حيدر إبراهيم وإعادة اكتشاف حسين شريف وعلي عبد اللطيف

 


 

 



الامنوقراطيون ( من " الامنوقراطية" حيدر ابراهيم،ط3، 2012 )، منتسبو جهاز الامن عندما يتجاوز دوره كسند لسلطة قمعية الي السيطرة عليها،حاولوا سد الباب الذي تأتي منه الريح بأغلاق مركز الدراسات السودانية في 24 / 12 / 2012، ففتحوا بوابة للعواصف. منذ ذلك الحين يصعب حتي لمتابع مثل صاحب هذا المقال، حصر عدد المؤلفات التي اصدرها د. حيدر ابراهيم. فبالاضافة للكتاب المشار اليه، هناك كتابا  " مراجعات الاسلاميين " و " التجديد عند الصادق المهدي " واخيرا وليس اخراً " الديموقراطية السودانية، المفهوم، التاريخ ، الممارسة "،عدا المقالات حول المجريات السياسية. علي ان الاهم من كل ثمرات البراح الزمني والنفسي التي وفرها التصرف الامنوقراطي الاخرق،هو إتاحة الفرصة لصفة عالم الاجتماع لدي حيدر ابراهيم التي تطغي عليها في الذهن العام صفته كمفكر، كاتبا ومتحدثا،  ان تتجلي بصورتها الكاملة، إذ يعكف منذ فترة علي إنجاز مؤلف حول التاريخ الاجتماعي للقهر والتخلف في السودان وإصدار الجزء الثاني من كتابه " سوسيولوجية الفتوي " وهو معالجة انثروبولوجية لموضوع الحجاب.
كما هو الحال مع  الانتاج الادبي عندنا، فأن النقد والتقييم للاعمال الفكرية والاكاديمية متخلف عن الانتاج، بينما قد تدعو الضخامة الكمية والنوعية في هذا النموذج بالذات للتحفظ حول مدي انطباق هذه القاعدة فيما يتعلق به. الخاصية الايجابية التي لاتخطئها العين في هذا الانتاج، وتبقي بعيدة عن ساحة الاختلاف اكثر من غيرها، هي القدرة البحثية الاستثنائية لدي د. حيدر ابراهيم.في كتابه الاخير ( 300 صفحه ) حيث يتطلب الامر متابعة مركزة لمجموع الافكار والممارسات  المتصلة بالديموقراطية خلال حقبة زمنية طويلة تبدأ بالبريطاني وتنتهي بالمؤتمري الوطني، قبل تناولها بالتدقيق التحليلي، يقدم المؤلف مسحا توثيقيا شاملا لكافة المصادر المتوفرة بالاسماء والمراجع مع مقتطفات تعكس جوهر تصور الشخصية او الطرف المعين فيما يتعلق بموضوع الكتاب، او الدلالة التي تنطوي عليها مواقف بالذات. ولعل الاشارة هنا الي حقيقة عدم الاستقرار المكاني لدكتور حيدر ابراهيم متنقلا بين الخرطوم والقاهرة  ثم خلال الصيف الماضي الي لندن، او علي الاصح الي مكتبة كلية الدراسات الشرقية والافريقية التي قضي فيها وقتا أطول مما قضاه خارجها، تشدد علي تلك الاستثائية.
علي أن هذا الحكم حول المحصلة البحثية والتحليلات التي ترافقها يبقي، بطبيعة الحال، مفتوحا للجدل،كما هو الحال بالنسبة للاستنتاجات المفارقة للسائد المتمكن حاليا التي يتوصل اليها هذا المقال بناء علي معلومة غنية الدلالات وردت في الكتاب الاخير حول رئيس تحرير جريدة الحضارة ( 1919 - 1928 ) حسين شريف حيث يلاحظ المؤلف،صفحة 21 ،( " توقفه عند مبادئ العدل كميزة للحكم البريطاني.وهذا قاده الي الإعجاب بالتجربة الغربية كلها.ونجد لاول مرة ذكر لكلمة "ديمقراطية"عند كاتب سوداني:-" وأنه ليجدر بنا أن لا نمر علي أخبار الشعوب الغربية في احوالها الداخلية ونزعاتها القومية وحرياتها التعبيرية وتكويناتها الديمقراطية مرور الغافل المعرض أو المتفكه المتسلي بل ننظر فيها بعين العبرة والعظة ونستخلص منها صورة تنطبق علي حالنا واستعدادنا فنتخذها اماما وقدوة".) الريادية الفكرية لهذه الشخصية لاتقتصر علي ورود هذه الكلمة المفتاحية لديها وانما تمتد الي تأطيرها في توازن بين ضرورتي تقليد الغرب والاستقلال عنه بما يومئ الي جوهر القضية التي لاتزال تشغل المفكرين العرب والمسلمين حتي الان تحت مسمي  الاصل والعصر أو التراث والمعاصره، ريادية يؤكد عليها ان هذه الشخصية تنسب اليها ثلاث ريادات اخري : او لصحفي سوداني، اول من طرح فكرة مؤتمر الخريجين ( 21/9/ 1911 )قبل سبع سنوات من قيامه ، واهتمام مبكر بالتعليم.
