حظوظ دولة النهر والبحر
كوكو موسى
8 January, 2024
8 January, 2024
مع تداعيات دخول قوات الدعم السريع الغير متوقع، والمفاجيء لجميع المراقبين، لمدينة ودمدني وإنتشارها السريع حرفياً في كامل ولاية الجزيرة وإختراقها لتخوم الولايات المجاورة مع إقترابهم من دخول مدينة سنار والتي يبتعدون عن وسطها خمسة عشرة كيلوميترات فقط، مع الأخذ في الإعتبار بأن هذا وسط السودان التاريخي وكان يعتبر معقل حصين للحكومة، فإن جميع المراقبين المحليين والدوليين باتوا ينتظرون الأنهيار الحتمي للحكومة وجيشها، ولمعظم المراقبين فإن الأمر أصبح مسألة وقت ليس إلا. ورغم أن الأمر لم يكن مستبعداً منذ البداية ولكن قطعاً لم يكن هذا السقوط السريع للقرى والمدن في وسط السودان متوقعاً. وعلى الرغم من السقوط السريع لكامل إقليم دارفور ما عدا الفاشر التي منع سقوطها تدخل الحركات المسلحة بعد إنهيار الجيش، والتي في الغالب لا يريد الدعم السريع دخولها لكي لا يتورط الآن في نزاع مع هذه الحركات أكثر من كونه ليست لديه المقدرة على دخولها، إلا أن سقوط دارفور كان مفهوماً وله أسباب معروفة حيث أن الحفاظ على دارفور كان من آخر أولويات الحكومة، وفي نقاش أمين وصريح لي مع أحد العناصر الإسلامية طرح خطة الحكومة العسكرية الإستراتيجية والتي لم تخيب آمالي إطلاقاً وكانت متسقة تماماً مع معتقداتي عن الحكومة ونظرتها لمواطنيها وأقاليمها في الهامش، لقد كان صريحاً وموضوعياً لدرجة أنني لم أستطع الرد عليه، مع العلم بأنه قد أكد لي قبل كل ذلك، وخصوصاً بعد عودة البرهان من قمة الإيقاد العاصفة، بأن البرهان قد جدد إلتزامه مع الحركة الإسلامية وقد قامت هي بتجديد إلتزامها معه، وتعاهدوا نهائياً على وحدة الأهداف والإسناد التام للحكومة. ولقد كان حريصاً بأن يؤكد لي بأن الإلتزام والإحتواء مع ’’الحركة الإسلامية‘‘ وليس المؤتمر الوطني! ولقد شعرت بأن هذه النقطة كانت مهمة بالنسبة إليه. كان كل هذا قبل دخول مدينة ودمدني والتي أصاب دخولها خطة الحكومة، والتي كانت تقتضي عند الطواريء إسقاط دارفور وكردفان على التوالي والمحافظة على الوسط ومحاولة إستعادة الخرطوم، في مقتل وزعزعت حساباتها تماماً، ولهذا فلقد بات من الواضح بأن الحكومة قد قامت بإعادة حساباتها وهي تطرح وتقوم بتنفيذ خطة أكثر تطرفاً الآن، وهي خطة لها رواج كبير مؤخراً لدي العقل الجمعي الذي يسيطر على هذه الحكومة وهناك نقاش جدي محموم حولها في السنين الإخيرة. وبما أن الحكومة قد حاولت كل ما يمكنها فعله ولم تدخر جهداً للحفاظ على السودان القديم كما هو بأن تحافظ وتبقي على سيطرة إثنيات شمال ووسط السودان النيلي، والذين يعرفون في جميع أنحاء السودان بـ ’’الشماليين‘‘، على الحكومة والدولة بجميع أوجهها السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية، إلا أن هذا لم يعد ممكناً، حيث أن الثورة التي يخوضها عرب غرب السودان الرحل عبر الدعم السريع تحاصر هذا السودان من جميع النواحي وتهز وتربك حتى حسابات قدامى الثوار على هذا السودان من العناصر غير العربية والتي تقف محتارة الآن هي الأخرى أمام هذا المشهد، وهي الثورة التي يعبر عنها البعض بالدارجة السودانية بإنزعاج بأن دقلو ’’كفت الصينية‘‘. إن إستراتيجية الحكومة في آخر مرحلة لها إذا فشلت في السيطرة على الأراضي السودانية التي تتناقص حولها في جميع الإتجاهات وتتآكل نحو الشمال والشمال الشرقي هي تكوين دولة النهر والبحر، ولكن تكوين هذه الدولة أيضاً لم يعد ممكناً.
