حول “الإحتباس الحداثي في الشعر السوداني: الستينات نموذجاً”

 


 

 


بقلم: بروفيسور عبد الرحيم محمد خبير*
عميد الدراسات االعليا بجامعة بحري
أثار الشاعر محجوب كبلو في الملحق الثقافي لصحيفة الرأي العام (عدد الأربعاء 13 سبتمبر 2006م) موضوعاً مهما وهو حالة المشهد الشعري السوداني أو ما أسماه "الإحتباس الحداثي: فزاعة الستينات" زاعماً أن هناك حالة من النوستالجيا Nostalgia (الحنين إلى الماضي) تنتاب أهل الثقافة لدينا وهم ما فتئوا –حسب رأي الأستاذ كبلو- يتخذون من عقد الستينات للقرن المنصرم عجلاً ذهبياً ذا خوار شعري ولا يعبأون بالجديد. وهو –أي الجديد- في تقديره قصيدة النثر التي ينسج على منوالها الشباب منذ التسعينات والتي يقف الماضويون متاريساً في وجهها في تحدٍ سافر للتطور والتغير والتبدل وهو أحد سنن الله في هذا الكون.
وكما هو معلوم، فإن الشعر ظاهرة تعبيرية في حياة البشر. ويتفق أهل الثقافة أنه يبدأ بسيطاً بساطة الحياة الإنسانية سواء في الشكل أو المضمون الجديد. ويرى بعض النقاد أنه إذا كان المضمون جديداً والشكل موروثاً فإن ذلك يفضي إلى شعر المحاكاة وهو دون شك يقصر عن الإبداع الحق. والشاعر –على رأي الناقد السوري نذير العظمة- هو من يستوعب نماذج السلف ولكنه لا يدعها تمارس سلطة الشكل على عمله الإبداعي وإن دخلت كالخمائر في خبز القصيدة الشعرية وعجينتها كما وأن الشاعر من يعي النماذج الشعرية الإنسانية ولا يقع فريسة لأشكالها وصيغها المتنوعة. بمعنى آخر لابد للشاعر أن تكون له شخصيته الشعرية المتفردة. وثمة إشارة هنا وهي أن القرن التاسع عشر كان يمثل الفترة الكلاسيكية للشعر العربي  المعاصر "القصيدة العمودية" ومن أبرز شعرائها عبد الله النديم ومحمود سامي البارودي وأعقبتها الكلاسيكية المجددة في القرن العشرين (روادها شوقي وحافظ) فحقبة الشعر الحر (شعراء المهجر وأبرزهم خليل مطران وإيلياء أبو ماضي وميخائيل نعيمة وغيرهم) وأخيراً قصيدة النثر (أبرز روادها أمين الريحاني في العراق).
أ-الحداثة مفهوماً:
بادئ ذي بدء لابد من تعريف للحداثة، ماهيتها ومدلولها قبل الولوج في مناقشة حالة الحداثة الأدبية في السودان والتي يتهم الأستاذ محجوب كبلو نقادنا بأنهم قد إحتبسوا ذائقتها الشعرية في عقد الستينات ولم يحفلوا بإبداعات الجيل الجديد في قصيدة النثر وكأنما الإبداع الشعري السوداني قد تكلس وتجمد ولم يعد يحفل بروح التقدم والتغير. وكاتب هه السطور على رأي مفاده أن الحداثة رؤية متجددة