حول ثقافة النزاهة في السودان 

 


 

 

تُعْرَفَ النزاهة عند مرشد تيسير التجارة الصادر عن الأمم المتحدة بأنها سلوك الأفراد والمنظمات الذي يتبع حكم القانون. كما يمكن وضع النزاهة في إطار منظومة القيم والمسئولية التي تؤدي إلى الحفاظ على الموارد والممتلكات العامة وإستخدامها بكفاءة، وما يتبع ذلك من تأصل لدى الفرد لقواعد الصدق والأمانة وعدم الإضرار بالأخرين.

ويُعد بناء النزاهة ومكافحة الفساد وجهان لعملة واحدة، حيث أن الفساد هو إساءة إستخدام السلطة وتعظيم المصلحة الخاصة على العامة، في حين تعمل النزاهة على عدم إستخدام السلطة والمصلحة الخاصة على حساب المصلحة العامة. وتعتبر مكافحة الفساد هي الأكثر تعقيداً حيث تتطلب إقامة الحواجز أمام الفساد عددا من الإجراءات تتضمن زيادة المحاسبة والشفافية، والتي تعني المساءلة لشاغلي المناصب العامة والخاصة كل أمام مؤسسته. وتمثل نظم الحوكمة إحدى أدوات إخضاع المناصب العامة والخاصة لمستوى من التدقيق يتناسب مع المناصب التي يشغلونها، ومن خلال الشفافية التي توفر المعلومات. وإحدى الطرق التي يمكن من خلالها مساءلة المسؤولين هي الشفافية وتوافر المعلومات. فالشفافية والمساءلة تتيحان فرصاً أقل لإساءة إستخدام النظم العامة.

كذلك يمكن التفريق بين بعض أنوع النزاهة، أو انعدامها، فهنالك نوع يتعلق (بالفرد) وهو الذي يسيء السلوك في منظمة أو بيئة سليمة. ويعزى هذا النوع من الفساد لإسباب تعود للفرد نفسه مثل عوز في الأخلاق أو في المعتقدات الفردية والسلوكية، أو قد تكون حالة إضطرارية مؤقتة مثل حاجة عاجلة لمبلغ مالي كبير، أو أحياناً الخوف الناشىء عن تهديد بالعنف البدني والنفسي من قبل آخرين. أما النوع الثاني فيتعلق بـ  (المنظمة) التي تسئ السلوك بشكل كبير، والأفراد الأسوياء فيها هم الاستثناء النادر. وهذا النوع من الفساد يكون عادةً انعكاسا لبيئة ثقافية واجتماعية معينة، أو حتى منظومة سياسية فاسدة. غير أن إنعدام النزاهة ممارسة تتشارك فيها أطراف عدةً، وتتطلب مكافحة الفساد معالجة لكافة الأطراف المشاركة، حيث أن معالجة طرف دون آخر لا يعزز من توافر النزاهة.

لذلك يعتبر تعزيز النزاهة والشفافية أحد أدوات النمو الاجتماعي في الدولة، والتي تحتاج بجانب القوانين، إلى دور تؤديه الدولة والمجتمع المدني في تعزيز بما يُسمى "ركائز ثقافة النزاهة". وبها تُعد مساهمة القطاع الخاص والمجتمع المدني والأفراد في نظام النزاهة العامة أمرا حتميا يفضي إلى احترام قيم النزاهة العامة في تفاعلاتهم مع القطاع العام، بإعتبار أن المحافظة على تلك القيم مسؤولية مشتركة، كما تُعد توعية المجتمع حول فوائد النزاهة العامة للحد من التغاضي عن والتسامح مع الانتهاكات لمعايير النزاهة العامة، والعمل على تنظيم قواعد وحملات لتعزيز التربية المدنية بشأن النزاهة العامة بين الأفراد والتنظيمات. ويجب إستبدال الثقافة التي تميل إلى الكتمان بأخرى تتسم بالشفافية والمساءلة، التي ينبغي تحويلها تدريجيًا إلى ثقافة الشفافية والإبلاغ من أجل ردع ممارسات الفساد والحكم الذي تعوزه الفعالية والكفاءة. ، وذلك بالتوافق مع دور المجتمع المدني في تعزيز الحوكمة وقيم النزاهة والشفافية في قطاع الأعمال للارتقاء بمستوى التنافسية، وذلك من خلال إطلاق المؤسسات والمنظمات غير الحكومية للمبادرات المتمثلة في الورش والندوات المتخصصة في هذا المجال، وكذلك بالدراسات والأبحاث الأكاديمية التي تستهدف الأفراد في مختلف مؤسسات المجتمع والأنشطة الإعلامية التي تسهم في نشر ثقافة عدم التسامح مع الفساد، هذا فضلاًعن إطلاق برامج توعية عامة تشمل المناهج المدرسية والجامعية لتوضيح وإذكاء وعي المجتمع بجسامة مخاطر الفساد.