تعتمد إستراتيجية الحكومة التي يسيطر عليها الشماليون وتعتبر أداة في أيديهم على التشابه الإثني والثقافي بين الإثنيات الشمالية وإثنيات شرق السودان، لتكوين دولة النهر والبحر. في الواقع هذا التشابه هو تشابه شكلي ولكن على الأرض فإن نظرة الشماليين لإثنيات الشرق هي نفس النظرة الدونية التي ينظرون بها للإثنيات الأخرى خارج مناطقهم التقليدية والتي يمكن أن نختصرها هنا بـ ’’السودان العباسي‘‘ ولولا عدائهم التاريخي مع عرب غرب السودان فيمكن أن نزعم بأن إثنيات الشرق يتم تصنيفها بأنها أدنى من عرب الغرب. ولا يهمنا هنا ما يعتقده العقل الجمعي الشمالي بقدر ما يهمنا الترتيبات العملية لذلك على الأرض، وهي أنه في جميع الأحوال سيتم الترتيب المعهود بأن يصبح الشماليين في المرتبة العليا وشعوب شرق السودان في المراتب الأدنى، كل قبيلة حسب ما يرتبه لها الشماليون. إن أهالي شرق السودان يعلمون يقيناً أن هذا ما سيحدث في حالة إنضوائهم تحت لواء دولة النهر والبحر. ولذلك فإن هناك خلاف داخلي بين أهل شرق السودان حيال هذه الدولة، ومن غير المرجح بأن يسير أهل الشرق بأرجلهم طوعاً نحوها.
تعتمد الحكومة كذلك على العوامل الجغرافية الملائمة لتكوين دولة النهر والبحر، وهي عوامل مغرية وجاذبة جداً لتكوين هذه الدولة أكثر من العامل الإثني. هذا يعني ببساطة بأن الحكومة الشمالية كالعادة تنظر للأرض، مع إمكانية حل مشكلة سكان هذه الأرض لاحقاً، بما أنها تعتقد أو تتوهم بأن هناك تشابه إثني لحد ما سيمكن من حل هذه المشكلة بسهولة أكثر من سابقاتها. وهذا يعني كذلك بأن مقاربة الحكومة لحكم مكون البحر في دولتها للنهر والبحر الجديدة لا تختلف عن مقاربتها لحكم أي إقليم آخر في السودان القديم، وبالضبط فإن هذه نفس المقاربة التي أدت لتقلص هذه الدولة لتصبح في طريقها للإنحسار إلى دولة نهر وبحر. إذاً فما الذي يجعل الحكومة تعتقد أن في مقدرتها منع تقلص هذه الدولة إلى دولة نهر فقط؟! حتماً ستكون نتيجة التعويل على عوامل الجغرافيا لتكوين دولة النهر والبحر حسب العقلية الشمالية هو الفشل في لصق هذين المكونين، لأن الغراء القديم الذي يراد به لصق هذه الدولة كان من الأجدر به لصق السودان القديم. إن لدي النخبة الشمالية موقف إستراتيجي وجودي معلن، وهو أنهم يمكنهم التفريط في كل أرض السودان بما فيها أجزاء من النهر نفسه ولكن لا يمكنهم التفريط في المنفذ البحري شرق السودان. هذا هو ببساطة سر دولة النهر والبحر، وليس لأن هذه النخبة تعتقد بأنها شعب واحد مع شرق السودان ولهذا يجب عليهما التوحد.
