حكومة الشقاق الوطني
د. الوليد آدم مادبو
17 September, 2018
17 September, 2018
نجح المؤتمر الوطني إذ جعل الكل في حالة ترقب. لا يخلو مجلس إلا ويتسأل فيه الناس عن لحظة إعلان التعيين الوزاري وما غشيها من تكهنات وإحباطات، كأنما السودان يفتقر فقط الي برنامج وطني من المرتجى ان يأتي به أناس متميزون ومن خانة اقتصادية لم تعد محددة أيديولوجياً، وقد استقرت هياكله المؤسسية والدستورية واستبانت له سبل الخلاص الوطني المسترشدة بهدى رؤية اخلاقية.
لا يمكن فهم ما يحدث الان من تكهنات اطلق لها العنان بيان التعيينات الوزارية في السودان إلا على خلفية ما يحدث بشأن الانتخابات لعام 2020. سيما أن رئيس الوزراء قد أعلن أن خطته ذات الأثار الصادمة ستؤتي أكُلها في خلال 400 يوم. وهذه هي الفترة بالضبط التي يحتاجها لضمان فوز المرشح الأوحد. والحال هكذا، فإن المشير يكون قد اتخذ من الشعب رهينة إلى حين أن تستبين سبل الخلاص الشخصي أو يموت الشعب دونه في معترك غير محمود عقباه. وقد كان هذا دأب الملوك من أبناء جلدته من قبل، فها يا ترى يكذب التاريخ نفسه؟
فيما يسعى المشير لتأمين وضعه مستعيناً بأقاربه المؤدلجين وبالعسكريين غير الوطنيين، بمعني العنصريين والنفعيين، يسعى أعضاء المؤتمر الوطني – الإسلاميين خاصة – لتطمئن أنفسهم بأن الإسلاميين لم يعودوا متنفذين وأنهم غير معنيين بما يحدث داخل منظومة الحكم المتهالكة. وهذا ما ظهر جلياً من خلال تصريحات بعض المحسوبين على التيار الإسلامي وما يبثونه من تسجيلات صوتية أو مقالات صحفية يتسألون فيها عن أيلولة أموال البترول (وذلك بعد ثلاثين عاماً)، ولا يتحسرون على الطاقة الروحية التي أهدرت والذات السودانية التي تبعثرت.
هل بلغت رداءة الضمير المستوى الذي يريد فيه هؤلاء إيهام الشعب بأنهم كانوا يوماً حادبين على مصلحته وقيمين على موروثاته؟ علماً بأن الميثاق الذي أبرمه معهم شيخهم منذ اليوم الأول هو السماح لهم باستباحة المال العام مقابل إعطائه ولاء مطلق وزعامة لا ينازعه فيها أحد. وقد كان. عليه كانت أول مقررات الأبالسة هي: حل لجنة المشتروات في وزارة المالية، حل النقل النهري وحل وزارة الأشغال. إن مجرد التفاعل مع هذه الرسائل الصوتية التي يبثها بعض المهرجين أو التفكر في شأن الترشيحات التي يقدمها بعض المخرفين، ناهيك عن طبيعة ذاك التفاعل (سلبي أم إيجابي)، هو بمثابة السماح لهؤلاء للولوج ثانية للساحة الوطنية، ولو من البوابة الخلفية.
لقد فقد الإسلاميون نفوذهم الفكري أو (الايدلوجي) يوم أن دفعوا بأطروحتهم إلى حدودها الغير المنطقية، فلم تعد عبارات مثل الخلافة، البيعة، الشريعة، الدستور الإسلامي، إلى أخره، تستفز شعور اي مواطن. لأن المواطنين ايقنوا بعد التجربة أن الحضور المؤثر والفاعل للهوية الإسلامية لا يستند على حتمية قانونية أو حتي دستورية إنما تمثل قيم الإسلام الرقيقة والشفيفة في الممارسة (أو كما يقول الصحفي غبوش). كما إنهم ادركوا بأنه ليس بمقدورهم ان يتناسوا حيواتهم الدنيوية باسم الغايات الأخروية التي لم تنجح في كبح شره الاسلاميين السودانيين انفسهم، وغير الإسلاميين ممّن لم يستنكروا الفعلة، لكنهم نقموا من الإنقاذ عدم إشراكهم في الغنيمة فأكتفوا منها بالإياب. وهؤلاء هم الغالبية الغالبة من سياسي الغفلة في عالم اليوم. هذه هي الحقيقة المجردة التي يود "الاصلاحيون" تغطيتها: لقد سقطت ورقة التوت ، تلك التي كاد الملك يتغطى بها. وكلما وقعت حاول رفعها بعض الصحفيين المرتشين الذين استحالوا مؤخراً الي محللين سياسيين وفلاسفة وعلماء اجتماع. صح المثل: "بلد ما فيها تمساح بقدل فيها الورل." وما اعظمه من ورل!
