حول كتاب “في داخل السودان: الإسلام السياسي والصراع والكوارث”.. عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
حول كتاب "في داخل السودان: الإسلام السياسي والصراع والكوارث"
Inside Sudan: Political Isalm, Conflict and catastrophe
Donald K. Petterson للسفير الأمريكي السابق بالخرطوم دونالد بيتريسون
عرض وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي
******* ******** ********
هذا عرض مختصر لبعض ما ورد في كتاب لدونالد ك. بيتريسون سفير الولايات المتحدة الأميركية السابق في الخرطوم بين عامي 1991 – 1995م عن أيام سفارته في الخرطوم، وعن بعض آرائه وخواطره ونظرته للأحداث في السودان وما حوله في تلك السنوات. صدر الكتاب في 270 صفحة من القطع المتوسط من دار "ويست فيو" في طبعته المنقحة عام 2003م، بعد أن حظي بعدم ممانعة من النشر من وزارة الخارجية الأميركية. قسم المؤلف الكتاب إلى عشرين فصلا صغيرا بدأها بمقدمة عن السودان وما كان يعلمه عنه، وختمها بكلمة وداعه عند مغادرته البلاد.
تشي قائمة فصول الكتاب بما هو متوقع عن مسئول ودبلوماسي أمريكي عمل في السودان في فترة كانت العلاقات بين الدولتين فيها كأسوأ ما تكون. فتجد في عناوين فصوله القصيرة كلمات وتعابير مثل "الإرهاب" و" بدأت المشاكل" و"من السيئ للأسوأ" و"التراجيديا تستفحل في جنوب السودان" و"لا سلام في زمننا هذا" و"مزيدا من الأحداث في الخرطوم" و"عام جديد مع ذات المشاكل". ورغم أنه يقول بأنه كتب ما كتب بصورة "محادية" و"نزيهة" على وجه العموم، إلا أنه يقر بأن مشاعره الشخصية المحبة أو المبغضة قد تكون قد تسللت أحيانا في ما يسجله من أحداث عايشها أو كتب عنها.
تحدث السفير في مقدمة كتابه عن شغفه وهو صغير بالأنهار وبتاريخ الشعوب التي عاشت حولها، ويقول أنه أدمن حب النيل، ولم يمر عليه يوم خلال أعوامه الثلاثة في الخرطوم دون أن يقف على شاطئه أو يقود سيارته بمحاذاته، ولم يكف يوما عن التفكر في استعادة تاريخ من عاشوا حوله منذ آلاف السنين. وذكر بأنه قبل العمل في بلد ارتبط اسمه في المخيلة (الرسمية) الأميركية بصفات سالبة عديدة، وينفر من العمل فيه كثير من الدبلوماسيين الأميركيين خاصة بعد اغتيال السفير الأميركي في الخرطوم عام 1973م، بيد أنه لم يتردد حين عرض عليه منصب السفير خلفا لجيمس شييك، فهو – كما يزعم- يحب الصعاب ويؤمن، ومنذ التحاقه بالخارجية الأميركية في عام 1960م بأن أكثر أماكن العمل الدبلوماسي صعوبة هي أشدها إثارة ومتعة. بيد أنه في الصفحات اللاحقة وفي الفصل الثاني يقول بأنه تردد قليلا حين عرض عليه (وهو في هراري بزيمبابوي حيث كان يعمل كقائم بالأعمال) وظيفة سفير في السودان. كان هو وزوجه "جولي" يدركان أن جو السودان وخيم، فالحر فيه لافح وقد تصل درجة الحرارة في الصيف إلى ما يفوق 114 درجة فهرنهايت (46 مئوية)، والخدمات الطبية فيه ليست في المستوى المطلوب، والرياح الرملية (الهبوب) تهب في غالب السنة. علاوة على ذلك فالحياة الثقافية فيه سقيمة، والحكومة تضيق الخناق على الصحافة والإعلام الحر، بل وتمنع دخول بعض المطبوعات الغربية، ووسائل الاتصال الحديثة فيه شحيحة ومتخلفة. كان يدرك كل ذلك، ولكنه وافق بعد قليل من التردد على العمل في السودان – كما يقول- لحبه للمغامرة ولشغفه بتاريخ تلك المنطقة وبأنهارها وبخليط الأجناس فيها من عرب وأفارقة.