للحياة وموقف من الذات ومن الحضارة ومن الوجود ككل هدفها خلق بني ثقافية-فكرية تلبي متطلبات الحياة الجديدة. فعصر التفلسف الإسلامي حداثة والموشحات الأندلسية حداثة والرأسمالية حداثة والإشتراكية حداثة. فالحداثة مفهوم شامل يتناول جميع جوانب الحياة على الصعيد الفردي والجماعي. فالحداثة بهذا المفهوم صيرورة تاريخية متجددة بإستمرار ولا تقبل الكلمات النهائية. فالرضا عن الذات والتثبت (Fixation) ينافيان الحداثة. والموقف الحداثي هو القادر على إكتشاف ما جمد وتكلس وفقد تفاعله مع الحياة. وهو موقف من الفعل والكلمة له القدرة على التمييز بين المنتهي والمستقبلي. وتحضرني هنا مقولة لأحد النقاد العرب وهي أن للشاعر الجاهلي إمرئ القيس موقفاً حداثياً يتمثل في بيت الشعر الذي صاغه وهو في طريقه إلى بيزنطة لمقابلة ملك الروم بغية إعانته في الأخذ بثأر أبيه الملك القتيل. فبينما كان أمرؤ القيس مسافراً في الصحراء رأى ثعلباً يبول على صنم، فأنشد قائلاً:
أرب يبول الثعلبان برأسه        بئس رب بالت عليه الثعالب
ففي هذا المقام أثبت أمرؤ القيس موقفاً حداثياً لا تخطئه العين.
ب- حداثة الشعر العربي والسوداني:
بلغت حركة الشعر الحر (المرسل) أو شعر التفعيلة أوجها في خمسينات وستينات القرن الماضي في العديد من أقطار العالم العربي وبخاصة في العراق (نازك الملائكة وبدر شاكر السياب) ومصر (محمود حسن إسماعيل وبديع حقي ولويس عوض) واليمن (علي أحمد باكثير). ولم يكن أهل السودان إستثناء فلمع بعض الشعراء السودانيين في سماء الشعر الحر أبرزهم محمد مفتاح الفيتوري في "أفريقياته" ومحي الدين فارس في "الطين والأظافر" وجيلي عبد الرحمن وتاج السر الحسن في "قصائد من السودان". وكان لوجودهم في مصر أثر كبير في تأثرهم بالذائقة الشعرية الحديثة وتبعهم في ذلك محمد المهدي المجذوب. بيد أن جماعة مدرسة "الغابة والصحراء" (محمد المكي إبراهيم، محمد عبد الحي، النور عثمان أبكر وصلاح أحمد إبراهيم) –في الستينات- كان لهم القِدح المُعلَّى في الإرتقاء بشعر التفعيلة والإستفادة القصوى من مزاياه (حرية وموسيقية وتدفقية) بالتركيز على قضية الهوية السودانية بإعتبارها هجنة عربية-أفريقية. فها هو محمد المكي إبراهيم يخاطب السودان –الوطن بقوله:
الله يا خلاسية
يا مملؤة الساقين أطفالاً خلاسيين
يا بعض زنجية
وبعض عربية
أو محمد عبد الحي في "العودة إلى سنار" قائلاً:
بدوي أنت؟
- لا
- من بلاد الزنج
- لا
- أنا منكم: تائه عاد يغني بلسان
- ويصلي بلسان.