والآن لندع كل ما ذكرناه في السابق جانباً لأنه في الحقيقة إن العامل الأول الذي تعتمد عليه الحكومة في تكوين دولة النهر والبحر هو القوات المسلحة السودانية، أو كالعادة القوة العارية لتوحيد الشعوب السودانية الغير شمالية تحت لواءها. ولكن هذا لن يجدي أيضاً، لأنه بالضرورة بأن إعلان هكذا دولة سوف يؤدي إلى إسقاط ما لا يقل عن مائة في المائة 100% من العنصر المقاتل في القوات المسلحة وسوف لن يبقى فيها سوى فيلق ’’السادة الضباط‘‘ الذي يحتفظ به الشماليون لأنفسهم وبعض الفنيين من الرتب الأخرى. حيث أنه من المعروف بأن جل العنصر المقاتل قادم من كردفان وجبال النوبة تحديداً بأغلبية ساحقة ومن ثم النيل الأزرق ودارفور، وهي عين الأقاليم وتحوي عين الإثنيات التي تقاتلها وتهرب منها النخبة الشمالية عبر تكوين دولة النهر والبحر. ولهذا فمن غير المرجح بأن تعلن الحكومة هذه الدولة رسمياً ولكن ستحاول أن تجعلها أمراً واقعاً مع الإستفادة في نفس الوقت من سيادتها الإسمية على باقي السودان والإدعاء بأنها تريد إستعادته لتستطيع الحفاظ على قوتها المقاتلة ريثما يتم حل هذه المعضلة والتي تبدو خطط حلها واضحة وسافرة الآن، وهي أيضاً خطط محكوم عليها بالفشل. إن خطة الحكومة لحل معضلة القوة المقاتلة في الجيش، والتي في معظمها إن لم تكن كلها تنتمي لإثنيات الهامش، هي آلية الإستنفار والتسليح على أساس إثني وعرقي، وهي خطة شديدة القذارة قوامها تسليح الشماليين - خصوصاً ولاية نهر النيل - لحماية مناطقهم وفي نفس الوقت الدفع بالمستنفرين السود وغير العرب إلى جبهات القتال المستعرة في جميع أنحاء السودان، فإذا جلبوا نصراً فهو نصر للحكومة ’’القومية‘‘، وإذا خسروا فأصلاً المطلوب التخلص منهم على أي حال، وهي - أي الحكومة - على علم تام بمدى تدني إحتماليات النصر. ولقد صاحب الإستنفار حملة أمنية عنصرية مسعورة في ولايات شمال وشرق السودان إستهدفت خصوصاً أبناء ولايات دارفور وكردفان من الباعة المتجولين والفريشة وأصحاب الطبالي وغاسلي العربات والأعمال الهامشية الأخرى وحتى النازحين، ولشدة وقاحة وسفور هذه الحملة فإنها أثارت حفيظة وخجل حتى الشماليين أنفسهم لما يفعله نفر منهم بدواعي الحفاظ على الأمن من الطابور الخامس، وفي الحقيقة فإن أي شخص من الهامش هو مشروع طابور خامس مهما بلغ إخلاصه وفلنقانيته (مشتقة من فلنقاي) ولهذا فإن المهمة الأمنية سهلة للغاية وهي أوامر بالإعتقال ’’من طرف‘‘، فقط إبحث عن السحنة. إن الورطة الحقيقية في أن الحكومة لن تستطيع إستبدال العنصر المقاتل من أبناء الهامش في القوات المسلحة بعناصر شمالية والحفاظ في نفس الوقت على كفائة وفعالية القوات المسلحة، ولقد بائت جميع المحاولات السابقة للإلتفاف على هذه الورطة بالفشل، ولا يوجد سبب مقنع لنجاح هذه المحاولة الآن، إن تقسيم العمل في المجتمع له أسباب موضوعية تتبلور عبر مراحل، ولا يمكن أن يصبح الشماليين مقاتلين بين ليلة وضحاها، ويجب أن نفرق بين المقدرات القتالية والرجولة والشجاعة بالمفهوم السوداني، إن كونك شجاعاً لا يجعل منك مقاتلاً، هناك بيئة معينة تجعل منك مقاتلاً أو على إستعداد لأن تصبح مقاتلاً. كما أن الحكومة الآن لاتملك الوقت والموارد لتعبئة قوة شمالية كافية وتدريبها وفقاً لمناهج التدريب الحديثة لتجعل منها قوة فعالة في الميدان تستطيع قلب موازين القوى على الأرض، إن هذه عملية طويلة وشاقة وتعتمد على بناء إرث وأن تصبح هذه القوات مختبرة ومجربة على أرض الواقع، وهذه رفاهية غير متوفرة للحكومة الآن.
