حسن حنفي .. وأطروحات اليسار الإسلامي … بقلم: د. محمد وقيع الله
19 May, 2009
(1من 3)
على خطى الماركسي التالف أحمد عباس صالح جاء الدكتور حسن حنفي ليرفع راية (اليسار الإسلامي)، محاولاً أن يستقطب بها بعض الأنصار والأتباع ليشوش بهم على مسار العمل الإسلامي العام. كان الأستاذ أحمد عباس صالح قد أصدر في أواخر ستينيات القرن الميلادي المنصرم كتابه (اليمين واليسار في الإسلام)، حيث صنف صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلى يمينيين رجعيين، ويساريين ثوريين، فظن حسن حنفي أن في الإسلام نفسه يمين ويسار، وأن الجانب اليساري في الإسلام أفضل من اليميني فيه، وبالتالي فالأجدر أن يأخذ الجانب اليساري الإسلامي، ويطوره بما يعنُّ له من الأفكار، ويدعو الناس إلى النضال تحت رايته.
من هو حسن حنفي؟
ويحسن بنا قبل أن نراجع أفكار حسن حنفي التي بدأت لبعض الأسف تمارس تأثيرها الضار في أوساط العقول القابلة للتضليل، أن نأخذ لمحة عامة من خلفيته الرجل العلمية والفكرية والحركية مأخوذة من بعض كتابات بقلمه.
نشأ حسن حنفي كما ينشأ أي طفل مصري، وتلقى تعليما دينيا ومدنيا، وتعرف على أفكار جماعة الأخوان المسلمين، وهو طالب في المدرسة الثانوية، وانضم إليهم في عام 1952م، مع اندلاع الثورة المصرية. وهو يصور هذا الأمر وكأنه تمَّ بلا وعي فيقول: " وسرعان ما ضمني الإخوان إلى أسرة . وهناك بدأت التعاليم والتوجيهات تتصارع مع أحساسي بالحياة وبالطبيعة ". و يقول إنه كان يعزف على الكمان للإخوان المسلمين، وكان يصلي معهم الفجر في رمضان، ويزعم أن الإخوان جعلوه – بسبب تحرره وخلوه من العقد- رسولا بينهم وبين الأخوات في الجامعة.
وعندما قرأ حسن حنفي أدبيات الإخوان التأسيسية التي كتبها الإمام حسن البنا والإمام سيد قطب أشعلت في رأسه نزاعاً مع تخصصه الإكاديمي . وفي هذا يقول :" وفي الجامعة كانت بدايتي مع الفلسفة الإسلامية. كنت أقرأ خارج الجامعة حسن البنا، وسيد قطب وأبا الحسن الندوي، ومحمد الغزالي، ومعظم المفكرين المسلمين المعاصرين فأحس بشيئ في نفسي، وأجد نهضة الإسلام والمسلمين، وأشعر بوجودي، وحياتي، وواقعي، وأمتي، ووطني، ومستقبلي، ومشروعي. ثم أسمع في مدرجات الجامعة العقول العشرة، وطبيعيات ابن سينا، فلا أجد فيها شيئاً، وأشعر بغربة عن هذا التراث، وكأنه ليس تراثاً إسلامياً. كان قلبي مع المحدثين ولكن ظل عقلي فارغاً يبحث عن قضية إسلامية في الجامعة. انعزلت عن الفلسفة الإسلامية كما انعزلت عن علم الكلام. مجرد نظريات افتراضية لا تمس واقع المسلمين ولا حياتهم".
وفي أثناء دراسته الفلسفة بالجامعة تأثر بالفيلسوف الإسلامي الهندي محمد إقبال، وأحسَّ أن فكره يلائمه، لأنه كما قال:" يجمع بين الماضي والحاضر وليس فكراً ميتاً كنظريات علم الكلام والتصوف ". وتأثر كذلك بفكر الفيلسوف الألماني الملحد نتشة، وأخذته موجة إعجاب بالحندية الألمانية، والمثالية الألمانية وتوحيدها بين الروح والطبيعة. كما أعجب بالفتاة الألمانية، بعد أن تعلم اللغة الألمانية وتخاطب معها، وكان أول مقال كتبه في حياته بعنوان :" الخصائص المشتركة بين الروح العربية والروح الألمانية" ، حاول فيه أن يقرب الشقة بين من يرون أنفسهم شبه آلهة، ويرون الساميين، ومن بينهم العرب، شبه خنازير!!
الولع بالتنظير:
ومن عهد شابه الباكر كان شديد الولع بالتنظير وصنع المشروعات الفكرية الكبرى ، وهذا ما قاده لكي يحاول وهو طالب في الجامعة إقامة :" منهج إسلامي عام يقوم على الحسن والقبح العقليين ، ويوحِّد بين الحق والخير والجمال ويكون منهج فكره وحياة ، ونظر وعمل ". ولم يتمكن من انجاز هذا المشروع الخيالي، ويبدو أن هذا المشروع قد صرفه عن التركيز على استذكار دروسه الجامعية بواقعية وجدية، ولذ لم يقبل معيداً بالجامعة، فسافر إلى فرنسا واتصل بالمستشرق الكبير لويس ماسينينون ليضع على يديه رسالة دكتوراه بعنوان ( المنهاج الإسلامي العام ) يحاول فيها تطوير الفكرة الكبرى التي أودعها سيد قطب مقاله الشهير ( الإسلام حركة لدعوة شاملة في الفن والحياة ) و يزعم حسن حنفي أن ماسينيون رده عن هذا المشروع قائلاً:" إن هذا عملي لا ينجزه إلا من بلغ الثمانين من العمر وأنت لم تبرح الثانية والعشرين بعد"!!