خصص السفير الكاتب الفصل الثالث للحديث عن السودان وجغرافيته وتاريخه في إيجاز إلى أن وصل إلى عام انقلاب الإنقاذ (1989م) حيث توسع في مآخذ الحكومة الأميركية (والغرب عموما) على السودان في عهد حكمه العسكري الثالث، فذكر أن حكومة جورج بوش، وحتى منتصف عام 1990م، رأت أن تنتهج سبيل المفاوضات مع الحكومة السودانية أملا في تسهيل وصول العون الإنساني للمتضررين، وبدأ مساعد وزير الخارجية كوهين ومنذ مارس 1990م في محاولة التقريب بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان واقترح على البشير تخفيض أعداد قواته في الجنوب بمقدار النصف، على أن يسحب جون قرنق قواته مسافة 15 كيلومترا بعيدا عن المدن. رفض الجانبان المتحاربان، وبسرعة، المقترح الأمريكي. ثم جاء تأييد السودان لغزو العراق للكويت فتوقفت الجهود الأميركية للتوسط بين الحكومة والحركة الشعبية بالكلية. لم يكن هنالك سبب جوهري للخلاف بين الحكومة الأميركية وحكومة البشير الاسلامية ابتداءا سوى أن الحكومة الأميركية كانت ملزمة بتعليق المساعدات الاقتصادية والعسكرية لكل نظام يأتي عقب انقلاب عسكري على حكومة ديمقراطية منتخبة (مع استثناء المعونات الانسانية)، وكان يمكن التغاضي مؤقتا عن ذلك القانون إن أبدى النظام السوداني أدنى رغبة في إعادة الديمقراطية ونبذ الحكم بالقوة والترهيب.على العكس من ذلك عتا النظام السوداني وتمادى في حربه الأهلية، وفي انتهاك حقوق الانسان وتصفية خصومه مما أكسبه عداوة الولايات المتحدة ودول الغرب عموما، بل ودول الجوار كمصر ودول الخليج العربي التي كانت تقدم للسودان عونا اقتصاديا مقدرا.
كان "الإرهاب" ودعم الجماعات الإرهابية – بحسب رأي السفير- واحدا من أكبر المآخذ على النظام السوداني. ولم يجد ذلك النظام غير سلاح الانكار ليدفع عن نفسه التهم التي كانت تكال له، وظل يتهم سفراء الدول الغربية ومنظماتها بتصديق مزاعم المعارضين دون تدقيق أو تحقيق.
ذكر السفير الأمريكي أن عهده في سفارة الخرطوم شهد تدهورا مستمرا ومتعاظما في العلاقات بين البلدين بسبب تعاظم الشكوك فيما كان يقوم به النظام في ما سبق ذكره (رغم طردها لأسامة بن لادن تحت ضغوط سعودية ومصرية وأمريكية بالطبع)، بينما ظل النظام يؤكد وفي كل مناسبة عن رغبته في تحسين العلاقات بينه وبين الولايات المتحدة. ولم تبدأ الولايات المتحدة في التأكد من صدق نوايا النظام السوداني نحو الاتجاه الصحيح فيما يتعلق بالإرهاب إلا بعد عام 2000م. ولكن مع مجيء جورج بوش تزايدت ضغوط من الجماعات الدينية اليمينية (المتشددة) في الولايات المتحدة، ومن مؤيدي الرئيس في مختلف الولايات عليه من أجل مزيد من الضغط على النظام السوداني فقرر الدخول مع ذلك النظام في مفاوضات وعين في 6/9/2001م السيناتور دانفوث مبعوثا خاصا له للسودان. لم تمر خمسة أيام على ذلك التعيين حتى قام ارهابيون بالهجوم على برجي مبنى التجارة العالمية وأزهقت في تلك العملية الإرهابية أكثر من 3000 نفس. أعلن الرئيس بوش بعد ذلك الهجوم الإرهابي أن الدول عليها أن تختار بأن تكون "إما معنا أو مع الإرهابيين". أسرع النظام السوداني بعد ذلك الإعلان عن رغبته في أن يصبح "حليفا" للولايات المتحدة في حربها ضد الإرهاب. عاد بعد ذلك الدبلوماسيون الأمريكيون للسفارة في الخرطوم في عام 2002م، وفي العام الذي يليه قامت الولايات المتحدة بجهود كبيرة من أجل بدء مفاوضات جادة بين النظام السوداني والحركة الشعبية.