المذهل في الأمر بأن الحكومة قد قامت بتسليح مواطنيها في ولاية نهر النيل وتدريبهم على إستخدام السلاح فقط بدون جرعات كافية في التكتيك الحربي أو حتى تقسيمهم إلى تشكيلات عسكرية منظمة، ولقد إستوثقت من هذا الأمر بنفسي عن طريق السؤال المباشر، في البداية لم أصدق أذناي ولكن بعد أن إنقشع عني الذهول توصلت لنتيجة أن الحكومة ببساطة ليس لديها زمن. وربما يستطيع خبير عسكري تقديم تفسير أفضل من هذا، ولكن حتى الآن لا توجد إجابة وافية مقنعة لهذا الأمر. في تقديري بأن سبب التكتيكات شبه اليائسة التي تقوم بها الحكومة الآن والشعور العام من كل المهتمين بالشأن السوداني بأن الحكومة لا تستشعر الخطر المحدق بها، أو تتجاهله لسبب ما، ولهذا تقوم بإتخاذ خطوات وردود أفعال غير مسئولة وخطيرة على مواطنيها، هو العقلية الإسلاموعروبية المتطرفة في آخر مراحلها، وهي عقلية صفرية (فلترق منا دماء أو ترق منهم دماء أو ترق كل الدماء) وهي عقلية تعتقد بإبادة أحد الأطراف للآخر أو هزيمته هزيمة ماحقة على الأقل، وهي لاتنظر للمواطنين كمواطنين وإنما كرعايا للدولة تقودهم إما للنصر أو الشهادة. النصر بالنسبة للحكومة الآن هو إستعادة السودان القديم بجميع علاته وهذا لم يعد في متناولها كما وضحنا، أو على الأقل النجاة بدولة النهر والبحر إذا فشلت في إستعادة السودان القديم، ولكن حتى دولة النهر والبحر لم تعد في متناولها وهي تطفو بعيداً عن أياديها، بل أن مصير هذه الحكومة نفسها أصبح قاتماً، ولكن الأكثر قتامة هو السؤال، إذا كانت هذه هي نهاية السودان القديم، فهل القادم هو ’’السودان الجديد‘‘؟
كوكو موسى
kuku.musa.abuasha@gmail.com
تعتمد إستراتيجية الحكومة التي يسيطر عليها الشماليون وتعتبر أداة في أيديهم على التشابه الإثني والثقافي بين الإثنيات الشمالية وإثنيات شرق السودان، لتكوين دولة النهر والبحر. في الواقع هذا التشابه هو تشابه شكلي ولكن على الأرض فإن نظرة الشماليين لإثنيات الشرق هي نفس النظرة الدونية التي ينظرون بها للإثنيات الأخرى خارج مناطقهم التقليدية والتي يمكن أن نختصرها هنا بـ ’’السودان العباسي‘‘ ولولا عدائهم التاريخي مع عرب غرب السودان فيمكن أن نزعم بأن إثنيات الشرق يتم تصنيفها بأنها أدنى من عرب الغرب. ولا يهمنا هنا ما يعتقده العقل الجمعي الشمالي بقدر ما يهمنا الترتيبات العملية لذلك على الأرض، وهي أنه في جميع الأحوال سيتم الترتيب المعهود بأن يصبح الشماليين في المرتبة العليا وشعوب شرق السودان في المراتب الأدنى، كل قبيلة حسب ما يرتبه لها الشماليون. إن أهالي شرق السودان يعلمون يقيناً أن هذا ما سيحدث في حالة إنضوائهم تحت لواء دولة النهر والبحر. ولذلك فإن هناك خلاف داخلي بين أهل شرق السودان حيال هذه الدولة، ومن غير المرجح بأن يسير أهل الشرق بأرجلهم طوعاً نحوها.