ولا يتطلب إصلاح منظومة الحد من الفساد في السودان تعديلا للقوانين فحسب، بل يشمل البُعد البشري في المنظومة، حيث يشكل الأفراد خط الدفاع الأول بغض النظر عن الإطار التشريعي والتنظيمي. لذلك تصبح من أهم الجهود الرامية لمكافحة الفساد هي القدرة على التأثير في السلوك الإنساني، لتصبح هي المرجعية لتعزيز السلوك المهني والأخلاقي، والحد من استخدام المناصب العامة من أجل تحقيق مكاسب خاصة. ويسهم مفهوم التربية على المواطنة - بحسبانه أحد مقومات إرساء النزاهة - في عدد من الجوانب، مثل الوعي بالحقوق والمسؤوليات الفردية والجماعية، والتدرب على ممارستها، حيث أن التربية على المواطنة وحقوق الإنسان تتألف من عدد من العوامل منها العوامل الأسرية والبيئة الاجتماعية والسياسية، والدراسية. وتحتاج مفاهيم النزاهة لزرع فكر داخل الأفراد من خلال برامج التربية الوطنية، ويمكن ذلك من خلال البدء في مشروع إدماج قيم النزاهة مكافحة الفساد في برامج التربية والتعليم حيث أن دوافع السلوك الإنساني عامة مرتبطة بمزيج من ردود الأفعال القابلة للملاحظة والوصف تجاه المحفزات الداخلية والخارجية للفرد. وسيفضي هذا لاحقا إلى المساعدة على تشكيل البيئة التنظيمية والتي يقوم فيها الأفراد باتخاذ القرارات الأخلاقية (السليمة) من خلال تعزيز المؤسسات للسلوكيات الأخلاقية والمهنية الإيجابية بشكل أفضل، هذا فضلاً عن الإثناء عن السلوك غير الأخلاقي.

وتعد الهياكل التنظيمية في القطاع العام والخاص هي أحدى أدوات الإدارة الجيدة، حيث أنه يتم من خلالها تحديد المسؤوليات بوضوح دون تداخل أو ترك لثغرات قد تساعد على تجنب الصراعات التي تنشأ على مستوى الإدارات والمؤسسات في القطاع العام، ذلك أن تحديد المسئوليات يساعد على تقسيم فعال لنتائج الأعمال وعلى بناء النزاهة من خلال ضمان مشاركة العديد من أصحاب المصلحة في عملية صنع القرار. كذلك يعتبر إتباع نهج ما يسمى بـ "المنهج الوقائي" الذي يضم العديد من الأدوات من بينها تنظيم برنامج توعية لتنمية ثقافة النزاهة ومكافحة الفساد بحيث يستهدف كافة شرائح المجتمع ومختلف الأعمار.

وللجانب الوقائي في مكافحة الفساد أثر مهم في إرساء قواعد لجيل جديد يعمل في الوظائف العامة أو القطاع الخاص ويمتاز بالنزاهة، فالجانب الوقائي يعمل على دعم قيم النزاهة واحترام المال العام واحترام الآخرين وحقوقهم، كما ويُعد دور المنهج الوقائي من دعائم الجانب العقابي القانوني الذي  يعمل على التقليل من الفساد ويكشف عن جرائم الفساد وفق النصوص القانونية ويلاحق مرتكبيها ويقاضيهم ويطالب بتعويض الأضرار الناتجة واسترداد الأموال والموجودات.  وهذا هو الدور الذي ينبغي أن تقوم به الهيئات الوطنية لمكافحة الفساد.