إن المطلع على حيثيات ذاك المشهد الدرامي والمراقب للشعور العام يحس بأن الجمهور قد خرج من تلكم المسرحية مذهولا، محتاراً، غاضباً، محبطاً، مجهداً ومرهقاً، بل عازماً على عدم دخول الفصل الاخير من هذه المسرحية وقد شهد فصولها في انتخابات سبقت.
يعجب القارئ من كُتابٍ لا يصبهم الملل فيعكفون على عقد "دروساً في ساعة العصر " يستعرضون فيها لأولي الأمر بعض حالات الانفصال والانفصام التي ادرجت في طي خطاباتهم، وإذا ما سئموا لخصوها لهم كالآتي:
• حديث عن الهوية الجامعة يقابله إمعاناً في العنصرية واستعلاءً تسبب في انشطار ثلث البلاد، الأدهى حسبان ذلك من المنجزات، بل الضروريات كي يحدث الانسجام الرؤيوي، كما يكذبه مشهد بنات درجيل (المساليت) وأحفاد ابراهيم قرض (الفور) وهو يقبعون في معسكرات النزوح منذ اكثر من اثني عشرة عاماً.
• تجيير كامل لإرادة الشعب من خلال الاعتماد لسماسرة برعوا في شتى المجالات، ابتداءً من الثقافة والأدب مروراً بالعمارة والفنون وانتهاءً بالاقتصاد والدين. حتى هؤلاء – ومن عجب – ما عادوا يتكلمون نيابة عن الإنقاذ، إنما أصالة عن نفوسهم الشحيحة، سعياً لتحسين أحوالهم الوضيعة، يشمل ذلك المعنوي قبل المادي.
• مبادرات سلام تفتقر الي المصداقية ناهيك عن تضعضع أليّة "الهبوط الناعم" واستخفاف الوسطاء الاقليمين والدوليين بمجهودات الأحرار من أبناء الشعب السوداني كافة، خاصة الذين رفضوا الوصاية والإملاءات التي تتبع سياسة الأمر الواقع.
• رؤية مستقبلية عقيمة وقصيرة النظر في مواجهة مأزق استراتيجي ومحنة تاريخية قد تستدرج الجميع الي ساحة القرون الوسطي وما افريقيا الوسطي منا ببعيد.
• مرافعة أخلاقية في ظل حيثيات عسكرية لمشهد إجرامي مهيب في جبال النوبة، دارفور، جنوب كردفان وبقية نواحي السودان.
• حديث عن انفراج سياسي وخارطة طريق يناقضه سعي حثيث للانتقال بالبلاد من خانة الاستبداد المدني والعسكري الي خانة الاستبداد الأسري والقبلي.
• احلام تنموية في ظل عجز هيكلي وإخفاق إداري مريع، وغياب تام للكفاءات في شتى المجالات.
• آفاق استثمارية يحجبها حصار اقتصادي وتحتويها منافع شخصية ضيقه، الأدهى مطاردة ملحة من قبل الجنائية الدولية لأفراد العصابة المركزية.
• حديث عن مأسسة الشفافية وتقنين سبل المحاسبية تدحضه يوميات التفتيش وحيثيات خط هيثرو والتقاوي الفاسدة وتهريب شبه يومي للعملة الصعبة والذهب عبر الموانئ البرية والبحرية. الأدهى، خروج المجرمين من التخشيبة خروج الشعرة من العجين، وقد كان حريُّ بالقضاء أن يحيلهم إلى الدروة في ميدان أبو جنزير كي يكونوا عبرة لغيرهم.
لقد تحول الفساد السياسي إلى فساد إداري وتحول الفساد الإداري إلى فساد مالي. مما لا شك فيه ان الاخير قد تحول إلى نمط اجتماعي. "خاصة مع وجود حواضن لمنظومة المفسدين تمثل شبكة مترابطة تهدد ممارستها بانهيار القيم إلى درجة عدم تجريم الفساد، ثم قبوله، ثم التعايش معه، ثم التباهي به باعتباره أنه نوع من الشطارة والفهلوة الاجتماعية" (رئيس هيئة النزاهة في بلاد الرافدين).