تعتمد الحكومة كذلك على العوامل الجغرافية الملائمة لتكوين دولة النهر والبحر، وهي عوامل مغرية وجاذبة جداً لتكوين هذه الدولة أكثر من العامل الإثني. هذا يعني ببساطة بأن الحكومة الشمالية كالعادة تنظر للأرض، مع إمكانية حل مشكلة سكان هذه الأرض لاحقاً، بما أنها تعتقد أو تتوهم بأن هناك تشابه إثني لحد ما سيمكن من حل هذه المشكلة بسهولة أكثر من سابقاتها. وهذا يعني كذلك بأن مقاربة الحكومة لحكم مكون البحر في دولتها للنهر والبحر الجديدة لا تختلف عن مقاربتها لحكم أي إقليم آخر في السودان القديم، وبالضبط فإن هذه نفس المقاربة التي أدت لتقلص هذه الدولة لتصبح في طريقها للإنحسار إلى دولة نهر وبحر. إذاً فما الذي يجعل الحكومة تعتقد أن في مقدرتها منع تقلص هذه الدولة إلى دولة نهر فقط؟! حتماً ستكون نتيجة التعويل على عوامل الجغرافيا لتكوين دولة النهر والبحر حسب العقلية الشمالية هو الفشل في لصق هذين المكونين، لأن الغراء القديم الذي يراد به لصق هذه الدولة كان من الأجدر به لصق السودان القديم. إن لدي النخبة الشمالية موقف إستراتيجي وجودي معلن، وهو أنهم يمكنهم التفريط في كل أرض السودان بما فيها أجزاء من النهر نفسه ولكن لا يمكنهم التفريط في المنفذ البحري شرق السودان. هذا هو ببساطة سر دولة النهر والبحر، وليس لأن هذه النخبة تعتقد بأنها شعب واحد مع شرق السودان ولهذا يجب عليهما التوحد.
والآن لندع كل ما ذكرناه في السابق جانباً لأنه في الحقيقة إن العامل الأول الذي تعتمد عليه الحكومة في تكوين دولة النهر والبحر هو القوات المسلحة السودانية، أو كالعادة القوة العارية لتوحيد الشعوب السودانية الغير شمالية تحت لواءها. ولكن هذا لن يجدي أيضاً، لأنه بالضرورة بأن إعلان هكذا دولة سوف يؤدي إلى إسقاط ما لا يقل عن مائة في المائة 100% من العنصر المقاتل في القوات المسلحة وسوف لن يبقى فيها سوى فيلق ’’السادة الضباط‘‘ الذي يحتفظ به الشماليون لأنفسهم وبعض الفنيين من الرتب الأخرى. حيث أنه من المعروف بأن جل العنصر المقاتل قادم من كردفان وجبال النوبة تحديداً بأغلبية ساحقة ومن ثم النيل الأزرق ودارفور، وهي عين الأقاليم وتحوي عين الإثنيات التي تقاتلها وتهرب منها النخبة الشمالية عبر تكوين دولة النهر والبحر. ولهذا فمن غير المرجح بأن تعلن الحكومة هذه الدولة رسمياً ولكن ستحاول أن تجعلها أمراً واقعاً مع الإستفادة في نفس الوقت من سيادتها الإسمية على باقي السودان والإدعاء بأنها تريد إستعادته لتستطيع الحفاظ على قوتها المقاتلة ريثما يتم حل هذه المعضلة والتي تبدو خطط حلها واضحة وسافرة الآن، وهي أيضاً خطط محكوم عليها بالفشل. إن خطة الحكومة لحل معضلة القوة المقاتلة في الجيش، والتي في معظمها إن لم تكن كلها تنتمي لإثنيات الهامش، هي آلية الإستنفار والتسليح على أساس إثني وعرقي، وهي خطة شديدة القذارة قوامها تسليح الشماليين - خصوصاً ولاية نهر النيل - لحماية مناطقهم وفي نفس الوقت الدفع بالمستنفرين السود وغير العرب إلى جبهات القتال المستعرة في جميع أنحاء السودان، فإذا جلبوا نصراً فهو نصر للحكومة ’’القومية‘‘، وإذا خسروا فأصلاً المطلوب التخلص منهم على أي حال، وهي - أي الحكومة - على علم تام بمدى تدني إحتماليات النصر. ولقد صاحب الإستنفار حملة أمنية عنصرية مسعورة في ولايات