في الفصل الرابع حكى السفير عن وصوله لمطار الخرطوم بطائرة الخطوط الهولندية في مساء يوم 13 /8/1992م، وذكر أنه دلف لداره في الساعة الحادية عشر والنصف مساء، أي بعد نصف ساعة على بدء حظر التجول الليلي الذي كان مفروضا على المدينة في تلك السنوات المبكرة للانقلاب. أحسن طقس الخرطوم الترحيب بالسفير فهبت عاصفتان رمليتان في الأسبوع الأول له في الخرطوم، وهطلت أمطار غزيرة أيضا. ظل السفير يؤخر تقديم أوراق اعتماده أياما عديدة حتى يرتب بيت السفارة الداخلي، ولم يقدم أوراقه إلا في 25/8/1992م حيث أخذ في سيارة رولز رويس فخمة وعتيقة (1954م) إلى قاعة الصداقة للقاء الرئيس البشير. ذكر السفير أنه تبادل مع الرئيس (والمولود قرب مدينة شندي في عام 1944م) بعض عبارات الترحيب والمجاملة باللغة العربية وقدم له أوراق الاعتماد ثم أخذه الرئيس مع وزير الخارجية لغرفة خاصة لمقابلة كان من المقرر أن تستغرق مدة 15 دقيقة، بيد أن تلكم المقابلة استمرت لساعة كاملة. خصص السفير بعض السطور لوصف البشير فقال إنه رجل متوسط الطول ولونه "بني فاتح" يرتدي الزي العسكري الأخضر، ويزيد وزنه عن الوزن المثالي بيد أنه يبدو في صحة جيدة. وصفه السفير بأنه كان لطيفا معه وأصغى بعناية لما يقول، بيد أن أكد أن موقفه من سياسة الحكومة الأميركية ظل متصلبا.
ذكر السفير أن البشير سوداني نموذجي من حيث أنه شخصية منفتحة وودودة وله حس فكاهة عال، وككثير من السودانيين فهو رجل متدين جدا، بيد أنه وخلافا لكثير من زملائه فهو إسلامي ملتزم، وكان على صلة بحسن الترابي قبل سنوات من الانقلاب. لعل حسن الترابي هو من كان مرشده.
ذكر السفير أنه لقي مسئولا كبيرا في الدولة بعد مقابلته للرئيس البشير فأضفى ذلك المسئول على طول تلك المقابلة أهمية تفوق أهميتها الحقيقية، وتنبأ بأنها "فأل حسن"! كان الاعلام السوداني حينها يعتقد ويصرح أيضا بأن العلاقات السودانية –الأميركية في طريقها للتحسن، ولكن السفير كان قد شرح للرئيس البشير أن تعيين سفير جديد لا يعني بالضرورة تحسين تلك العلاقات المتردية دون أن تقوم الحكومة السودانية بخطوات واضحة في مضامير حقوق الإنسان، وفي نبذ الإرهاب. أرسل السفير تقريرا لواشنطن مفاده أن تطويل البشير لمقابلته معه دليل على رغبته في تحسين العلاقات، بيد أنه أضاف أيضا أن تلك المقابلة لم تحدث أي اختراق يذكر في العلاقات.
بعد ذلك مضت الأيام رتيبة في بيت السفير الجديد مع زوجته وابنته في شارع الجمهورية (في مكان المركز الثقافي السوفيتي القديم)، والذي تأكدت السلطات والسفارة بالطبع من خلوه من أجهزة التنصت التي قد يكون تركها سلفه. قابل بعد ذلك عددا من الوزراء أهمهم د/ غازي صلاح الدين وزير الدولة للرئاسة والذي اشتكى له من القيود المفروضة على تحركات السفراء في البلاد. وعد غازي بتذليل تلك القيود وأنجز ما وعد بعد أسابيع قليلة.
كان أكبر مشكل يصادف السفير الجديد بعد تعيينه بالخرطوم هو قيام الحكومة السودانية بالاستيلاء على مكتب الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في جوبا بدعوى تعاونها مع متمردي الجنوب (الحركة الشعبية) واعتقال مديرها أندرو تومبي وزملاء له. لم تجد اتصالات السفير بكثير من الوزراء حول هذا الأمر فقرر مقابلة المسئول الأمني الرفيع د/ نافع علي نافع (والحاصل على درجة الدكتوراه في علم النبات من جامعة كاليفورنيا في ريفر سايد) ود/ غازي، والذي قد يظن خطأ أنه إيراني الجنسية من لونه الأبيض وعمامته المميزة ولحيته الكثيفة، وهو طبيب ثوري دلف لعالم الطب ارضاءا لعائلته وترقى في مراتب القيادة حتى صار من أهم أعضاء النخبة الحاكمة. أرسل السفير إلى الرئيس البشير خطابا يطلب فيه معرفة مصير أندرو تومبي، وطلب أن يتم العفو عنه إن قدم للمحاكمة، ولكنه صدم حين تلقى ردا بأن السيف قد سبق العزل، وأن تومبي قد تمت محاكمته وأعدم بالفعل. تبين للسفير فيما بعد أن تومبي