لا اعتقد ان المواطن يمكن ان يكون قد فوجئ بأي من المواضيع الآنف ذكرها، فهو الواطي جمرها والخابر سرها صباح مساء. لكنه يحتاج حتما الي رؤية أخلاقية ومنصة سياسية/مدنية وهمة تعينه علي مغالبة اليأس وتحفزه علي استشراف مستقبل أرحب. هناك هوة حتما بين واقعنا وبين ما نستشرف من مستقبل وصعاب لا يمكن ان تذلل او يتم التغلب عليها بالأماني او المعجزات إنما الخطوات الراسخات سيما اليقين بتأييد المولي عز وعلا للمستضعفين. نحتاج الي منهجية تهيء لنا فرصة التعرف علي خياراتنا العلمية والموضوعية، فقد اعيتنا الاوهام وبترت اطرافنا الوثبات الجائرات ومحاولات القفز فوق المعضلات (هناك فرق عند اخصائي التعليم بين ال Self-Esteem "احترام الذات" وال Self-Efficacy" الكفاءة الذاتية").
اولي هذه الخطوات ادراك الشعب يقينا ان من يتصدون لتمثيله اليوم هم خائنيه وخاذليه وقد تحقق ذلك من خلال تاريخ طويل لا يفسح المجال لعرضه. وان فرية البديل (ومن هو البديل؟) مردودة عليهم لأن اقل المواطنين كفاءة اشرف وانبل من هؤلاء المجرمين. ثانيها عدم انشغاله، اي الشعب، من الآن فصاعداً باحاديث المدينة التي تتوهم إمكانية حدوث إفاقة او صحوة ضمير لأفراد العصابة وان يدع اللهث وراء الشائعات التي تقول بأن خلافا يوشك ان يحدث بين الاسلاميين أو ان خلافا حدث بين المدنيين والعسكريين او العسكريين فيما بينهم، فقد سرح الجيش وقوضت المؤسسة العسكرية منذ امد بعيد ولم يبق إلا بعض النفعيين والانتهازيين، الذين يريدون أن يبدلوا جلودهم في ساعة الظهيرة بعد أن اشتد الهجير وعظم الحرور!
لقد وقعنا مرارا في احابيل هذه العصابة التي تستخدم الشائعات لا الانجازات وسيلة لتمديد حكمها المتهاوي. ألم يكف بعد تقفينا لمرئيات السراب الذي يمنينا بأن هناك حكومة ذات قوة خارقة وشخصيات ذات إرادة نافذة يمكنها ان تنقذ البلاد من موبقات التخبط او جهالات الجاهلين وغوايات الدبّابين، فهذا كله يُفضي بالمرء للسبح في ساحة المعجزة او الخوض في مغارة العجز؟.
كتب غارسيا ماركيز في روايته الفضلي "خريف البطريك" واصفا الديكتاتور بالجنرال الذي كان يطوف في السنوات الاولي من سلطته جميع أرجاء البلاد مما اكسبه شعبية دائمة جعلت الشعب يتحاشى توجيه اللوم اليه في كل ما حل به من المصائب، بل يتنهدون من أعماقهم في كل مرة يسمعون فيها عن عمل وحشي جديد قائلين "آه لو ان الجنرال يعلم!" (سيرة حياة غابرييل غارسيا ماركيز، جيرالد مارتن، الدار العربية للعلوم ناشرون، ص:474).
هل ايقن السودانيون بعد المهزلة التي حدثت مؤخرا )بشأن التعينات الوزارية والتي استدعتها ضرورة الاستعداد للانتخابات أكثر من ضرورة حل الأزمات)، انه لا يوجد جنرال انما مسخ لعسكري تم استدراجه في الانضمام لتنظيم الاسلاميين قبل ان توكل لعلى (بيلو) مهمة توفيق اوضاعه المعيشية وتثقيفه في جامعة افريقيا العالمية؟ الامر الذي لم يفت علي بديهة طلاب جامعة الخرطوم الذين خرجوا في مظاهرة تلقائية في اول يوم للانقلاب مرددين هتافا اثبتت صدقيته الايام (كضاب كضاب الجبهة تحت الكاب)!
ليس الاشكال في العسكريين انما في النوع الذي ارتضي لنفسه التعامل مع مجموعات ايديولوجية ضاربا بعرض الحائط المصلحة القومية والوطنية. مع ضرورة بل أهمية الانتباه للفرق الدرجي (حتماً ليس النوعي) بين البشير ومن سبقه الي الحكم من العسكريين. إن الزمان استدار كهيئته يوم أن قررت الطائفية متمثلة في رموزها الرجعية التآمر مع الجبهة الإسلامية القومية لقلب أسس الاجتماع السوداني، ليس فقط نظام الحكم السياسي – فذاك قد ذهب غير مأسوفٍ عليه. فلم يمنعهما وازع من تقوي أو وطنية التحوط لدواعي الفرقة والفتنة، والحذر من موبقات المكر (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَال)(سورة إبراهيم، أية:46).