لاريب أن حقبة الستينات من القرن الماضي كانت نقطة تحول فارقة في الذائقة الشعرية السودانية لخصوصيتها الناجمة من أنها كانت منعرجاً هاماً في تاريخ دول العالم الثالث، فهي مرحلة التحرر الوطني والإنعتاق من ربقة المستعمر. ولم يكن السودان بالطبع استثناء؛ فبعد أن تحقق الإستقلال السياسي للوطن طفق الأدباء والشعراء يتلمسون قضية الهوية الوطنية، فكان شعر التفعيلة سمة بارزة لنتاج الشعراء الشباب في ذلك الزمان (الستينات) فتفننوا في إبتداع صور ورؤى وأخيلة تحرراً من قيود القافية وإيفاء بمتطلبات الحياة الجديدة وقتذاك.
ويرى بعض النقاد أن عقد السبعينات قد شابه خمود في جذوة شعر التفعيلة سيما ذلك المعني بالذاتية السودانية بسبب إندياح ظاهرة الهجرة والإغتراب وبخاصة إلى دول الخليج النفطية وإنشغال الأدباء والشعراء بواقعهم الحياتي المعاش. بيد أن حقبة الثمانينات والتسعينات قد شهدت زخماً شعرياً لافتاً للنظر لعل من أهم علائمه بروز قصيدة النثر. ورغم أن هذا النمط التعبيري أسبق تاريخاً من تلك الفترة في بقية الأقطار العربية. ولعل تجربة الناقد المعروف جبرا إبراهيم جبرا في مجلة "شعر" التي كانت تصدر في لبنان في خمسينات القرن الفائت هي التي دفعت بهذا النموذج التعبيري إلى فضاءات الشعر العربي بصورة أكثر رحابة حيث دعت هذه المجلة إلى ضرورة التخلي عن الوزن في الشعر وتبنت ما يسمى "قصيدة النثر". وهناك أمثلة عديدة لهذا النمط التعبيري ليس هذا مقام بسط القول فيها، غير أنني سأحصر حديثي في مثالين إحداهما من المشهد الشعري العربي والآخر لنظيره السوداني. وأثبت هنا ما قاله ممدوح عدوان في قصيدته "وتمر المدينة برقاً".
خبأوا الموت بين الصدور،
ومضوا غيمة سائحة
غير أن الصغور
عرفتهم من الرائحة
لو أني أكلت على المائدة
لقلت: قبضت الثمن
أما المثال الثاني المحلي فهو لأحد شعراء الشباب (أوردته صحيفة الرأي العام، الملحق الثقافي، عدد 20 سبتمبر 2006: 11) يقول في قصيدة نثرية:
مساؤنا الذي يبدأ بطيش
حنان الأصابع
يمر بالهاوية
بالتحليقة العالية
حيث لا يقوى (رقمين) على حديدة الصفر
بالفقد متوخياً سقوطه الفاشل
في فخنا المنصوب لنا!
ولا يخالجني أدنى شك في أن القارئ للنموذجين أعلاه لن يشعر بتوتر شعري أو موسيقى داخلية تشي بروح الشعر. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أين الهزة والرعشة في الأبيات المذكورة والتي يحسبها بعض النقاد الحداثيين أنها أبرز السمات الإبداعية لقصيدة النثر. وفي تقديري أن مثل هذه العبارات المصفوفة لا تعدو عن كونها نثراً يعوزه البناء الفني والهندسي ليصير شعراً.
والرأي عندي أن حدود الإبداع يجب أن لا تحتبس في القصيدة العمودية أو قصيدة التفعيلة. غير أن "الشعر المنثور" الذي لا يساير الأوزان الشعرية وليست فيه قوافٍ والذي يعتقد أنصاره أنه يعتمد على جمال الصورة ورشاقة الألفاظ وجرس المعنى وعمق العاطفة والإحساس يحتاج إلى عناصر فنية ومرتكزات إبداعية تحكم نتاجه وهي ما لم تتوفر بعد؛ إذ لا يعقل أن نسمي الخطرفات الرتيبة والتهويمات العبثية شعراً. ولا مشاحة أن الشعر فن ولابد للفن أن تحكمه معايير كما وأن أي تطور شعري لابد له من مرتكزات سواء في اللغة أو طريقة العرض أو الخصوصية.
وبإلقاء نظرة فاحصة للمشهد الشعري السوداني نلحظ أن كل أجناس القصيدة العربية تمور بداخله سواء أكانت عمودية أو تفعيلة أ, قصيدة نثر وإن كانت هناك أعداد متزايدة من الشعراء الشباب بدأت تلجأ إلى قصيدة النثر لأنها سهلة التناول وتهتم بالمظاهر السطحية كما وأنهم –أي الشباب- بشكل عام لا يملكون عمق اللغة وإتساع القاموس اللفظي فإبتعدوا ليس فقط عن بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي بل عن الأوزان الشعرية والموسيقى الداخلية، فإستعصت عليهم التجربة وتمردوا عليها لعدم قدرتهم على استيعابها. وفات على هؤلاء أن شعر التفعيلة الذي إرتقى صوراً ومضاميناً وأخيلة في الستينات لم يستنفد كل أغراضه ورؤاه لتستفرد قصيدة النثر بالمشهد الشعري، فلا تزال هناك بحاراً لم تسبر أغوارها ومفاوز لم يتم إجتيازها بعد في التفعيلة العروضية ورغم البروز اللافت لقصيدة النثر في التسعينات إلا أن هناك نماذجاً غير قليلة من شعراءنا الشباب ما إنفكت تمتح من معين التفعيلة وفضاءاتها الأبكار. ولعل من أبرز هذه النماذج الواعدة سميرة الغالي في "مقاطع للبحر واللقيا" ويوسف النعمة في "زهو البريق" والبدري هاشم في "تراب السنين إحتواء القصيدة" وغيرهم كثر. بيد أن الملفت للعيان التراجع المذهل للقصيدة العمودية. ويبدو أن إيقاع الحياة المتسارع وما يحفل به عالمنا الراهن في فواتيح الألفية الثالثة من تطورات وتغييرات في شتى جوانب الحياة لا يستطيع أكثر الناس إيغالاً في الخيال التنبؤ بحدودها وتداعياتها، ستفرز دوماً أوضاعاً حداثية تنعكس بالضرورة سلباً أو إيجاباً على الذائقة الفنية شعراً كانت أو نثراً والأيام حبالى بالمستجدات(من أرشيف الكاتب).

 

آراء