قد قدم لمحكمة عسكرية وأعدم قبل أسابيع من خطابه للبشير. على إثر ذلك أرسل السفير للبشير خطابا يطلب فيه تفسيرا لما حدث، الأمر الذي عده وزير الخارجية علي سحلول تدخلا في شئون بلاده. زار السفير بعد ذلك جوبا لمعرفة تفاصيل ما حدث وعلم من د/ نافع والفاتح عروة أن تومبي قبض عليه وهو يستخدم راديو اتصالات وكالته لنقل معلومات مهمة لمتمردي الجيش الشعبي. كان ذلك أول موقف عسير يقابله السفير في سنوات سفارته القليلة المليئة بالمشاكل في السودان. لم يجد السفير بدا (بعد أن فشل في الحصول على موقف متفهم من كبار رجال الدولة) من أن يقابل الحاكم الفعلي للبلاد في ذلك الوقت، ألا وهو حسن الترابي (المولود في عام 1932م) في يوم 3/ 10/ 1992م ولمدة ساعتين كاملتين. وصف السفير في أحد الفصول الترابي بأنه "راجل جذاب ساحر" و قال إنه يبدو جذابا جدا "بجلبابه الرائع الناصع البياض وعمامته الأنيقة"، ووصفه بأنه رجل متأنق يجيد استغلال بسمته المتملقة
) في المقابلات لصالحه، ولا يعيب تلك المقابلات غير زخات مفاجئة من ضحكات ingratiating)
(ربما عصبية المنشأ) لا معنى لها. عاد السفير لداره خالي الوفاض بعد أن لم يسمع السفير من الترابي شيئا غير ما أعاده أمامه من قبل كل من قابله من الوزراء قادة الأمن من أن ما حدث في جوبا كان بسبب تعاون مكتب الوكالة الأميركية للتنمية الدولية مع الحركة الشعبية، بل أتهم الترابي أمريكا بالنفاق، ولامها على صمتها عن سجناء الرأي في مصر، وعن تاريخها المخزي في اضطهاد الأفارقة و"الهنود الحمر" (كما سماهم) والأمريكيين من أصل ياباني. قال الترابي للسفير إن ما يحتاجه السودان من أمريكا ليس العون الإنساني بل العون الإقتصادي، وإن حال نازحي جنوب السودان لا يختلف كثيرا ولا قليلا عن حال الملايين من الفقراء المعدمين في السودان. علق السفير على طريقة الترابي في الحديث وقال بأنه لا يكاد يتوقف عن الحديث بما يجعل من الصعوبة لمحاوره أن يرد على ما يقوله، وأنه قدم للترابي أسئلة كثيرة عن سياسة السودان الخارجية لم يحر الرجل جوابا عليها.
كتب السفير في مذكراته في فصل أو فصلين عن زياراته لمعسكرات النازحين وعن حجم المعاناة التي رآها وأحسها هنالك. ما يلفت النظر في ثنايا ما قاله من أن سوء العلاقات بين أمريكا وبعض الدول الأخرى لا ينبغي أن يكون سببا لإحجام الدبلوماسيين عن التصدي للمشاكل العالقة بصراحة ووضوح ونية صادقة. وضرب لذلك مثلا بما شهده هو شخصيا في زنجبار حين أعلن عن استقلالها في 9/12/ 1963م، وكان هو حينها يعمل دبلوماسيا صغيرا في سفارة بلاده في ذلك البلد بسكانه الذين يقارب تعدادهم من ثلث مليون نسمة (منهم 50000 من العرب و20000 من الآسيويين) وظفر – رغم ذلك- العرب بغالب مقاعد الحكومة، الأمر الذي أثار حفيظة السكان الأصليين من الأفارقة (البانتو)، ودعاهم للقيام بثورة دموية في 12/ 1/ 1964م وأدت لمقتل وطرد العرب والآسيويين من البلاد. في تلك الأيام غضب "الثوار" من أمريكا وسفارتها لعدم حصولهم على الدعم الذي كانوا يتوقعونه، فلجأوا لإقامة علاقات خاصة ومتميزة مع المعسكر الشيوعي، ورغم كل تلك الغضبة وما تلاها، عملت الدبلوماسية الأميركية بصورة علنية وأخرى أقل علنية حتى نجحت في إصلاح العلاقات مع النظام الجديد. هذا ما كان يؤمل أن يعيد فعله السيد دونالد بيترسون تارة أخرى في السودان، بيد أنه يبدو أن الحظ لم يحالفه هذه المرة! وبالطبع يعزو السفير ذلك الفشل لتعنت النظام الحاكم في السودان. فهو يسجل أنه التقى الرئيس البشير في العاشر من نوفمبر حيث قال له البشير ما معناه إن حكومته تسعى لكسب صداقة أمريكا، وأن أمريكا دولة كبيرة وقوية، بينما السودان دولة صغيرة وضعيفة ولا يمكنها أن تؤذي أمريكا (القوية والكبيرة)، فلم الخشية عند الأميركيين من السودان؟ أجابه السفير بأن إجابته قد تغضب سيادته، فرد عليه الرئيس بأنها لن تفعل. قال السفير بأن الحكومة السودانية تجد عسرا شديدا في فهم أن قيام انتخابات ومقدم رئيس جديد في الولايات المتحدة لا يغير شيئا من ثوابت السياسة الأميركية (خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان)، وعدد مرة أخرى مآخذ أمريكا (والغرب عموما) على سودان الإنقاذ وجو الخوف والرعب الذي تشيعه السلطات الأمنية في البلاد لدرجة أن كثيرا من السودانيين يتحاشون – كما قال- السفارة الأميركية خشية أن يصطادهم رجال الأمن. أنكر الرئيس البشير كل ما قاله السفير جملة وتفصيلا وقال إنها "مجرد إشاعات وأكاذيب يتداولها المعارضون" وأنكر أيضا تعذيب أي معتقل في السودان، وعندما عارضه السفير في هذا الزعم قال الرئيس: "اعطنى اسم أي فرد تعرض للتعذيب في المعتقل، وسأوقف أي تعذيب. لن يؤذي أحد لأنه أدلى برأي" وأضاف بأنه يعجب لعدم إدراك أمريكا للتقدم (المتدرج) في مضامير الإصلاحات الديمقراطية وحقوق الإنسان الذي حدث في السودان في خلال سنوات حكمه الثلاث. أضاف البشير عرضا أن كل من السودان يتحدث في "السياسة" وقال ضاحكا: "حتى جدتي تتكلم في السياسة!"
في موضوع آخر كتب السفير عن أن علاقة السودان بإيران (والتي ظلت تمثل صداعا مزمنا لكثير من الدول العربية والغرب عموما) بحسب رأي دكتور حسن الترابي ليست بالقوة والقرب الذي يظنه الآخرون رغم زيارة الرئيس على أكبر رافسنجاني للسودان في فبراير من عام 1992م، فعلاقات البلدين قائمة على المصالح التجارية وليس غير ذلك، وأن السودان – بحسب قول الترابي- محبط من إيران بسبب قلة عونها المالي والعسكري للسودان، و لتشددها في وضع شروط عسيرة لتصدير شحنات النفط له. بالطبع لم يغفل الرجل أن يذكر (كما هو الحال عند كل مسئول سوداني التقي به السفير) أن كل المسلمين في السودان من أهل السنة، بينما يفوق عدد الشيعة في إيران 90% من السكان، بيد أن الحقيقة تبقى أن ذلك لم يمنع وصول مئات (وحتى آلاف) من الإيرانيين (وبعضهم) من أعضاء الحرس الثوري للسودان كخبراء في مجالات عديدة منها الأمن والدفاع.
كتب السفير في فصل صغير عنوانه "الإرهاب" فقال إنه في فترة وجوده في السفارة الأميركية بالخرطوم ظل موقنا بوجود أعداد (غير محددة العدد) من عتاة الإرهابيين بالسودان، وذكر بأن السفارة ظلت تحاول جهدها رصدهم وتعقبهم. ضرب لذلك مثلا بحالة الارهابي ايليش راميريز شانسيز(الشهير بكارلوس) والذي ظلت السفارة الامريكية تجمع المعلومات عنه طوال فترة وجوده في الخرطوم. جاء كارلوس للخرطوم في أغسطس من عام 1993م بعد أن فشل في الحصول على ملاذ آمن في ليبيا أو العراق واستقر في الخرطوم باسم مستعار ومضي يعيش حياة سكر وسهر وعربدة (ربما لإخفاء حقيقته!). كشفت السفارة الأميركية – بحسب زعم السفير- سره وبعثت بالمعلومات لفرنسا، إذ لم تكن هنالك ضده أي قضية مرفوعة في الولايات المتحدة، ولكنه كان مطلوبا في عدة قضايا في فرنسا. أبلغت فرنسا الحكومة السودانية برغبتها في ترحيل كارلوس لفرنسا ليحاكم فيما ينسب إليه. ترددت الحكومة السودانية في القبض على الرجل فقامت فرنسا بتهديد السودان بـ "عواقب سياسية وخيمة" إن لم يعتقل كارلوس. تحينت الحكومة السودانية فرصة إجراء عملية جراحية للرجل فاعتقلته وهو تحت التخدير وسلمته للفرنسيين الذين طاروا به بأعجل ما تيسر إلى فرنسا حيث ما زال معتقلا في أحد سجونها (يمكن مراجعة قصة كارلوس في مقالات عادل الباز المعنونة "أيام كارلوس في السودان"). سارعت الحكومة السودانية بمحاولة نيل الحمد بما لم تفعل، ونسبت لنفسها الفضل في التعرف على حقيقة كارلوس، وأنكرت على السفارة الأمريكية "جحودها" لجهود السودان في القبض على ذلكم الإرهابي الخطير، بل قال الترابي للسفير في مقابلة له يوم 28 سبتمبر مع السفير أنه يعتقد أن جهاز المخابرات الأمريكي له يد في ارسال كارلوس للخرطوم. ذكره السفير بأن السفارة الأميركية هي من نبهت حكومة السودان والفرنسيين لوجود كارلوس في الخرطوم.