وتحتاج الدولة لترسيم مفاهيم الفساد غير المباشر الذي يُسمى بـ "الفساد الإداري"، حيث تسهم شريحة من الأفراد و/ أو الهيئات في منظومة الفساد بطرق مختلفة غير مباشرة، مثل التعامل مع الوظيفة العامة بمفهوم الملكية الخاصة لانعدام أسس الحوكمة الادارية. كذلك تقل نسبة الذين تتم محاسبتهم بتهم الفساد لأسباب عديدة منها تأخير اتخاذ القرارات في شأن الذين أضروا بالمصلحة العامة، و الذين يهدرون وقت المواطنين والدولة بالتقاعس في إكمال مشروع يحتاج تنفيذه إلى مدة معينة، وتم تنفيذه في مدة أطول، وغير ذلك من أشكال الفساد التي يصعب أن نحتكم فيها إلى القضاء لإسباب تتعلق بانعدام الشفافية ونقص المعلومات، ويتطلب هذا الأمر أن يتم تأسيس أنظمة حوكمة تقوم بضبط نظم العمل منذ البداية وتضع شروطاً للخدمة منصوص عليها في قوانين العمل، وعقودا تتضمن شروط جزائية.

كذلك تعد منهجية الإبلاغ عن المخالفات أحد ركائز "الحوكمة المؤسسية الرشيدة". ويتم خلال تلك الحوكمة بحث دور سياسات الإبلاغ عن المخالفات في تعزيز نزاهة الشركات وحماية مصالحها، ونشر ثقافة المساءلة الداخلية، ضمن إطار برنامج "أفضل ممارسات مكافحة الفساد". ويعتمد ذلك بإضافة قانون منفصل لحماية المبلغين والشهود والخبراء.

وتحتاج بيئة العمل في الدولة إلى مراجعة وتقييم نمط العمل بهدف تشخيص نقاط الضعف التي قد تشكل فرصا لحدوث الفساد، وتتيح إمكانية تفعيل نظم المساءلة ومبادئ الشفافية في بيئة العمل. ويمكن أن يتم ذلك بقليل من الجهد عبر تطوير المعايير المالية والادارية التي تكفل تعزيز مبادئ الشفافية وتوفير المعلومات. كذلك ينبغي تطوير مدونات السلوك الوظيفي تلك التي تتضمن القواعد العامة التي تحكم علاقة المؤسسات بالهيئات المرجعية والرقابية وعلاقتها بالمجتمع المحلي وغيرها. كما يجب أن تُمنح شهادات متعارف عليها للمؤسسات التي تراعي قواعد مدونة السلوك وتلتزم بمبادئ الشفافية والمساءلة والنزاهة في عملها. كذلك ينبغي الاهتمام بسن أو تعديل القوانين التي تنظم عمل منظمات المجتمع المدني بما يعزز الشفافية والمساءلة، والتي يعول عليها كسلطة رابعة تدعم جهود مكافحة الفساد في المجتمع .

ومن الضروري الاهتمام بوضع أهداف التنمية المستدامة (الهدف السادس عشر- السلام والعدل والمؤسسات القوية) ضمن التخطيط الاستراتيجي لمكافحة الفساد وتعزيز النزاهة، التي من ضمن بنود عملها توسيع وتعزيز مشاركة البلدان النامية في مؤسسات الحوكمة العالمية ، وكفالة وصول الجمهور إلى المعلومات وحماية الحريات الأساسية وفقاً للتشريعات الوطنية والاتفاقات الدولية . كذلك تعزيز دور المؤسسات الوطنية ذات الصلة بوسائل عديدة منها التعاون الدولي، سعياً لبناء القدرات على جميع المستويات، لا سيما في البلدان النامية، لمنع العنف ومكافحة الإرهاب والجريمة.

 

نختم بالقول إن ظاهرة الفساد تمثل مشكلة تنموية وسياسية ذات أبعاد متعددة تنتج غالبا عن اساءة استخدام السلطة من أجل المصالح الشخصية التي قد تفضي إلى مجموعة من السلوكيات غير السوية والجرائم التي تشهدت تطورا ملحوظا متزايداً مع العولمة التي فرضت ترابط بين الدول والشركات وتداخل في الصفقات التجارية الاستثمارية وآليات تدفق الأموال. وكل هذا من شأنه أن ينعكس سلبا على أمن واستقرار المجتمعات، ويقوض الحقوق الأساسية ومجهودات التنمية وبرامج مكافحة الفقر. لذا يجب العمل على دعم ممنهج لاستراتيجية شاملة لمكافحة الفساد لأنها أحد متطلبات الحوكمة الجيدة. كذلك ينبغي البدء في تنفيذ برنامج توعية شاملة تهدف إلى تنمية وإعلاء قيم النزاهة والشفافية والمساءلة من خلال بناء جيل يسهم في إعادة صياغة وهيكلة مؤسسات الدولة.

 

 

nazikelhashmi@hotmail.com

 

آراء