تحت ضوء كشاف( حيدري ) قوي مصدره خبرة فكرية وبحثية متميزة تنتبه الي ما فات ويفوت علي الاخرين،  نعيد اكتشاف شخصية حسين شريف، وكذلك شخصية علي عبد اللطيف.  الاثنان، كما نعلم، جمعت بينهما فقرة في مقال  كتبه الاول ردا علي الثاني اضحت شهيرة في المجال الفكر والسياسة عندنا.  الفقرة المقصودة وردت في افتتاحية لجريدة " حضارة السودان " يوم 25 يونيو 1924 رد فعل علي مذكرة بعنوان " مطالب الامة السودانية " .تقول الافتتاحية: "أهينت البلاد لما تظاهر أصغر وأوضع رجالها دون أن يكون لهم مركز فى المجتمع بأنهم المتصدون والمعبرون عن رأي الامة. ان الشعب السودانى ينقسم الى قبائل وبطون وعشائر، ولكل منها رئيس او زعيم او شيخ، وهؤلاء هم أصحاب الحق في الحديث عن البلاد. من هو علي عبد اللطيف الذى أصبح مشهوراً حديثاً والى أي قبيلة ينتمي؟". هذه الفقرة، ومعها اعتراض علي عبد اللطيف علي عبارة " شعبعربي كريم "التي وردت في مقدمة ديوان يضم قصائد في الوطنيات، اصبحت الغذاء الرئيسي لأقوي تيار في الفكر والعمل السياسيين يقوم علي ان تفكيك ازمة التهميش يمر عبر تفكيك أو إعادة هيكلة المركز. بتلويناته المختلفة المتراوحة بين الطرح الفكري الرصين والسطحي المعادي للوسط و/أو الثقافة العربية، بين العمل السلمي والمسلح،  ينطوي هذاالتيار علي ضعف بنيوي عندما يفصل بين قضيتي التهميش وأعادة الهيكلة وازمة الديموقراطية. حتي في أرقي مستويات الطرح عند ياسر عرمان مثلا و أطروحة السودان الجديد عموما، لانجد الربط الواضح بين ازمة العلاقة بين الاطراف والمركز وازمة الديموقراطية بينما الشواهد الاقليمية والعالمية تقول بوضوح صارخ ان التنمية المستدامة ، ومعها احترام التنوع وتساوي فرص السلطة والثروه، رهينة بالديموقراطية المستدامة. والاهم من ذلك لانجد في هذا الطرح تفسيرا لفشل عملية التأسيس الديموقراطي. فالانقلابات وعجز الاحزاب عندما تحكم وهزال المعارضة ضد الدكتاتوريات، الظواهر التي سلمت البلاد الي الخراب الشامل، بداية بالاطراف،متدهورة من فشل الدولة الي فشل المجتمع نفسه،ليست لعنات سماوية او اختيارات ذاتية وانما حاصل حتمي لانعدام تراث ديموقراطي وحداثي في تاريخنا تولت الشموليات المتتابعة القضاء علي بواكير ترسبه مع نشوء التعليم الحديث. هذا ما أبقي العقل النخبوي مكشوفا امام إغراء الايديولجيات الشمولية يسارا ويمينا بحثا منحرفا عن التغيير والتقدم.
أحد العلامات علي طريق استنبات حداثة العقل والثقافة، ومن ثم الديموقراطية كقناعة متجذره، كان حسين شريف ولكننا لا نكتفي بأهالة التراب عليها وإنما نرغم شخصية علي عبد اللطيف علي مشاركتنا في هذه المهمه. من حيث المنبت الطبقي كضابط والبيئة الثقافية الشمالية التي نشأ فيها ببعدها المصري، وتلك التي نشط فيها سياسيا وفكريا ونضاليا مع مجموعة من الموظفين والتجار الامدرمانيين، فضلا عن المغزي البرجوازي الصغير للمطالب غير السياسية في مذكرته ، تكوين علي عبد اللطيف الثقافي كان في الواقع اقرب الي تكوين حسين شريف عابرا اختلاف الاصول الاثنية وليس نقيضا له، حتي الفاصل الذي تشكله الفقرة الشهيرة قابل للنسف لان هناك رأيا بأن توجهاته الحقيقية لم تكن بالضرورة تلك التي يعبر عنها في الصحيفة ( بروفسور عبد الله حمدنالله ). من الناحية الموضوعية الشخصيتان كانتا متكاملتين والاهم من ذلك، كونه تكامل علي طريق تحقيق اهم شرطين للتأسيس الديموقراطي ، الانفتاح الذهني ونمو الطبقة الوسطي، والحؤول، بالتالي، دون نشوء ظاهرة التهميش جهويا كان او طبقيا او ثقافيا. بدلا من كل ذلك، ومن المعالم الهادية في إنتاج حيدر ابراهيم،  نتجه بعناد غريب نحو تقزيم الشخصيتين، بتحويل احدهما الي عنصري ( طيب مصطفوي ) والاخر الي عنصري مضاد لايريان وسيلة لتحقيق المطالب  الا واحدهما علي حساب الاخر، وبالتدمير المتبادل في نهاية المطاف.  


alsawi99@hotmail.com

 

آراء