عاش في السودان في تلك السنوات من هو أخطر، وبكثير، من كارلوس وهو أسامة بن لادن، والذي قدم من السعودية للخرطوم كمستثمر في عام 1991م وعمره 34 عاما. سجل السفير في سطور كثيرة ما هو معروف الآن للكافة عن الرجل وتاريخه منذ أن كان طالبا في جامعة الملك عبد العزيز بجدة. يعتقد السفير بأنه على الرغم مما تدعيه الحكومة السودانية وأجهزتها الأمنية – بحسب ما أدلى به القيادي الإنقاذي المعروف قطبي المهدي في عام 2001م – من أنها ظلت تراقب أسامة بن لادن ونشاطاته في السودان بعين فاحصة، فإن الواقع يقول إن الرجل كان يمارس نشاطا تجاريا واستثماريا كبيرا في السودان من خلال أكثر من 30 شركة، ويمول في الوقت ذاته عمليات شراء اسلحة للنظام السوداني في حربه في الجنوب، ويمول أيضا نشاط "القاعدة" ويقوي من شبكة اتصالاتها، ويحاول ترتيب وتنظيم علاقات عمل مشترك بينها وبين منظمات إرهابية أخرى، ربما بعلم أو مساندة السلطات السودانية. كانت السفارة الأميركية – بحسب زعم السفير- تعلم عن وجود الرجل في السودان وتدرك حجم نشاطاته المختلفة (مثل محاولة اغتيال حسني مبارك في أثيوبيا في 1994م وتفجيرات السعودية في 1995م)، بل ونجحت بطرق لم يسمها في التصنت على هواتفه وكافة اتصالاته مع غيره ممن تشك فيهم من أعوانه داخل السودان. ظل الرجل في السودان حتى عام 1996م حين نجحت الضغوط العربية والأميركية في جعل السودان يطلب منه المغادرة. لم يأت السفير بذكر على ما قيل من رفض أمريكا استقبال او تسلم بن لادن (ربما بسبب أنه لم يكن مطلوبا حينها هناك) رغم أنه ذكر أن السودان زعم أن الدول العربية التي عرض عليها تسلمه رفضت خوفا من انتقام الجماعات الإرهابية.
ذكر السفير في هذا الفصل الصغير المحتشد بالأسماء أن السفارة الأميركية بالخرطوم أرسلت للحكومة السودانية قوائم بأسماء العديد من أعضاء المنظمات الإرهابية مثل جماعة "أبو نضال" و"حزب الله" والجماعة الإسلامية المصرية" و"حماس" وآخرين من الجزائر وارتريا وغيرها ممن وفرت لهم الحكومة أوراق ثبوتية وكلاجئين، وبعضهم نجح في السفر لخارج السودان بتلك الأوراق.