ومع أن حنفي يزعم أنه كان يريد تطوير فكرة سيد قطب الجوهرية إلا أنه فيما يبدولم يفهمها حق الفهم أو أنه فضل أن يخرج عن مضمونها الحقيقي، لأنه اكتشف كما يقول نظرية سماها ( نظرية الشعور الثلاثي ) وبهذه النظرية العجيبة التي اكتشفها : " يصبح الله أقرب إلى الصيرورة منه إلى الكينونة " . وبتواضع جم يصف لنا حسن حنفي النظرية التي اكتشفها فيقول إنها : " كانت أول محاولة لإعادة بناء الحضارة الإسلامية على مستوى الشعور من أجل اكتشاف الذاتية حتى نعيد بناء حضارتنا ونعيد اختيار محاورها وبؤرها وبدل أن تكون مركزة حول الله تصبح مركزة حول الإنسان "، ولم يشرح لنا هذا الكلام حتى نفهمه ولكن ربما لم يكن له معنى مفهوم حتى يشرحه لنا بلفظ بسيط!!
أساتذته الفرنسيون:
وبجانب أستاذه المبشر ماسينيون يحدثنا حسن حنفي عن أحد أساتذته الفرنسيين الذين أضلوه السبيل فيقول : :" كان من أدين له بكل شئ في تكويني الفلسفي هو جان جيتون، أستاذ الفلسفة ، وتلميذ برجسون ، ومجدد الكاثوليكية ، وأول علماني يدخل المجمع المسكني في تاريخه على الإطلاق ، صديق يوحنا الثالث والعشرين ثم بولس السادس ، وعضو الأكاديمية الفرنسية . أطال الله في عمره، هو أستاذي ومعلمي كما أسميه باسم المسيح ، ويسميني تلميذي الحبيب كما سمى المسيح يوحنا الحبيب". ويذكر كيف علمه هذا الأستاذ أن يصالح بين الاتجاهات المتعارضة ويؤثر على الناس من خاصة وعامة وكيف يدرك أهمية الزمان الوجودي وكيف يعي الحياة . وكيف تعلم منه أن الفلسفة تحتاج إلى نقطة بداية يتفهمها الفيلسوف ثم يقدم منها بعد ذلك ماشا حتى يصل إلى المثاقية فيها الخالصة . وهذه فائدة مشكوك فيها فليس لحسن حنفي أي بداية واضحة ولا فكرة مركزية يعمم منها فهو يلمس كل قضية تقريبا كالصحفي المكلف برصد الأنباء والتعليق عليها بشكل عام .
ولا يفوت على حسن حنفي أن يحدثنا كيف قام هو – أي حسن حنفي- بتطوير هذا الأستاذ من المثال إلى الواقع ، ومن الروح إلى الطبيعة ، ومن الوعي الفردي إلى الوعي الجماهيري ، ومن اليمين واليسار ، ومن الدين إلى الثورة ، ومن الغرب إلى الشرق ومن المسيحية إلى الإسلام" .
ويحدثنا عن سر اهتدائه لعلم أصول الفقه الإسلامي فيقول:" وكان الصراع في السربون في ذلك الوقت بين مركز (ريشيليو) مركز الطلبة الكاثوليك وبين الطلبة الشيوعيين . كان الكاثوليك يعتنون بالطلبة الأجانب. لم يكن الهدف تحولهم عن دينهم ولو أن ذلك كان وارداً ولكن استئناسهم وإلا وقعوا فريسة التيارات الهدامة، وحتى يتم الاعجاب المسيحي المتفهم للاسلام التقليدي الشائع في قلوب الناس، ولا تطغى الثقافة الاوربية المادية الملحدة العقلانية على إيمان المسلمين! كنت أرى أن كل من يتكلم عن الأسس الاجتماعية أو السياسية للظواهر الانسانية فهو مادي. ومرة كنت أسمع تحليلاً لنشأة الاسلام من أحد الطلبة العرب من شمال أفريقيا عن طبقة التجار وطبقة العبيد فكنت أرثى في ذلك الوقت لحال الطلبة المسلمين الذين أفسدتهم الشيوعية لأن الاسلام في رأيي وقتئذ كان وحيا من عند الله. ولم أكن في ذلك الوقت قد فهمت دلالة (أسباب النزول) وأنواع العلل المادية في اصول الفقه أي الاسباب المادية لوقوع الاسلام وتطوير التشريع"[1]. وهكذا اهتدى حسن حنف إلى علم الأصول ، لا ليعرف به الخاص من العام ولا المجمل من المفصل وإنما ليخرج بالنص عن معناه الأصلي المراد إلى شيء متوهم ينسب إلى الواقع ، وهي الحيلة التي ما يزال اليساريون المصريون من تلاميذ حنفي يستمرؤنها في تأويل القرآن بعكس مراده!
وقد ذكر حنفي في نص آخر أن ماسينون تعهده فكريا وأوصاه باستخدام مناهج أصول الفقه الإسلامي، وكتب توصية بشأنه إلى إدارة الثقافة بوزارة الخارجية الفرنسية فقررت له منحة عشرين جنيهاً ، يقول عنها حنفي إنها:" كانت فتحا لي" .
ويبدو أن ماسينيون هذا هو الذي قاد حسن حنفي مرة ثانية من مناهج علم الأصول إلى مناهج التأويل الصوفي الشاطح لأرباب وحدة الوجود من أمثال الحلاج. ومعروف أن ماسينيون هذا هو أهم من كتب عن الحلاج في العصر الحديث، فقد كتب عنه رسالة دكتوراه ضخمة، من ثلاثة آلاف صفحة، تمثل المرجع الرئيس في الغرب لفكر الحلاج وزندقته.