقفا افترضت ان صاحب العربة نفسه سيتخذه ان علم من هو الصادم !
وبعد اجاويد المارة الذين ازداد حشدهم وتعضيدهم لتنازلى الجم عن( كامل حقوقى )- أنا ابن الأكرمين – اقتنع جمال الا انه أصر ان يعطينى رقم هاتفه فى محاولة آخيرة منه لتغيير رأيى بعد فحصى الدقيق فيما بعد لما اصاب ( عربتى ) حقيقة من دشدشة وبشتنه!
غادر راحلنا جمال بعربته الى مشواره الذى حسبته لحظتها انه من الاهمية بمكان والا ما كان لرجل فى قامته ومكانته ان يفعل فعلته تلك! .
وقبل ان اغادر أنا وبعض المحسنين من اجاويد الشارع، الذين (غطسوا حجرى) عندما أصروا على الرجل بقبول (تنازلى)، فاذا بشخص عريض المنكبين, بارز العضلات ويتدلى الشرر من احدى عينيه كما خيل لي من هيئته، وهو يركض نحو العربة المدشدشة سابَّاً لاعناً! وبين لازمات هيئته تلك وفحصه لمقدمة عربته المدهوسة وشرور النظرات المتدفقة من محجريه وهو يعاين فى المتجمعين حوله، وتبرع بعض اؤلئك الذين كانوا قبل لحظات من (المقرظين) لموقفى المتخذ بكل سماحة وشهامة تجاة التصادم، وتحولهم لشهود (ملك) ضدى. ودون أن اتهيأ للحظة انقضاض المفترس على فريسته فاذا بى احس بقبضة (القبضايا) على رقبتى التى كادت أن تنكسر (كش). بدأت فورا وبهدوء نسبى كثيرا ما توفر لدي فى مثل هذه الظروف ان اقلل نفسيا من غضبة (سائق التاكسى) المشروعة !!
وبعد ان احسست بأن قبضاته واعصابه قد ارتختا رويدا، ثم رويداو رويدا وبمساعدة نفس شهود الاثبات بدأنا فى المضى قدما من أجل انعتاقى النهائى من بين قبضاته المميتة. حمدا لله الآن قد تم فض اشتباكه معى بحسن تدبيرى وتدبير الاجاويد الذين ازدادت اعدادهم حولى وحول الفتوة بينما اختفى تماما أستاذى جمال غفر الله له !
قال لى: ممكن بس تورينى انت عملت كده عشان شنو؟
قلت له : – اوريك جدا!
قال لى طبعا عاوز اعرف البخليك تتكلم وتقرر فى موضوع مابخصك شنو؟
قلت له :- يا ابن العم والله العظيم انا غلطان وعارف نفسى غلطان وما كان مفروض اعمل كده ولو كان الصدمك ده اى واحد تانى ماكنت مشغول بالموضوع ده للدرجه دى, لكين ياخ الصدمك واحد من معارفى وامكن انت زاتك بتعرفو!
هنا تدخل احد المتجمهرين مؤكدا ان الصادم كان هو الاستاذ جمال محمد احمد !
شعرت بأن المصدوم وكأنه قد تخلص نهائيا من بقايا غضبه المشروع ذاك فانفرجت شفتاه عن ابتسامة بدت خجولة كعادة السودانيين الطيبين ساعة البدء فى المغفرة والانشراح وهو يقول:
جمال محمد احمد ؟ صدمنى ؟
بعد نحو من نصف الساعة على ذلك المشهد , وبينما أنا امتطى عربته التاكسى الفارهة تلك وهى مدشدشة وهو ماخاصيهو أى شى.. وبينما نحن نتخطى الكبرى فى تلك الظهيرة الغائظة متوجهين من الخرطوم الى امدرمان قلت لصاحبى مالك (التاكسى) بعد ان تنازل بكل خشوع وجلال عن الموضوع بكامله وهو قد عرف ان (جمال محمد احمد) هو الصادم :
– ايه رأيك تمشى تتغدى معاى فى البيت، واهو بالمره ممكن نتعرف اكتر ببعض.
فرد علي بكل طيبة السودانيين وتقديرهم وتمييزهم للصالح من الطالح والاسود من الأبيض والتعيس من خايب الرجا، وجمال محمد أحمد من فلتكان محمد أحمد :
عايزنا نتعارف اكتر من كده ؟ !
ثم غادر حلتنا فى حى السوق بأمدرمان بعد ان اوصلنى وهو لا يلوى على شئ !
عندما دلفت الى داخل منزلنا المتواضع استقبلتنى شقيقتى ( مها) وهى تقول لي :
- هسع دى (جمال) جانا بسأل عنك وقال ماشى وراجع وداير يتغدى معانا
قلت لها دون ان أدرى : جمال محمد احمد ؟!
فردت قائلة : ابدا .. جمال عبدالرحيم..

*نشر د. حسن الجزولي هذا المقال بسودانايل، ٧ نوفمبر ٢٠١٠، تحت عنوان (في ذكرى جمال محمد أحمد).

abusara21@gmail.com

 

آراء