في أحد فصول الكتاب والتي عنونها بـ "هذه هي الأسباب" كتب السفير عن أن المجموعة الحاكمة في السودان (وذكر تحديدا البشير والترابي وعلي عثمان وغازي صلاح الدين ومحمد الأمين خليفة) يؤمنون بأن الحكومة الأميركية لا تعادي النظام السوداني إلا بسبب توجهه الإسلامي. كان أول من صرح بذلك هو الترابي ثم تبعه الآخرون من النخبة الحاكمة. كانوا يجادلون بالقول إن هنالك من الدول (مثل مصر) من لها سجل في حقوق الإنسان يفوق في السوء سجل السودان، ولا تبادلها أمريكا غير الود والاحترام والعطف، غير أن السودان قرر أن يتخذ لنفسه خطا إسلاميا لا يعجب أمريكا. يقر السفير بأن هذا قول قد لا يخلو من بعض الصحة، ولكنه يرد بأن السياسة الأميركية تجاه أي دولة لا توضع (وتمارس) فقط بناء على وضع حقوق الإنسان في تلك الدولة، رغم أن أمريكا لا تستثني دولة من النقد في تقاريرها السنوية عن حقوق الإنسان في العالم. وفي حالة السودان ذكر السفير أنه توجد مجموعة من الأسباب المتداخلة والمحددة التي دعت الحكومة الأميركية لاتخاذ موقف سالب من الحكومة السودانية لخصها كما يلي:
1. أن هذه الحكومة أتت للحكم بانقلاب عسكري على حكومة ديمقراطية منتخبة
2. وأنها أوغلت في ممارسات ديكتاتورية واستبدادية ضد معارضيها فسجنت وعذبت المئات
3.احتكرت السلطة وحرمتها على بقية الأحزاب
4. أشعلت الحرب في جنوب السودان وأحرقت في أتونها القرى وقتلت المئات من الأبرياء
5. طردت عشرات الآلاف من نازحي جنوب السودان الذين كانوا يعيشون في أطراف الخرطوم إلى أماكن بعيدة تنعدم فيها وسائل الحياة
6. ساندت الحكومة السودانية العراق في عدوانه وغزوه للكويت، وعارضت سياسات الولايات المتحدة الخارجية في كل المحافل
7. منذ استيلاء حكومة البشير على الحكم في السودان ظل يؤيد ويساند المنظمات الإرهابية المختلفة والتي تتفق على معاداة أمريكا والغرب عموما.
8. أعدمت الحكومة السودانية في سبتمبر من عام 1992م أمريكيين مدنيين يعملون في المنظمة الأميركية للتنمية الدولية في جوبا وبمحاكمة عسكرية لم تتوفر فيها شروط توفير العدالة.
ذكر السفير في معرض حديثه عن مقابلاته مع الترابي رجل النظام الأول في بدايات التسعينات أن الترابي كان يقول له بأن السودان غاضب من أمريكا بسبب عدائها (غير المبرر) له، وبسبب وقوفها مع اسرائيل ومع دول عربية أيضا (كانت في نظر الترابي - كما زعم السفير - دول استبدادية وليست دول اسلامية حقيقية)، ويكرر بأن أمريكا غدت تمثل للسودان دولة مادية، فاسدة أخلاقيا وغير ذات دين. ذكر المؤلف في آخر صفحات كتابه أيضا أن الترابي أدلى بتصريح في غاية الحمق عند سماعه بمحاولة اغتيال حسني مبارك في أديس ابابا إذ صرح بما فهم أنه تمجيد لمنفذي تلك المحاولة وقال: "عندما تجرأ حسني مبارك بالذهاب إلى اديس أبابا لحضور مؤتمر القمة الأفريقي فإن أبناء النبي موسى تصدوا له وأفسدوا عليه خططه وأعادوه لبلاده." وأضاف قائلا:" لقد وجدت الرجل (أي مبارك) يقل كثيرا عن مستوى تفكيري وآرائي، وأغبى من أن يدرك مغزى بياناتي وتصريحاتي"!
أقر السفير في رسالة بعث بها للخارجية الأمريكية في يوم 22/ 9 بأن كل الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية التي مارستها الحكومة الأميركية علي النظام السوداني خلال العامين السابقين لتاريخ الرسالة لم تأت بالثمار المطلوبة وقال في رسالته أيضا: "ينبغي أن يوضع في الاعتبار أن الاسلاميين الممسكين بالسلطة (في السودان) الآن يحكمون سيطرتهم عليها، ولا يتوقع أن يزاحوا منها في المستقبل القريب، ولتقوية تمكينهم في السلطة وأسلمة البلاد كلها، وإعانة الجماعات الإسلامية في الدول المجاورة وغيرها سوف لن يتخلوا عن علاقتهم الوثيقة بالجماعات الإرهابية وعن استراتيجيتهم لشق صفوف المعارضين لهم والسيطرة عليهم، وسيسعون من أجل الحصول على سند من مجموعات وأفراد في الولايات المتحدة وغرب أوربا من أجل تليين أو انهاء السياسات المعادية للسودان". بعد ذلك اقترح السفير العمل على توسيع قاعدة الضغوط على السودان لتشمل أيضا دول العالم المختلفة وتنسيق الجهود من أجل هذه الغاية، والعمل في دول مختلفة في مجلس الأمن لإيجاد توافق من نوع ما يؤدي لإصدار قرار يدعو لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب في جنوب السودان، والدعوة لمؤتمر دولي جامع لكل الأطراف (القانونية) التي لها مصلحة في انهاء الحرب في السودان.