الحق أن المحكمة الجنائية قد وضعت الشعب في خانة لا يحسد عليها، فرئيس الجمهورية هو الحاكم بأمر الله (بعد أن كان متحكما فيه) ولن يألو جهدا في التمديد واصطناع الحيثيات لشرعنة الانتخابات وتزويرها علي رأس الاشهاد، ولو ان يستعين بكارتر وسارتر. لا تعجب ان قال لك بعض موظفي المنظمات الدولية أنهم يريدون التخلص من البشير والإبقاء على نظام الإنقاذ لأنه يمثل صماماً لأمان منطقة شرق ووسط إفريقيا، وهذه فرية كبرى – يروج لها سفراء الدول الغربية – يجب ألا يقبلها الشعب، لأنه لا أمل بل لا مستقبل لهذا البلد إلا باقتلاع النظام وتقليم أظافر المنظومة.
ثالث هذه المستدركات هو تأهب الشعب لتحمل التبعات التي يقتضيها التغيير فلم يك يوما "تقيئ التاريخ لامعائه" يسيراً، وتهيئ قادته الميدانيين لاتخاذ تدابير غير تقليدية وقادته السياسيين والمدنيين الحداثيين غير الاثمين لاتباع سبل ناجعة لنفض الغبار بل الادران، الرجس، والدنس الذى علق على جلباب الحركة السياسية واستنفارها حتى تستنهض الشعب وتسير به قدما نحو باحة الحرية، التنمية و الاخاء. إن بعث روح التضامن وضمان فعالية التنسيق رهين بهامش الحرية المتاح، لامركزية الحوار، وتوفر منصة للعناية بالسياسات وتبيان سبل ترجيحها، على أسس توافقية مصلحية، وليس بالضرورة علمية موضوعية. مثلاً، قد تقتضي المصلحة بناء طريق لا تقره دراسة الجدوى الاقتصادية، لكن تطلبه الجدوى السياسية والاجتماعية.
لا يمكن إنفاذ برنامج تنموي في غياب تام للأمن، بل تمكن واستطالة لجماعات مسلحة قد تعيق فكرة التداول السلمي للسلطة. إن مشروعية إدماج هذه المجموعات في الجيش النظامي يعتمد على مدى جاهزيتها للالتزام بالضوابط المهنية، الأهم رغبتها في تغليب الولاء القومي على أي ولاء فرعي أو أخر طارئ. قد يكون من الصعب تخلي مجموعة ثورية أو حركة مسلحة عن سلاحها قبل أن تحصل على ضمانات سياسية واقتصادية او اجتماعية. وإن حصلت علي ضمانات فلن ترعوى إلا لوجود دولة قادرة علي استخدام نفوذها معتمدة علي شرعية توافقية.
إن المبادرات الحالية ظلت مفتقرة إلى الحساسية السياسية اللازمة لتبني مشروع بناء تتواصل فيه الرؤى القاعدية مع الرؤى الفوقية او مراعاة اسس الديالكتيك بين الريف والهامش، فإن خلافات الاسلاميين مع اليسار او خلافتهم فيما بينهم كانت حتي زمن قريب عبارة عن مخاتلة القصد منها الاستحواذ علي ذمام المبادرة. أما وقد امتحنوا فإن بإمكان المخلصين منهم المساهمة في تكوين الكتلة التاريخية المنوط بها إحداث التغيير المنشود وإخراج الريف خاصة من حالة التداعي هذه. عليه، فإن تحقيق التوافق علي الصعيدين السياسي والعسكري مطلوب بين كآفة مكونات البلاد الاثنية والجهوية كي لا يستفحل الأمر أكثر وحتي تسهم الاغلبية الحيوية – حتماً ليس الميكانيكية – في حكم البلاد وحتى يتمكن الكل من رأب الصدع.
ختاماً، إن النخبة المنوط بها تحقيق هذا التحول هي نخب مجهدة، يكفيك ان تنظر إلى حال اغلبية المشتغلين بالشأن العام في الداخل والخارج كي تدرك ان المواطنة هَمُّ حٌمِّل على ظهر سفينة تتلاطمها رياح هوجاء، قطبانها لا يعرف الوجهة وأعضاء بعثته لا يحسنون تدبير الشراع. أفضل ما يقال عنهم أنهم مفلسين ليس لديهم أدنى فكرة عن كيفية بناء دولة حديثة وصياغة مجتمع متحضر، وأسوا ما يقال عنهم أنهم مغرضين، يسعون دوما وأبداً لاستثمار محنة الإنسان السوداني ولن يتورعوا عن المتاجرة بحقوقه في المحافل الإقليمية والدولية. وإلا فكيف نفهم اللغط الدائر هذه الأيام بشأن القضايا المعيشية في ظل وجود أزمات إنسانية لم يتوان عن تفعيلها الإنسان، قبل أن تزيد من حدتها كوارث الطبيعة ومحددات الأزمنة والمكان؟