شمال وشرق السودان إستهدفت خصوصاً أبناء ولايات دارفور وكردفان من الباعة المتجولين والفريشة وأصحاب الطبالي وغاسلي العربات والأعمال الهامشية الأخرى وحتى النازحين، ولشدة وقاحة وسفور هذه الحملة فإنها أثارت حفيظة وخجل حتى الشماليين أنفسهم لما يفعله نفر منهم بدواعي الحفاظ على الأمن من الطابور الخامس، وفي الحقيقة فإن أي شخص من الهامش هو مشروع طابور خامس مهما بلغ إخلاصه وفلنقانيته (مشتقة من فلنقاي) ولهذا فإن المهمة الأمنية سهلة للغاية وهي أوامر بالإعتقال ’’من طرف‘‘، فقط إبحث عن السحنة. إن الورطة الحقيقية في أن الحكومة لن تستطيع إستبدال العنصر المقاتل من أبناء الهامش في القوات المسلحة بعناصر شمالية والحفاظ في نفس الوقت على كفائة وفعالية القوات المسلحة، ولقد بائت جميع المحاولات السابقة للإلتفاف على هذه الورطة بالفشل، ولا يوجد سبب مقنع لنجاح هذه المحاولة الآن، إن تقسيم العمل في المجتمع له أسباب موضوعية تتبلور عبر مراحل، ولا يمكن أن يصبح الشماليين مقاتلين بين ليلة وضحاها، ويجب أن نفرق بين المقدرات القتالية والرجولة والشجاعة بالمفهوم السوداني، إن كونك شجاعاً لا يجعل منك مقاتلاً، هناك بيئة معينة تجعل منك مقاتلاً أو على إستعداد لأن تصبح مقاتلاً. كما أن الحكومة الآن لاتملك الوقت والموارد لتعبئة قوة شمالية كافية وتدريبها وفقاً لمناهج التدريب الحديثة لتجعل منها قوة فعالة في الميدان تستطيع قلب موازين القوى على الأرض، إن هذه عملية طويلة وشاقة وتعتمد على بناء إرث وأن تصبح هذه القوات مختبرة ومجربة على أرض الواقع، وهذه رفاهية غير متوفرة للحكومة الآن.
المذهل في الأمر بأن الحكومة قد قامت بتسليح مواطنيها في ولاية نهر النيل وتدريبهم على إستخدام السلاح فقط بدون جرعات كافية في التكتيك الحربي أو حتى تقسيمهم إلى تشكيلات عسكرية منظمة، ولقد إستوثقت من هذا الأمر بنفسي عن طريق السؤال المباشر، في البداية لم أصدق أذناي ولكن بعد أن إنقشع عني الذهول توصلت لنتيجة أن الحكومة ببساطة ليس لديها زمن. وربما يستطيع خبير عسكري تقديم تفسير أفضل من هذا، ولكن حتى الآن لا توجد إجابة وافية مقنعة لهذا الأمر. في تقديري بأن سبب التكتيكات شبه اليائسة التي تقوم بها الحكومة الآن والشعور العام من كل المهتمين بالشأن السوداني بأن الحكومة لا تستشعر الخطر المحدق بها، أو تتجاهله لسبب ما، ولهذا تقوم بإتخاذ خطوات وردود أفعال غير مسئولة وخطيرة على مواطنيها، هو العقلية الإسلاموعروبية المتطرفة في آخر مراحلها، وهي عقلية صفرية (فلترق منا دماء أو ترق منهم دماء أو ترق كل الدماء) وهي عقلية تعتقد بإبادة أحد الأطراف للآخر أو هزيمته هزيمة ماحقة على الأقل، وهي لاتنظر للمواطنين كمواطنين وإنما كرعايا للدولة تقودهم إما للنصر أو الشهادة. النصر بالنسبة للحكومة الآن هو إستعادة السودان القديم بجميع علاته وهذا لم يعد في متناولها كما وضحنا، أو على الأقل النجاة بدولة النهر والبحر إذا فشلت في إستعادة السودان القديم، ولكن حتى دولة النهر والبحر لم تعد في متناولها وهي تطفو بعيداً عن أياديها، بل أن مصير هذه الحكومة نفسها أصبح قاتماً، ولكن الأكثر قتامة هو السؤال، إذا كانت هذه هي نهاية السودان القديم، فهل القادم هو ’’السودان الجديد‘‘؟
كوكو موسى
kuku.musa.abuasha@gmail.com