تزايدت بعد ذلك الضغوط السياسية والاقتصادية على السودان من كثير من الدول الغربية، وحتى اليابان التي لم تكن قد قاطعت السودان، بدأت هي الأخرى في تصفية مشاريعها في السودان في نهايات 1992م. لم تستفد من كل ذلك إلا الصين والتي بدأت في تعميق علائقها الاقتصادية مع السودان والاستفادة من اختفاء المنافسين المحتملين لها في مجالات الاستثمار والتعدين وغيره.
يدندن السفير في بقية صفحات الكتاب حول زيارته لجنوب السودان، ولمباحثاته المطولة مع دكتور حسين أبو صالح وزير الخارجية السوداني عن محادثات دول الإيقاد وغير ذلك مما عرفت نتائجه وآثارها الآن، وعن مقابلته لدكتور نافع في بيت صديق للطرفين وحديثه معه حول عملية السلام في السودان. مما يجدر ذكره هنا أن السفير قد لاحظ أن نافعا أكثر مرونة في المواقف من كثير غيره ممن قابلهم من المسئولين السودانيين رغم أنه لم يتوقع أن تأتي مثل تلك المحادثات بكثير نفع، خاصة وقد سمع في ذات اليوم مقابلة للرئيس البشير مع "الدستور" الأردنية يصف فيها الولايات المتحدة بأنها الدولة الإرهابية الأولى في العالم لضربها المدنيين بالطائرات في الصومال، ويقول بأن إسرائيل هي أقل الدول في العالم احتراما لحقوق الإنسان إذ أنها تضيق الحصار على الفلسطينيين وتدمر منازلهم. والأخطر من كل هذا وذاك أنه كشف عن خطة تدبرها الولايات المتحدة لغزو السودان مثلما فعلت في هايتي، بيد أنه قلل من أثر تلك الخطة إذ أن الحكومة السودانية – كما قال- لديها نحو خمسة ملايين متطوع للقتال ضد الأمريكان الغزاة (تطرق أيضا لبيانات الضابط محمود يونس النارية في هجاء أمريكا وسياساتها).
حكي السفير أيضا عن زيارته لبورتسودان في أحد أيام رمضان في رفقة حارس شخصي واحد وسائقين حيث التقي بعدد من المسئولين في المدينة والميناء. رغم حالة البؤس الشديد التي رآها في المناطق التي مر عليها في طريقه لبورتسودان إلا أنه تنبأ بمستقبل اقتصادي زاهر لتلك المدينة الساحلية وما حولها من القرى في ما سيقبل من سنوات (ولعل توقعه قد بدأ يصدق بعد مرور عقدين من الزمان!) .
قبل مغادرته للسودان بعد انقضاء فترة عمله في البلاد، قابل السفير الرئيس البشير في حفل أقيم في القصر الجمهوري بمناسبة عيد الأضحى، وفيه طلب البشير من السفير أن يلتقيه بصورة منفردة قريبا. تم ذلك الاجتماع الأخير في وجود صديق للرئيس هو الفاتح عروة، وكان بحسب ما ذكره السفير اجتماعا وديا للغاية إلا انه لم يخرج بنتائج ملموسة، غير أنه أقترح فيه على الرئيس البشير أن يرسل وفدا عالي المستوى لواشنطن لبحث كل الأمور العالقة بين الدولتين. أعجب البشير بالفكرة ووعد بتنفيذها غير أنها لم تر النور لظروف عديدة أدت لزيادة الاحتقان والسوء في العلاقات بين البلدين.
أبت الخرطوم إلا أن تودع السفير الأميركي بهبوب عاصفة كتب لأصحابه عنها وقال بأنها لم تكن "أم الهبايب" ولكنها كانت أقوى وأطول "هبوب" مرت عليه خلال سنواته الثلاث في السودان!
على وجه العموم فإن كتاب السفير دونالد بيتريسون كتاب متزن نسبيا، ويؤرخ بصورة قليلة التحامل لتاريخ بعض أحداث البلاد التي عمل فيها، وتلك التي كتب عليه فيها أن يواجه بعضا من مبغضي الولايات المتحدة الألداء. يعد الكتاب مصدرا غنيا بالمعلومات المجردة ( وأحيانا قليلة التحامل) عن فترة عسيرة حرجة من تاريخ السودان السياسي، بيد أنه من الصعوبة على من عايش تلك الأحداث في السودان أن يجد في هذا الكتاب شيئا جديدا أو ممتعا أو مثيرا بحق. ولكن لا شك عندي أن أهمية الكتاب ستزداد مع مرور السنوات، وبعد أن تغدو أحداث هذا الكتاب بعيدة زمنيا عن القراء خاصة المهتمين بتاريخ السودان الحديث.
badreldin ali [alibadreldin@hotmail.com]
/////////////